قصة ملكة سبإ فى سورة "النمل"
إبراهيم عوض
"وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)": إبراهيم عوض
"السلطان المبين" الذى أراده سليمان من الهدهد هو العذر الواضح على أنه لم يكن غائبا عن إهمال أو عصيان. و"مكث غير بعيد": لم يطل به الوقت بل ظهر سريعا. و"أحطت بما لم تحط به": عرفت شيئا لم تكن تعرفه. و"لا يهتدون": لا يرون الحق لأنهم تركوا الشيطان يصنع بهم ما يشاء، إذ تركوا عقولهم وأهملوها وانكبوا على عبادة الشمس دون تفكير فى سخف العقيدة التى سولت لهم ذلك وما فيها من انحطاط وعدم لياقة ببنى الإنسان. "ألَّا يسجدوا لله": ذلك أنهم لا يسجدون لله. و"الخَبْء": ما اختبأ فلم يدركه المدركون، لكن الله سبحانه لا يغيب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، فهو الخالق الذى خلق كل شىء ووضعه فى موضعه وأعطاه كيانه وقام على حفظه، ولو تخلى عنه طرفة عين لامحى من الوجود. فكيف يمكن أن يغيب عنه شىء فى ملكه؟ "والكتاب" الذى بعث به سليمان مع الهدهد هو رسالة سفارية. "ماذا يرجعون؟": ماذا يكون رد فعلهم؟ "لا تعلوا علىَّ": لا تعصونى وتتمردوا على أمرى. "وأْتُونى مسلمين": تعالوا إلىَّ خاضعين مستسلمين. "والملأ": كبار رجال الدولة. "أفتونى فى أمرى": أشيروا علىَّ بما عندكم من رأى. "ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون": لم أكن لأتخذ قرارا دون أن يكون بمحضر وموافقة منكم. "ناظرة بم يرجع المرسلون": منتظرة لأرى بأى شىء يحضر السفراء من لدن سليمان. "لا قبل لهم بها": لا يستطيعون أن يقفوا فى طريقها. "قبل أن يأتونى مسلمين": قبل أن يأتونى خاضعين لأمرى. "قبل أن يرتد إليك طرفك": قبل أن يطرف جفنك. "نكِّروا لها عرشها": أحدثوا فيه من التغييرات ما يجعله مختلفا عما ألفته منه. و"الصرح": القصر، وكان من زجاج ممرد، أى شديد الملاسة والرقة والصفاء حتى ليظن من يراه أنه والماء الذى يجرى تحت أرضيته شىء واحد. و"اللجة": الموج.
"وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين": هذا كلام ملكة سبإ. وفيه إشارة إلى ما سمعته عن سليمان وملكه وعظمته وقوته قبل أن ترد عليه. ثم تقول له: وقد استسلمنا لك لما نعلمه من قوتك وعظمة سلطانك. وليس معناه أنها أسلمت لله، فإن قوله تعالى تعقيبا على هذا: "وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين" معناه أنها كانت تعبد الشمس وكانت كافرة من قوم كافرين. وقد صدها هذا فى البداية عن الإيمان بالله ودخول الإسلام، الذى هو دين الأنبياء جميعا. أما إعلانها الدخول فى الإسلام وتخليها عن عبادة الشمس والكفر الذى كانت عليه ففى قولها فى آخر الحوار: "وأسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين". وبهذه الطريقة التى فسرت بها الآيات نتغلب على تقطيع المفسرين للنص الكريم وإحالة هذه الجملة على سليمان، وتلك عليها دون أن يكون هناك ما يساعد على هذا التقطيع وتلك الإحالات لا من تركيب الجمل ولا من السياق ولا من التاريخ. وقد دفعت نسبة المفسرين عبارة "وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين" إلى سليمان

وهذه ما قاله ابن كثير مثلا محذوفا منه ما لا علاقة له بتركيب الكلام: "لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها، أو أنه ليس بعرشها... "فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟"... فكان فيها ثبات وعقل، ولها لب ودهاء وحزم، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته، وإنْ غُيِّر وبُدِّل ونُكِّر، فقالت: "كَأَنَّهُ هُوَ" أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم. وقوله: "وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ"، قال مجاهد: يقوله سليمان. وقوله تعالى: "وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـٰفِرِينَ" هذا من تمام كلام سليمان




والآن هذا ما كتبه د. شوقى ضيف فى كتابه: "الوجيز فى تفسير القرآن الكريم" فى نفس الموضوع: "وقال لهم: أيكم يأتينى بعرشها قبل أن تأتينى مع قومها مسلمين، أى قبل أن ينزلوا بديارنا ويعتنقوا الإسلام دين التوحيد؟... قال سليمان لملئه: نكِّروا لها عرشها وغيروا ما فيه بحيث لا تعرفه لنرى أتعرفه أم لا تعرفه. فلما جاءت عُرِضَ عليها وسئلت: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو. فاستدل سليمان بذلك على رجحان عقلها. وأوتينا، أى نحن قوم سليمان بنو إسرائيل، العلم، والمراد بالعلم هنا الحكمة أو علم الشريعة منذ موسى مِنْ قَبْلها: من قبل بلقيس وقومها، وكنا مسلمين نوحد الله ونعبده لا شريك له. وصدها عن الإسلام والتوحيد ما كانت تعبد من دون الله، الشمس، مع قومها الكفار. وأراد سليمان أن يريها أثرا من آثار حضارة قومه، فطلب منها بعض مرافقيها من بنى إسرائيل أن تدخل الصرح... فانبهرت، قالت: رب، إنى ظلمتُ نفسى بعبادة الشمس وأسلمتُ مع سليمان لله ربِّ العالمين".
وعودا إلى ما قاله غسان النقيب مما هو موجود فى التفسير القاديانى العربى لنرى ماذا يقول القاديانيون عن فهم سليمان للغة الطيور وتعامله مع الهدهد واستخدامه للجن نقرأ ما يلى: "قال المفسرون عن قول سليمان: "عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ" أنه كان يفهم لغة الطيور من حمام وسمان وحجل وعصافير وغيرها كما يفهم الإنسان كلام إنسان آخر... ويقول المفسرون أيضًا أن سليمان



ولكن ما الفائدة من تعليم منطق الطيور؟ فهل تعلَم الطيور معارف وعلومًا عظيمة حتى نقول أن سليمان



ثم يقول سليمان

"وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُون" (النمل/ 18): يبدو من هذه الآية أن سليمان







ولكن علينا أن نرى ما إذا كان القرآن يصدق هذا المعنى أم لا. إذا كان الكلام عن الجن استعارة فلا بد أن القرآن الكريم قد بيّن مراده منها، وإذا لم نعتبر هذا الكلام من قبيل الاستعارة وقع التناقض بين آيتين من القرآن الكريم وحصل فيه الاختلاف. فعلينا أن نرى ما إذا كان اعتبار هذا الكلام استعارة يؤدي إلى الاختلاف في القرآن الكريم أم العكس هو الذي يؤدي إلى الاختلاف فيه؟ وليكن معلومًا أن الذين لا يعتبرون هذه الآية استعارة ويقولون أن الجن كائنات غير مرئية مثل الشيطان، وكما أن الشيطان كائن منفصل عن الإنس فالجن أيضًا كائنات غير الإنس. والجواب أن هناك إجماعًا لدى المفسرين على أن الشياطين المذكورين في قوله تعالى: "وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ" هم اليهود ورؤساؤهم. فإذا كان الإنس يمكن أن يسمَّوْا: شياطين فلماذا لا يسمَّون: جنًّا أيضًا؟ كذلك قال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" (الأنعام/ 113). أي قد جعلنا لكل نبي أعداء من شياطين الإنس ومن شياطين الجن الذين يحرّضون الناس على النبي وجماعته. لقد صرح الله هنا أن الشياطين يكونون من الناس أيضًا. فإذا أمكن أن يكون هناك شياطين الإنس فكيف لا يكون هناك جنّ الإنس؟ بمعنى أنه كما يمكن أن يولد من الناس من يسمون: شياطين فكيف لا يمكن ألا يكون من الناس من يسمّون: جنًّا؟ لقد ثبت مما سبق بيانه أن الجن لم يكونوا في قبضة سليمان فحسب بل لقد آمنوا بموسى وبنبيّنا ﷺ أيضًا. والآن نرى: إلى من بُعِث النبي ﷺ؟ يقول الله تعالى لنبيه ﷺ: "وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً" (النساء/ 80). فلو كانت كائنات خفية تسمى: جنًّا قد آمنت بالنبي ﷺ فكان من المفروض أن يُقال: "وأرسلناك للناس والجن رسولاً". وإذا كان النبي ﷺ مبعوثًا إلى الناس فثبت أن الجن الذين قِيل هنا إنهم آمنوا به ﷺ إنما كانوا من جن الإنس، وليس كائنات غريبة خفية يتصورها الناس. كذلك ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال: أُعطيتُ خمسَ خصال لم يُعْطَها نبي قبلي، وإحداهن "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة". لقد صرح النبي ﷺ هنا بشكل حاسم أنه لم يوجد بين الأنبياء السابقين نبي واحد بُعث إلى أحد سوى قومه. ولكن هؤلاء المفسرين يقولون أن سليمان

ثم إذا كان هؤلاء الجن من غير الإنس فكيف قال الله ﷻ في القرآن الكريم: "ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ" )الأنعام/ 129)... أما إذا اعتبرناهم كائنات غير إنسانية فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا والذي يجب أن يجيب عليه القائلون بالجن هو: لماذا لم ينصر هؤلاء الجن رسولنا ﷺ رغم إيمانهم به، ورغم أن الله تعالى أمر بنصرته ﷺ؟ الأمر الواقع أن فئة من الناس يكونون في غاية الإباء والتمرد فلا ينقادون لأحد، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ يتغير حالهم رأسًا على عقب فجأة. وخير مثال على ذلك هو عمر رضى الله عنه، فكان في البداية لا يتحمل سماع كلمة عن الإسلام حتى استشاط غضبًا ذات مرة، فامتشق حسامه وخرج بنية قتل النبي ﷺ. ولكنه لما أتاه أخذ يرتعد هيبةً له ﷺ...
فثبت من هنا أن هناك أناسًا من ذوي الطبائع النارية، ولكنهم عندما يأتون الأنبياءَ تخمد نارهم وتهدأ حدّتهم، وهؤلاء أيضًا يسمَّون في اللغة العربية: جنًّا. كما يراد بالجن عِليةُ القوم الذين يقيمون في القصور وراء حراسة شديدة فلا يصل أحد إلى أبوابهم بسهولة، فقد ورد في القواميس: جِنُّ الناس: معظمهم. إذًن فكلمة "الجن" في قوله تعالى: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" قد أُطلقت على فرقة خاصة لسليمان


والحقيقة أننا إذا لم نفهم من الآية الكريمة أن سليمان

لِدُوا لِلمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرابِ = فَكُلُّكُمُو يَصِيرُ إِلى ذَهابِ
وكأنه لا يكفينا سخف أبى العتاهية ونفاقه، وإلا لقد كان أحرى بطائرنا الظريف فضيلة الشيخ حمام أن يمتنع عن مديح الخلفاء ونيل جوائز الخلفاء الضخام، ودون أى عمل ينفع البشرية، ما دام يبغِّضنا فى الحياة وبناء البيوت وإنجاب الأطفال زينة الدنيا وبهجتها. ترى من علم الطيور ذلك النفاق والهلس الصفيق؟ وأما الهدهد فيقول: "من يرحم الناس ي

وهو يستغرب أن يكون سليمان بحاجة إلى التعلم من الهدهد مع أن أعظم طير يقل فى ذكائه عن أغبى إنسان، فكيف يكون لدى الهدهد علم أعلى مما لدى نبى كسليمان؟ والجواب أن أحدا لم يقل إنه الطيور أذكى من البشر، وهو ما يصدق على الهدهد، الذى لم يقل أحد ولا جاء فى القرآن أنه أذكى من سليمان أو أن سليمان بحاجة إلى التعلم منه، بل الأمر وما فيه أنه لطيرانه بعيدا بسرعة وسهولة يستطيع أن يطلع على ما لا يطلع عليه سليمان، الذى لا يفارق بلاده ولا يطير فى السماء بالسرعة التى يطير هو بها. وهذا مثلما نعرف نحن الآن عن طريق الأقمار الصناعية، وهى جماد لا طير، ما لم نكن نعرفه من قبل رغم أن أحدا لا يقول ولا يمكن أن يقول إن الأقمار الصناعية لها عقل وإنها أذكى من البشر.
وأما تفسيره للطير بأنهم الرجال الذين يطيرون فى سماء الروحانية فهو تفسير باطل، ولم نر أحدا استخدمه هذا الاستخدام المجازى، بل كثيرا ما يستعمل للدلالة على السرعة الشديدة. ثم هل سليمان وحده هو الملك الذى كان فى جيشه ناس روحانيون؟ ألا إن ذلك لأمر غريب. كما أن وضع القرآن للطير بإزاء الإنس والجن معناه أن الطير غير الإنس وغير الجن. ويؤكد ذلك أكثر وأكثر سؤاله

هذا، وقد سبق لنا فى تفسير سورة "الجن" أن عرفنا كيف أفسد القاديانيون شرح معنى الجن. وهنا نرى الكاتب القاديانى يقول إن الجن فى جيش سليمان هم فرقة خاصة به كان رجالها من أسر عريقة، وكانوا معتادين على الإقامة في القصور وراء حراسة مشددة، وبالتالي استحقوا أن يُسمَّوْا: جنًّا، أي الذين لا يراهم الناس عادة كونهم يعيشون بعيدًا عن أنظار القوم. وهذا عجيب من القول إذ متى كان حرس الملك الخاص به يعيشون بعيدا عن الناس. فكيف يا ترى يحمونه من الناس إذن إذا كانوا لا يظهرون للناس، الذين يخشون على حياة الملك منهم؟ بل كيف تكون مهمتهم حراسة الملك ثم يوضعون هم وراء حراسة مشددة؟ ترى أهم يَحْرُسون أم يُحْرَسون؟ ثم لماذا سليمان بالذات هو الذى تستخدم له هذه المصطلحات والتسميات الشاذة دون كل الملوك جميعا من قدماء ووسطاء ومحدثين؟ وعلى هذا فقوله: "كان قوام جنود سليمان



وبالمناسبة ففى التفسير القاديانى الإنجليزى ذى الأجزاء الخمسة نجد أن "تعلم سليمان منطق الطير" معناه استخدامه


كذلك يشرح هذا التفسير "الجن" بأنهم سكان الجبال الذين لا يختلطون بالناس ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد خضعوا لسليمان. وهو تفسير خاطئ تماما لأن سكان الجبال المزعومين هؤلاء كانوا يشكلون جزءا من جيش سليمان بما يعنى أنهم كانوا خاضعين له تمام الخضوع حتى لقد صاروا جزءا من جيشه على عكس ما يقول التفسير المذكور. أما مولانا محمد على، وهو قاديانى أيضا، فيقول فى تفسيره باللغة الإنجليزية إن هؤلاء القوم كانوا خاضعين فعلا لسليمان

ومن تفسير عبد الماجد دريابادى المترجم إلى الإنجليزية نقتبس الفقرة التالية التى توافق ما قاله الأحبار اليهود عن قوات سليمان وأنها فعلا تضم البشر والحيوان والطير والأوراح والشياطين، وكذلك الزواحف والملائكة أيضا، وبنفس المعنى الذى نعرفه وبلا حذلقة فارغة:
"His rcalm is described by the Rabbis as having extendcd... over the upper world inhabited hy the angels and over the whole of the terrestrial globe with all ils inhabitants, including all the beasts, fowls, and reptiles as well as the demons and spirits.' (JE. XI. pp. 439- 440)".
وفى الفقرات التالية، وهى عن طائر الهدهد عند اليهود يتضح تماما أن ما يقوله القاديانيون فى تأويل معنى الطير، والهدهد بالذات، هو كلام لا قيمة له على الإطلاق: ففى مقال منشور بتاريخ 29 مايو 1008م فى صحيفة "الجيروزاليم بوست" الإسرائيلية عنوانه "Dirty, treif, but fit for a king, the hoopoe's our nat'l bird" يذكر آدم كريدو وجرير فاى كاشمان أن الهدهد، رغم تحريم الكتاب المقدس لحمه واعتباره إياه طائرا نجسا، قد فاز فى تصويت الإسرائيليين بالداخل والخارج فوزا كاسحا على سائر الطيور التى دخلت المنافسة الخاصة بـ"الطائر الوطنى" فى إسرائيل، وأنه فى الحكايات الشعبية اليهودية والقرآن قد قام بعمل شديد الأهمية لسليمان، إذ حاز على ثقة الملك فأرسله ليستطلع له أحوال ملكة سبإ، التى لم يكن يعرف حقيقة أمرها من حيث نظافتها والدوافع التى تحركها، وأخذ بنصيحته ونَعَتَه بـ"الحكيم".
وهناك نص هام فى هذا المجال يعود تاريخه إلى آخر القرن الثامن الميلادى تقريبا، وهو من كتابات الأحبار، ونشرته "ويكي سورس" بعد ترجمته عن العبرية والآرامية، وعنوانه "Translation: Colloquy of the Queen of Sheba"، خلاصته أن الملك سليمان أمر جيرانه من الملوك أن يقدموا عليه كى يريهم ما هو عليه من مجد ويشهدوا قدرته على التحدث مع الحيوانات والطيور والزواحف، فلبى ملوك الشرق والغرب والسمال والجنوب نداءه. وحين بدأت الحيوانات والطيور تدخل قاعة الولائم فى نظام ذاتى عند سماع أسمائهم لاحظ سليمان أن الهدهد غير موجود، فأمر بإحضاره لمعاقبته على هذا الغياب. وحين أتى الهدهد أخبر الملك بأنه أمضى أياما طوالا طائرا فى الجو دون طعام أو شراب لعله يصادف مملكة لم تصل إليها أخبار مُلْك سيده ثم يعود ويخبر الملك بما وجد، وأنه وجد مملكة بعيدة اسمها مملكة سبإ يعيش أهلها فى رغد من العيش حيث النباتات والأشجار الكثيرة والخضرة الغزيرة والأنهار التى تنبع من جنة عدن، وأن أهلها لا يعرفون الحروب ويضعون تيجانا على رؤسهم. فأمر الملك بكتابة رسالة إلى ملكة تلك البلاد يطلب فيها أن تأتى للمثول بين يديه مثل سائر الملوك، وإلا أرسل إليها جيشا جرارا من الحيوانات والطيور والجن لا قبل لها به يقضى عليها.
وطار الهدهد حاملا الرسالة تحت جناحه، وانطلقت معه طيور لا تحصى ولا تعد، ولما وصل الهدهد ورفاقه عاصمة المملكة كانت الملكة خارجة من قصرها لتأدية واجب العبادة للشمس عند بزوغها، إلا أنها لاحظت أن الشمس لم تبزغ جراء سد الطيور آفاق السماء، فشقت ملابسها وأرسلت إلى كبار رجال الدولة تستشيرهم بعدما تلقت الرسالة من الهدهد، فأَبْدَوْا استهانة بسليمان، إلا أنها كان لها رأى آخر، إذ أمرت بإعداد أسطول ضخم وملئه بالجواهر والتوابل وألوان الهدايا الأخرى، وأرسلت إلى الملك سليمان أنها فى طريقها إليه وأن الأمر سوف يستغرق سنوات نظرا لصعوبة الرحلة فى البحر. وكان على السفينة حشود من الأولاد والبنات الذين ولدوا فى نفس الساعة من نفس الشهر ونفس العام ولهم نفس الطول ونفس الشكل ونفس التسريحة وعليهم نفس الملابس كى تختبر ذكاء سليمان فى التفرقة بين الأولاد والبنات.
وحينما وصلت إلى سليمان ألفته جالسا فى مجلسه الزجاجى العجيب الذى يوهم من يدخله أن أرضه من الماء، فلما دخلت عليه رفعت ذيل ثوبها خشية أن يبتل ظنا منها أنها تخوض فى ماء، فانكشفت ساقاها، ورأى سليمان أن ساقيها مشعرتان، فأبدى استياءه لها مع الثناء على جمالها فى ذات الوقت. ثم أمدها بالعلاج الذى كان قد اخترعه للتخلص بسهولة من ذلك الشعر، والذى استعملته فى حمامها ذلك المساء وأتى بالنتيجة المرجوة، فقضت ليلتها فى غرفة نوم الملك. وقد أخذت بعد ذلك تطرح عليه طائفة من الأسئلة كى تطمئن إلى أنه حكيم فعلا كما يقال عنه، فوجدته ذا حكمة حقا إذ أجاب على كل سؤال سألته إياه رغم صعوبته الشديدة. كما استطاع التمييز بين الأولاد والبنات الذين حشدتهم معها فى أسطولها، وهو ما أكد لها أن سليمان يستحق ما يوصف به من الحكمة. ومن بين ما ألقته من أسئلة عليه: هل هو المسيح الذى وُعِدَه بنو إسرائيل؟ لكنه رغم إقراره بالنعم العظيمة التى أفاضها الله خالق السماوات والأرضين عليه وميزه بها عن سائر الملوك كما قال صرح لها بأنه ليس هو المسيح المنتظر.
ثم انتقلت الملكة إلى موضوع آخر يشغل بالها منذ وقت طويل فى بلدها ولم تجد له حلا، وهو كيف يمكن اصطياد الثعابين للحصول على عظامها كى تستعملها فى درء أضرار السحر. فأجابها سليمان مستعينا بمعلِّمه فنون السحر والشعوذة شاموداى أمير السحرة. وبعد أن أراها الملكة أملاكه وقصوره سمح لها بالعودة إلى بلادها محملة بالهدايا الثمينة ومرضيا عنها منه
كذلك صدرت سنة 2000م للكاتب اليهودى الكندى Sheldon Oberman قصة للصغار اسمها "The Wisdom Bird: A Tale of Solomon and Sheba" تحكى قصة سليمان والهدهد اعتمادا على الفولكلور اليهودى فى أوربا وإسرائيل واليمن وشرق أفريقيا وتقول إن ملكة سبإ قررت ذات يوم أن تزور سليمان بعد أن سمعت أنه أحكم رجل فى العالم، وكانت هى أيضا توصف عند البعض بأنها أحكم امرأة فى الدنيا، وطلبت منه على سبيل التحدى أن يبنى لها قصرا من مناقير الطيور، وهو ما قبله واستدعى الطيور لهذا الغرض، فقلبت الطيور كلها دعوته ما عدا الهدهد، الذى تأخر عن الحضور، مما أغضب الملك غضبا شديدا. إلا أن الطائر حين حضر أخبره أنه كان يبحث عن ثلاثة أسئلة لا يمكنه هو الإجابة عليها، فأجل الملك عقابه إلى أن يسمع ما لديه من ألغاز. ومع أن سليمان قد نجح فى الجواب عنها فقد كان مع كل سؤال يعيد النظر فى تصرفاته لينتبه فى النهاية أنه لم يراع ما كان يتصف به من الحكمة، إذ إن اعتداده بنفسه قد أنساه التفكير فى أمر الآخرين، وهم هنا الطيور، فتراجع عن فكرة بناء القصر مراعاة لحقوق لآخرين حتى لو كلفه ذلك تجاهل بعض رغباته، ورافأته الملكة على هذا، وقررا معا مكافأة الهدهد على الدور الذى قام به فخلعا عليه تاجا ذهبيا جميلا ما زال يضعه فوق رأسه حتى الآن.
وفى دراسة بعنوان "'And God gave Solomon wisdom': Proficiency in ornithomancy" لأبراهام شمش (Abraham O. Shemesh) بجامعة أرييل الإسرائيلية يذكر مؤلفها، ضمن ما يذكر، أن سليمان فى الكتابات اليهودية كان يمارس السحر ويتسلط على الشياطين ويتحكم فى مليكهم شاموداى ويستعملهم فى أغراضه المختلفة وفى علاج المرضى ووصف الدواء لهم، وأنه كان قادرا على فهم ما تقوله الحيوانات والطيور وعلى استشفاف المستقبل من حركاتها وأصواتها، وكان يتبادل الكلام مع الهدهد، وأنه استدعى حكماء الأرض من حوله وعمل لهم حفلة ضمت الحيوانات والطيور والحشرات والشياطين، وعزفت الموسيقى ودار الرقص بغية إشعار الضيوف بعظمة ملك سليمان، لكنه لاحظ أن الهدهد غير موجود، فغضب وأمر بإحضاره لمعاقبته. ولما عاد الطائر شرح لسليمان أنه ظل طائرا طيلة الأشهر الثلاثة الماضية بحثا عن بلد أو حكومة لا تأتمر بأمر سيده، وأنه وجد شعبا تحكمه امرأة هى ملكة سبإ، ثم استأذن الملك فى أن يذهب ويحضرها إليه هى ورجالها، فأمر الملك بكتابة خطاب إليها حمله الهدهد تحت جناحه فى حشد من الطيور بلغوا سبأ حين كانت الملكة خارجة لتسجد لإلهتها الشمس، إلا أنها لاحظت إظلام السماء فجأة بسبب الطيور الكثيرة التى حجبت نورها. ثم لما قرأت الرسالة، وفيها تهديد سليمان بأنها إذا لم تمثل هى ورجالها فى قصره فلسوف يرسل إليها جيشا من الحيوانات والطيور والشياطين لإيذائها هى وبلادها. وكانت النتيجة أن سافرت الملكة إلى سليمان، وهناك اطلعتْ على سلطانه العظيم وثروته الهائلة. وفى خلال القصة يتكرر حوار سليمان مع الهدهد.
وفى "الموسوعة اليهودية" كتب Joseph Jacobs وLudwig Blau فى مادة ""SHEBA, QUEEN OF: أنه لم يعثر أحد حتى الآن فى النقوش اليمنية عن أى شىء خاص بملكة سبإ، وهناك من يرى أن المقصود بما جاء فى الكتاب المقدس ليس ملكةً امرأةً بل ملكًا رجلًا كان معاصرًا لا لسليمان بل لأيوب. ويقترب كاتبا المادة فيما كتباه عن الروايات اليهودية مما كتبه أبراهام شمش المارّ ذكره. وهو نفسه تقريبا ما نجده فى مادة "Solomon" تحت عنوان جانبى هو ""Solomon and the Queen of Sheba حيث تلخص المادةُ ما جاء فى ترجوم شينى والإصحاح العاشر من سفر "الملوك الأول".
وبالنسبة إلى ترجوم شينى، الذى وردت فيه قصة سليمان وملكة سبإ والهدهد فإن بعض المبشرين والكتاب اليهود يزعمون أن القرآن قد استمد تلك القصة من ذلك الترجوم قالبين الوضع بذلك رأسا على عقب، إذ إن تاريخ ظهور الترجوم المذكور متأخر عن نزول القرآن لا العكس. وفى مادة "Targum Sheni" بـ"ويكيبيديا" الإنجليزية مناقشة للموضوع وتلخيص لما قيل بشأنه. وهناك بحث عن هذا الموضوع بعنون "Is The Qur'anic Story Of Solomon & Sheba From The Targum Sheni? " منشور فى موقع "Islamic Awarness" يفنِّد بنفس الطريقة تلك التهمة السخيفة.
وفضلا عن هذا فإن أحدا لم يستطع أن يمدنا باسم اليهودى الذى أخذ عنه نبينا






هذا عن المعجزات التى وقعت لموسى وسليمان



ليس ذلك فقط، بل لقد كان بمكنة محمد بل كان ينبغى لمحمد، ما دامت الحكاية تأليفا فى تأليف وتلفيقا فى تلفيق، ألا يعرض صورهم فى قرآنه نقية كريمة نبيلة كما هو الحال فى القرآن ويشوههم حتى يبدو هو شمسا ساطعة ما إن تظهر حتى تطمس أنوارهم جميعا. وفى هذه الحالة لن يكون بحاجة إلى اختراع أو تلفيق بل كل ما عليه هو أن يذكر ما كتبه الكتاب المقدس عنهم ويتمسك به أتباعهم ويرون أنه هو الصواب الذى لا صواب غيره، فيذكر أن نوحا كان سكيرا كبيرا حتى ليخلع فى غمرة سكره وغيابه عن الوعى كل ملابسه ويصير عريانا كما ولدته أمه وينطرح على الأرض كأى سكران طينة فيدخل ابنه عليه فيرى سوأته على نحوٍ مُزْرٍ، ويذكر أن إبراهيم تنازل عن زوجته سارة الجميلة للملك الذى كان طامعا فيها راضيا بما وهب الملك له من مواشٍ لقاء هذا التنازل، ويذكر أن لوطا قد سقته ابنتاه خمرا حتى فقد رشده ثم نامتا معه وحبلتا منه وهو لا يدرى كُوعَه من بُوعِه وأنجبت كل منهما أُمَّة كاملة من ولدها الذى حملته به فى الحرام منه، ويذكر أن موسى حين قتل المصرى إنما قتله عن عمد وتخطيط وسبق إصرار ودون ندم أو استغفار، ويذكر أن هارون هو الذى صنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه فى غياب موسى مع ربه فوق الجبل، ويذكر ما يقوله العهد القديم عن داود وزناه بامرأة جاره وقائد جيشه المخلص وتخلصه منه بمؤامرة إجرامية دنيئة لا يرتكبها أعتى عتاة القتلة المحترفين حتى يخلو له وجه المرأة، التى صارت أم ابنه سليمان، ويذكر أن سليمان هو صاحب "نشيد الأناشيد"، الذى فيه وفيه وفيه من كلام جنسى رهيب فى فحشه، وأنه عصى أمر ربه له بألا يتزوج من نساء الوثنيين، ثم لم يكتف بهذا بل أقام لهن فى قصره أصناما يعبدنها من دون الله... إلخ، إلخ، إلخ. لكن القرآن لم يفعل شيئا من ذلك قط. فما دلالة هذا كله؟ لا دلالة له سوى أن محمدا نبى كريم من عند رب العالمين.
وعَوْدًا إلى المعجزات نقول إنها لا تمثل للمؤمن بالله وبالنبوات أية مشكلة: فالله من جهة قادر على كل شىء، وهو خالق كل شىء على الوضع الذى نشاهده، ويستطيع سبحانه أن يغير هذا الوضع كما يشاء متى يشاء فى الموضع الذى يشاء مع من يشاء. كذلك فإيماننا بالنبوة معناه إيماننا بما هو فوق الواقع، فالنبوة ليست حدثا يوميا أو اعتياديا بل حدثا خارقا، إذ ليس بمكنة أحد مهما كان ذكاؤه وقدرته على التصرف وبراعته فى الحديث ورقيه فى السلوك أن يكون نبيا لمجرد أنه أراد أن يكون نبيا، بل النبوة تنزل على ناس اختارهم الله ولم يختاروا هم أن يكونوا أنبياء. بل إن النبوة لتجشمهم كثيرا جدا من المتاعب والأهوال حتى لتتعرض حياتهم لمؤامرات القتل فى كثير من الأحيان ويقضون عمرهم كله فى معاناة ومشاكل ما كان أغناهم عنها لو لم يكونوا أنبياء. ثم إن النبوة لا تقدم لصاحبها تعويضا عن تلك المعاناة المتصلة التى لا يقدر البشر عموما، إلا من أقدره الله، على تحمل آلامها وإزعاجاتها. بل إن قومهم قد يعرضون عليهم أن يعوضوهم عن النبوة بالمال والمنصب والرئاسة إن تركوا ما يدعون إليه، كما حصل مع نبينا محمد

ثم إن الأنبياء عند من يؤمنون بهم هم أناس صادقون لا يكذبون ولا يدلسون ولا يخترعون، بل مستقيمون يحترمون أنفسهم ويحترمهم غيرهم إلى أن يعلنوا نبوتهم، فعندئذ وعندئذ فقط يستدير أعداؤهم مائة وثمانين درجة فيتهمونهم بالكذب والجنون والسحر والكهانة والاتصال بالشياطين مع أنهم لم يروهم يكهنون أو يمارسون السحر أو يكذبون أو يتصرفون تصرف المجانين قط. وما داموا صادقين، وما دامت الكتب التى يتلونها على قومهم قد نزلت عليهم من السماء فعلا كما يقولون ما داموا صادقين ولا مصلحة لهم فى الكذب وادعاء النبوة فمن الطبيعى أن نصدق بما ترويه تلك الكتب من معجزات الرسل السابقين، وبخاصة أن الأنبياء الذين يتلون فى كتابهم السماوى تلك المعجزات لا منفعة لهم فى ذلك، فهم لا يتقربون إلى أتباع أولئك الأنبياء بل يحتوى الكتاب الذى جاؤوا به على انتقادات حادة لأولئك الأتباع حتى قبل أن يصطدموا بهم وتقوم بين الفريقين خصومات ومعارك مما يدل على أن ذلك كله صادق وجدير بالثقة، وليس هناك ما يدعو أبدا لتكذيبه أو التشكيك فيه.
وبالنسبة لى لقد حللت شخصية النبى محمد تحليلا شاملا فى ضوء الاتهامات التى يوجهها إليه المستشرقون والمبشرون من أنه كاذب اخترع الإسلام اختراعا وألف القرآن عن وعى وعمد وزعم أنه موحى به من السماء، أو أنه كان صادقا فى تصوره أنه نبى، لكنه تصور قائم على الوهم، فهو ليس مخادعا بل مخدوعا، أو أنه كان مريضا بمرض عصبى كالصرع والهوس والهلوسة، واتضح لى أن ذلك كله غير صحيح ولا ينطبق شىء منه على النبى محمد



وهناك المبادئ والقيم التى يدعو إليها القرآن والرسول

وقد سبق أن قلت آنفا إن محمدا لا يمكن أن يكون كاذبا مدعيا للنبوة ولا يمكن أن يكون مخدوعا واهما متصورا خطأ أنه نبى، وما هو بنبى، ولا يمكن أن يكون مريضا بمرض عصبى، وإن القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر لا من ناحية الروح السائد فيه، وهو الروح الإلهى بكل وضوح وسطوع، ولا من ناحية النبوءات التى صدقت كلها ولا من ناحية آياته التى تعرضت فى ذلك الزمن المبكر لأشياء قال فيها كلمته التى طابقت العلم الحديث بشأنها، وهذا كله موجود فى كتابى: "مصدر القرآن". ثم إن أسلوب القرآن يختلف اختلافا شاسعا عن أسلوب الحديث رغم اتحاد الموضوعات بينهما واتحاد السياق فيهما واتحاد نوع المخاطبين بهما واتحاد الوقت الذى كان يتوجه فيه

وهنا أصل إلى ما أريد، فالمطلوب التركيز على جوهر الدين والمبادئ التى أتى بها النبى والقيم التى دعا إليها ولون الحضارة التى أنشأها والثقافة التى خلقها، أما المعجزات فلا ينبغى بل لا يصح أن تكون مثارا للتنطع: أولا لأن القرآن سد باب المعجزات بالنسبة لمحمد

تعليق