قد اعتنى علماء التربية والتعليم في الكليات والمعاهد ومدارس تكوين المعلمين بقواعد التربية وعلم النفس اعتناء كبيرا، فكتبوا في ذلك كتبا كثيرة وأبحاثا جمة.
وإن مما يدعو للدهشة والاستغراب أنهم نقلوا فيها عن علماء التربية الغربية كل طارف وتالد، واقتبسوا أصولهم وفروعهم وتجاربهم وإذا كنا نقدر مدى أهمية الاستفادة من عمل الآخرين بعد تصفيته وغربلته مما يتعارض مع أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن الكريم، ومع مبادئنا وقيمنا الحضارية، فإن الذي نعيبه على كثير من علماء التربية وأساتذتها ومدرسيها هو تغافلهم، وعدم التفاتهم إلى ما يزخر به القرآن الكريم والسنة النبوية من دقائق علوم التربية والتعليم أصولا وفروعا.
نص القرآن على هذا الأصل في قوله تعالى


التزكية: تطهير الإنسان حسيا ومعنويا ظاهرا وباطنا من دنس الذنوب والمعاصي، وفيها معنى النمو والزيادة والتعهد بالرعاية نحو الكمال.
وتأمل هذا التركيب العجيب وهذا الأسلوب الفريد حيث أفرد لتلاوة الآيات فعلا، وهو «يتلو» ثم جاء بفعل آخر لتعليم الكتاب وهو «ويعلمهم» ليدل بذلك على المباينة بين التلاوة وتعليم الكتاب، وأشرك «الحكمة» في نسق التعليم، لأنها مربوطة بتعليم الكتاب، وحذف كل ذلك من التزكية، ولم يقل ويعلمهم التزكية، كالأصول السابقة، لأن التزكية لا تعلم ولا تحفظ ولا تتلى كما هو الشأن في مناهجنا الحالية، وإنما هي إحساس فانفعال فسلوك وعمل بعد ذلك، وإنما هي ثمرة من ثمرات التلاوة وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة، فإذا لم تثمر هذه الأصول التربوية التزكية فهي كالعدم، فهي محض سلوك وعمل يظهر بعد التلاوة وبعد فقه التلاوة وبعد فقه السنة.
قال تعالى




بيان بأثر هذه الأصول التربوية وثمراتها
ولما كان التأثير يتم بمقدار عظمة المؤثر ظهر تأثير هذه الأصول التربوية والتفقه فيها في بناء شخصية الإنسان قويا وفعالاً وكاملا يصعب علينا حصر جميع جوانب هذا التأثير في بناء شخصية الإنسان واتزانها واعتدالها، ولسوف أقتصر على بعض الجوانب فقط، لأن مصدر هذه الأصول هو القرآن الكريم، وموضوع القرآن الكريم هو الإنسان نفسه، ولقد استلهمت هذا المعنى من قوله تعالى:




ولسوف -بإذن الله- أسوق أمثلة ونماذج حية أبرهن فيها على هذه الحياة في عرف القرآن وأثره في بناء الإنسان.
أولا: طريقة القرآن في الخطاب لتربية الأخوة
قال تعالى في سياق أخبار بني اسرائيل


قال ابن كثير: إن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحد وقد بين القرآن أن من قتل نفسا بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعا فقال:


ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى


ومن تعبيرات القرآن بالنفس وإرادة الغير، قال تعالى


ومن تعبيرات القرآن وإرادة الأخ في الدين قوله تعالى


ومن تعبيرات القرآن عن الغير بالنفس وإردة الغير لأن الإنسان أخو الإنسان قوله تعالى


ثانيا: حصول الطمأنينة والسكينة
إن الاشتغال بفهم القرآن والتفقه فيه يكون سببا للطمأنينة والسكينة ويحصل لصاحبه عز الدنيا وسعادة الآخرة كما أخبر بذلك المعلم الأول (

ومصداق ذلك في كتاب الله


ثالثا: الجهاد بالقرآن الكريم
نجد الترجمة العملية له عند الأئمة والمصلحين ورجال الدعوة والإرشاد فقد اقتصروا على معاني القرآن وتفسيره في دعوتهم الشاملة، ابتداء بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار، فأثمرت دعوتهم ونالت قبولا، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات وأحدثت دعوتهم تغييرا إصلاحيا في العقيدة والسلوك وانتشرت في الشرق والغرب.
وبما أن ميلاد هذا البحث كان في بلاد الكويت، فمن البر بأهلها وإحسانا إلى علمائها وأعلامها، رأيت أن أبتدئ بهم، فراجعت كتاب علماء الكويت وأعلامها، فكان ممن اثار أعجابي الشيخ عبدالعزيز العتيقي، فكان تواقا لطلب العلم، فاقتنى كتبا كثيرة من كتب الحنابلة، ودرس على الشيخ محمد رشيد رضا، وتوثقت الصلة بينهما فكان مستودع أسراره، وكان مجاهدا داعيا سخيا في سبيل نشر الدعوة، وانتقل إلى الهند وأندونيسيا في سبيل نشر الدين ثم عاد إلى وطنه في الكويت، وانقطع للتعليم

وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرزين الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت1376هـ) قد اعتمد في دعوته نشر التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه، وبرع فيه، فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده، هي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، وتيسير اللطيف المنان في خلاصة القرآن، والقواعد الحسان لتفسير القرآن .
وإذا انتقلنا غربا الى مصر نجد الإمام محمد عبده يعتمد في دعوته على التفسير، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروسا في التفسير ويعلل ذلك بقوله: «إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء، ثم واصل مسيرة التفسير بعده رشيد رضا إلا أن أجله حال دون إكمال التفسير، رحم الله الجميع.
وإذا انتقلنا قليلا إلى ليبيا نجد ثلة من العلماء الذين قاموا بحق القرآن الكريم، وكانوا ترجمة عملية للذكر الحكيم، من أبرزهم شيخ الشيوخ علي الغرياني التاجوري الليبي.
وإذا انتقلنا غربا إلى تونس نجد الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيرا كاملا سماه التحرير والتنوير، فحرر الناس من الجهل والظلمات، ونور به البلاد التونسية.
واذا انتقلنا قليلا إلى الغرب في الجزائر نجد الترجمة العملية المتمثلة في الإمام عبدالحميد بن باديس، فقد اقتصر على التفسير ومعاني القرآن في دعوته الإصلاحية الشاملة في الجزائر، ابتداء بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الشرك والاستعمار.
وإذا عرجنا جنوبا إلى بلاد شنقيط نجد خاتمة المحققين وإمامهم محمد الأمين الشنقيطي يفسر القرآن بالقرآن ويسميه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
هؤلاء الأئمة وغيرهم ممن لم أذكرهم كانوا مجاهدين بالقرآن بتفسيره وبيانه والتفقه فيه ودعوة الناس إليه، وقد سمى القرآن مثل عملهم ذاك بالجهاد الكبير فقال








رابعا: زوال التعصب
من أهم ما تثمره هذه الأصول التربوية في شخصية الإنسان والطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطالب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه والتفقه فيه كما رتبه الله، لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلا، وما وجد التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التربية والتعليم، وهو تعليم الخط والكتابة، ثم التلاوة ثم التفسير والحكمة والتزكية وهي العمل بما علم كما قدمنا في قوله تعالى


فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن نعلم الطلاب التعصب والتقليد من حيث لا ندري.
خامسا: الاستقلال في الأخذ والترجيح
من ثمرات هذه الأصول التربوية على شخصية الطالب أنها تعلمه الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد، فهذا ابن العربي المالكي في أحكام القرآن كثيرا ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من أحكامه على عدم التعصب، ونسي نفسه ورجح بقوة مذهب المخالفين لمذهبه، مبينا الوجه والسبب فقال عند قوله تعالى


وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات» ،ثم تعرض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه المعتاد وقال كلمة بليغة تكتب بماء الذهب فقال: «وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق».
قال القرطبي: «وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه» ، هذا هو حال من يطلب فقه القرآن، لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل القرآن مرآته فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبوحنيفة، وابن العربي، وجميع الأئمة. ما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد في هذه الظلمات المتراكمة علينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سادسا: الاتزان والاعتدال
من ثمرات هذه الأصول التربوية وفوائدها وأثرها أنها تكسب شخصية الطالب اتزانا واعتدالا وتكاملا، فلا ينحاز ولا يميل، لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه ومعارفه واحد، فلا يطغى عليه جانب دون جانب، فهو عند آيات الأسماء والصفات، يتعلم أسماء الله وصفاته بدون تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد - وما أكثرها- تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية والحدود، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك ولاشك، وإذا مر على الآيات المتعلقة بالبر والإحسان تعلم ذلك وتطبع وعمل به، وإذا مر على الآيات التي تذكر فيها الأمم السابقة وأحوالهم، وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة، وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.
ولما كانت الوسطية من مزايا هذه الأمة، حث عليها الشرع وقررها القرآن


كان لتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه أثر قوي لا ينكر في تحقيق صفة اعتدال الشخصية واتزانها.
--------------------------------------------------------------------------------
يتبع
--------------------------------------------------------------------------------
بقلم الكاتب: د.أحمد بن معمّر شرشال
اترك تعليق: