دُرّةُ الحُفّاظ
إن تاجَ تلكم التراجم: هي التي يجمعُ أصحابُها بين العلم والعمل، وتطبيقِ ثمرة العلم، تلمس ذلك وأنت تقرأ أخبارَهم، تهُبّ عليك نسماتُ صدقهم من خلال تلك الأسطر والورقات، فكيف بمن عاش معهم أو لقيهم!ومِن هؤلاء الكبار الذين تستحق تراجمهم أن تُقرأ أكثر من مرة: الحافظُ العالم العامل المحدّث عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي (ت: 601هـ)

لقد عَرف كثيرٌ مِن طلاب العلم هذا الحافظ بـ"عمدته الحديثية" الشهيرة، التي جمع فيها نحواً من أربعمائة حديث في الأحكام من الصحيحين، وبعضِ أفرادهما، وعرَفوه بحفظه واطّلاعه، وبعضِ مصنفاته السائرة، لكن ماذا عن الجانب العملي في حياته؟ الذي يترجم ما كان عليه من علمٍ مُزكّى، يسير فيه على جادّة السلف الذين جمعوا بين العلم والعمل، ولعلي ألخص بعضَ مواقفه تلك في هذه المواقف:
· دفعُ العجب: بلغ الحافظُ ـ

· استفيدوا من غيري: قال أحدُ مترجميه: "إذ صار عنده طالبٌ يَفهم شَيْئًا؛ أمره بالسفر إِلَى المشايخ بالبلاد".
وبعضُ الناس إذا بلغ في العلم منزلةً قد يتضايق من ذهاب بعض تلاميذه لغيره!
وهذا ليس من النصح في شيء -خاصةً إذا ذهب الطالبُ ليتلقى علماً لا يتقنه شيخُه الذي انتقل عنه-.
· مجالسُ تليّن القلوب: عُرف الحافظُ بقرب دمعته، وكثرة بكائه في مجالس الحديث، وكان له ـ إبان إقامة درسه بعد الجمعة في دمشق ـ مجالسُ يغشاها خلْقٌ كثير، وكان إذا قرأ الحديثَ بكى وأبكى، فمن حضر هذه المجالس لا يكاد يفارقها؛ لكثرة ما يحصل له من لين قلبه.
ولمّا دخل مصر ـ بعد أن أُخرج من دمشق ـ، عقد مجالسَه الحديثية فيها، فكان النَّاسُ يبكون حَتَّى غُشي على بَعْضهم، حتى قال بعضُ المصريين: مَا كنا إلا مثل الأموات حَتَّى جاء الحافظ، فأخرجنا من القبور!
ما أحوج الناس وطلاب العلم إلى هذه السكينة التي تغشى هذه المجالس، ويخرج منها أهلُها وقد لانت قلوبُهم!
ولقد تذكرتُ ـ وأنا أقرأ هذه المواقف ـ مجالسَ حضرتُها، وسمعتُ أضعافها ـ مما لم أحضره ـ لشيخنا الإمام عبدالعزيز ابن باز ـ


· الحفاظ على رأس المال: مما اشتهر به الحافظ ـ

وفي عصرنا تجددت على طالب العلم مشتتاتُ الوقت، ومضعيّاتُ الزمن، فما أحراه أن يتضرع لربه ويسأله الإعانة على اغتنام الوقت، والسلامةَ من انفراط زمانه بلا فائدة.
· الاستمرار في تلقين القرآن للعامة: وهذا من أعاجيب ما ذُكر في ترجمته ـ

· مشاركة العامَّة همومَهم ومصائبَهم: حين كان بمصر، وقع فيها غلاء، فكان يؤثِر بعشائه عدة ليالي ويَطوي([2]).
ومثل هذه المواقف تؤثّر في العامة، وتزيد من رصيد العالم في نفوسهم أكثر من دروسه ومواعظه المجرّدة من التطبيق.
· احتسابه على المنكرات: يقول مترجمو الحافظ: "وكان لا يرى منكراً إلا غيّره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومةُ لائم"، وتلك ـ لعمر الله ـ مِن زينة العالم؛ أن يُرى محتسباً، يُترجم غيرتَه على محارم الله بالإنكار حسب القدرة والاستطاعة، وبما يحقق المقصودَ الشرعي.
وإن العامة لا يزالون يحفَظون للعالم قدرَه ومكانتَه في قلوبهم؛ ما دام معروفاً بينهم بالاحتساب والإنكار، وألا يَقصُر دعوتَه على أحد طرفي النجاة: "الأمر بالمعروف" فحسب، بل يجمع بينهما، ويجتهد في تحقيق المصالح الشرعية في أمره ونهيه.
· وصية مجرّب: ولتكن آخر الوقفات مع سيرة هذا العلم الماجد([3])، هذه الوصية التي صدرت عن تجربة وذوق، وهي وصيّة تُعرَض مضامينُها لكثير من أهل العلم، حيث يقول: "إن مَن رزقه الله خيراً مِن عملٍ أو نورِ قلب، أو حالةٍ مرْضيَّة في جوارحه وبدنه؛ فليحمد الله عليها، وليجتهد في تقييدها بكمالها، وشكر الله عليها، والحذر من زوالها بزلة أو عثرة. ومن فقَدَها فليكثر من الاسترجاع، ويفزع إلى الاستغفار والاستقالة، والحزن على ما فاته، والتضرع إلى ربه، والرغبة إليه في عَودها إليها، فإن عادتْ وإلا إليه ثوابها وفضلها إن شاء الله تعالى".
رحم الله الحافظ عبدالغني، وأكثَرَ في علماء المسلمين من أمثاله، وجمعنا به في دار كرامته.
([1]) له ترجمة موعبة في "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (3/1-56) ومنها أفدتُ في هذه الملتقطات من ترجمته.
([2]) الطَّيَّانُ: الطَّاوِي الْبَطْنَ. وَيُقَالُ طُوِيَ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ وَضَمُرَ صَارَ كَالشَّيْءِ الَّذِي لَوِ ابْتُغِيَ طَيُّهُ لَأَمْكَنَ. فَإِنْ تَعَمَّدَ لِلْجُوعِ قَالَ: طَوَى يَطْوِي طَيًّا. مقاييس اللغة (3/ 429).
([3]) الماجِدُ: الحَسَنُ الخُلُقِ، السَّمْحُ. القاموس (ص: 318).
* المقال على الموقع: الموقع الرسمي للدكتور عمر بن عبدالله المقبل