بسم الله الرحمن الرحيم .. والحمد لله رب العالمين .. وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، ومشكاة للسالكين، سيد ولدآدم أجمعين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
فإن الله قد أنزل الكتاب هدى ورحمة للعالمين ، قال سبحانه :
يآأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
وقال جل ثناؤه :
يآأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا
. وقال تعالى :
قل يآأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يتهدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها
ففي هذه الآيات الثلاث جاء وصفه بأنه : هو البرهان ، وهو النور ، وهو الموعظة ، وهو الشفاء ، وهو الهدى ، وهو الرحمة ، وهو الحق .
فأين قلوب أهل الإيمان عن كتاب ربهم ؟ ولقد ضرب الرعيل الأول أروع الأمثلة في العيش مع القرآن ، فغلب على دلهم وهديهم وسمتهم وسائر أحوالهم ، حتى كان أحدهم قرآنا يمشي على وجه الأرض ، ثم خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون سيغفر لنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه .. فنعوذ بالله من حال المعرضين ، الذين شكى الرسول حالهم مع القرآن :
وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا
. قال ابن القيم في كتابه الفوائد :
وهجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به ، والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به . والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم . والرابع : هجر تدبره وتفهمه ، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
والخامس : هجر الإستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها ، فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .. وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى
وهذا الكتاب فيه عز هذه الأمة ، و رفعة شأنها ، وصلاح أمرها ، فقد أخرج مسلم في صحيحه
٨١٧
أن نافع بن عبدالحارث لقي عمر بعسفان ، وكان عمر يستعمله على مكة . فقال : من استعملت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . قال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا . قال : فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله عزوجل ، وإنه عالم بالفرائض . قال عمر : أما إن نبيكم
قد قال :
إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين
.
وسوف يكون أخذنا في هذا الباب عن اهتمام السلف بالقرآن الكريم قبل البداءة بالعلوم الأخرى ، والكلام في هذه المسألة متحصل في ثلاث مسائل :
الأولى : أن القرآن هو أصل العلم .
الثانية : أهمية حفظ القرآن قبل الشروع في طلب بقية العلوم .
الثالثة : بأي شيء من القرآن نبدأ .
وهذه المقدمات مبني بعضها على بعض ، وفي نظري أنه لا يمكن الإلمام بفقه السلف في هذا الباب إلا بالسير على هذا التقسيم .. فأقول وبالله استعين :
المسألة الأولى : في أن القرآن هو أصل العلوم ورأسها ، قال سبحانه :
بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وما يجحد بأياتنا إلا الظالمون
٤٩ العنكبوت .
قال الحسن : بل هو ءايات بينات هو القرآن ، في صدور الذين أوتوا العلم يعني المؤمنين .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره
٣/٤١٨
: لأنه محفوظ في الصدور ، ميسر على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظا ومعنى . انتهى
وقال جل ثناؤه :
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا
١٠٧ الإسراء ، قال الإمام عبدالأعلى التميمي : إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه ، لأن الله نعت أهل العلم ، فقال :
يخرون للأذقان سجدا
. وقال سبحانه :
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة
٥٢ الأعراف
وقال تعالى :
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء
٨٩ النحل والغاية من العلم هو تبين الأشياء والوقوف على حقائقها ، فكان القرآن تبيانا لكل شيء . وقال
:
يآأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ، وأنزلنا إليكم نورا مبينا
١٧٤ النساء ، قال ابن منظور في لسان العرب في مادة
بره
:
والبرهان : بيان الحجة ، واتضاحها .
وقال في مادة
برهن
:
البرهان : الحجة الفاصلة البينة ، يقال : برهن يبرهن برهنة إذا جاء بحجة قاطعة للدد الخصم ، فهو مبرهن . انتهى
وقال سبحانه
وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم
٦ النمل قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير
٢٠/٢٢٥
:
وفي الوصفين الشريفين مناسبة للمعطوف عليه وللممهد إليه ، فإن ما في القرآن دليل على حكمة وعلم من أوحى به ، وأن ما يذكر هنا من القصص ، وما يستخلص منها من المغازي والأمثال والموعظة ، من آثار حكمة وعلم حكيم عليم . انتهى
والآيات في هذا الباب كثيرة نكتفي بما قد أشرنا إليه ، وأما السنة فالأخبار في ذلك واسعة ، منها ما هو صحيح ، وقوي الدلالة على المعنى ، ومنها ما هو صحيح ، ولكنه بعيد الإشارة في الدلالة على المقصود ، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم :
من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده
. ومنها ما هو مطعون في ثوبته ، ولكنه مشرق الدلالة ، كالخبر الذي أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الفرائض باب ما جاء في تعليم الفرائض ، برقم
٢٨٨٥
من طريق عبدالرحمن بن زياد عن عبدالرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال :
العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة ، قائمة أو فريضة عادلة
. قال العظيم آبادي في عون المعبود :
قال المنذري : وأخرجه ابن ماجه ، وفي إسناده عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وقد تكلم فيه غير واحد . وفيه أيضا عبدالرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية ، وقد غمزه البخاري وابن أبي حاتم .انتهى
ومن أجمع ما روي في هذا الباب ، وهو مطعون فيه كذلك ، ما أخرجه الترمذي في جامعه برقم
٢٩٠٨
والدارمي
٢/٤٣٥
والبغوي في شرح السنة برقم
١١٨١
من طريق الحارث بن عبدالله الأعور ، قال : مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ، فدخلت على علي ، فقلت : يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ، قال : أوقد فعلوها ؟ قلت : نعم . قال أما إني سمعت رسول الله
يقول :
ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : وما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال :
كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا :
إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدى إلى الرشد
من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم
خذها إليك يا أعور .
قلت : والحديث فيه ضعف ، قال الترمذي عقبه :
هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مجهول ، وفي الحارث مقال
.
قلت : أما الحارث الأعور فالجمهور على توهينه ، قال عنه الحافظ في التقريب : كذبه الشعبي في رأيه ، ورمي بالرفض ، وفي حديثه ضعف . انتهى ، وقال عنه يحي بن معين في رواية الدوري : ليس به بأس . وقال عثمان الدارمي : سألت يحي بن معين عن الحارث الأعوار ، فقال : ثقة . وقد نقل هذا التوثيق عن ابن معين غير واحد ، منهم ابن شاهين في الجزء المطبوع بنهاية تاريخ جرجان
٦٥٥
.
فإن قيل : إن الدارمي قال بعد حكايته عن ابن معين ما نصه :
ليس يتابع يحي على هذا . انتهى
فالجواب : هذا مبلغ علم الدارمي ، وقد وثقه أحمد بن صالح المصري ، وقال ابن معين : ما زال المحدثون يقبلون حديثه . وفي قول الحافظ ابن حجر : كذبه الشعبي في رأيه . إشارة إلى تخليص روايته من هذا القدح ، وقد عقد الشريف حاتم بن عارف العوني في شرحه على موقظة الذهبي بحثا انفصل منه أن رواية الحارث الأعور جيدة إذا لم يكن فيها مجال لرأيه ، أو كانت في بدعته . وقد قال الحافظ الذهبي في الموقظة
٣٣
في آخر مبحث الحسن : ثم بعد ذلك أمثلة كثيرة يتنازع فيها ، بعضهم يحسنونها ، وآخرون يضعفونها ، كحديث الحارث بن عبدالله .. الخ انتهى
أما قول الترمذي :
وفي إسناده مجهول
فعنى به أبا المختار وابن أخي الحارث الأعور .
قال السيد ابن الوزير اليماني في ترجيح أساليب القرآن
١٧
بعدما أشار إلى بعض طرق هذا الحديث ، ووصفه بأنه حديث جليل :
ولم يزل العلماء يتداولونه فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول . انتهى
والتحقيق : أن هذا الخبر محفوظ من قول علي
.
وقد جاء من طرق أخر لا تصح ، وليس هذا موضع بسط البحث .
ومما يدل على أن القرآن أصل العلوم و رأسها ، ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ١٠/٢٢٥ وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد
٨٥٤
واللفظ له ، عن ابن مسعود أنه قال :
من أراد العلم فليثور القرآن
وسنده صحيح ورجاله رجال الشيخين . وفي حفظي من الإحكام في أصول الأحكام ، للإمام الحافظ ابن حزم ، ولا يحضرني الكتاب الآن ، أنه أخرج هذا الخبر بسنده عن ابن مسعود بلفظ :
من أراد علم الأولين والأخرين .. الخ
قال الأزهري في تهذيب اللغة :
قال شمر : تثوير القرآن : قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ، ومعانيه . انتهى
وقال ابن الأثير في النهاية ١/٦٥٣ :
يفكر في معانيه ، وتفسيره ، وقراءته . انتهى
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٢/٢٣٥ :
وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما ، وهو إما باطل ، أو قليل النفع . وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول ، والفروع . انتهى
ويقول ابن القيم في كافيته :
فتدبر القرآن إن رمت الهدى ¤
فالعلم تحت تدبر القرآن ¤
ومما هو في حفظي وعزب عني موضعه من الإتقان للجلال السيوطي :
القرآن كاللبن كلما مخضته ازداد زبده
. وقد وجدت أصل هذه العبارة في تذكرة الأخبار على أنه خبر إلهي ، ونصه :
قال الله تعالى لموسى بن عمران
:
إنما مثل كتاب محمد
في الكتب ، كمثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت زبده
. انتهى
ويقول العلامة المحقق الشهير عبدالرحمن السعدي في تفسيره عند قوله سبحانه :
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر
:
ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء ، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظا ، وأصدقه معنى وأبينه تفسيرا ، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهله عليه .. ثم يقول :
ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرآ أسهل العلوم ، وأجلها على الإطلاق ، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه ، وقال بعض السلف عند هذه الآية : هل من طالب علم فيعان عليه ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله :
هل من مدكر
. انتهى
ومن خير رسائل أهل العلم في تبيين هذا الأمر ، وشرحه على أحسن الوجوه ، رسالة الحافظ ابن رجب
فضل علم السلف على الخلف
. وكذا شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه ، وكذا الإمام المجتهد النظار / ابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم . وكذلك كتابه البديع الذي لا نظير له في بابه :
ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان
.
إذا تقرر أن القرآن أصل العلوم ، وأجلها على الإطلاق .. انتقلنا إلى المسألة الثانية ، وهي :
أهمية حفظ القرآن والبدء به قبل الشروع في طلب بقية العلوم :
أخرج الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ١/١٠٨ عن الوليد بن مسلم أنه قال :
كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى حدثا ، قال : يا غلام قرأت القرآن ؟ فإن قال : نعم ، قال : اقرأ ، وإن قال : لا ، قال : اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم . انتهى
وقال الإمام السيد ابن الوزير اليماني في ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان
١٨٢
:
وقال علي
في وصيته لابنه الحسن
: وإني ابتدائك بتعليم كتاب الله تعالى ، وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه ، ولا أجاوز ذلك بك إلى غيره . انتهى
قال الإمام الحافظ ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله
٥٢٦
:
طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ، ومن تعداها جملة ، فقد تعدى سبيل السلف
ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل ، ومن تعداه مجتهدا زل . فأول العلم :
حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول : إن حفظه كله فرض ، ولكن أقول :
إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض . انتهى
وقد جاء في صحيح البخاري برقم
٧٠٨٦
عن حذيفة -
- قال : حدثنا رسول الله
حديثين ، رأيت أحدهما ، وأنا انتظر الآخر ، حدثنا :
أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم علموا من القرآن ، ثم علموا من السنة .. الخ قال الحافظ في الفتح ١٣/٣٩ :
وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن
. انتهى ، وجاء في الآاب الشرعية ٢/٣٣ لابن مفلح الحنبلي :
أن الميموني قال : سألت أبا عبدالله أيهما أحب إليك ، أبدا ابني بالقرآن أو بالحديث ؟ قال : لا بالقرآن ، قلت : أعلمه كله ، قال : إلا أن يعسر ، فتعلمه منه . ثم قال لي :
إذا قرأ أولآ تعلم القراءة ، ثم لزمها . انتهى قال ابن مفلح :
وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا
.
قال الخطيب في الجامع
١/١٠٦
ذكر ما يجب تقديم حفظه على الحديث : ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزوجل ، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم . انتهى
وقال الإمام النووي في مقدمة المجموع شرح المهذب ١/٣٨ :
وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم ، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن ، وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالا يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان ، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصرا . انتهى
وجاء في تذكرة الحفاظ للذهبي
٢/٧٢٢
أن محمد بن الفضل قال : سمعت جدي يقول : استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة ، فقال :
اقرأ القرآن أولآ حتى آذن لك ، فاستظهرت القرآن ، فقال لي : امكث حتى تصلي بالختمة ، ففعلت ، فلما عيدنا أذن لي فخرجت إلى مرو ، وسمعت بمرو الروذ من محمد بن هشام يعني صاحب هشيم ، فنعي إلينا قتيبة . انتهى
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٢/٢٣٥ وقد سبق نقله باختصر ، وهو مناسب للموضعين :
وأما طلب حفظ القرآن ، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما ، وهو إما باطل ، أو قليل النفع .
وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع ، فإن المشروع في حق مثل هذا ، في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن ، فإنه أصل علوم الدين ، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم ، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم ، من الكلام ، أو الجدال والخلاف ، أو الفروع النادرة ، والتقليد الذي لا يحتاج إليه ، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها ، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة ، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله .. والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه ، والعمل به ، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين . انتهى
وقد سمعت سماحة شيخنا العلامة / عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين -
- أن الشيخ حسن بن مانع لما تقدم ليقرأ على سماحة العلامة / محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، وكان الشيخ حسن من نوابغ الطلاب ، قال له الشيخ ابن إبراهيم : أحفظت القرآن ، قال : نعم . قال : أحفظت الثلاثة الأصول ، قال : نعم . قال : أحفظت كتاب التوحيد ، قال : نعم . قال : أحفظت آداب المشي إلى الصلاة ، قال : نعم . قال : أحفظت متن الآجرومية ، قال : نعم . قال : أحفظت كشف الشبهات ، قال : نعم . قال : إذآ فأجلس . وكان الشيخ حسن بن مانع له حظوة عند الشيخ ، يقول الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ في ترجمته لجده الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ :
وبعد المغرب ربما قرئ عليه في كتب خاصة لا يحب أن يسمعها كل أحد ، فقد حدثني الشيخ حسن بن مانع أن الشيخ محمد اختصه بحضور بعد المغرب ، قال : فكان يقرأ عليه في معجم الأدباء لياقوت الحموي .
الشاهد من القصة : أنه ابتدأه بالسؤال عن حفظ القرآن ، وهذا معروف لدى طلاب الشيخ ومن أدركه ، أنه لا يأذن لأحد بالجلوس كمنتظم إلا بعد حفظ القرآن .
وبهذا نأتي على الكلام في المسألة الثانية .. ولنأتي على الكلام فيما يتعلق بالمسألة الثالثة ، وهي :
بأي شيء من القرآن نبدأ ؟
وهذه القضية يقول عنها الشيخ د / عصام بن صالح العويد في فن التدبر في القرآن الكريم
٤٢
:
هذه مسألة جليلة كبيرة القدر جدآ ، قد خفي على كثير من أهل القرآن وجه الصواب فيها ، فوقعوا في خلاف منهج النبي
، ومنهج أصحابه
.
ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام في تعليم أصحابه القرآن ، هو تعليم الإيمان أولا قبل تعليم الأحكام ، وهي داخلة ضمن القاعدة المشهورة عند السلف في التعليم ،
العالم الرباني : هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره
.
وقد جاء في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار مشهورة :
فعن جندب بن عبدالله قال : كنا مع النبي
ونحن فتيان حزاورة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن ، فازددنا به إيمانا . أخرجه ابن ماجه وغيره ، قال في مصباح الزجاجة ١/١٢ : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات .
وجاء عن ابن عمر أنه قال : لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على النبي
فيتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن ، ثم قال :
لقد رأيت رجالآ يقرأ أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ، لا يدري ما أمره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده ، ينثره نثر الدقل
. أخرجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ولا أعرف له علة . والبيهقي ٣/١٢٠ ، والطبراني في الأوسط ، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد
٧/١٦٥
: ورجاله رجال الصحيح .
وذكره شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٥/٣٣٢ وفي بيان تلبيس الجهمية ٢/٤٠٣ بلفظ :
إنا كنا صدور هذه الأمة ، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله وصالحيهم ما يقيم إلا سورة من القرآن أو شبه ذلك ، وكان القرآن ثقيلآ عليهم ، ورزقوا علما به وعملا ، وإن آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي ، لا يعلمون منه شيئا
.
وعن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى عليه وسلم : إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن ، وعلموا من السنة
متفق عليه
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ١٢/٢٤٩ :
والأمانة هي الإيمان ، أنزلها في أصل قلوب الرجال . انتهى
ويقرر هذا المعنى شيخ الإسلام في كلام ماتع له في بيان حقائق الدين ، ينظر في مجموع الفتاوى
١٥/٧١
وحاصله : أنه استشهد لذلك بآيات من كتاب الله ، منها :
قوله سبحانه :
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه
.
فقال
: البينة من الله هي الإيمان ، والذي يتلوه هو شاهد القرآن . وقال في قوله
:
نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء
. النور الأول هو نور الإيمان ، والذي يأتي بعده هو نور القرآن .
فإذا سؤلنا : ما الإيمان الذي نتعلمه أولا قبل الأحكام ؟
فالجواب : هو أوائل ما علمه النبي
لأصحابه ، وهو أوائل ما نزل من القرآن ، وهو الذي تكرر ذكره ، وهو ثلاثة أقسام :
الأول : الإيمان بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته .
الثاني : الإيمان برسوله المبعوث .
الثالث : الإيمان بالبعث لليوم الآخر .
فإن قيل : وكيف نتعلم هذا الإيمان ؟ فالجواب عنه : يحصل تعلم الإيمان من طريقين :
الأول : التفكر في آيات الله الكونية .
الثاني : التفكر في أوائل ما نزل من الآيات المتلوة ، التي غرست الإيمان كالجبال في قلوب الصحابة .
وأصل هذا الجواب مأخوذ من كلام لابن القيم في الفوائد
٩٢
عند كلامه في التوصل إلى معرفة الله ، وأن لها طريقان ، فذكر ما سبق .
فإن قيل : قد قرأنا أوائل ما نزل ، وعالجنا حفظه فلم نجد أثر ذلك الإيمان ؟ فالجواب : أننا لم نأخذ القرآن كما أخذه من سبق .
فإن قيل : وكيف كان أخذهم :
فالجواب : هو في استشعر ثقله ، وأنه منزل من رب العالمين ، قال سبحانه :
قل هو نبأ عظيم
. بل بلغ الغاية في الإعجاز ، وشدة التأثير :
ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى
أي لكن هذا القرآن ، قاله قتادة والفراء وابن قتيبة وابن عطية وابن كثير والسعدي وغيرهم ، وقد أدرك سلفنا الصالح هذه المسألة ، فهذا مالك يسأل عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقيل له : إنها مسألة خفيفة سهلة ، فغضب ، وقال : ليس في العلم شيء خفيف ، ألم تسمع قول الله :
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
.
وهنا نأتي للجواب على المسألة التي من أجلها عقدنا هذا المبحث ، وهي بأي شيء نبدأ من القرآن ؟
فالجواب : هو البدء بالمفصل أولا ، جاء في صحيح البخاري عن عائشة قالت :
إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار .. وإنه أنزلت
والساعة أدهى وأمر
بمكة على رسول الله وإني جارية ألعب ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده
.
وهذا ما سار عليه الصحابة ، ففي مصنف عبدالرزاق
٣/٣٨١
: أن عمر كان لا يأمر بنيه بتعليم القرآن ، ويقول : إن كان أحد منكم متعلما فليتعلم من المفصل فإنه أيسر .
وعقد الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح ٩/٣٨
باب تعليم الصبيان القرآن
وساق تحته :
عن سعيد بن جبير قال : إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، قال : وقال ابن عباس رضي عنهما : جمعت المحكم في عهد رسول الله
، فقلت له : وما المحكم ؟ قال : المفصل .
وقال
: توفي رسول الله وأنا ابن عشر سنين ، وقد قرأت المحكم . انتهى
وحزب المفصل جاء لتقرير ثلاث حقائق :
1 - توحيد الله في ربوبيته وألوهيته واسمائه وصفاته .
2 - إثبات البعث والدار الآخرة .
3 - الأمر بمكارم الأخلاق .
وقد تميز البدء بالمفصل بميزتين :
1 - أنه يغرس الإيمان في القلوب .
2 - أنه أيسر في الفهم ، لأن غالبه محكم ، وليس فيه متشابه إلا ما ندر ، وقد سبق قول عمر : إن كان أحد منكم متعلما فليتعلم من المفصل فإنه أيسر .. والله الموفق
فإن الله قد أنزل الكتاب هدى ورحمة للعالمين ، قال سبحانه :






فأين قلوب أهل الإيمان عن كتاب ربهم ؟ ولقد ضرب الرعيل الأول أروع الأمثلة في العيش مع القرآن ، فغلب على دلهم وهديهم وسمتهم وسائر أحوالهم ، حتى كان أحدهم قرآنا يمشي على وجه الأرض ، ثم خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون سيغفر لنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه .. فنعوذ بالله من حال المعرضين ، الذين شكى الرسول حالهم مع القرآن :


وهجر القرآن أنواع :
أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .
والثاني : هجر العمل به ، والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به . والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم . والرابع : هجر تدبره وتفهمه ، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه .
والخامس : هجر الإستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها ، فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .. وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى
وهذا الكتاب فيه عز هذه الأمة ، و رفعة شأنها ، وصلاح أمرها ، فقد أخرج مسلم في صحيحه





وسوف يكون أخذنا في هذا الباب عن اهتمام السلف بالقرآن الكريم قبل البداءة بالعلوم الأخرى ، والكلام في هذه المسألة متحصل في ثلاث مسائل :
الأولى : أن القرآن هو أصل العلم .
الثانية : أهمية حفظ القرآن قبل الشروع في طلب بقية العلوم .
الثالثة : بأي شيء من القرآن نبدأ .
وهذه المقدمات مبني بعضها على بعض ، وفي نظري أنه لا يمكن الإلمام بفقه السلف في هذا الباب إلا بالسير على هذا التقسيم .. فأقول وبالله استعين :
المسألة الأولى : في أن القرآن هو أصل العلوم ورأسها ، قال سبحانه :


قال الحسن : بل هو ءايات بينات هو القرآن ، في صدور الذين أوتوا العلم يعني المؤمنين .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره


وقال جل ثناؤه :






وقال تعالى :







والبرهان : بيان الحجة ، واتضاحها .
وقال في مادة


البرهان : الحجة الفاصلة البينة ، يقال : برهن يبرهن برهنة إذا جاء بحجة قاطعة للدد الخصم ، فهو مبرهن . انتهى
وقال سبحانه




وفي الوصفين الشريفين مناسبة للمعطوف عليه وللممهد إليه ، فإن ما في القرآن دليل على حكمة وعلم من أوحى به ، وأن ما يذكر هنا من القصص ، وما يستخلص منها من المغازي والأمثال والموعظة ، من آثار حكمة وعلم حكيم عليم . انتهى
والآيات في هذا الباب كثيرة نكتفي بما قد أشرنا إليه ، وأما السنة فالأخبار في ذلك واسعة ، منها ما هو صحيح ، وقوي الدلالة على المعنى ، ومنها ما هو صحيح ، ولكنه بعيد الإشارة في الدلالة على المقصود ، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم :






قال المنذري : وأخرجه ابن ماجه ، وفي إسناده عبدالرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وقد تكلم فيه غير واحد . وفيه أيضا عبدالرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية ، وقد غمزه البخاري وابن أبي حاتم .انتهى
ومن أجمع ما روي في هذا الباب ، وهو مطعون فيه كذلك ، ما أخرجه الترمذي في جامعه برقم












قلت : والحديث فيه ضعف ، قال الترمذي عقبه :


قلت : أما الحارث الأعور فالجمهور على توهينه ، قال عنه الحافظ في التقريب : كذبه الشعبي في رأيه ، ورمي بالرفض ، وفي حديثه ضعف . انتهى ، وقال عنه يحي بن معين في رواية الدوري : ليس به بأس . وقال عثمان الدارمي : سألت يحي بن معين عن الحارث الأعوار ، فقال : ثقة . وقد نقل هذا التوثيق عن ابن معين غير واحد ، منهم ابن شاهين في الجزء المطبوع بنهاية تاريخ جرجان


فإن قيل : إن الدارمي قال بعد حكايته عن ابن معين ما نصه :
ليس يتابع يحي على هذا . انتهى
فالجواب : هذا مبلغ علم الدارمي ، وقد وثقه أحمد بن صالح المصري ، وقال ابن معين : ما زال المحدثون يقبلون حديثه . وفي قول الحافظ ابن حجر : كذبه الشعبي في رأيه . إشارة إلى تخليص روايته من هذا القدح ، وقد عقد الشريف حاتم بن عارف العوني في شرحه على موقظة الذهبي بحثا انفصل منه أن رواية الحارث الأعور جيدة إذا لم يكن فيها مجال لرأيه ، أو كانت في بدعته . وقد قال الحافظ الذهبي في الموقظة


أما قول الترمذي :


قال السيد ابن الوزير اليماني في ترجيح أساليب القرآن


ولم يزل العلماء يتداولونه فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث ، متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول . انتهى
والتحقيق : أن هذا الخبر محفوظ من قول علي

وقد جاء من طرق أخر لا تصح ، وليس هذا موضع بسط البحث .
ومما يدل على أن القرآن أصل العلوم و رأسها ، ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ١٠/٢٢٥ وعبدالله بن أحمد في زوائد الزهد





قال الأزهري في تهذيب اللغة :
قال شمر : تثوير القرآن : قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ، ومعانيه . انتهى
وقال ابن الأثير في النهاية ١/٦٥٣ :
يفكر في معانيه ، وتفسيره ، وقراءته . انتهى
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٢/٢٣٥ :
وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما ، وهو إما باطل ، أو قليل النفع . وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول ، والفروع . انتهى
ويقول ابن القيم في كافيته :
فتدبر القرآن إن رمت الهدى ¤
فالعلم تحت تدبر القرآن ¤
ومما هو في حفظي وعزب عني موضعه من الإتقان للجلال السيوطي :


قال الله تعالى لموسى بن عمران




ويقول العلامة المحقق الشهير عبدالرحمن السعدي في تفسيره عند قوله سبحانه :


ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء ، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظا ، وأصدقه معنى وأبينه تفسيرا ، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهله عليه .. ثم يقول :
ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرآ أسهل العلوم ، وأجلها على الإطلاق ، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه ، وقال بعض السلف عند هذه الآية : هل من طالب علم فيعان عليه ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله :


ومن خير رسائل أهل العلم في تبيين هذا الأمر ، وشرحه على أحسن الوجوه ، رسالة الحافظ ابن رجب





إذا تقرر أن القرآن أصل العلوم ، وأجلها على الإطلاق .. انتقلنا إلى المسألة الثانية ، وهي :
أهمية حفظ القرآن والبدء به قبل الشروع في طلب بقية العلوم :
أخرج الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ١/١٠٨ عن الوليد بن مسلم أنه قال :
كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى حدثا ، قال : يا غلام قرأت القرآن ؟ فإن قال : نعم ، قال : اقرأ ، وإن قال : لا ، قال : اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم . انتهى
وقال الإمام السيد ابن الوزير اليماني في ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان


وقال علي


قال الإمام الحافظ ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله


طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ، ومن تعداها جملة ، فقد تعدى سبيل السلف

حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول : إن حفظه كله فرض ، ولكن أقول :
إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض . انتهى
وقد جاء في صحيح البخاري برقم







أن الميموني قال : سألت أبا عبدالله أيهما أحب إليك ، أبدا ابني بالقرآن أو بالحديث ؟ قال : لا بالقرآن ، قلت : أعلمه كله ، قال : إلا أن يعسر ، فتعلمه منه . ثم قال لي :
إذا قرأ أولآ تعلم القراءة ، ثم لزمها . انتهى قال ابن مفلح :


قال الخطيب في الجامع


وقال الإمام النووي في مقدمة المجموع شرح المهذب ١/٣٨ :
وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم ، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن ، وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالا يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان ، وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصرا . انتهى
وجاء في تذكرة الحفاظ للذهبي


اقرأ القرآن أولآ حتى آذن لك ، فاستظهرت القرآن ، فقال لي : امكث حتى تصلي بالختمة ، ففعلت ، فلما عيدنا أذن لي فخرجت إلى مرو ، وسمعت بمرو الروذ من محمد بن هشام يعني صاحب هشيم ، فنعي إلينا قتيبة . انتهى
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٢/٢٣٥ وقد سبق نقله باختصر ، وهو مناسب للموضعين :
وأما طلب حفظ القرآن ، فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما ، وهو إما باطل ، أو قليل النفع .
وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع ، فإن المشروع في حق مثل هذا ، في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن ، فإنه أصل علوم الدين ، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم ، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم ، من الكلام ، أو الجدال والخلاف ، أو الفروع النادرة ، والتقليد الذي لا يحتاج إليه ، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها ، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة ، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله .. والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه ، والعمل به ، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين . انتهى
وقد سمعت سماحة شيخنا العلامة / عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين -

وبعد المغرب ربما قرئ عليه في كتب خاصة لا يحب أن يسمعها كل أحد ، فقد حدثني الشيخ حسن بن مانع أن الشيخ محمد اختصه بحضور بعد المغرب ، قال : فكان يقرأ عليه في معجم الأدباء لياقوت الحموي .
الشاهد من القصة : أنه ابتدأه بالسؤال عن حفظ القرآن ، وهذا معروف لدى طلاب الشيخ ومن أدركه ، أنه لا يأذن لأحد بالجلوس كمنتظم إلا بعد حفظ القرآن .
وبهذا نأتي على الكلام في المسألة الثانية .. ولنأتي على الكلام فيما يتعلق بالمسألة الثالثة ، وهي :
بأي شيء من القرآن نبدأ ؟
وهذه القضية يقول عنها الشيخ د / عصام بن صالح العويد في فن التدبر في القرآن الكريم


هذه مسألة جليلة كبيرة القدر جدآ ، قد خفي على كثير من أهل القرآن وجه الصواب فيها ، فوقعوا في خلاف منهج النبي


ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام في تعليم أصحابه القرآن ، هو تعليم الإيمان أولا قبل تعليم الأحكام ، وهي داخلة ضمن القاعدة المشهورة عند السلف في التعليم ،


وقد جاء في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار مشهورة :
فعن جندب بن عبدالله قال : كنا مع النبي

وجاء عن ابن عمر أنه قال : لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على النبي

لقد رأيت رجالآ يقرأ أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ، لا يدري ما أمره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده ، ينثره نثر الدقل



وذكره شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى ٥/٣٣٢ وفي بيان تلبيس الجهمية ٢/٤٠٣ بلفظ :


وعن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلى عليه وسلم : إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن ، وعلموا من السنة

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ١٢/٢٤٩ :
والأمانة هي الإيمان ، أنزلها في أصل قلوب الرجال . انتهى
ويقرر هذا المعنى شيخ الإسلام في كلام ماتع له في بيان حقائق الدين ، ينظر في مجموع الفتاوى


قوله سبحانه :


فقال




فإذا سؤلنا : ما الإيمان الذي نتعلمه أولا قبل الأحكام ؟
فالجواب : هو أوائل ما علمه النبي

الأول : الإيمان بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته .
الثاني : الإيمان برسوله المبعوث .
الثالث : الإيمان بالبعث لليوم الآخر .
فإن قيل : وكيف نتعلم هذا الإيمان ؟ فالجواب عنه : يحصل تعلم الإيمان من طريقين :
الأول : التفكر في آيات الله الكونية .
الثاني : التفكر في أوائل ما نزل من الآيات المتلوة ، التي غرست الإيمان كالجبال في قلوب الصحابة .
وأصل هذا الجواب مأخوذ من كلام لابن القيم في الفوائد


فإن قيل : قد قرأنا أوائل ما نزل ، وعالجنا حفظه فلم نجد أثر ذلك الإيمان ؟ فالجواب : أننا لم نأخذ القرآن كما أخذه من سبق .
فإن قيل : وكيف كان أخذهم :
فالجواب : هو في استشعر ثقله ، وأنه منزل من رب العالمين ، قال سبحانه :






وهنا نأتي للجواب على المسألة التي من أجلها عقدنا هذا المبحث ، وهي بأي شيء نبدأ من القرآن ؟
فالجواب : هو البدء بالمفصل أولا ، جاء في صحيح البخاري عن عائشة قالت :




وهذا ما سار عليه الصحابة ، ففي مصنف عبدالرزاق


وعقد الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح ٩/٣٨


عن سعيد بن جبير قال : إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، قال : وقال ابن عباس رضي عنهما : جمعت المحكم في عهد رسول الله

وقال

وحزب المفصل جاء لتقرير ثلاث حقائق :
1 - توحيد الله في ربوبيته وألوهيته واسمائه وصفاته .
2 - إثبات البعث والدار الآخرة .
3 - الأمر بمكارم الأخلاق .
وقد تميز البدء بالمفصل بميزتين :
1 - أنه يغرس الإيمان في القلوب .
2 - أنه أيسر في الفهم ، لأن غالبه محكم ، وليس فيه متشابه إلا ما ندر ، وقد سبق قول عمر : إن كان أحد منكم متعلما فليتعلم من المفصل فإنه أيسر .. والله الموفق