من "رسالة الأجوبة المصرية عن الأسئلة التونسية" للشيخ محمد بخيت المطيعي، ص3-ص18، مطبعة النيل بمصر، 1324هـ.






قلت: ذكرها في السنة الرابعة من الهجرة، وكانت فيها غزوة بني النضير أيضا، وهي التي أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر. وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث.
واختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف، فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع. قاله محمد بن سعد وغيره. واختلف أهل السير في أي سنة كانت فقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع. فقال ابن إسحاق: كانت أول ما صليت قبل بدر الموعد. وذكر ابن إسحاق وابن عبد البر أن بدر الموعد كانت في شعبان في سنة أربع. وقال ابن إسحاق: وكانت ذات الرقاع في جمادى الأولى. وكذا قال أبو عمر بن عبد البر: إنها في جمادى الأولى سنة أربع. اهـ. وقد حكي عن طائفة من الفقهاء منهم المزني من الشافعية أنهم قالوا: إن غزوة ذات الرقاع كانت في جمادى الآخرة من السنة الرابعة وغزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة، وإن صلاة الخوف شرعت في غزوة ذات الرقاع.
وأجاب أكثرهم عن الترك يوم الخندق أنه نسخ بصلاة الخوف المشروعة قبله، وسيأتي ما فيه. وقال ابن حجر في فتح الباري: إن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها يعني ذات الرقاع كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها؛ فعند ابن إسحاق أنها بعد بني النضير وقبل الخندق سنة أربع. قال ابن إسحاق: أقام رسول الله


وقال البخاري: إن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر. ويوافقه ما جزم به أبو معشر من أنها كانت بعد بني قريظة والخندق، واستدل البخاري على قوله بأن أبا موسى جاء بعد خيبر. قال ابن حجر: هكذا استدل به، وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليل، وهو استدلال صحيح. وسيأتي الدليل على أن أبا موسى قدم من الحبشة بعد فتح خيبر في باب غزوة خيبر، ففيه في حديث طويل "قال أبا موسى: فوافقنا النبي

قال البخاري في صحيحه: قال لي عبد الله بن رجاء: أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة "عن جابر بن عبد الله







وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: "لما خرج النبي

وإذا تقرر أن أول ما صليت صلاة الخوف في عسفان وكانت في عمرة الحديبية وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في ذات الرقاع وهي بعد عسفان- فتعين تأخرها عن الخندق وعن قريظة وعن الحديبية أيضا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية.
وأما قول الغزالي: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات- فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره. وقال بعض انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف. وهذا انتصار مردود؛ لما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي بكرة "أنه صلى مع النبي

ونقل الألوسي عن بعض الأجلة أن لصلاة الخوف كيفيات، فهي باعتبار إحدى الكيفيات أعني ما تضمنه قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية- مشروعة قبل يوم الخندق. وباعتبار ما تضمنه قوله تعالى: "فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"- بعد الخندق. اهـ. ثم قال: والقلب إلى ما ذكره بعض الأجلة أميل، وعليه لا يلزم أن يكون الترك يوم الخندق نسخ لما قيل: إن المشروعة قبله مشروطة بأمن هجوم العدو ولم يكن ذلك اليوم؛ فقد كان الخوف في ذلك اليوم في غاية الشدة، كما يشير إليه قوله تعالى: "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا"هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا". اهـ.
ويريد بقوله: وعليه لا يلزم أن يكون الترك يوم الخندق نسخ ... إلخ- التعريض بمن قال: بمشروعية صلاة الخوف قبل الخندق، وأجاب عن الترك يوم الخندق بأنه نسخ بصلاة الخوف المشروعة قبله كما قدمه وإن كان جوابا باطلا في ذاته؛ لأنه لم يعهد أن المتقدم ينسخ المتأخر. وبعد هذا كله فما نقله عن بعض الأجلة ومال إليه قلبه إنما يفيد إذا ثبت أن قوله تعالى: "فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"- نزل بعد يوم الخندق. وقوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية- نزل قبل يوم الخندق، وذلك لم يثبت بل ينافيه ما نقله قبل ذلك عن وضوح الشافعية أن الأصحاب يعني الشافعية قالوا: إن حرب الخندق كان قبل مشروعية صلاة الخوف. وكانوا قبل ذلك يؤخرون الصلاة في الحروب ثم يقضونها إلى أن نزل قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ".
وينافيه أيضا الأحاديث المتقدمة التي استدل بها ابن حجر على أن أول ما صليت صلاة الخوف بعسفان؛ فإنها صريحة في أن النبي

وأما تأخير النبي



وأقول: إن الطعن في الحديث بأنه مخالف لما في الصحيحين لا يكفي، بل لا بد أن يصرح الأئمة بغلطه، ولا يمكن الجمع، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال بعدم صحة هذا الحديث. والجمع ممكن هنا بلا تكلف؛ فقد ذكر أبو موسى بن عقبة في واقعة الخندق أن مدة الحصار كانت عشرين يوما، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة. وأصيب منها سعد بن معاذ بسهم، وكان سبب موته كما نقله ابن حجر نفسه، فيحمل ما رواه من حديث أبي جمعة على أنه كان في بعض أيام الخندق، وما في الصحيحين على أنه كان في بعض آخر. وقد جمع هو وغيره بذلك بين ما رواه الشافعي وغيره من أنه



وقالت طائفة: كان التأخير عمدا، وهو ما تصرح به الروايات. وقد اختلفت هذه الطائفة؛ فقال فريق منها: كان التأخير للشغل بالقتال عن الصلاة، فلم يقدروا بوجه من الوجوه وهو مذهب الحنفية. وإليه جنح البخاري في صحيحه، ونزل عليه الآثار التي ترجم لها فيه. قال العيني: قال في الذخيرة: إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلين القبلة أو غير مستقبليها. ولا يجوز بجماعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وابن أبي ليلى، وعن محمد: يجوز. وبه قال الشافعي. وإذا لم يقدروا على الصلاة على ما وصفنا أخروها، ولا يصلون صلاة غير مشروعة. اهـ.
وقال فريق آخر: إن التأخير كان لتعذر الطهارة، فلم يجدوا للوضوء سبيلا من شدة القتال، وهو مذهب المالكية والحنابلة؛ لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه. وعلى ما ذهب إليه هذان الفريقان لا يكون حكم تأخير الصلاة منسوخا، بل يجوز التأخير للعجز عن الصلاة ولو بالإيماء أو للعجز عن الطهارة. ويندفع السؤال ويضمحل الإشكال، ويستوي إن كانت صلاة الخوف شرعت قبل يوم الخندق أو بعده. وقال فريق ثالث: إنهم كانوا قبل مشروعية صلاة الخوف يؤخرون الصلاة في الحروب، ثم يقضونها. إلى أن شرعت صلاة الخوف ونزل قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ" الآية، فنسخ جواز التأخير في الحروب. وإليه جنح الشافعية. وعكس بعضهم، فادعى أن تأخيره


وعلى ما ذهب إليه الفريق الثالث إنما يرد السؤال إذا جرينا على قول ابن إسحاق وجمع من أهل السير من أن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل الخندق. وقد علمت أن الحق خلافه، وأن صلاة الخوف لم تكن شرعت يوم الخندق، فزال السؤال واضمحل الإشكال على كل حال.