القرآنُ كـلام الله تعالى تَكلَّمَ به حقيقةً ، ونَزَلَ به الرُّوحُ الأمين جبريلُ على النبيِّ مُفرَّقًا مُنذ بِعثته إلى وفاته ، قال الله تعالى:
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
(الاسراء:106) ، وقال تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً
(الفرقان:32) .
وكَوْنُ القرآنِ نَزَلَ مُفرَّقًا حقيقةٌ مَقْطوعٌ بها عند أهل الإسلام ؛ ولِذا لا بُدَّ مِن معرفةِ معنى الإنزال في قوله تعالى :
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
(البقرة:من الآية 185) وقوله :
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
(الدخان:من الآية3) وقوله :
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
(القدر:1) .
قالَ الشيخُ ابن عثيمين
عند تفسيره لقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
(القدر:1):" الصحيحُ أنّ معناها : ابتدَأْنَا إنْزالـهُ في ليلةِ القدْرِ ، وليلةُ القَـدْرِ في رمضان لا شَكَّ ".( )
وعند تفسيره لقوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
(البقرة:من الآية 185)
قال :" وهل المرادُ بـ
الْقُرْآنُ
الجِنْس ، فيشملُ بعضه ؛ أو المرادُ به العمومُ فيشملُ كُلَّهُ ؟ قال بعض أهل العلم : إنّ " ال " للعمومِ فيشملُ كُلَّ القرآنِ ؛ وهذا هو المشهور عند كثيرٍ مِن المفسِّرينَ المتأخِّرينَ ؛ وعلى هذا القَوْلِ يُشْكِلُ الواقع ؛ لأنّ الواقعَ أنّ القرآنَ نَزَلَ في رمضانَ ، وفي شوالَ ،وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجّة ... في جميعِ الشُّهور ؛ ولكن أجابوا عن ذلك بأنّه رُوي عن ابنِ عبّاسٍ
أنّ القرآنَ نَزَلَ مِن اللوْحِ المحفوظ إلى بيتِ العِزَّة في رمضان ، وصارَ جبريلُ يأخذهُ مِن هذا البيت ، فيَنْزِلُ به على رسول الله ( 1)، لكنْ هذا الأثر ضعيفٌ ؛ ولهذا الصحيحُ أنّ " ال " هنا للجِنْس ؛ وليستْ للعمومِ ؛ وأنّ معنى
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
أيْ اُبْتُدِئَ فيه إنْزَالُه ، كقوله تعالى
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
(الدخان:من الآية3) ، وقوله تعالى :
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
(القدر:1) أيْ ابْتَدَأْنَا إنْزَالهُ ".( )
ومِمّا تقدَّمَ يتبيَّنُ أنّ الشيخَ
يرى أنّ للقرآنِ نُزولاً واحدًا فقط ، ويؤيِّدُ ذلك تَضْعِيفهُ لأثر ابنِ عبّاسٍ
في كلامه السابق ؛ وأصْرَحُ مِنه ما جاء في جوابه على سؤالٍ وُجِّهَ له: حيث قالَ السائل :يُنْسَب إليكم أنّكم ضعَّفْتُم قول ابنَ عبّاسٍ
بأنّ القرآنَ أنْزَلَهُ الله في رمضانَ جُمْلَةً واحدةً إلى السماءِ الدنيا ، فهل هذا صحيح ؟ وهل مِن دليلٍ على خِلافه ؟
فأجابَ بقولهِ :"نعم ، الأدلّةُ على خِلافه ؛ أنّ الله يتكلَّمُ بالقرآنِ حين إنْزالِه على محمد ، والدليلُ على أنّه يتكلَّمُ به حين إنْزالِه أنّه يتكلَّمُ عن حوادِثَ وقعتْ مِثل قوله تعالى:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
(آل عمران:من الآية121) و
إِذْ
ظَرْفٌ لِمَا مَضَى يتحدَّثُ الله عن شيءٍ مَضَى مِن الرسولِ عليه الصلاة والسلام ،وقوله :
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
(المجادلة:من الآية1) هل يصحُّ أنْ يُقال : قد سمع بشيءٍ لَمْ يُخلَقْ صاحبه بَعْدُ ؟ لا يكونُ سَمْعٌ إلاّ بعدَ صَوْتٍ ، وهذا يدلُّ على أنّ الله تكلَّمَ بهذه الآيةِ بعد أنْ تكلَّمَتْ التي تُجادل،
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
(آل عمران:من الآية181) لقد سَمِعَ ، واللاّمُ مُؤَكِّدَةٌ ، والقَسَمُ مُؤَكِّدٌ أنّه سمعَ قَوْلَ الذينَ قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحنُ أغنياء ،فتكونُ هذه الآيةُ نزلتْ بعد قَوْلِهم ، وأمْثَالِ ذلكَ مِن السياقاتِ الدّالّةِ على أنّ الله تعالى تكلَّمَ بالقرآنِ حينَ إنْزالِه على محمدٍ .
فهذا هو الذي يجعلُنِي أشكُّ في صحّةِ الحديث المرْوِيِّ عن ابنِ عبّاسٍ وعن أبيه أنّ القرآنَ نَزَلَ جُمْلَةً واحـدةً إلى السماءِ الدنيا في بيتِ العزَّةِ ، وهذا يحتاجُ إلى أحاديثَ صحيحة لا شكَّ فيها حتّى نضطرَّ إلى تأويلِ الآياتِ التي تدلُّ على أنّ القرآنَ نَزَلَ بعد حُدوثِ الحوادث التي يتكلَّمُ الله عنها ".( )
ولِيَ مع كلامِ الشيخِ المتقدِّم الوَقَفاتُ التالية :
الوقفة الأولى : اختياره أنّ المرادَ بالإنزالِ هو : ابتداءُه ، هو أحد الأقوالِ في معنى النزولِ للجمعِ بينَ ما تقرَّرَ مِن إنْزالِ القرآنِ مُنَجَّمًا وبينَ الآياتِ الدّالّةِ على إنْزالِه في ليلةٍ واحدةٍ ، وهو قَوْلُ الشعبيِّ ( )
( ). وهو جَمْعٌ حَسَنٌ به تجتمعُ الأدلّةُ ، لكنه لا يُعارِضُ أثرَ ابنَ عبّاسِ
؛ كما سيأتي .
الوقفة الثانية : أثرُ ابن عبّاسٍ
صحيحُ الإسْنادِ ، صحّحهُ جَمْعٌ مِن الأئمةِ كما تقدّم في تخريجـه ، ومِثْلُه إخبارٌ بأمرٍ غَيْبِيٍّ لا يُصارُ إلى مِثْله إلاّ بِتَوْقِيفٍ فلهُ حُـكْمُ الرَّفْعِ ( ). ولِذا فانتقادُ الشيخِ ابن عثيمين
للأثرِ إنّما هو مِن جهة مَتْنِه كما دلَّ على ذلك كلامُه ، وعندي أنّ هذا الانتقادَ لا يُسلَّم ؛ لأنّه ليس في أثرِ ابنِ عبّاسٍ
ما يدلُّ على أنّ الله لَمْ يتكلَّم بالقرآنِ حالَ إنْزالِه ؛ بل غايةُ ما فيه أنّ للقرآنِ تَنَزُّلان :
الأول : مِن اللّوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا .
وهذا يكون مِن مَكْتُوبٍ إلى مَكْتُوب فلا إشكال فيه ولا فَرْقَ بين أنْ يكون في اللوح المحفوظ أو يكونَ في السماء الدنيا ثمّ يتكلَّمُ الله به إذا أرادَ إنْزالَهُ .
الثاني : الوحْيُ ؛ وهو إنْزالُه إلى محمدٍ بواسطةِ جبريلَ ؛ كما قال ابنُ عبّاسٍ
في إحـدى الرواياتِ للأثرِ السابق :" فكـانَ الله إذا أرادَ أنْ يوحِـيَ مِنه شيئًا أوْحَاه ".( )
فدلَّ هذا الأثرُ على أنّ الله تعالى يتكلَّمُ به حقيقةً حينَ إنْزالِه ، ولِذا فإنّ تضْعِيفَ الشيخِ ابن عثيمين لهذا الأثرِ يسْتقِيمُ لو دلَّ على أنّ الله لا يتكلَّمُ بالقرآنِ حالَ إنْزالِه ؛ أما وقد ورَدَ الأثرُ بخلافه أو على الأقلِّ عدَمَ التعرُّضِ لطريقةِ إنْزالِه إلى النبيِّ فلا يستقِيمُ ما أوْرَدَهُ وبالله التوفيق .
الوقفة الثالثة : سببُ رَدِّ الشيخِ ابن عثيمين
لهذا الأثرِ هو جانبٌ عَقَدِيٌّ ؛ حيثُ ظنَّ طائفةٌ مِن المتكلِّمينَ وغيرهم مِمّنْ ينفونَ صفة الكلام عن الله أنَّ لهم في هذا الأثرِ مُسْتَمْسكًا إذْ أثبتوه وفهموا مِنه أنّ للقرآنِ نُزولَيْن :
الأول : مِن اللوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملةً واحدة .
الثاني : مِن السماء الدنيا إلى الأرض على النبيِّ مُفرَّقًا بواسطة جبريلَ .
ورَجَّحَ هذا الفَهْمَ أكثرُ مَن تكلَّمَ في علومِ القرآنِ كالزركشيِّ ( )، وابن حجرٍ ( )، والسيوطيِّ ( ).
ومِن المعاصرين : الزرقانيُّ ( )، ومحمد أبو شهبة ( ) .
ولعلَّ سببَ فهمهمْ ورُودُ بعضِ الرواياتِ بـ[ ثُمَّ ] الدّالّةِ على التعقيب والترتيب ؛ حيث أوْرَدَ السيوطيُّ نقلاً عن ابن أبي شيبةَ( ) في فضائل القرآن( ) الروايةَ التالية : " دُفعَ إلى جبريلَ في ليلةِ القدْر جُملةً واحدة فوضعهُ في بيتِ العزَّةِ ، ثُمَّ جعلَ يُنَزِّلُهُ تنـزيلاً ".( )
وهذه الرواية وأمْثالها مُعارَضةٌ برواياتٍ أخرى تدلُّ على أنّ النزولَ الثاني إنّما كانَ وَحْيًا مِن الله تعالى ؛ ولِذا فقوْلُنا بصحّةِ الحديث ليس معناه القوْلُ بصحّـةِ جميع ألفاظـه الواردة في رواياته وطُرُقِه .
وعليه فلا يصحُّ أنْ يُفهم أنّ النزولَ الثاني كانَ مِن السماء الدنيا كما تدلُّ عليه هذه الرواية ، بلْ ولا مِن اللوحِ المحفوظ ، بلْ الحقُّ والذي تدلُّ عليه الدلائلُ مِن الكتاب والسنّة أنّ الله تكلَّم بالقرآنِ حقيقةً وأوْحاهُ لنبيّه بواسطة جبريلَ .
فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله :[ إذا تكلَّمَ الله بالوحْيِ سمعَ أهلُ السماءِ للسماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ على الصَّفا ، فيُصْعقُونَ فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم جبريلُ ، حتّى إذا جاءهم جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم، قالَ : فيقولونَ : يا جبريل ماذا قالَ ربُّكَ ؟ فيقولُ : الحقَّ ، فيقولونَ : الحقَّ الحقَّ ]( ).
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية
:" بيّنَ الله في غيرِ مَوْضعٍ أنّه – أيْ القرآن –
مُنَزَّلٌ مِن الله ، فمن قالَ : إنّه مُنزَّلٌ من بعض المخلوقاتِ كاللوحِ والهواءِ فهو مُفْتَرٍ على الله مُكَذِّبٌ لكتابِ الله ، مُتَّبِعٌ لغيرِ سبيل المؤمنين ".( )
الوقفة الرابعة : بما أنّه قد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ
نُزولُ القرآنِ إلى السماء الدنيا فيكونُ معنى الإنْزالِ المذكورِ في القرآنِ أمْران ( ) :
الأول : ما دلَّ عليه أثرُ ابنِ عبّاسٍ
مِن نُزولِه إلـى السماء الدنيا في ليلةِ القدْر ، وقد نَقل القرطبيُّ الإجماعَ عليه .( )
الثاني : ابتداءُ إنْزالِه في ليلةِ القدْر .
وبهذا نعلمُ أنّه لا تعارُضَ بينَ أثرِ ابنِ عبّاسٍ
وبينَ أنّ القرآنَ أُبْتُدِأَ إنْزالُهُ في رمضان .
وخُلاصة ما تقدّم أنّ للقرآنِ نُزولَيْن :
النزول الأول : مِن اللوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملةً واحدة ، فهو إنْزالٌ مِن مَكْتوبٍ إلى مَكْتوب ، ولَمْ يَرِدْ في الروايات أنّه يقتضي أنّ الله تكلَّمَ به في هذا الإنْزال ، بلْ كَوْنُه مَكتوبًا قبل في اللوحِ المحفوظ لَمْ يقتضِ ذلك .
النزول الثاني : إنْزالُ القرآن على النبيِّ مُفرَّقًا بواسطةِ جبريلَ ، وقد دلّت النصوصُ على أنّه وَحْيٌ ، وأنّ الله يتكلَّمُ بالقرآنِ حينَ إنْزالِه .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية بعدَ أنْ قرَّر أنّ الله تكلَّمَ بالقرآنِ حينَ إنْزالِه:" وهذا لا يُنافي ما جاء عن ابنِ عبّاسٍ وغيره : أنّه أُنْزِلَ في ليلةِ القدْر إلى بيتِ العزَّةِ في السماء الدنيا ولا يُنافي أنّه مَكتوبٌ في اللوحِ قبلَ نُزولِه سواء كتَبَهُ الله قبلَ أنْ يُرسل به جبريلَ أوبعده ، فإذا أُنْزِلَ جُملةً إلى بيتِ العزَّةِ فقد كتَبَهُ الله كُلَّه قبلَ أنْ يُنزلَه والله يعلم ُما كانَ وما يكونُ وما لا يكونُ لو كانَ كيفَ يكون ، وهو قد كتَبَ المقاديرَ وأعمال العباد ِقبل أنْ يعملوها ثُمَّ يأمُرُ بكتابتها بعد أنْ يعملوها فيقابل بين الكتابةِ المتقدّمة والمتأخرّة فلا يكون بينهما تفاوتٌ هكذا قال ابنُ عبّاسٍ وغيره ، فإذا كانَ ما يَخْلُقه بائنًا عنه فقد كتَبَه قبلَ أنْ يَخْلُقه فكيفَ لا يكْتُب كلامه الذي يُرسل به ملائكته قبل أنْ يُرسلهم ؟
ومَن قال إنّ جبريلَ أخذهُ عن الكتاب لَمْ يَسْمعه مِن الله فهو باطلٌ مِن وجـوه ..." ثم ذكرها .
....................
(1) الأثر مَرْويٌّ مِن وجوه متعدّدة عن ابن عبّاسٍ
، انظرها في : فضائل القرآن لأبي عبيد صـ ( 367 ) ، المصنّف لابن أبي شيبة ( 6 / 144 ) ، تفسير ابن جرير ( 30 / 258 ) ، تفسير ابن أبي حاتم ( 8 / 2690 ) ، المستدرك للحاكم ( 2 / 578 ) وقال :" حديثٌ صحيحٌ على شَرْطِ الشيخين ولَمْ يُخرِّجاه " ، السنن الكبرى للبيهقي ( 4 / 504 ) ، الوسيطُ للواحديِّ ( 4 / 532 ) ، المرشد الوجيز لأبي شامة صـ ( 20 ) .
والأثرُ صحيحٌ صحَّحهُ غيرُ واحدٍ : مِنهم الحاكمُ وأبو شامة في الموضعين السابقين ، والزركشيُّ في : البرهان ( 1 / 290 ) ، وقال السيوطيُّ :" أسانيدها كُلُّهَا صحيحةٌ " انظر : الإتقان ( 1 /130 ) ، وابنُ حَجَرٍ في : فتح الباري (10/ 5 ) . وانظر : مجمع الزوائد ( 7 / 140 ) . وقد تتبّع طُرقه د. محمد با زمول وحكم عليها في كتابه : القراءات وأثرها في الأحكام ( 1 / 35 ) وخَلُصَ إلى صِحَّةِ الحديث




وكَوْنُ القرآنِ نَزَلَ مُفرَّقًا حقيقةٌ مَقْطوعٌ بها عند أهل الإسلام ؛ ولِذا لا بُدَّ مِن معرفةِ معنى الإنزال في قوله تعالى :






قالَ الشيخُ ابن عثيمين



وعند تفسيره لقوله تعالى:


قال :" وهل المرادُ بـ









ومِمّا تقدَّمَ يتبيَّنُ أنّ الشيخَ



فأجابَ بقولهِ :"نعم ، الأدلّةُ على خِلافه ؛ أنّ الله يتكلَّمُ بالقرآنِ حين إنْزالِه على محمد ، والدليلُ على أنّه يتكلَّمُ به حين إنْزالِه أنّه يتكلَّمُ عن حوادِثَ وقعتْ مِثل قوله تعالى:








فهذا هو الذي يجعلُنِي أشكُّ في صحّةِ الحديث المرْوِيِّ عن ابنِ عبّاسٍ وعن أبيه أنّ القرآنَ نَزَلَ جُمْلَةً واحـدةً إلى السماءِ الدنيا في بيتِ العزَّةِ ، وهذا يحتاجُ إلى أحاديثَ صحيحة لا شكَّ فيها حتّى نضطرَّ إلى تأويلِ الآياتِ التي تدلُّ على أنّ القرآنَ نَزَلَ بعد حُدوثِ الحوادث التي يتكلَّمُ الله عنها ".( )
ولِيَ مع كلامِ الشيخِ المتقدِّم الوَقَفاتُ التالية :
الوقفة الأولى : اختياره أنّ المرادَ بالإنزالِ هو : ابتداءُه ، هو أحد الأقوالِ في معنى النزولِ للجمعِ بينَ ما تقرَّرَ مِن إنْزالِ القرآنِ مُنَجَّمًا وبينَ الآياتِ الدّالّةِ على إنْزالِه في ليلةٍ واحدةٍ ، وهو قَوْلُ الشعبيِّ ( )


الوقفة الثانية : أثرُ ابن عبّاسٍ



الأول : مِن اللّوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا .
وهذا يكون مِن مَكْتُوبٍ إلى مَكْتُوب فلا إشكال فيه ولا فَرْقَ بين أنْ يكون في اللوح المحفوظ أو يكونَ في السماء الدنيا ثمّ يتكلَّمُ الله به إذا أرادَ إنْزالَهُ .
الثاني : الوحْيُ ؛ وهو إنْزالُه إلى محمدٍ بواسطةِ جبريلَ ؛ كما قال ابنُ عبّاسٍ

فدلَّ هذا الأثرُ على أنّ الله تعالى يتكلَّمُ به حقيقةً حينَ إنْزالِه ، ولِذا فإنّ تضْعِيفَ الشيخِ ابن عثيمين لهذا الأثرِ يسْتقِيمُ لو دلَّ على أنّ الله لا يتكلَّمُ بالقرآنِ حالَ إنْزالِه ؛ أما وقد ورَدَ الأثرُ بخلافه أو على الأقلِّ عدَمَ التعرُّضِ لطريقةِ إنْزالِه إلى النبيِّ فلا يستقِيمُ ما أوْرَدَهُ وبالله التوفيق .
الوقفة الثالثة : سببُ رَدِّ الشيخِ ابن عثيمين

الأول : مِن اللوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملةً واحدة .
الثاني : مِن السماء الدنيا إلى الأرض على النبيِّ مُفرَّقًا بواسطة جبريلَ .
ورَجَّحَ هذا الفَهْمَ أكثرُ مَن تكلَّمَ في علومِ القرآنِ كالزركشيِّ ( )، وابن حجرٍ ( )، والسيوطيِّ ( ).
ومِن المعاصرين : الزرقانيُّ ( )، ومحمد أبو شهبة ( ) .
ولعلَّ سببَ فهمهمْ ورُودُ بعضِ الرواياتِ بـ[ ثُمَّ ] الدّالّةِ على التعقيب والترتيب ؛ حيث أوْرَدَ السيوطيُّ نقلاً عن ابن أبي شيبةَ( ) في فضائل القرآن( ) الروايةَ التالية : " دُفعَ إلى جبريلَ في ليلةِ القدْر جُملةً واحدة فوضعهُ في بيتِ العزَّةِ ، ثُمَّ جعلَ يُنَزِّلُهُ تنـزيلاً ".( )
وهذه الرواية وأمْثالها مُعارَضةٌ برواياتٍ أخرى تدلُّ على أنّ النزولَ الثاني إنّما كانَ وَحْيًا مِن الله تعالى ؛ ولِذا فقوْلُنا بصحّةِ الحديث ليس معناه القوْلُ بصحّـةِ جميع ألفاظـه الواردة في رواياته وطُرُقِه .
وعليه فلا يصحُّ أنْ يُفهم أنّ النزولَ الثاني كانَ مِن السماء الدنيا كما تدلُّ عليه هذه الرواية ، بلْ ولا مِن اللوحِ المحفوظ ، بلْ الحقُّ والذي تدلُّ عليه الدلائلُ مِن الكتاب والسنّة أنّ الله تكلَّم بالقرآنِ حقيقةً وأوْحاهُ لنبيّه بواسطة جبريلَ .
فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله :[ إذا تكلَّمَ الله بالوحْيِ سمعَ أهلُ السماءِ للسماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ على الصَّفا ، فيُصْعقُونَ فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم جبريلُ ، حتّى إذا جاءهم جبريلُ فُزِّعَ عن قلوبهم، قالَ : فيقولونَ : يا جبريل ماذا قالَ ربُّكَ ؟ فيقولُ : الحقَّ ، فيقولونَ : الحقَّ الحقَّ ]( ).
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية

مُنَزَّلٌ مِن الله ، فمن قالَ : إنّه مُنزَّلٌ من بعض المخلوقاتِ كاللوحِ والهواءِ فهو مُفْتَرٍ على الله مُكَذِّبٌ لكتابِ الله ، مُتَّبِعٌ لغيرِ سبيل المؤمنين ".( )
الوقفة الرابعة : بما أنّه قد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ

الأول : ما دلَّ عليه أثرُ ابنِ عبّاسٍ

الثاني : ابتداءُ إنْزالِه في ليلةِ القدْر .
وبهذا نعلمُ أنّه لا تعارُضَ بينَ أثرِ ابنِ عبّاسٍ

وخُلاصة ما تقدّم أنّ للقرآنِ نُزولَيْن :
النزول الأول : مِن اللوحِ المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملةً واحدة ، فهو إنْزالٌ مِن مَكْتوبٍ إلى مَكْتوب ، ولَمْ يَرِدْ في الروايات أنّه يقتضي أنّ الله تكلَّمَ به في هذا الإنْزال ، بلْ كَوْنُه مَكتوبًا قبل في اللوحِ المحفوظ لَمْ يقتضِ ذلك .
النزول الثاني : إنْزالُ القرآن على النبيِّ مُفرَّقًا بواسطةِ جبريلَ ، وقد دلّت النصوصُ على أنّه وَحْيٌ ، وأنّ الله يتكلَّمُ بالقرآنِ حينَ إنْزالِه .
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية بعدَ أنْ قرَّر أنّ الله تكلَّمَ بالقرآنِ حينَ إنْزالِه:" وهذا لا يُنافي ما جاء عن ابنِ عبّاسٍ وغيره : أنّه أُنْزِلَ في ليلةِ القدْر إلى بيتِ العزَّةِ في السماء الدنيا ولا يُنافي أنّه مَكتوبٌ في اللوحِ قبلَ نُزولِه سواء كتَبَهُ الله قبلَ أنْ يُرسل به جبريلَ أوبعده ، فإذا أُنْزِلَ جُملةً إلى بيتِ العزَّةِ فقد كتَبَهُ الله كُلَّه قبلَ أنْ يُنزلَه والله يعلم ُما كانَ وما يكونُ وما لا يكونُ لو كانَ كيفَ يكون ، وهو قد كتَبَ المقاديرَ وأعمال العباد ِقبل أنْ يعملوها ثُمَّ يأمُرُ بكتابتها بعد أنْ يعملوها فيقابل بين الكتابةِ المتقدّمة والمتأخرّة فلا يكون بينهما تفاوتٌ هكذا قال ابنُ عبّاسٍ وغيره ، فإذا كانَ ما يَخْلُقه بائنًا عنه فقد كتَبَه قبلَ أنْ يَخْلُقه فكيفَ لا يكْتُب كلامه الذي يُرسل به ملائكته قبل أنْ يُرسلهم ؟
ومَن قال إنّ جبريلَ أخذهُ عن الكتاب لَمْ يَسْمعه مِن الله فهو باطلٌ مِن وجـوه ..." ثم ذكرها .
....................
(1) الأثر مَرْويٌّ مِن وجوه متعدّدة عن ابن عبّاسٍ

والأثرُ صحيحٌ صحَّحهُ غيرُ واحدٍ : مِنهم الحاكمُ وأبو شامة في الموضعين السابقين ، والزركشيُّ في : البرهان ( 1 / 290 ) ، وقال السيوطيُّ :" أسانيدها كُلُّهَا صحيحةٌ " انظر : الإتقان ( 1 /130 ) ، وابنُ حَجَرٍ في : فتح الباري (10/ 5 ) . وانظر : مجمع الزوائد ( 7 / 140 ) . وقد تتبّع طُرقه د. محمد با زمول وحكم عليها في كتابه : القراءات وأثرها في الأحكام ( 1 / 35 ) وخَلُصَ إلى صِحَّةِ الحديث
تعليق