رؤية الله

من مسائل الاعتقاد التي تضافرت على إثباتها دلائل الكتاب والسنة، وأجمع السلف الصالح عليها، مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، حيث دلت الأدلة الشرعية على أن المؤمنين يرون ربهم عيانا لا يضارون في رؤيته كما لا يضارون في رؤية الشمس والقمر .
فمن أدلة الكتاب على الرؤية قول الحق سبحانه:




ومن أدلة رؤيته سبحانه يوم القيامة قوله تعالى:



ومن أدلة رؤيته سبحانه يوم القيامة أيضا قوله تعالى:









هذا ما يتعلق بالأدلة من كتاب الله تعالى في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، أما أحاديث السنة فقد نص أهل العلم على أن أحاديث الرؤية متواترة، وممن نصَّ على ذلك العلامة الكتاني في نظم المتناثر، و ابن حجر في فتح الباري، و العيني في عمدة القاري، و ابن حزم في الفصل، و ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل وغيرهم، ومن جملة تلك الأحاديث:
1- حديث أبي هريرة



2- حديث جرير بن عبد الله


3- حديث صهيب عن النبي





4- حديث أبي موسى الأشعري


5- حديث عدي بن حاتم


أما الإجماع فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى 6/512 - :" أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة ".
ورغم هذا الإجماع وتلك الأدلة التي بلغت حد التواتر - والتي لم نذكر سوى اليسير منها - إلا أن المعتزلة أنكرت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وزعمت أن ذلك محال، وسلكوا في سبيل تأييد قولهم ونصرته مسلكين، المسلك الأول: الاعتراض على استدلالات أهل السنة، والمسلك الثاني: الاستدلال لمذهبهم ، وسوف نعرض لكلا المسلكين – بعد ذكرهما – بالنقد والتمحيص ليستبين ضعف ما بنو عليه مذهبهم وفساده.
اعتراضات المعتزلة على أدلة أهل السنة
اعترض المعتزلة على ما أورده أهل السنة من أدلة الكتاب باعتراضات، من ذلك قولهم: أن المراد بالنظر في قوله تعالى:


وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن تفسير النظر في الآية بمعنى الانتظار خطأ بيّن، لأن النظر إذا عُدِّي بإلى كان ظاهرا في نظر الأبصار، يقول العلامة اللغوي أبو منصور الأزهري في كتابه تهذيب اللغة ( 14/371 ):" ومن قال: إن معنى قوله:


وقد نظرتكم أبناء صادرة للورد طال بها حوزي [ الحوز: السير الشديد ]
فإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت: نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب " ا.هـ.
ومما يدل على أن النظر هنا ليس بمعنى الانتظار أن الآية سيقت مساق الامتنان بذكر نعيم أهل الجنان، ولو فُسِّر النظرُ بالانتظار لما عدّ ذلك من النعيم، فإن الانتظار تنغيص وكدر -كما لا يخفى - إضافة إلى أن أهل الجنة لا ينتظرون شيئا فمهما تمنوا شيئا أتوا به .
واعترض نفاة الرؤية على الاستدلال بقوله تعالى:


والجواب على ذلك من وجهين :
الوجه الأول: أن ما ذُكِرَ من أوجه التفسير لا ينافي تفسيرها بالرؤية، فالزيادة هنا مبهمة، وهي شاملة لكل ما يتفضل الله به على عباده بعد مجازاتهم بجنته، يقول الإمام الطبري - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في الزيادة كمن فسّرها بتضعيف الحسنات، أو المغفرة والرضوان، ومن فسرها بالرؤية - : " وغير مستنكر من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله . فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يعمَّ ".
الوجه الثاني: أن تفسير من فسّر الزيادة بالرؤية لم يأت اعتباطا، وإنما جاء بناء على التفسير النبوي لها، فالنبي





أما اعتراضهم على أحاديث السنة فيتلخص في ردهم الاستدلال بها بدعوى أنها أحاديث آحاد، لا يقبل الاستدلال بها في مسائل الاعتقاد، وهي دعوى مردودة بلا شك، وتدل على جهل قائلها بعلم الحديث وطرقه ورجاله، ذلك أن أهل العلم بالحديث قد نصوا صراحة على تواتر أحاديث الرؤية، وقد سبق ذكر من نص على ذلك، ويقول العلامة ابن الوزير اليماني - كما في الروض الباسم - ردا على من زعم أن أحاديث الرؤية أحاديث آحاد، وأنها من رواية جرير بن عبدالله البجلي فحسب: " وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم, فإنّ المحدّثين يروون في الرّؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصّحابة أكثر من ثلاثين صحابيّاً .. وروى حديث الرؤية علماء الحديث كلّهم في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة " ا.هـ ، ولو سلمنا جدلا بكون أحاديث الرؤية أحاديث آحاد فلا يجوز ترك الاستدلال بها إذا صح سندها إلى النبي

استدلالات المعتزلة على نفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
استدل المعتزلة على نفي الرؤية بآيات منها قوله تعالى:


وأجاب العلماء عن ذلك بأن المنفي هو الإحاطة لا مطلق البصر، بمعنى أن رؤية المؤمنين ربهم لا تعني أنهم يحيطون به سبحانه، ولا أنهم يدركون برؤيتهم له حقيقة ذاته، وممن ذهب إلى هذا التفسير ابن عباس



وعن قتادة في قوله تعالى:


قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" فإذاً المعنى أنه يُرى ولا يُدرك ولا يُحاط به، فقوله:


ومما استدل به المعتزلة على نفي الرؤية، قوله تعالى:





والجواب على ذلك أن الله غضب عليهم هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام لكونه وقع على سبيل التعنت، والربط بين إجابة سؤالهم والإيمان به سبحانه، كما في الآية الأخرى :


ومما استدل به منكرو الرؤية قوله تعالى:


والجواب على ذلك كالجواب على سابقه، بدليل قولهم:


والآية السابقة إنما وردت في سياق ذكر تعنت المشركين وفرضهم شروطا مسبقة على إيمانهم، وليس لأن المشركين طلبوا رؤية الله بدافع الشوق والرغبة، يقول الإمام الطبري في تفسير الآية:" يقول تعالى ذكره: وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا، ولا يخشون عقابنا: هلا أنزل الله علينا ملائكة، فتخبرنا أن محمدا محق فيما يقول، وأن ما جاءنا به صدق، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك، كما قال جل ثناؤه مخبرا عنهم






ومما استدل به المعتزلة على إنكار الرؤية قوله تعالى لموسى وقد سأله رؤيته سبحانه:


وأولوا طلب موسى رؤية ربه بأنه كان بدافع إقامة الحجة على قومه الذين ألحوا عليه أن يروا الله جهرة .
والرد على استدلالهم هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن سؤال موسى ربه أن يراه دليل على جواز رؤيته سبحانه، إذ موسى أعلم بالله من أن يسأله مستحيلا في حقه، ودعوى أنه إنما سأله ليقيم الحجة على قومه عارية عن الدليل بل هي محض تخرص، فموسى إنما سأل ربه منفردا ودون سابق طلب من قومه كما تدل عليه الآيات في قوله تعالى:


الوجه الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان ما سأله محالا وممتنعا لأنكر الله عليه سؤاله كما أنكر على نوح




الوجه الثالث: أنه تعالى قال:




الوجه الرابع: تجليه سبحانه للجبل :


الوجه الخامس: قوله تعالى:


الوجه السادس: أن دعواهم أن "لن" تفيد النفي المؤبد مردودة كما قد نص على ذلك أئمة اللغة، يقول ابن مالك في ألفيته:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا * فقوله اردد وسواه فاعضدا
ومما يدل على بطلان ادعاء أن "لن" تفيد النفي المؤبد، قوله تعالى عن الكفار:






ومما استدل به منكرو الرؤية قوله سبحانه:


والجواب أن الآية تتحدث عن صور الوحي لا عن الرؤية، والوحي إنما يقع في الدنيا لا في الآخرة، فالآية موافقة لمذهب السلف في نفي الرؤية في الدنيا ولا تعارض أدلة إثباتها في الآخرة.
هذا ما يتعلق بما استدلوا به من القرآن الكريم، أما من السنة فقد استدلوا ببعض الأحاديث كحديث أبى ذر




والجواب عن هذا الاستدلال بأنه خطأ بيِّن، فسؤال أبي ذر



وكونه


أما المروي عن مجاهد في هذه المسألة، وما نقل عنه من تفسير قوله تعالى:





ومع هذا فلا يدل قوله هذا على أنه -

تلك كانت شبهات من أنكر رؤية الباري سبحانه، وتلك كانت ردود أهل السنة عليهم، والتي ظهر بها مدى صحة مذهب السلف في إثبات الرؤية، ومدى ضعف وتهافت أدلة من أنكرها والله أعلم .
قال ابن تيمية : " والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال :
فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانا وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها ، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع
والقول الثاني ـ قول نفاة الجهمية انه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة
والثالث ـ قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة ، وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق السارى في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم
ثم من أثبت الذات قال يرى متجليا فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال لا يرى إلا مقيدا بصورة ، وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين انكار رؤية الله واثبات رؤية المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق والا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق ، وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقا فيقتضى أن يكون الرب معدوما وهذا هو جحود الرب وتعطيله وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وأما تناقضه فقوله : ما غبت عن القلب ولا عن عينى ** ما بينكم وبيننا من بين يقتضى المغايرة وأن المخاطب غير المخاطب وأن المخاطب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود
وقوله ما بينكم وبيننا من بين فيه اثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا اثبات لاثنين وان قالوا هذه مظاهر ومجالى قيل فان كانت المظاهر والمجالى غير الظاهر والمتجلى فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة وان كان هو اياها فقد بطل التعدد فالجمع بينهما تناقض وقول القائل فارق ظلم الطبع وكن متحدا بالله وإلا فكل دعواك محال إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله وكن متحدا بالله وهو المخاطب بقوله كل دعواك محال وهو القائل هذا القول وفى ذلك من التناقض ما لا يخفى
وان أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد وإن كانا استحالا إلى شئ ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لابد أن يستحيل وهذا ممتنع على الله تعالى ينزه عنه لأن الإستحالة تقتضى عدم ما كان موجودا والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شئ من ذلك ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شئ منها نقص يتعالى الله عنه ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضى أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غنى عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل والعبد متصفا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول .
مجموع الفتاوى لابن تيمية 2 / 336 .