مِنْ حُضْنِ أَبِيهِ فَكُّوهُ و منَ الحُبِّ و الحَنَانِ حَرَمُوهُ
عَرُّوهُ و قَمِيصَهُ نَزَعُوهُ فِي الحُفْرَةِ أَلْقُوهُ و تَرَكُوهُ
بَعَثَ اللَّهُ سَيَّارَةً بِضَاعَةً أَسَّرُّوهُ وَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ بَاعُوهُ
الإِخْوَةُ لَمْ يَرْحَمُوهُ و الغُرَبَاءُ أَثْوُوهُ و أَطْعَمُوهُ و كَبَّرُوهُ
أَنْبَتَهُ الخَالِقُ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ و حِكْمَةً عَلَّمُوهُ
طَلَبْتُهُ المَرْأَةُ و كَادَتْ لَهُ و عَنْ نَفْسِهِ رَاوَدُوهُ
إِسْتَعْصَمَ و إِمْتَنَعَ و قَالَ مَعَاذَ اللَّه فَسَجَنُوهُ
ذَلِكَ هُوَ حَالُ الحَقِّ يَكْرَهُونَهُ يَسْتَضْعِفُونَهُ و يُحَارِبُوهُ
"فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
فِي هَاتِهِ الآيَةِ هُنَاكَ سِيَاقٌ نَحْوِيٌّ خَفِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهُ القَارِئُ لِأَنَّ دُونَهُ سَتَغِيبُ عَنْهُ بَعْضُ المَعَانِي.
يَقُولُ الأَعْلَى الأَكْبَرُ: "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا...وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ", حَرْفُ "لَمَّا" هُو لِلْظَّرْفِ الزَّمَانِيِّ, يَأْتِي لِيُخْبِرَ عَنْ إِقْتِرَانِ وُقُوعِ فِعْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ وُقُوع الأَوَّلِ, مَثَلًا: يَقُولُ تَعَالَى: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بهِ" فِعْلُ الكُفْرِ إِقْتَرَنَ هُنَا بِفِعْلِ مَجِيءِ مَا عَرَفُوا, ثُمَّ قَوْلُهُ: "فَلمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَال إِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ" فَفِعْلُ القَوْلِ أَتَى مُقْتَرِنًا بِفِعْلِ مَجِيءِ الرَّسُولِ.
لَكِنْ فِي الآيَةِ أَعْلَاهُ لَمْ نَجِدْ إِلَّا حَرْفَ العَطْفِ "الوَاوُ" أَيْ لَمْ نَفْصِلْ مَاهُوَ الفِعْلُ الثَّانِي الذِّي وَقَعَ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِ الذَّهَابِ بِيُوسُفُ.
أَحْسَنُ الطَّبَرِيُّ فِي هَذَا المَوْضِعِ و كَشَفَ المَخْفِيَّ و أَوْرَدَ بَيْتَيْنِ لِإِمْرئِ القَيْسِ ذَكَرَ فِيهِمَا أَنَّ حَرْفَ "الوَاوِ" لَا إِعْرَابُ لَهُ, إِتَّفَقْنَا مَعَهُ فِي المَعْلُومَةِ لَكِنْ إِخْتَلَفْنَا فِي الحُجَّةِ فَنَحْنُ نَأْتِي بِشَبَهِ هَاتِهِ الآيَةِ مِنَ القُرْآنِ و هَوُ قَوْلُ الحَقِّ الذِّي فِيهِ يَمْتَـرُونَ: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ إِلَى الجَبِينِ-وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ", فِعْلُ النِّدَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَتَى مُقْتَرِنًا بِفِعْلَيْنِ وَ هُمَا تَسْلِيمُهُ و إِبْنُهُ و تَلُّهُ لِلْجَبِينِ, و كَذَلِكَ مَعَ الآيَةِ المَوْضُوعِ, فَقَدْ أَتَى فِعْلُ الإِجْمَاعِ مُقْتَرِنَا بِفِعْلِ الــذَّهَابِ و هُوَ مَا يُنَبِّهُ القَارِئَ إِلَى مَعْلُومَةِ و هِيَ أَنَّ إِخْوَتَ يُوسُفَ لَمْ يُجْمِعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ إِلَّا حِينَمَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ, أَيْ كَوْنُهُمْ فِي الطَّرِيقِ كَانَ ظَرْفًا زَمَــنَيًّا أَمَّا مَا وَقَعَ قَبْلَ الذَّهَابِ بِهِ فَقَدْ كَانَ تَشَاوُرًا و إِخْتِلَافًا دُونَ إِتِّفَاقٍ, الإِتِّفَاقُ وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ.
الآيةُ هُنَا تَفْصِلُ الفَعَلَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمُ إِخْوَةِ يُوسُفَ و شَيَاطِينِهِمْ
و فِعْلُهُمْ كَانَ المَكْرُ , و فِي الجِهَةِ المُقَابِلَةِ: اللَّهُ و نَبِيُّهُ و الفِعْلُ كَانَ الوَحْيَ فِي خُفْيَةٍ, إِنَّ هَاتِهِ الحَرْبَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ و أَتْبَاعِهِ و اللَّهُ و أَنْبِيَاءُهُ و المُؤْمِنُونَ قَائِمَةٌ إِلَى السَّاعَةِ و هِي مُنْتَشِرَةٌ بِكَثْرَةٍ فِي القُرْآنِ و كُلُّنَا نَعْلَمُ الرَّابِحَ و الغَالِبَ.
"وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ"
"غَيَابَةُ الجُبِّ": غَيَابَةٌ و غَيَابَاتٌ مِثْلُ جِمَلَةٍ و جِمَالًاتِ, و الغيَابَةُ مِنْ غَابَ يَغِيبُ أَيْ خَفِيَ و لَمْ يُدْرِكُهُ البَصَرُ, أَمَّا الجُبُّ فَهُوَ القِطْعَةُ المُنْخَفِضَةُ مِنَ الأَرْضِ تَكُونُ حُفْرَةً و تَكُونَ فَجْوَةً أَوْ ثُقْبًا.
"الجُبُّ" وَرَدَتْ مَرَّتَانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ و فِي المَرَّتَانِ وَرَدَتْ مُعَرَّفَةً بِالأَلِفِ
و اللَّامِ وَ هُوَ نَفْسُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الكَهْفِ عِنْدَ وُرُودِ كَلِمَةِ "الكَهْفِ" إِلَّا مُعَرَّفَةً بِالأَلِفِ و اللَّامِ.
سَنُفَسِّرُ: نَقُولُ مَثَلًا أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى مَدِينَةٍ و أقَولُ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى المَدِينَةِ,
هَلْ هُنَاكَ فَرْقٌ ؟ أَجَلْ ! فَفِي المِثَالِ الأَوَّلِ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى مَدِينَةٍ لَمْ أُحَدِّدْهَا لِلْقَارِئِ و لَمْ يَعْرِفْ أيُّ مَدِينَةٍ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهَا, لَكِنْ إِذَا قُلْتُ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى المَدِينَةِ, فَهَذِهِ المَدِينَةُ مَعْرُوفَةٌ لِلْسَّامِعِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ أَوِ المَدِينَةَ الأَقْرَبَ إِلَيَّ. مَثَلًا: قَوْلُهُ "إِذْ آوَى الفِتْيَةُ إِلَى الكَهْفِ" لِمَاذَا لَمْ يَقُلْ "إِذْ آوَى الفِتْيَةُ إلَى كَهْفٍ"؟
لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِهَا عَلَى النّكَارَةِ سَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الفِتْيَةُ أَوَوْا إِلَى كَهْفٍ مِثْلُ بَقِيَّةُ الكُهُوفِ و إِخْتَارُوهُ حَظَّا لَكِنْ اللََّهُ عَزَّ و جَلَّ لَمَّا قَالَ "الكَهْفَ" بِالأَلِفِ
و اللَّامِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ أنَّ هَذَا الكَهْفَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الكُهُوفِ و َأَنّهُ مَعْرُوفٌ لَدَى الفِتْيَةِ, كَذَلِكَ مَا وَقَعَ مَع "الجُبِّ" فهَذَا الجُبُّ لَيْسَ كَغَيْرِهِ, هَذَا الجُبُّ مَعْرُوفٌ لَلفِتْيَةِ فَلَمْ يَقُولُوا "غَيَابَةَ جُبٍّ" عَلَى النُّكَارَةِ أَيْ أيُّ جُبٍّ بَلْ قَالُوا "الجُبَّ", يَعْنِي جُبٌّ يَعْرِفُهُ الإِخْوَةُ جَيِّدًا و الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِهِ كُلَّمَا ذَهَبُوا لِلْرَّعْيِ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ أَنْ كَيْدَهُمْ كَانَ مُنْذُ زَمَنٍ.
إِعْلَامٌ: ذُكِرَ أنّ الجُبَّ هُوَ البِئْرُ المَطْوِيَّةُ,هَذَا القَوْلُ مَذْكُورٌ فِي أَشْهَرِ المَعَاجِمِ (المُحْكَمِ و المُحِيطِ لِإِبْنِ سِيدَهْ جُزْءُ7ص224 و لِسَانُ العَرَبِ جُزْءُ3ص65) لِكَنَّ هَذَا القَوْل وَرَدَ مَجْهُولًا و دُونَ حجَّةٍ, كُتِبَ قَبْلَهُ لَفْظُ "قِيلَ" و قِيلَ تَعْنِي قَوْلًا لَا نَدْرِي قَائِلَهُ و لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ كَذَلِكَ أَتَى النُّحَاةُ بِأَقْوَالٍ عَنِ الجُبِّ ذَكَرُوا فِيهَا عَدَمَ تَحْدِيدِ حَالَةَ البِئْرِ مَطْوِيَّةً كَانَتْ أَوْ لَا, ورَدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الأَقْوَالِ حَوْلَ الجُبِّ مِثْلُ الأَرْضِ الغَلِيظَةِ و مِثْلُ الأَرْضِ المُكَوَّنَةُ مِنْ طِينٍ و غَيْرُهُ...وَجَدْنَا إِخْتِلًافًا كَثِيرًا عَلَى اللَّفْظِ.
لِكَيْ نَعْرِفَ أَيْنَ سَيُلْقَى يُوسُفُ يجِبُ أَنْ نَعُودَ إلَى الإِخْوَةِ و نَسْمَعَ تَدْبِيرَهُمْ و مَكْرَهُمْ و إِقْتٍرَاحَاتِهِمْ.
فَمَاذَا يَقُولُونَ ؟
قَالَ تَعَالَى: "أُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ إِطْرَحُوهُ أَرْضًا",هُنَا يَعْرِضُ الإِخْوَةُ حَلَّانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ, القَتْلُ مُخَالِفٌ لِلْطَّرْحِ أَرْضًا, الطَّرْحُ أَرْضًا لَا يَكُونُ لِلْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَرَدَ حَرْفُ "أَوْ", فَهَذَا الحَرْفُ أَتَى لِيُخْبِرَ عَنْ خِيَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ, الطَّرْحُ يَعْنِي إِلْقَاءَ الشَّيْءِ و نَبْذَهُ و يَكُوُنُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ
و كَلِمَةُ "أرْضًا" جَاءَتُ لِتُضْعِفَ الأَقْوَالَ التِّي تَقُولُ بِأَنَّهُ بِئْرٌ.
هَذَا الجُبُّ الذِّي أُلْقِي فِيهِ يُوسُفَ هُوَ فُتْحَةٌ, فَجْوَةٌ فِي الأَرْضِ عَرِيضَةٌ فِيهَا حُفَرٌ صَغِيرَةٌ و تَكُونُ مَثَلًا مَكَانًا إِنْجِرَفَتْ تُرْبَتُهُ مِنَ السُّيُولِ.
وَ لَا نَتَّفِقُ مَعَ القَوْلِ القَائِلِ بِأَنَّهُ بِئْرٌ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ صرِيحٌ عَلَى ذَلِكَ و لَمْ نَجِدْ و لَا حَتَّى مَخْفِيًّا.
ثَانِيًا نَتَسَاءَلُ:
هَلْ هِيَ بِئْرٌ مَلْئَى أَمْ جَافَّةٌ ؟
إِذَا كَانَتْ مَلْئَى فَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ البِئْرَ المَلْئَى تَكُونُ دَائِمًا وِجْهَةِ الرُّعَاءِ لِلْسَّقْيِ إِذًا يَكُونُ حِينَهَا سَهْلًا وُجُودُ يُوسُفَ.
ثَُمَّ البِئْرُ المَلْئَى يَكُونُ فِيهَا المَاءُ و لَا يُمْكِنُ لِيُوسُفَ و لَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِيهَا لِأَنَّهُمْ سَيَغْرَقُونَ و لَمْ يَكُ ذَاكَ مُرَادُ الإِخْوَةِ.
ثُمّ و هَذَا السَّبَبُ دَقِيقٌ جِدًّا: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالى: "فَأَدْلَى دَلْوَهُ", إِسْتَوْقَفَنَا حَرْفُ "الهَاءِ" فِي كَلِمَةِ "دَلْوِهِ" فَلَوْ كَانَتْ بِئْرًا مَلْئَى لَمَا إِحْتَاجَ الوَارِدُ إِلَى دَلْوِهِ, لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ بِئْرٍ حَجَرٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ و خَشَبَةٌ يُشدُّ بِهَا حَبْلٌ يُعَلَّقُ فِيهِ دَلْوٌ و يَبْقَى دَائِمًا فِي مَكَانِهِ لِسِقَايَةِ الجَمِيعِ خَاصَّةً الزَّائِرَ و القَافِلَةَ.
تِلْكَ أَسْبَابُ إِعْتِرَاضِنَا عَلَى البِئْرِ إِذَا كَاَنَتْ مَلْئَى.
أمَّا أَسْبَابُ إِعْتِرَاضِنَا عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ جَافَّةً فَهُوَ أَنَّ البِئْرُ الجَافَّةَ تُطْوَى تُرْدَمُ تُغلْقُ لِكَيْ لَا يَقْصِدُهَا النَّاسُ و يُخْطِئُوا
ثُمَّ إِنَّ البِئْرَ إِذَا جَفَّتْ تُصْبِحُ وَكْرًا لِلْهَوَامِ مِنْ أَفَاعِي و غَيْرِهَا.
الطَّرْحُ أَرْضًا كَانَ صَرَاحَةً إِشَارَةً إِلَى جُبٍّ أَيْ حُفْرَةٍ مَهْبَطٍ فِي الأَرْضِ مِثْلُ الأُخْدُودِ و غَيَبَتُهُ هِي فَجْوَةٌ مِنْهُ.
هُنَاكَ قَوْلٌ سَمِعْنَاهُ فِيهِ أَنَّ السَّيَّارَةَ مَرَّتْ مِنَ المَكَانِ الذِّي وَجَدَتْ فِيهِ يُوسُفَ صُدْفَةً لأَِنَّهَا حَسْبَ هَذَا القَوْلِ ضَلَّتِ الطَّرِيقَ و قَوْلٌ فِيهِ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَ هَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ قَوْلَهُ: "قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ", ذَاَكَ الجُبُّ كَانَ مُخْتَارًا بِعِنَايَةٍ و كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ لِكَيْ يَلْتَقِطَهُ السَّيَّارَةُ و ذَاكَ مُرَادُ الإِخْوَةِ و ذَاكَ مَا وَقَعَ و لَا وُجُودَ لِلْحَظِّ.
"أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
كَيْفَ أَوْحَى اللَّهُ لِيُوسُفَ ؟
الإجَابَةُ تَكُونِ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ إِحْدَى عَشَرَ كَوْكَبًا", الرُؤْيَةُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ, و الرُّؤْيَةُ تَكُونُ فِي النَّوْمِ و اليَقَظَةِ.
و فِي قِصَّةِ يُوسُفَ كَانَ الإِخْوَةُ مَشْغُولُونَ بِالكَيْدِ و الإِعْدَادِ و كَانَ يُوسُفُ يَرَى مَالذِّي سَيَحْدُثُه لَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْلًا شَدَّ إِنْتِبَاهَنَا و هُوَ "لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا".
أَمْرُهُمْ هَذَا يَعْنِي إِجْمَاعُهُمْ و إِتِّفَاقُهُمْ عَلَى إِلْقَاءِهِ فِي الجُبِّ.
و هَلْ أَنْبَأَهُمْ بِذَلِكَ ؟
أَجَلْ, فَعِنْدَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ المَرَّةَ الأَخِيرَةَ و كَانُوا مُهَانِينَ قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ: "قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ" أَيْ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَعْلَمُ مَاذَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفُ ؟ هَلْ أُخْبِرُكُمْ كَيْفَ كِدْتُمْ لِيُوسُفَ ؟ أَيْ إِنَّنِي عَلَى عِلْمٍ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
مِمَّا يَدُلُّ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُعِدُّونَ لَهُ.
مِنَ الأَدِلَّةِ أَيْضًا عَلَى عِلْمِ يُوسُفَ بِمَا سَيَفْعَلُهُ إِخْوَتُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي دَائِمًا لِأَنْبِيَاءِهِ مَكْرَ و خِدَاعَ أَعْدَائِهِمْ لِنَأْخُذ مَثَلًا عِيَسَى إِبْنِ مَرْيَمَ
إِذْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ" و قَوْلُهُ: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىَ إِنِّي مُتَوفِّيكَ و رَافِعُكَ إِلَيَّ" هَذَا كَانَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ قَبْلَ خِدَاعِ اليُهُودِ لِلْنَّبِيِّ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" أَيْنَ يُبَيِّنُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ رُسُلَهُ و عِبَادَهُ.
فِي السِّجْنِ عَظَّمُوهُ و لِلْرُّؤْيَا إِسْتَعْبَرُوهُ
مِثْلُ الأَنْبِيَاءِ صَبَرَ عَلَى الإِبْتِلَاءِ فَجَازُوهُ
بَرَّؤُوهُ أَخْرَجُوهُ و رَفَعُوهُ وَ مِنَ المُلْكِ مَكَّنُوهُ
ذَاكَ حَالُ مَنْ يُؤْمِن و يَصْبِر و يَتَوَكَّل فُيُكَافِؤُوهُ
مَهْمَا حَارَبُو الحَقَّ فَلَا يَتْرُكُهُمْ اللَّهُ يُغَلِبُوهُ
اللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ و إِنْ حَاوَلَ الكَافِرُونَ أَنْ يُغَطُّوهُ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و أَعْبُدُوهُ و رَسَولَكُمْ أَطِيعُوهُ
تَرَكَ فِيكُمْ سُنَّتَهُ و كِتَابَ رَبِّكُمْ فَإِتَّبِعُوهُ
عَرُّوهُ و قَمِيصَهُ نَزَعُوهُ فِي الحُفْرَةِ أَلْقُوهُ و تَرَكُوهُ
بَعَثَ اللَّهُ سَيَّارَةً بِضَاعَةً أَسَّرُّوهُ وَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ بَاعُوهُ
الإِخْوَةُ لَمْ يَرْحَمُوهُ و الغُرَبَاءُ أَثْوُوهُ و أَطْعَمُوهُ و كَبَّرُوهُ
أَنْبَتَهُ الخَالِقُ إِلَى أَنْ بَلَغَ أَشُدَّهُ و حِكْمَةً عَلَّمُوهُ
طَلَبْتُهُ المَرْأَةُ و كَادَتْ لَهُ و عَنْ نَفْسِهِ رَاوَدُوهُ
إِسْتَعْصَمَ و إِمْتَنَعَ و قَالَ مَعَاذَ اللَّه فَسَجَنُوهُ
ذَلِكَ هُوَ حَالُ الحَقِّ يَكْرَهُونَهُ يَسْتَضْعِفُونَهُ و يُحَارِبُوهُ
"فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
فِي هَاتِهِ الآيَةِ هُنَاكَ سِيَاقٌ نَحْوِيٌّ خَفِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهُ القَارِئُ لِأَنَّ دُونَهُ سَتَغِيبُ عَنْهُ بَعْضُ المَعَانِي.
يَقُولُ الأَعْلَى الأَكْبَرُ: "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا...وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ", حَرْفُ "لَمَّا" هُو لِلْظَّرْفِ الزَّمَانِيِّ, يَأْتِي لِيُخْبِرَ عَنْ إِقْتِرَانِ وُقُوعِ فِعْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ وُقُوع الأَوَّلِ, مَثَلًا: يَقُولُ تَعَالَى: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بهِ" فِعْلُ الكُفْرِ إِقْتَرَنَ هُنَا بِفِعْلِ مَجِيءِ مَا عَرَفُوا, ثُمَّ قَوْلُهُ: "فَلمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَال إِرْجِعْ إِلَى رَبِّكَ" فَفِعْلُ القَوْلِ أَتَى مُقْتَرِنًا بِفِعْلِ مَجِيءِ الرَّسُولِ.
لَكِنْ فِي الآيَةِ أَعْلَاهُ لَمْ نَجِدْ إِلَّا حَرْفَ العَطْفِ "الوَاوُ" أَيْ لَمْ نَفْصِلْ مَاهُوَ الفِعْلُ الثَّانِي الذِّي وَقَعَ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِ الذَّهَابِ بِيُوسُفُ.
أَحْسَنُ الطَّبَرِيُّ فِي هَذَا المَوْضِعِ و كَشَفَ المَخْفِيَّ و أَوْرَدَ بَيْتَيْنِ لِإِمْرئِ القَيْسِ ذَكَرَ فِيهِمَا أَنَّ حَرْفَ "الوَاوِ" لَا إِعْرَابُ لَهُ, إِتَّفَقْنَا مَعَهُ فِي المَعْلُومَةِ لَكِنْ إِخْتَلَفْنَا فِي الحُجَّةِ فَنَحْنُ نَأْتِي بِشَبَهِ هَاتِهِ الآيَةِ مِنَ القُرْآنِ و هَوُ قَوْلُ الحَقِّ الذِّي فِيهِ يَمْتَـرُونَ: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ إِلَى الجَبِينِ-وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ", فِعْلُ النِّدَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَتَى مُقْتَرِنًا بِفِعْلَيْنِ وَ هُمَا تَسْلِيمُهُ و إِبْنُهُ و تَلُّهُ لِلْجَبِينِ, و كَذَلِكَ مَعَ الآيَةِ المَوْضُوعِ, فَقَدْ أَتَى فِعْلُ الإِجْمَاعِ مُقْتَرِنَا بِفِعْلِ الــذَّهَابِ و هُوَ مَا يُنَبِّهُ القَارِئَ إِلَى مَعْلُومَةِ و هِيَ أَنَّ إِخْوَتَ يُوسُفَ لَمْ يُجْمِعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ إِلَّا حِينَمَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ, أَيْ كَوْنُهُمْ فِي الطَّرِيقِ كَانَ ظَرْفًا زَمَــنَيًّا أَمَّا مَا وَقَعَ قَبْلَ الذَّهَابِ بِهِ فَقَدْ كَانَ تَشَاوُرًا و إِخْتِلَافًا دُونَ إِتِّفَاقٍ, الإِتِّفَاقُ وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ.
الآيةُ هُنَا تَفْصِلُ الفَعَلَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمُ إِخْوَةِ يُوسُفَ و شَيَاطِينِهِمْ
و فِعْلُهُمْ كَانَ المَكْرُ , و فِي الجِهَةِ المُقَابِلَةِ: اللَّهُ و نَبِيُّهُ و الفِعْلُ كَانَ الوَحْيَ فِي خُفْيَةٍ, إِنَّ هَاتِهِ الحَرْبَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ و أَتْبَاعِهِ و اللَّهُ و أَنْبِيَاءُهُ و المُؤْمِنُونَ قَائِمَةٌ إِلَى السَّاعَةِ و هِي مُنْتَشِرَةٌ بِكَثْرَةٍ فِي القُرْآنِ و كُلُّنَا نَعْلَمُ الرَّابِحَ و الغَالِبَ.
"وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ"
"غَيَابَةُ الجُبِّ": غَيَابَةٌ و غَيَابَاتٌ مِثْلُ جِمَلَةٍ و جِمَالًاتِ, و الغيَابَةُ مِنْ غَابَ يَغِيبُ أَيْ خَفِيَ و لَمْ يُدْرِكُهُ البَصَرُ, أَمَّا الجُبُّ فَهُوَ القِطْعَةُ المُنْخَفِضَةُ مِنَ الأَرْضِ تَكُونُ حُفْرَةً و تَكُونَ فَجْوَةً أَوْ ثُقْبًا.
"الجُبُّ" وَرَدَتْ مَرَّتَانِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ و فِي المَرَّتَانِ وَرَدَتْ مُعَرَّفَةً بِالأَلِفِ
و اللَّامِ وَ هُوَ نَفْسُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الكَهْفِ عِنْدَ وُرُودِ كَلِمَةِ "الكَهْفِ" إِلَّا مُعَرَّفَةً بِالأَلِفِ و اللَّامِ.
سَنُفَسِّرُ: نَقُولُ مَثَلًا أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى مَدِينَةٍ و أقَولُ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى المَدِينَةِ,
هَلْ هُنَاكَ فَرْقٌ ؟ أَجَلْ ! فَفِي المِثَالِ الأَوَّلِ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى مَدِينَةٍ لَمْ أُحَدِّدْهَا لِلْقَارِئِ و لَمْ يَعْرِفْ أيُّ مَدِينَةٍ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهَا, لَكِنْ إِذَا قُلْتُ أَنَا ذَاهِبٌ إِلَى المَدِينَةِ, فَهَذِهِ المَدِينَةُ مَعْرُوفَةٌ لِلْسَّامِعِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ أَوِ المَدِينَةَ الأَقْرَبَ إِلَيَّ. مَثَلًا: قَوْلُهُ "إِذْ آوَى الفِتْيَةُ إِلَى الكَهْفِ" لِمَاذَا لَمْ يَقُلْ "إِذْ آوَى الفِتْيَةُ إلَى كَهْفٍ"؟
لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِهَا عَلَى النّكَارَةِ سَيَظُنُّ السَّامِعُ أَنَّ الفِتْيَةُ أَوَوْا إِلَى كَهْفٍ مِثْلُ بَقِيَّةُ الكُهُوفِ و إِخْتَارُوهُ حَظَّا لَكِنْ اللََّهُ عَزَّ و جَلَّ لَمَّا قَالَ "الكَهْفَ" بِالأَلِفِ
و اللَّامِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ أنَّ هَذَا الكَهْفَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الكُهُوفِ و َأَنّهُ مَعْرُوفٌ لَدَى الفِتْيَةِ, كَذَلِكَ مَا وَقَعَ مَع "الجُبِّ" فهَذَا الجُبُّ لَيْسَ كَغَيْرِهِ, هَذَا الجُبُّ مَعْرُوفٌ لَلفِتْيَةِ فَلَمْ يَقُولُوا "غَيَابَةَ جُبٍّ" عَلَى النُّكَارَةِ أَيْ أيُّ جُبٍّ بَلْ قَالُوا "الجُبَّ", يَعْنِي جُبٌّ يَعْرِفُهُ الإِخْوَةُ جَيِّدًا و الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِهِ كُلَّمَا ذَهَبُوا لِلْرَّعْيِ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ أَنْ كَيْدَهُمْ كَانَ مُنْذُ زَمَنٍ.
إِعْلَامٌ: ذُكِرَ أنّ الجُبَّ هُوَ البِئْرُ المَطْوِيَّةُ,هَذَا القَوْلُ مَذْكُورٌ فِي أَشْهَرِ المَعَاجِمِ (المُحْكَمِ و المُحِيطِ لِإِبْنِ سِيدَهْ جُزْءُ7ص224 و لِسَانُ العَرَبِ جُزْءُ3ص65) لِكَنَّ هَذَا القَوْل وَرَدَ مَجْهُولًا و دُونَ حجَّةٍ, كُتِبَ قَبْلَهُ لَفْظُ "قِيلَ" و قِيلَ تَعْنِي قَوْلًا لَا نَدْرِي قَائِلَهُ و لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ كَذَلِكَ أَتَى النُّحَاةُ بِأَقْوَالٍ عَنِ الجُبِّ ذَكَرُوا فِيهَا عَدَمَ تَحْدِيدِ حَالَةَ البِئْرِ مَطْوِيَّةً كَانَتْ أَوْ لَا, ورَدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الأَقْوَالِ حَوْلَ الجُبِّ مِثْلُ الأَرْضِ الغَلِيظَةِ و مِثْلُ الأَرْضِ المُكَوَّنَةُ مِنْ طِينٍ و غَيْرُهُ...وَجَدْنَا إِخْتِلًافًا كَثِيرًا عَلَى اللَّفْظِ.
لِكَيْ نَعْرِفَ أَيْنَ سَيُلْقَى يُوسُفُ يجِبُ أَنْ نَعُودَ إلَى الإِخْوَةِ و نَسْمَعَ تَدْبِيرَهُمْ و مَكْرَهُمْ و إِقْتٍرَاحَاتِهِمْ.
فَمَاذَا يَقُولُونَ ؟
قَالَ تَعَالَى: "أُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ إِطْرَحُوهُ أَرْضًا",هُنَا يَعْرِضُ الإِخْوَةُ حَلَّانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَضَادَّانِ, القَتْلُ مُخَالِفٌ لِلْطَّرْحِ أَرْضًا, الطَّرْحُ أَرْضًا لَا يَكُونُ لِلْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَرَدَ حَرْفُ "أَوْ", فَهَذَا الحَرْفُ أَتَى لِيُخْبِرَ عَنْ خِيَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ, الطَّرْحُ يَعْنِي إِلْقَاءَ الشَّيْءِ و نَبْذَهُ و يَكُوُنُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ
و كَلِمَةُ "أرْضًا" جَاءَتُ لِتُضْعِفَ الأَقْوَالَ التِّي تَقُولُ بِأَنَّهُ بِئْرٌ.
هَذَا الجُبُّ الذِّي أُلْقِي فِيهِ يُوسُفَ هُوَ فُتْحَةٌ, فَجْوَةٌ فِي الأَرْضِ عَرِيضَةٌ فِيهَا حُفَرٌ صَغِيرَةٌ و تَكُونُ مَثَلًا مَكَانًا إِنْجِرَفَتْ تُرْبَتُهُ مِنَ السُّيُولِ.
وَ لَا نَتَّفِقُ مَعَ القَوْلِ القَائِلِ بِأَنَّهُ بِئْرٌ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ صرِيحٌ عَلَى ذَلِكَ و لَمْ نَجِدْ و لَا حَتَّى مَخْفِيًّا.
ثَانِيًا نَتَسَاءَلُ:
هَلْ هِيَ بِئْرٌ مَلْئَى أَمْ جَافَّةٌ ؟
إِذَا كَانَتْ مَلْئَى فَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ البِئْرَ المَلْئَى تَكُونُ دَائِمًا وِجْهَةِ الرُّعَاءِ لِلْسَّقْيِ إِذًا يَكُونُ حِينَهَا سَهْلًا وُجُودُ يُوسُفَ.
ثَُمَّ البِئْرُ المَلْئَى يَكُونُ فِيهَا المَاءُ و لَا يُمْكِنُ لِيُوسُفَ و لَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِيهَا لِأَنَّهُمْ سَيَغْرَقُونَ و لَمْ يَكُ ذَاكَ مُرَادُ الإِخْوَةِ.
ثُمّ و هَذَا السَّبَبُ دَقِيقٌ جِدًّا: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالى: "فَأَدْلَى دَلْوَهُ", إِسْتَوْقَفَنَا حَرْفُ "الهَاءِ" فِي كَلِمَةِ "دَلْوِهِ" فَلَوْ كَانَتْ بِئْرًا مَلْئَى لَمَا إِحْتَاجَ الوَارِدُ إِلَى دَلْوِهِ, لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ بِئْرٍ حَجَرٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ و خَشَبَةٌ يُشدُّ بِهَا حَبْلٌ يُعَلَّقُ فِيهِ دَلْوٌ و يَبْقَى دَائِمًا فِي مَكَانِهِ لِسِقَايَةِ الجَمِيعِ خَاصَّةً الزَّائِرَ و القَافِلَةَ.
تِلْكَ أَسْبَابُ إِعْتِرَاضِنَا عَلَى البِئْرِ إِذَا كَاَنَتْ مَلْئَى.
أمَّا أَسْبَابُ إِعْتِرَاضِنَا عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ جَافَّةً فَهُوَ أَنَّ البِئْرُ الجَافَّةَ تُطْوَى تُرْدَمُ تُغلْقُ لِكَيْ لَا يَقْصِدُهَا النَّاسُ و يُخْطِئُوا
ثُمَّ إِنَّ البِئْرَ إِذَا جَفَّتْ تُصْبِحُ وَكْرًا لِلْهَوَامِ مِنْ أَفَاعِي و غَيْرِهَا.
الطَّرْحُ أَرْضًا كَانَ صَرَاحَةً إِشَارَةً إِلَى جُبٍّ أَيْ حُفْرَةٍ مَهْبَطٍ فِي الأَرْضِ مِثْلُ الأُخْدُودِ و غَيَبَتُهُ هِي فَجْوَةٌ مِنْهُ.
هُنَاكَ قَوْلٌ سَمِعْنَاهُ فِيهِ أَنَّ السَّيَّارَةَ مَرَّتْ مِنَ المَكَانِ الذِّي وَجَدَتْ فِيهِ يُوسُفَ صُدْفَةً لأَِنَّهَا حَسْبَ هَذَا القَوْلِ ضَلَّتِ الطَّرِيقَ و قَوْلٌ فِيهِ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَ هَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ قَوْلَهُ: "قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ", ذَاَكَ الجُبُّ كَانَ مُخْتَارًا بِعِنَايَةٍ و كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ لِكَيْ يَلْتَقِطَهُ السَّيَّارَةُ و ذَاكَ مُرَادُ الإِخْوَةِ و ذَاكَ مَا وَقَعَ و لَا وُجُودَ لِلْحَظِّ.
"أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"
كَيْفَ أَوْحَى اللَّهُ لِيُوسُفَ ؟
الإجَابَةُ تَكُونِ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ إِحْدَى عَشَرَ كَوْكَبًا", الرُؤْيَةُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ, و الرُّؤْيَةُ تَكُونُ فِي النَّوْمِ و اليَقَظَةِ.
و فِي قِصَّةِ يُوسُفَ كَانَ الإِخْوَةُ مَشْغُولُونَ بِالكَيْدِ و الإِعْدَادِ و كَانَ يُوسُفُ يَرَى مَالذِّي سَيَحْدُثُه لَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْلًا شَدَّ إِنْتِبَاهَنَا و هُوَ "لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا".
أَمْرُهُمْ هَذَا يَعْنِي إِجْمَاعُهُمْ و إِتِّفَاقُهُمْ عَلَى إِلْقَاءِهِ فِي الجُبِّ.
و هَلْ أَنْبَأَهُمْ بِذَلِكَ ؟
أَجَلْ, فَعِنْدَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ المَرَّةَ الأَخِيرَةَ و كَانُوا مُهَانِينَ قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ: "قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ" أَيْ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَعْلَمُ مَاذَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفُ ؟ هَلْ أُخْبِرُكُمْ كَيْفَ كِدْتُمْ لِيُوسُفَ ؟ أَيْ إِنَّنِي عَلَى عِلْمٍ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
مِمَّا يَدُلُّ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُعِدُّونَ لَهُ.
مِنَ الأَدِلَّةِ أَيْضًا عَلَى عِلْمِ يُوسُفَ بِمَا سَيَفْعَلُهُ إِخْوَتُهُ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي دَائِمًا لِأَنْبِيَاءِهِ مَكْرَ و خِدَاعَ أَعْدَائِهِمْ لِنَأْخُذ مَثَلًا عِيَسَى إِبْنِ مَرْيَمَ
إِذْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ" و قَوْلُهُ: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىَ إِنِّي مُتَوفِّيكَ و رَافِعُكَ إِلَيَّ" هَذَا كَانَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ قَبْلَ خِدَاعِ اليُهُودِ لِلْنَّبِيِّ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" أَيْنَ يُبَيِّنُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ رُسُلَهُ و عِبَادَهُ.
فِي السِّجْنِ عَظَّمُوهُ و لِلْرُّؤْيَا إِسْتَعْبَرُوهُ
مِثْلُ الأَنْبِيَاءِ صَبَرَ عَلَى الإِبْتِلَاءِ فَجَازُوهُ
بَرَّؤُوهُ أَخْرَجُوهُ و رَفَعُوهُ وَ مِنَ المُلْكِ مَكَّنُوهُ
ذَاكَ حَالُ مَنْ يُؤْمِن و يَصْبِر و يَتَوَكَّل فُيُكَافِؤُوهُ
مَهْمَا حَارَبُو الحَقَّ فَلَا يَتْرُكُهُمْ اللَّهُ يُغَلِبُوهُ
اللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ و إِنْ حَاوَلَ الكَافِرُونَ أَنْ يُغَطُّوهُ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و أَعْبُدُوهُ و رَسَولَكُمْ أَطِيعُوهُ
تَرَكَ فِيكُمْ سُنَّتَهُ و كِتَابَ رَبِّكُمْ فَإِتَّبِعُوهُ