نظرية النظم في البلاغة والنقد والإعجاز القرآني، في التراث المعرفي قبل الإمام الجرجاني
فتحي بودفلة
(هذه المسألة مستلّة من بحث فيه شيء من الطول، موضوعه نظرية النظم إن وجدت من المتصفحين اهتماما بالنقد والتقويم أوردت مسائله تباعاً...)
نظرية النظم لم تولد من فراغ ولم توجد هكذا فجأة دون إشارات وإرهاصات تهيّئ لها ... ودون محاولات ومقدمات تمهّد لها ...فلا يُعقل أن يصل الأمر بهذه النظرية إلى مثل هذا النضوج وهذا التكامل والوضوح هكذا بين عشية وضحاها...بل لا بدّ وأنّها نتاج تراكم معرفي كبير وتواصل علمي طويل...وهذه الحقيقة قرّرها وتبناها جلّ من تناول نظرية النظم بالدراسة والتحليل...وسنحاول بدورنا من خلال هذا المبحث الوقوف على حقيقة هذه المسألة لا بمجرد الاتّباع والتقليد وتكرير ما قيل وتجرير الأقاويل فقط... ولكن بالبحث في حقيقة هذه الأسبقية ... بمحاولة استقراء النصوص التراثية القديمة بقدر الاستطاعة والإمكان...ثمّ بمحاولة دراسة هذه النصوص وتحليلها... لأنّه في اعتقادي – والله أعلم – لا يكفي أن نجد كلمةَ "نظم" في بعض النصوص القديمة لنجزم ونحكم بكون الإمام الجرجاني كان مسبوقاً إليها...لأنّ موضوع بحثنا ليس مطلق النظم، وإنّما هو نظم مخصوص، هو نظم الكلم، وليس كلّ نظم للكلم، بل نظمه وفق قوانين النحو بما تمليه معانيه... هذا هو النظم الذي نبحث فيه وننسب الأسبقية في اكتشافه أو على الأقلّ في تجليته وبيانه للإمام الجرجاني...
أوّلا: تقرير كون الإمام الجرجاني لم ينطلق من فراغ
هذه الحقيقة في غاية التحقيق والتقرير يؤكّدها كما تقدم ذكره: أنّ هذا النضوج والاكتمال في النظرية يستحيل أن يصل إلى هذا المستوى الراقي هكذا من أوّل يوم دون أن يسبق بمحاولات واجتهادات ممهدة... وتقويمات وتصويبات متقدمة... هذا من جهة ومن جهة أخرى يؤكّد هذه الحقيقة الإمام الجرجاني نفسه فهو يقرّ في غير ما موضع من كتابه دلائل الإعجاز على حقيقة كونه مسبوقا بغيره وأنّه استفاد ممّن سبقه حيث يقول
في فصل القول في النظم وتفسيره ما نصه: "وقد علمتَ إِطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ النَّظْمِ وتفخيمِ قَدْرِه والتَّنويهِ بذكرهِ وإِجماعِهم[1] أنْ لا فضلَ معَ عَدمِه ولا قدرَ لكلامٍ إِذا هو لم يستقمْ لَهُ ولو بلغَ في غَرابةِ معناهُ ما بلغ . وبَتَّهُم الحكمَ بأنه الذي لا تَمامَ دونَه ولا قِوامَ إِلا بهِ وأنه القُطب الذي عليه المدارُ والعمودُ الذي به الاستقلال ."[2] وفي موضع آخر يقول: "وكذلك كانَ عندَهُم [يقصد النظم] نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك مما يوجبُ اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ"[3]
ويقول أيضا: "...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." اهـ[4]
فهذه النصوص تؤكّد استفادة الجرجاني ممّن سبقه، وهي حقيقة لا تحتاج إلى الاستدلال أصلاً ولا ينبغي أن يقف عندها الباحثون بأكثر من الإشارة العابرة أو الاستفادة الخاطفة؛ لأنّها حقيقة تعمّ العلم كلّه لا نظرية النظم فقط، فالعلم كلّه رحمٌ متواصلة، ومعرفة متراكمة، يستفيد الآخر من الأوّل ويأخذ منه ثمّ ينمي العلم ويزيد فيه ...
لكن ما يستوقفنا في هذه النصوص ما يلي:
1. قوله
: " وقد علمتَ إِطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ النَّظْمِ....وإجماعهم...وبتّهم...."
(إطباق العلماء... إجماعهم...بتّهم...) ألفاظ توحي بانتشار اصطلاح النظم وشهرته وذيوعه بين العلماء... لكن الأمر على خلاف ذلك وإلاّ فما حاجة الدارسين إلى عقد مثل هذه المباحث ينقبون في كتب التراث وينقرون عن لفظة ها هنا وكلمة هناك فيها إيماءةٌ أو إشارةٌ ولو من بعيد للنظم.... لماذا كلّ هذا الجهد الجهيد ؟... وهذا التكليف المضني والعمل الشاقّ؟... إذا كان اللفظ مجمعاً مطبقاً عليه، وقد بتّ في كتبهم ومصنفاتهم...
إنّ الواقع يأبى هذا الطرح وهذا الإطلاق؛ فأشهر وأجلّ كتب البلاغة والنقد والإعجاز التراثية بين أيدينا... فهذه كتب الجاحظ وابن قتيبة والخطابي والرماني والباقلاني والقاضي عبد الجبار وغيرهم في متناولنا وبين أيدينا ... لا نجد فيها هذا الإجماع والإطباق الذي ذكره الإمام الجرجاني... فما الذي أراده عليه رحمة الله بهذا الإطلاق ؟
2. قول الإمام الجرجاني: " ...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له" ومثله: " وكذلك كانَ عندَهُم [يقصد النظم] نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك"
واضحٌ جليّ من كلام الجرجاني
أنّ النظم كان معروفاً، لكن بمفهومه ومعناه لا باصطلاحه ولفظه... أي أنّ من تقدّمه من العلماء قد تحدثوا عن النظم ولكن بمسميات أخرى غير النظم، وقد ذكر من هذه المسميات نماذج منها : النَّسج، التأليف، الصياغة، البناء، الوشيّ، التحبير ....
وعلى مثل هذا المعنى يحمل قوله المتقدم (إطباق العلماء ، وإجماعهم)؛ خاصة وأنّ المتتبع لكتب البلاغيين والنقاد - الذين سبقوا الإمام الجرجاني - والناظر في مصنفاتهم يجدها حافلة بمثل هذه المصطلحات فقد أطبقوا عليها وأجمعوا تماما كما قال...
3. وطائفة أخرى من أقواله نحو: " وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." وقوله أيضاً:"اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ"
في هذه الطائفة الثالثة من النصوص يستوقفنا الإمام الجرجاني على معنى النظم الذي سُبِقَ إليه فهو: ترتيبٌ للمعاني ، بناء بعضها على بعض، إتباع المعنى المعنى، إلحاق النظير بالنظير، اعتبار الأجزاء....
تبدو هذه التعريفات للنظم غامضة أو على الأقلّ فيها كثيرٌ من الإجمال وشعبٌ من الاحتمال... لا ترتقي من قريب ولا من بعيد لتحديد الإمام الجرجاني للنظم وتعريفه وضبطه له... بل إن الناظر والمتأمل فيها يجدها أقرب إلى أجزاء وأنواع وضروب من النظم، لا النظم ذاته... فكأنّي ببعضهم يشير إلى المشاكلة بين المعاني وآخرون إلى المقابلة فيها وطائفة أخرى إلى مطلق التأليف...كما يُلاحظ على بعضهم - والله أعلم - أنّهم لَرُبما أدركوا مكانة النظم وأهميته في الكلام، ولكنهم لم يقفوا على حقيقته وعلّته؛ فهم يعرفون أنّ سرّ بلاغة الكلام في هذا الوضع والترتيب المخصوص لكن كيف؟ ولماذا؟... هذا ما لم يتوصلوا إليه.
لهذا نعتقد – والله أعلم – انطلاقا من هذه النصوص المتقدمة أنّ النظم قبل الإمام الجرجاني
إنّما كان يقصد به مطلق التأليف والترتيب دون النظر إلى قوانين هذا الترتيب وقواعده كانوا يعلمون أنّ الكلمة كيت ينبغي أن توضع في هذا الموضع دون غيره لعلّة تقتضي ذلك وأنّ وضعها في غير ذلك الموضع سيؤدي إلى سقط الكلام وتهافت النظام... لكن ما هي هذه العلة؟ وما هو القانون الذي يحكم ذلك كلّه؟ الجواب على هذه الأسئلة هو الإضافة الكبرى التي أضافها الإمام الجرجاني للدرس البلاغي والنقدي... بجعله النحو العربي سلطان هذا التأليف والنظم... ومثل هذه الإضافة ليست بالشيء اليسير فهي ركن النظم الركين وقوامه المتين... وفرق شاسع وبون واسع بين مطلق التأليف وبين التأليف وفق قوانين خاصة...
قد يقول قائل: لكن هذه القوانين ملازمة للترتيب والتأليف فاشتراطها وعدمه سواء... ولا يضرّ السابقين في تعريف النظم عدم ذكرهم لهذه القوانين، فذكرها - والأمر كذلك – من باب تحصيل حاصل .
أوّلاً:إنّ هذا التلازم المدّعى- بين الترتيب والنحو - غير مسلّم به... فالترتيب قد يكون معنوياً خالصا كمن يرتّب ألفاظه وفق ما يريده من معانٍ لا ينظر إلى شيء آخر غير تأدية المعنى وبلوغه كيفما وقع... وقد يكون الترتيب باعتبار الأفكار وضوحها أو تسلسلها أو غير ذلك... لا يهمّه جمالاً ولا بياناً بل كلّ ما يهمه هو وحدة الأفكار وتسلسلها وفق منهج منطقي عقلي مجرد...إذاً تلازم الترتيب والنحو غير مسلّم به، نعم لا يصح الكلام إن خالف قواعد النحو العربي ولكن الحديث هنا ليس عن التزام قواعد النحو بل اعتبارها هي الأساس والأصل في ترتيب الكلام ... قد يلتزم المتكلم بالقواعد ولكن عمدته في الترتيب ليست هذه القواعد بقدر ما هو أصوات ألفاظه (لمن يهتم بجرس الكلام ونغمه) أو ربّما معانيها كما تقدم...
ثانياً: وعلى فرضية صحة هذا التلازم والالتزام فإنّ فضل الإمام الجرجاني كامن في ذكره وفي تصريحه به أو في اشتراطه وفي تفصيل أوجه هذا التأليف النحوي وكيف يؤثر في بيان الكلام وجماله ... ومن سبقه لم يتعرض لهذه الخاصية ولم يشر إليها .... إنّ من مهّمات العلم البحث والتنقيب عن أسرار ما هو موجود ومحاولة تعليله وتفسيره... ويرقى العلم ويتطوّر بقدر ما يتوصل إليه من تعليلات وتفسيرات للمظاهر المحيطة به ، فليس العلم مقصورا على إحداث الجديد وإبداع ما لم يكن...والإمام الجرجاني عليه رحمة الله نظريتُه قائمة على وصف شيء موجود والبحث عن تعليل ظاهرة كائنة، وقد بلغ في ذلك مبلغاً لم يدركه ولم يصله من سبقه، وسواء كان قصورهم عملي بحيث عرفوه ولم يذكروه، أو نظري بالنسبة للذين نسبوا بلاغة الكلام ومزيته لغيره، أو علّلوا الترتيب والتأليف بغير النظم... فإنّ الجرجاني فاقهم وتقدّم عليهم ولو بمجرد التصريح بالتعليل وتفصيله وبيانه. فهي إضافة علمية....
ثانيا: النصوص التراثية التي ورد فيها اصطلاح النظم
سنورد ما أمكن من النصوص والأقوال المتقدمة والتي وردت فيها الإشارة للنظم، محاولين تحليل هذه النقول والبحث في كنهها ومدى علاقة اللفظ الوارد فيها باصطلاح الجرجاني عليه رحمة الله .
1. ابن المقفع (142هـ) وقد عدّه الباحثون أقدم نصٍ ورد فيه ذكر النظم[5] حيث قال في الأدب الكبير والصغير :" وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف مُعْجَمِهِ ، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ.وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ. فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً[6] وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً." [7]
هذا هو أقدم نصٍ ورد فيه اصطلاح النظم،ولكي نستطيع الوقوف على حقيقة هذا الاستعمال ومراد صاحبه منه ينبغي أن يعلم القارئ أنّ معنى الأدب الذي عناه ابن المقفع في كتابيه الأدب الكبير والصغير إنّما هو "حسن الأخلاق وحكمة التدبير"[8] لا معناه الاصطلاحي الخاص... وقد صنّف ابن المقفع كتابيه الأدب الكبير والصغير لبيان جملة من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، فخاطب في كتابه الكبير السلطان والخاصة بينما عنى بأدبه الصغير عموم الناس، وهذا النّص مستلٌّ من أدبه الصغير من أوّل فصل فيه عنونه بعضهم بـ"الأدب ينمي العقول"[9] ...فالكتاب إذاً ليس كتابَ بلاغة أو لغة حتى يقصد صاحبه فيه تحليل مسألة نقدية بمثل هذا الحجم ويبحث عن سرّ بيان الكلام وتفاضله، وإنّما هي إشارة أراد بها تعليم عموم النّاس أنّ الأخلاق إنّما يكتسبها المرؤ بالتحلي والممارسة وأنّ أعظم ما تظهر تظهر في كلامه، فعليه أن ينتقي من الكلام أفضله (كفصوص الياقوت والزبرجد والمرجان) وأن يرتّبه وينظمه حتى يخرج في غاية الحسن والبيان (قلائد وسموطا وأكاليل).
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ من الفروق الجوهرية بين نظم ابن المقفع ونظم الجرجاني، أنّ الألفاظ عند هذا الأخير لا مزية لها إلاّ في النظم بينما هي عند ابن المقفع فصوصا وياقوتا وزبرجدا ومرجانا وما فعل النظم بها سوى الجمع والتنسيق ...
بقي أن نشير إلى أنّ نص ابن المقفع لم يرد في سياق مدح النظم وبيان فضله على الكلام وأنّه منشأ البلاغة والبيان، وإنّما ورد للتقليل من أهميته أو على الأقل لبيان فضيلة اللفظ على النظم (فالأولى منسوبة "للعليم الحكيم" أصالة وابتداءً والثانية تنسب للمتكلم...) أو لكي لا يغتر المحسن فيحسب نفسه صانع هذا الكلام ومبدعه فإنّه لم يزد على أن رتّب كلمات وألفاظا ولهذا تراه يقول في آخر هذه الفائدة كالمستخلص والمستنتج : "...فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسِنُه أو يُسْتَحْسَنُ منه، فلا يَعْجَبَنَّ إعجابَ المُخْتَرِعِ المبتدعِ. فإنّه إنّما اجتناهُ كما وصفنا."[10]
يتبع إن شاء الله...
فتحي بودفلة
كلية أصول الدين ، جامعة الجزائر
فتحي بودفلة
(هذه المسألة مستلّة من بحث فيه شيء من الطول، موضوعه نظرية النظم إن وجدت من المتصفحين اهتماما بالنقد والتقويم أوردت مسائله تباعاً...)
نظرية النظم لم تولد من فراغ ولم توجد هكذا فجأة دون إشارات وإرهاصات تهيّئ لها ... ودون محاولات ومقدمات تمهّد لها ...فلا يُعقل أن يصل الأمر بهذه النظرية إلى مثل هذا النضوج وهذا التكامل والوضوح هكذا بين عشية وضحاها...بل لا بدّ وأنّها نتاج تراكم معرفي كبير وتواصل علمي طويل...وهذه الحقيقة قرّرها وتبناها جلّ من تناول نظرية النظم بالدراسة والتحليل...وسنحاول بدورنا من خلال هذا المبحث الوقوف على حقيقة هذه المسألة لا بمجرد الاتّباع والتقليد وتكرير ما قيل وتجرير الأقاويل فقط... ولكن بالبحث في حقيقة هذه الأسبقية ... بمحاولة استقراء النصوص التراثية القديمة بقدر الاستطاعة والإمكان...ثمّ بمحاولة دراسة هذه النصوص وتحليلها... لأنّه في اعتقادي – والله أعلم – لا يكفي أن نجد كلمةَ "نظم" في بعض النصوص القديمة لنجزم ونحكم بكون الإمام الجرجاني كان مسبوقاً إليها...لأنّ موضوع بحثنا ليس مطلق النظم، وإنّما هو نظم مخصوص، هو نظم الكلم، وليس كلّ نظم للكلم، بل نظمه وفق قوانين النحو بما تمليه معانيه... هذا هو النظم الذي نبحث فيه وننسب الأسبقية في اكتشافه أو على الأقلّ في تجليته وبيانه للإمام الجرجاني...
أوّلا: تقرير كون الإمام الجرجاني لم ينطلق من فراغ
هذه الحقيقة في غاية التحقيق والتقرير يؤكّدها كما تقدم ذكره: أنّ هذا النضوج والاكتمال في النظرية يستحيل أن يصل إلى هذا المستوى الراقي هكذا من أوّل يوم دون أن يسبق بمحاولات واجتهادات ممهدة... وتقويمات وتصويبات متقدمة... هذا من جهة ومن جهة أخرى يؤكّد هذه الحقيقة الإمام الجرجاني نفسه فهو يقرّ في غير ما موضع من كتابه دلائل الإعجاز على حقيقة كونه مسبوقا بغيره وأنّه استفاد ممّن سبقه حيث يقول

ويقول أيضا: "...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." اهـ[4]
فهذه النصوص تؤكّد استفادة الجرجاني ممّن سبقه، وهي حقيقة لا تحتاج إلى الاستدلال أصلاً ولا ينبغي أن يقف عندها الباحثون بأكثر من الإشارة العابرة أو الاستفادة الخاطفة؛ لأنّها حقيقة تعمّ العلم كلّه لا نظرية النظم فقط، فالعلم كلّه رحمٌ متواصلة، ومعرفة متراكمة، يستفيد الآخر من الأوّل ويأخذ منه ثمّ ينمي العلم ويزيد فيه ...
لكن ما يستوقفنا في هذه النصوص ما يلي:
1. قوله

(إطباق العلماء... إجماعهم...بتّهم...) ألفاظ توحي بانتشار اصطلاح النظم وشهرته وذيوعه بين العلماء... لكن الأمر على خلاف ذلك وإلاّ فما حاجة الدارسين إلى عقد مثل هذه المباحث ينقبون في كتب التراث وينقرون عن لفظة ها هنا وكلمة هناك فيها إيماءةٌ أو إشارةٌ ولو من بعيد للنظم.... لماذا كلّ هذا الجهد الجهيد ؟... وهذا التكليف المضني والعمل الشاقّ؟... إذا كان اللفظ مجمعاً مطبقاً عليه، وقد بتّ في كتبهم ومصنفاتهم...
إنّ الواقع يأبى هذا الطرح وهذا الإطلاق؛ فأشهر وأجلّ كتب البلاغة والنقد والإعجاز التراثية بين أيدينا... فهذه كتب الجاحظ وابن قتيبة والخطابي والرماني والباقلاني والقاضي عبد الجبار وغيرهم في متناولنا وبين أيدينا ... لا نجد فيها هذا الإجماع والإطباق الذي ذكره الإمام الجرجاني... فما الذي أراده عليه رحمة الله بهذا الإطلاق ؟
2. قول الإمام الجرجاني: " ...إلاّ أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النَّظمَ في المعاني قد استعملوا فيها ما هوَ بمعناهُ ونظيرٌ له" ومثله: " وكذلك كانَ عندَهُم [يقصد النظم] نظيراً للنَّسجِ والتّأليفِ والصياغةِ والبناءِ والوَشْيِ والتّحبير وما أشبه ذلك"
واضحٌ جليّ من كلام الجرجاني

وعلى مثل هذا المعنى يحمل قوله المتقدم (إطباق العلماء ، وإجماعهم)؛ خاصة وأنّ المتتبع لكتب البلاغيين والنقاد - الذين سبقوا الإمام الجرجاني - والناظر في مصنفاتهم يجدها حافلة بمثل هذه المصطلحات فقد أطبقوا عليها وأجمعوا تماما كما قال...
3. وطائفة أخرى من أقواله نحو: " وذلك قولُهم : إنه يرتَّبُ المعاني في نفسِه ويُنزلُها ويَبني بعضَها على بَعضٍ . كما يقولون : يرتبُ الفروعَ على الأُصولِ ويُتبعُ المعنى المعنى ويُلحقُ النَّظيرَ بالنظير." وقوله أيضاً:"اعتبارَ الأجزاءِ بعضِها معَ بعضٍ حتىّ يكونَ لوضعِ كلٍّ حيثُ وُضعَ علّة تَقْتضي كونَه هناك وحتى لو وُضعَ في مكانٍ غيرِه لم يَصحَّ"
في هذه الطائفة الثالثة من النصوص يستوقفنا الإمام الجرجاني على معنى النظم الذي سُبِقَ إليه فهو: ترتيبٌ للمعاني ، بناء بعضها على بعض، إتباع المعنى المعنى، إلحاق النظير بالنظير، اعتبار الأجزاء....
تبدو هذه التعريفات للنظم غامضة أو على الأقلّ فيها كثيرٌ من الإجمال وشعبٌ من الاحتمال... لا ترتقي من قريب ولا من بعيد لتحديد الإمام الجرجاني للنظم وتعريفه وضبطه له... بل إن الناظر والمتأمل فيها يجدها أقرب إلى أجزاء وأنواع وضروب من النظم، لا النظم ذاته... فكأنّي ببعضهم يشير إلى المشاكلة بين المعاني وآخرون إلى المقابلة فيها وطائفة أخرى إلى مطلق التأليف...كما يُلاحظ على بعضهم - والله أعلم - أنّهم لَرُبما أدركوا مكانة النظم وأهميته في الكلام، ولكنهم لم يقفوا على حقيقته وعلّته؛ فهم يعرفون أنّ سرّ بلاغة الكلام في هذا الوضع والترتيب المخصوص لكن كيف؟ ولماذا؟... هذا ما لم يتوصلوا إليه.
لهذا نعتقد – والله أعلم – انطلاقا من هذه النصوص المتقدمة أنّ النظم قبل الإمام الجرجاني

قد يقول قائل: لكن هذه القوانين ملازمة للترتيب والتأليف فاشتراطها وعدمه سواء... ولا يضرّ السابقين في تعريف النظم عدم ذكرهم لهذه القوانين، فذكرها - والأمر كذلك – من باب تحصيل حاصل .
أوّلاً:إنّ هذا التلازم المدّعى- بين الترتيب والنحو - غير مسلّم به... فالترتيب قد يكون معنوياً خالصا كمن يرتّب ألفاظه وفق ما يريده من معانٍ لا ينظر إلى شيء آخر غير تأدية المعنى وبلوغه كيفما وقع... وقد يكون الترتيب باعتبار الأفكار وضوحها أو تسلسلها أو غير ذلك... لا يهمّه جمالاً ولا بياناً بل كلّ ما يهمه هو وحدة الأفكار وتسلسلها وفق منهج منطقي عقلي مجرد...إذاً تلازم الترتيب والنحو غير مسلّم به، نعم لا يصح الكلام إن خالف قواعد النحو العربي ولكن الحديث هنا ليس عن التزام قواعد النحو بل اعتبارها هي الأساس والأصل في ترتيب الكلام ... قد يلتزم المتكلم بالقواعد ولكن عمدته في الترتيب ليست هذه القواعد بقدر ما هو أصوات ألفاظه (لمن يهتم بجرس الكلام ونغمه) أو ربّما معانيها كما تقدم...
ثانياً: وعلى فرضية صحة هذا التلازم والالتزام فإنّ فضل الإمام الجرجاني كامن في ذكره وفي تصريحه به أو في اشتراطه وفي تفصيل أوجه هذا التأليف النحوي وكيف يؤثر في بيان الكلام وجماله ... ومن سبقه لم يتعرض لهذه الخاصية ولم يشر إليها .... إنّ من مهّمات العلم البحث والتنقيب عن أسرار ما هو موجود ومحاولة تعليله وتفسيره... ويرقى العلم ويتطوّر بقدر ما يتوصل إليه من تعليلات وتفسيرات للمظاهر المحيطة به ، فليس العلم مقصورا على إحداث الجديد وإبداع ما لم يكن...والإمام الجرجاني عليه رحمة الله نظريتُه قائمة على وصف شيء موجود والبحث عن تعليل ظاهرة كائنة، وقد بلغ في ذلك مبلغاً لم يدركه ولم يصله من سبقه، وسواء كان قصورهم عملي بحيث عرفوه ولم يذكروه، أو نظري بالنسبة للذين نسبوا بلاغة الكلام ومزيته لغيره، أو علّلوا الترتيب والتأليف بغير النظم... فإنّ الجرجاني فاقهم وتقدّم عليهم ولو بمجرد التصريح بالتعليل وتفصيله وبيانه. فهي إضافة علمية....
ثانيا: النصوص التراثية التي ورد فيها اصطلاح النظم
سنورد ما أمكن من النصوص والأقوال المتقدمة والتي وردت فيها الإشارة للنظم، محاولين تحليل هذه النقول والبحث في كنهها ومدى علاقة اللفظ الوارد فيها باصطلاح الجرجاني عليه رحمة الله .
1. ابن المقفع (142هـ) وقد عدّه الباحثون أقدم نصٍ ورد فيه ذكر النظم[5] حيث قال في الأدب الكبير والصغير :" وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف مُعْجَمِهِ ، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ.وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ. فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبرون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً[6] وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً." [7]
هذا هو أقدم نصٍ ورد فيه اصطلاح النظم،ولكي نستطيع الوقوف على حقيقة هذا الاستعمال ومراد صاحبه منه ينبغي أن يعلم القارئ أنّ معنى الأدب الذي عناه ابن المقفع في كتابيه الأدب الكبير والصغير إنّما هو "حسن الأخلاق وحكمة التدبير"[8] لا معناه الاصطلاحي الخاص... وقد صنّف ابن المقفع كتابيه الأدب الكبير والصغير لبيان جملة من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، فخاطب في كتابه الكبير السلطان والخاصة بينما عنى بأدبه الصغير عموم الناس، وهذا النّص مستلٌّ من أدبه الصغير من أوّل فصل فيه عنونه بعضهم بـ"الأدب ينمي العقول"[9] ...فالكتاب إذاً ليس كتابَ بلاغة أو لغة حتى يقصد صاحبه فيه تحليل مسألة نقدية بمثل هذا الحجم ويبحث عن سرّ بيان الكلام وتفاضله، وإنّما هي إشارة أراد بها تعليم عموم النّاس أنّ الأخلاق إنّما يكتسبها المرؤ بالتحلي والممارسة وأنّ أعظم ما تظهر تظهر في كلامه، فعليه أن ينتقي من الكلام أفضله (كفصوص الياقوت والزبرجد والمرجان) وأن يرتّبه وينظمه حتى يخرج في غاية الحسن والبيان (قلائد وسموطا وأكاليل).
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ من الفروق الجوهرية بين نظم ابن المقفع ونظم الجرجاني، أنّ الألفاظ عند هذا الأخير لا مزية لها إلاّ في النظم بينما هي عند ابن المقفع فصوصا وياقوتا وزبرجدا ومرجانا وما فعل النظم بها سوى الجمع والتنسيق ...
بقي أن نشير إلى أنّ نص ابن المقفع لم يرد في سياق مدح النظم وبيان فضله على الكلام وأنّه منشأ البلاغة والبيان، وإنّما ورد للتقليل من أهميته أو على الأقل لبيان فضيلة اللفظ على النظم (فالأولى منسوبة "للعليم الحكيم" أصالة وابتداءً والثانية تنسب للمتكلم...) أو لكي لا يغتر المحسن فيحسب نفسه صانع هذا الكلام ومبدعه فإنّه لم يزد على أن رتّب كلمات وألفاظا ولهذا تراه يقول في آخر هذه الفائدة كالمستخلص والمستنتج : "...فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسِنُه أو يُسْتَحْسَنُ منه، فلا يَعْجَبَنَّ إعجابَ المُخْتَرِعِ المبتدعِ. فإنّه إنّما اجتناهُ كما وصفنا."[10]
يتبع إن شاء الله...
فتحي بودفلة
كلية أصول الدين ، جامعة الجزائر
[1] الإجماع ها هنا لا يقصد به معناه الاصطلاحي في علوم الشريعة ... فالسياق يأباه، بل هو من المجازات الاصطلاحية والمعاني
[2] دلائل الإعجاز ص80
[3] المصدر نفسه ص49
[4] دلائل الإعجاز ص 53
[5] أحمد مطلوب. عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده وكالة المطبوعات الكويت 1973 ص53 . إيمان قاضي. نظرية النظم للإمام الجرجاني، مجلة الموقف الأدبي آب 1985م . محمد جنيد الوقفي. نظرية النقد اللغوي عند عبد القاهر الجرجاني وعناصر مكوناتها...إلخ.
[6] "السمط هو العقد المنظوم، وهو من حلي العنق أيضاً وهو طويل يتدلى" ...." والإكليل عصابة تزين بالجوهر تضعها المرأة على شعرها..." من تعليقات الأستاذ أحمد زكي باشا على الأدب الصغير ص7
[7] الأدب الصغير لابن المقفع، تحقيق الأستاذ أحمد زكي باشا، طبعة جمعية العروة الوثقى 1911م 1329هـ
[8] تعليق الباحث زهير ظاظا على الكتاب في الومسوعة الشاملة , وانظر مقدمة الأستاد أحمد زكي للكتاب
[9] انظر النسخة المصورة لمكتبة المصطفى ص2 أو نسخة الشاملة ص 1 ويبدو أنّ هذا التبويب من إضافة بعض المحققين وليست من وضع الكاتب نفسه والله أعلم
[10] الأدب الصغير ص6-7
تعليق