[align=center]في بلاغة القرآن
رأي جديد في بعض مناحيها
( 1 - 3 )[/align]
[align=center]بقلم العلامة الأديب اللغوي / .....[/align]
يطيب لنفسي أن أتعمد مأدبة الله كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، فألتهم من طعامها الشائق ، واحتسي من شرابها الرائق ، ما أعتقد أن فيه غذاء لروحي الساغبة وريا ، وما أكاد أن أنفتل عنها حتى أحس برغبة جامحة في العودة ، فأعود الكرة ابتغاء الافترار وإزالة العطاش ، ولكن هيهات ، فكلما ازددت منها ازددت شوقاً إليها ، وحرصاً عليها :
[align=center]إذا ازددت منها زاد وجدي بقربها
فكيف احتراسي من هوى متجدد[/align]
هيهات هيهات أن تقنع روحي من مأدبة الله ، وطعامها شفاء للنفس ، وشرابها طهور للحس ، وغشيانها جلاء للقلب وصقال للضمير . كيف أقنع من القرآن مأدبة الله ، كما سماه رسول لله فكانت تسمية فذة بارعة ، أصاب بها
شواكل المراد ، وطبق مفاصل السداد ، بإيجاز وإعجاز لم نر لهما ضريباً إلا في القرآن الكريم . والقرآن كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، وفضله على سائر الكلام " معروف غير مجهول ، وظاهر غير خفي ، يشهد بذلك عجز المتعاطين ، ووهن المتكلفين ، وتحير الكاذبين ، وهو المبلغ الذي لا يمل ، الجديد الذي لا يخلق ، والحق الصادع ، والنور الساطع ، والماحي لظلم الضلال ، ولسان الصدق النافي للكذب ، ونذير قدمته الرحمة قبل الهلاك ، وناعي الدنيا المنقولة ، وبشير الآخرة المخلدة ، ومفتاح الخير ، ودليل الجنة ، إن أوجز كان كافياً ، وإن أكثر كان مذكراً ، وإن أومئ كان مقنعاً ، وإن أطال كان مفهماً ، وإن أمر فناصحاً ، وإن حكم فعادلاً ، وإن أخبر فصادقاً ، وإن بين فشافياً ، سهل على الفهم ، صعب على المتعاطي ، قريب المأخذ ، بعيد المرام ".
لا تستسفه النظرة الأولى ، وقد تكون الثانية مبعث توهيم ، وإذا ما هجس التوهيم في نفس ، لا يقر لها قرار أو تكون على بينة من أمره ، فتبحث وتنقب ما وسعها البحث والتنقيب ، وترهف الذهن وتحد الخاطر ، ولا تزال تدير الرأي ، وتجيل عيون الفرض لتعلم سر توهمها ، ولاسيما إذا كان هذا التوهيم في كتاب أحكمت آياته وأعجزت ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكثيراً ما نظرتُ في آيات منه فتوهمتُ ، فبحثت فأسفر البحث عن حقائق تجعل القلب خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، مؤمناً إيماناً قوياً صادقاً لم تشبه شائبة من شوائب التقليد بأنه معجز حقاً ، تتعاقب عليه الأيام ، وتتعاور الأفهام ، فما تزيده الأيام إلا جدة ونضارة ، وتنحسر عنه العقول ظالعة حسيرة وما تنفد كلماته ، ولا تفرع أسرار بلاغتها ( قل لو كان البحر مداداً كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ).
من تلك الآيات التي نظرت فيها فتوهمت ، قوله تعالى : ( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، فلقد خيل إلي أنه لو قيل : " لا تجوع ولا تظمأ ، ولا تضحى ولا تعرى " لكان ذلك جارياً على ما تقتضيه البلاغة من الملاءمة بين الأشباه والنظائر ، ولكنها لم تجئ كذلك فلابد لهذا من سر بل من أسرار ، لأن الكلمة في القرآن ليست كما تكون في غيره " بل السمو فيها على الكلام أنها تحمل معنى ، وتومئ إلى معنى ، وتستتبع معنى ، وهذا ما ليس في طاقة البشرية ، وهو الدليل على أنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " . فما سر مجيئها هكذا ؟
نظرت في كتب التفسير التي بين يدي ، وهي الكشاف والطبري والنسفي والجلالين والبحر المحيط ، فما ألفيت كتاباً منها حاول أن يكشف عن سر نظم الآية بيد أني وجدت فيما كتبه الصاوي على الجلالين كلاماً ليس له ضحى ، فهو يقول : " قابل بين الجوع والعرى ، والظمأ والضحو ، وإن كان الجوع يقابل بالعطش ، والعرى يقابل الضحو ، لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر ، والظمأ حر الباطن والضحو حر الظاهر ، فنفى عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن ، وحر الظاهر الباطن ". ووجدت ابن المنير يقول في كتاب الانتصاف : " والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلاً بشكله لتوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، على أن في الآية سراً زائداً على ذلك وهو قصد تناسب الفواصل ، ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي ، وأحسن به منتظماً ". وهذا الكلام ليس له نصيب كبير من الوجاهة والرجاحة ، ولذلك لم ترتح إليه نفسي ولم تقنع به ، وإنما قنعت برأي حلو جميل أنساب في أعطافها ، ودب في ثناياها دبيب الكرى في المفاصل ، ففرحت به وآثرته ، وصارت به حفية ، وله وامقة ، ولنشره تائقة ، ويتخلص هذا الرأي في أنه لو جاء النظم هكذا : وأنك لا تجوع فيها ولا تظمأ ، لوجب أن يقال : وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى ، ولو كان ذلك كذلك لفسد المعنى ، لأن التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كما في اللسان وغيره ، وإذا كان التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كان معناه العري ، فيصير معنى الكلام ( وأنك لا تعرى فيها ولا تعرى ) وهو فساد بين ، ولما كان هذا الفساد في النظم مرجعه ضم الأشباه والنظائر ، فرقها وجاء بها على هذا النسق البديع : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، وضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوع وسترة العورة الذين تدعو إليهما ضرورة الحياة ونحيزة الإنسانية . ولما كان الجوع مقدماً على العطش كتقديم الأكل على الشراب ، كان من مقتضى البلاغة أن يتأخر ذكر الظمأ عن الجوع ، وأن يتقدم على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع ، وأن يتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع ، لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع . ولعلك إذا بلغت هذا الموضع من مقالي تسائلني فيما بينك وبين نفسك ، أو فيما بينك وبين غيرك ، وتقول : إذا كان الأمر كما بينت ، وكان سر التفريق بين الأجناس كما جلوت ، فلم ذكر التضحي وهو عري كما أثبت ، وقد أغنى عنه ذكر العري ؟ ولعلي أبلغ الغاية من إقناعك ومرضاتك ، أو لعلي أوفر عليك مؤنة السؤال أو التساؤل إذا قلت لك : في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ) ، فإن التضحي عري مخصوص مشروط بالبروز للشمس وقت الضحى ، ولذلك سمي تضحياً ، وسميت الشمس ضحى لظهورها في ذلك الوقت ، والانتقال من الأعم إلى الأخص بلاغة ، لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم كما يقولون .
يتبع ...
رأي جديد في بعض مناحيها
( 1 - 3 )[/align]
[align=center]بقلم العلامة الأديب اللغوي / .....[/align]
يطيب لنفسي أن أتعمد مأدبة الله كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، فألتهم من طعامها الشائق ، واحتسي من شرابها الرائق ، ما أعتقد أن فيه غذاء لروحي الساغبة وريا ، وما أكاد أن أنفتل عنها حتى أحس برغبة جامحة في العودة ، فأعود الكرة ابتغاء الافترار وإزالة العطاش ، ولكن هيهات ، فكلما ازددت منها ازددت شوقاً إليها ، وحرصاً عليها :
[align=center]إذا ازددت منها زاد وجدي بقربها
فكيف احتراسي من هوى متجدد[/align]
هيهات هيهات أن تقنع روحي من مأدبة الله ، وطعامها شفاء للنفس ، وشرابها طهور للحس ، وغشيانها جلاء للقلب وصقال للضمير . كيف أقنع من القرآن مأدبة الله ، كما سماه رسول لله فكانت تسمية فذة بارعة ، أصاب بها

لا تستسفه النظرة الأولى ، وقد تكون الثانية مبعث توهيم ، وإذا ما هجس التوهيم في نفس ، لا يقر لها قرار أو تكون على بينة من أمره ، فتبحث وتنقب ما وسعها البحث والتنقيب ، وترهف الذهن وتحد الخاطر ، ولا تزال تدير الرأي ، وتجيل عيون الفرض لتعلم سر توهمها ، ولاسيما إذا كان هذا التوهيم في كتاب أحكمت آياته وأعجزت ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكثيراً ما نظرتُ في آيات منه فتوهمتُ ، فبحثت فأسفر البحث عن حقائق تجعل القلب خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، مؤمناً إيماناً قوياً صادقاً لم تشبه شائبة من شوائب التقليد بأنه معجز حقاً ، تتعاقب عليه الأيام ، وتتعاور الأفهام ، فما تزيده الأيام إلا جدة ونضارة ، وتنحسر عنه العقول ظالعة حسيرة وما تنفد كلماته ، ولا تفرع أسرار بلاغتها ( قل لو كان البحر مداداً كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ).
من تلك الآيات التي نظرت فيها فتوهمت ، قوله تعالى : ( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، فلقد خيل إلي أنه لو قيل : " لا تجوع ولا تظمأ ، ولا تضحى ولا تعرى " لكان ذلك جارياً على ما تقتضيه البلاغة من الملاءمة بين الأشباه والنظائر ، ولكنها لم تجئ كذلك فلابد لهذا من سر بل من أسرار ، لأن الكلمة في القرآن ليست كما تكون في غيره " بل السمو فيها على الكلام أنها تحمل معنى ، وتومئ إلى معنى ، وتستتبع معنى ، وهذا ما ليس في طاقة البشرية ، وهو الدليل على أنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " . فما سر مجيئها هكذا ؟
نظرت في كتب التفسير التي بين يدي ، وهي الكشاف والطبري والنسفي والجلالين والبحر المحيط ، فما ألفيت كتاباً منها حاول أن يكشف عن سر نظم الآية بيد أني وجدت فيما كتبه الصاوي على الجلالين كلاماً ليس له ضحى ، فهو يقول : " قابل بين الجوع والعرى ، والظمأ والضحو ، وإن كان الجوع يقابل بالعطش ، والعرى يقابل الضحو ، لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر ، والظمأ حر الباطن والضحو حر الظاهر ، فنفى عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن ، وحر الظاهر الباطن ". ووجدت ابن المنير يقول في كتاب الانتصاف : " والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلاً بشكله لتوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، على أن في الآية سراً زائداً على ذلك وهو قصد تناسب الفواصل ، ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي ، وأحسن به منتظماً ". وهذا الكلام ليس له نصيب كبير من الوجاهة والرجاحة ، ولذلك لم ترتح إليه نفسي ولم تقنع به ، وإنما قنعت برأي حلو جميل أنساب في أعطافها ، ودب في ثناياها دبيب الكرى في المفاصل ، ففرحت به وآثرته ، وصارت به حفية ، وله وامقة ، ولنشره تائقة ، ويتخلص هذا الرأي في أنه لو جاء النظم هكذا : وأنك لا تجوع فيها ولا تظمأ ، لوجب أن يقال : وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى ، ولو كان ذلك كذلك لفسد المعنى ، لأن التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كما في اللسان وغيره ، وإذا كان التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كان معناه العري ، فيصير معنى الكلام ( وأنك لا تعرى فيها ولا تعرى ) وهو فساد بين ، ولما كان هذا الفساد في النظم مرجعه ضم الأشباه والنظائر ، فرقها وجاء بها على هذا النسق البديع : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، وضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوع وسترة العورة الذين تدعو إليهما ضرورة الحياة ونحيزة الإنسانية . ولما كان الجوع مقدماً على العطش كتقديم الأكل على الشراب ، كان من مقتضى البلاغة أن يتأخر ذكر الظمأ عن الجوع ، وأن يتقدم على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع ، وأن يتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع ، لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع . ولعلك إذا بلغت هذا الموضع من مقالي تسائلني فيما بينك وبين نفسك ، أو فيما بينك وبين غيرك ، وتقول : إذا كان الأمر كما بينت ، وكان سر التفريق بين الأجناس كما جلوت ، فلم ذكر التضحي وهو عري كما أثبت ، وقد أغنى عنه ذكر العري ؟ ولعلي أبلغ الغاية من إقناعك ومرضاتك ، أو لعلي أوفر عليك مؤنة السؤال أو التساؤل إذا قلت لك : في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ) ، فإن التضحي عري مخصوص مشروط بالبروز للشمس وقت الضحى ، ولذلك سمي تضحياً ، وسميت الشمس ضحى لظهورها في ذلك الوقت ، والانتقال من الأعم إلى الأخص بلاغة ، لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم كما يقولون .
يتبع ...
تعليق