
تأويل صلاح الدين بن إبراهيم لاسم الله الرحمن:2/2
يقول أبو عرفة:" يقولون أن الرحمن كثير الرحمة، لا إنما هذا الرحيم، انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
وواو الجمع في قوله:"يقولون" تعود على العلماء بل ربما تعود على كل من كان له ذرة فهم لكتاب الله سبحانه، فاسم "الرحمن" دال على رحمة الله الواسعة، بل هو مشتق منها كاسم الرحيم إلا أن الرحمن أوسع دلالة عليها.
وهذه بعض أقوال أهل العلم في تفسير اسم الرحمن:
- يقول علامة الحجاز السعدي



واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته..."([1]).
- قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري

- قال الإمام القرطبي

قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله


- قال ابن عطية

والملاحظ أن هناك إجماع أو شبه إجماع منهم على أن "الرحمن" مشتق من الرحمة-وهو قول الجمهور- على وجه المبالغة أي أنه كثير الرحمة.
فالرحمن هو الذي وسعت رحمته كل الخلائق كما قال

"وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله -وعلم الله بالغ لكل شيء- فقد بلغته رحمته.."([6]).
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"، وقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ"، فذكر الاستواء باسمه "الرحمن" ليعم جميع خلقه برحمته.
يقول ابن القيم

فما بال هذا الشيخ الدعي يخالف جماهير العلماء والمفسرين ليهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري زاعما أن الرحمن اسم دال على التخويف لا على الرحمة.
حيث يقول وليته لم يقل:" انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
فتتبع هذه المواقع في زعمه ليقف على حقيقة اسم الرحمن بعقله، ويصل إلى هذا المعنى الغريب الذي لم يقل به بعيد ولا قريب.
وسأذكر الآيات التي اعتبرها مواقع للمعنى المزعوم، وأرد عليها بمشيئة الله تعالى:
1- " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)"-مريم-:
ووجه الدلالة –عنده- على أن اسم الرحمن اسم تخويف أن مريم لم تكن لتستعيذ إلا بما يخوف لا بما يفتح باب الرجاء والرحمة، وهذا استدلال باطل، فمريم إنما استعاذت باسم الله"الرحمن" لأن رحمته شملتها وشملت كل العالمين، فلا ملجأ لها إلا لمن كان كذلك، فبرحمته سبحانه سيجيرها من كل أذى، والمخاطب ستحمله تقواه وعلمه برحمة الله تعالى على عدم إلحاق أدنى ضرر بها.
يقول العلامة السعدي





يقول العلامة الألوسي

2- "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)"-مريم-:
ووجه الدلالة عند هذا المتأول المتعسف أن المقام مقام تخويف وليس مقام رجاء فابراهيم


وهذا فهم سقيم واستدلال عقيم، فإن إبراهيم الخليل إنما استعمل اسم "الرحمن" في خطابه لأبيه لأنه أشد وقعا وتأثيرا من غيره، كأنه يقول لأبيه آزر:لا تغتر برحمة الله فإنه سبحانه لا تمنعه رحمته من الانتقام من أعدائه، وأعظم أخذ أخذ من اطمأن الإنسان لرحمته واستكان لها فاغتر بذلك وتمادى في الكفر والعصيان والظلم والعدوان، فلا تسل عن شدة أخذه وفجائة نقمته سبحانه.
يقول ابن عجيبة في تفسيره المسمى البحر المديد: "وإظهار




وقال العلامة التونسي ابن عاشور عليه رحمة الغفور:" لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمن انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله ، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم ، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم .
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة ؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمن للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة ."([12]).
يقول العلامة الألوسي

3- قال تعالى:"قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا"-مريم:75-:
ووجه الدلالة في زعمه أن المقام مقام تهديد، فمن تمادى في الضلالة فالرحمن لا يبالي به، فليهلكن بضلالته، بل يمد له الرحمن في ضلالته، وهذا مما يدل على أن الرحمن اسم تخويف خلافا لما يعتقده الناس.
لكن ليس في الآية ما يدل على المعنى الذي فهمه هذا المتأول–عن قصد أو سوء قصد- لاسم الله الرحمن، بل ورود هذا الاسم في هذا المقام للدلالة على أن رحمة الله تعالى لا تمنعه سبحانه من استدراج من يستحق الاستدراج، بل إن نزول نعمه - بمقتضى اسمه الرحمن- على المتمادي في الضلال والعصيان هو عين الاستدراج لأهل الظلم والطغيان.
يقول الإمام البيضاوي



4- " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-:
وهذه كذلك من الآيات التي استدل بها صلاح الدين بن إبراهيم على أن اسم "الرحمن" اسم تخويف لا اسم رحمة، ووجه الاستدلال عنده أن الآية وردت في معرض العزة والإباء من الله تعالى للشرك.
فالآية فيها إجبار لا تشريف، واسم الرحمن في هذا الموقع يشبه اسم العزيز والعلي والكبير.
فكل الخلق آت عبدا، لمن؟ للرحمن: العزيز الجبار العلي." اهـــــــ.
وليس للمسكين أدنى دليل يحتج به في فهمه هذا أو يكون عليه التعويل، بل كلامه مجرد كلام لا حجة عليه ولا برهان، وكيف يكون تفسيره معتبر وليس عليه أدنى بينة أو أثر.
والآية وإن كانت في مقام التخويف بذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين فيأتونه سبحانه فرادا للعرض والحساب والسؤال عما سطر في الكتاب، لكن ذكر اسم الرحمن في هذا المقام العظيم لم يكن لما توهمه أبو عرفة وإنما لأمر آخر وهو بيان رحمة الله تعالى في ذلك الموقف الجلل، فرحمته سبحانه سبقت غضبه واذخر من الرحمة لذاك اليوم أضعاف أضعاف ما أنزله في هذه الدار، كما صحت بذلك الأخبار، فعن أبي هريرة


وظهر لي وجه آخر من ذكر اسم الرحمن في قوله تعالى:"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-، وهو أن الخلائق ستأتي بين يدي الرب الذي خلقها وأمدها بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وكل ذلك من آثار رحمته، ستأتي يوم القيامة للوقوف بين يديه، بين يدي من أسبغ عليها بالنعم بحكم رحمته بها، ستأتي لتسأل عن تحقيق شكر تلك النعم. هل قابلتها بالشكر فوحدته سبحانه وأفردته بالعبودية كما أفردها بالنعم أم كفرت فأشركت وعصت وتجبرت وطغت وعن أمره أعرضت.
فالخلائق كلها مفتقرة إلى رحمته وربوبيته، وهذا يلزمها أن تقر بألوهيته حتى لا تستحق العذاب، ففي الآية" استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها-سبحانه-"([16]). وهذا يلزمها أن تحقق الألوهية والعبودية له سبحانه.
والله تعالى أعلى وأحكم.
([1] ) تيسير الرحمن:39.
([2] ) هذا الكلام فيه نظر، فرحمة الله تشمل كل الخلائق فقط في الدنيا، أما في الآخرة فتضل رحمة الله متصلة بأهل الإيمان دون أهل الكفر الذين لا يلحقهم إلا العدل.
([3] ) جامع البيان في تأويل آي القرآن:1/126-129.
([4] ) الجامع لأحكام القرآن:1/104.
([5] ) المحرر الوجيز:1/57.
([6] ) شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيميين

([7] ) إغاثة اللهفان.
([8] ) تيسير الرحمن:491.
([9] ) لكن لو أرادت الرحمة الخاصة لذكّرته باسم الرحيم لا الرحمن، والله تعالى أعلم وأحكم.
([10] ) روح المعاني:16/76.
([11] ) البحر المديد:4/326.
([12] ) التحرير والتنوير:16/117-118.
([13] ) روح المعاني:16/98.
([14] ) تفسير البيضاوي:1/30.
([15] ) رواه الترمذي وغيره وهو في الصحيحة تحت رقم:1629.
([16] ) التحرير والتنوير:16/173.
تعليق