(أطَـعتُ هَوَايَ في حُبِّ الغَوَانِي)
محمود بن كابر الشنقيطي
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلامُ على سيِّدنا ووليِّنا محمَّد بنِ عبد الله، وعَلَى آل بيتهِ وصَحَابَته ومن والاهُ واتَّبعَ هُداهُ إلى يوم الدِّين.
وبعدُ: فليعذُرني قارئُ هذَا العُنوانِ المُقتَبَس من الباروديِّ (محمود)

(الغانيةُ) عند العرب هي المرأة بارعةُ الجَمال المُستغنيةُ بحُسنها الخِلْـقيِّ عن مساحيق التجميل وأدَواته ومُستجدَّاته، ومعنى ذلك: أنَّها لا تحتاجُ لما تتداولهُ النِّساء ممَّا يزدَدْن به حُسنا في أعينِ النَّاظرينَ لأنَّها بالغةٌ من الحُسن أقصى ما يُؤمِّلْـنَـهُ من غير أن تتكلَّفَ في ذلك شيئاً، هذا بالنَّسبة لمدلول اللفظةِ، أمَّا القصَّةُ أيها القارئُ الكريمُ فهي أنَّ أحد أحبَّائي الطيبينَ من آلِ بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دَعاني إلى منزله وقد كان مستضيفاً ليلتئذٍ الدَّاعيةَ الهنديَّ البريطانيَّ الدكتور/ ذاكر نايْك.
دخَل علينا الرَّجُلُ الأسمرُ الرَّبعَـةُ البسَّامُ فجَذَبَني لاستدَامة النَّظَر المُبَاشر لوجههِ نورٌ لألاءٌ يصرُخُ بصوتٍ تفهمُهُ الأحداقُ ويقول (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) والرَّجُلُ يُسَلِّمُ على الحَاضرينَ فرداً فرداً، ويُهدي لكلِّ واحدٍ منهم ابتسامةً تفعلُ بالألبابِ ما تفعلُ القهوةُ بالشَّاربِ، وكأنِّي بكُل صاحبِ وجهٍ يقولُ بعد فراغهِ من مصافَحة هذا الرَّجُل الوضَّاء (تَوَلاّني بِمَــعْرُوفٍ ** كسَيْلِ الدِّيَمةِِ المُسْبَلْ) حتَّى انتَهى إليَّ مُسَلِّماً فازدَوَجت مصافحةُ الأيدي بيننا بعِناقِ الأرواحِ التي تصافَحتْ من قبلُ فور دُخول الرَّجُل البسَّامِ، وكان لصوته في أذني عند السلامِ وقعٌ جميلٌ (كَخَفقِ الحُليِّ عَلَى الغَانيَة) وأخذَ الضَّيفُ مكانَهُ فكانَ العَجَبُ الأوَّلُ – ولن أُنهِي عجَائبَه – أنَّهُ لا يُحسِنُ العَرَبيَّةَ إطلاقاً، فبدأ كلمتَهُ بالبسملة والحمدلة والثَّناء على الله والصلاة والسَّلام على رسوله، وأخذ يتحدثُ عن حال الدَّعوة إلى الله في بريطانيا، وعن تجربته الشخصية في المناظَرة والحِجَاج مع القَسَاوِسَة والرُّهبان والأحبار ورجال الدين البوذيينَ والسيخ وغيرهم.
وتذكَّرتُ أثناء سردهِ قاعدَةً أهدانيها أحَدُ أشيَاخي الألبَّـاء يوم أوصاني بالقرآن وقال (لقد سَبَرتُ حالَ كثيرينَ ممَّن أبلوا في الإسلام بلاءً حسَناً فوجدتُّ الجميعَ يقتَسمونَ جانبَ العناية العُظمَى بالقرآنِ فعليكَ بالقُرآنِ) وفعلاً: كانَ د/ ذاكر مُصَدِّقاً لما بينَ يديَّ وعينيَّ وجَنبَيَّ من تلك الوصيَّـة الجَموعِ فهُو يحفَظُ القرآن بشَكلٍ يندُرُ في العَرَب قبل العَجَمِ، إذ يحفظُه بأرقام آياته وسوره وأجزائهِ، وهذه القضيَّـةُ لا أقبلُ لأحدٍ أن يُوسوسَ لهُ الشَّيطَانُ بأنَّ فيها مجَالاً للتزيًُّد والمُبالغَة، فقد حكى ذلك عن نفسه في غير موقع،وحكاه عنه غيره بحضرته فأقرَّ، وكُنتُ عن يمينهِ بعد انتهاء المحاضرة وأثناء الإجابة على الأسئلة وهو يستشهدُ على الخَلط الذي يتعمَّدُهُ الغَربُ لتشويه مفهومِ الجِهاد وأنَّ الجهَاد أشملُ من أن ينحصرَ في القتال فقط، فحينَ أراد الاستشهادَ لذلك قال كما في الآية (8) من سورة العنكبوت




ومن لطيفِ إحسان الله بهِ وإليهِ أنَّهُ كان يُعاني تمتمـةً في كلامه منذ نطَقَ في صباهُ حتى حصل على شهادة الطبِّ في جراحة الأطفالِ، ولما ابتدأ خوضَ غمار الدَّعوة إلى الله وحِجَاجِ أهل الكِتابِ أكرمهُ اللهُ بزَوال هذه العلَّـةِ المُلازمَة فصار يفقِدُها أوقاتَ المناظَراتِ ثُمَّ زالتْ علَّتُه تلكَ نهائياً فلم يعُد يُتمتِمُ ويتتأتأُ أبداً، ولم نسمع له في حديثه الذي زاد على السَّاعة تمتمةً من هذا القبيل، وذكَّرَني ذلك الموقفُ بأنَّ الله آتَى الدكتور/ ذاكر ما أوتيَهُ موسَى من قبلُ، ولكن بغير سُؤالٍ وطلبٍ كما في سورة طه قال موسى










وممَّا نفعهُ الله به في دعوتهِ اعتمادُه الكليُّ على الاستدلال العقليِّ المحضِ عند مناظرة رؤوس الكفر والفسوق من القساوسة والرهبان والأحبار مما يجعلُ الحائرَ والمحايدَ يوقنُ أن لا سبيلَ غير سبيل الحقِّ وهذا أسلوبٌ قرآنيٌّ مشروعٌ


ومن غرائب دعوتهِ والقَبُول الذي فضَّلهُ الله بهِ أنَّـه كثيراً ما يجعلُ بينهُ وبينَ قسيسٍ موعداً مشهوداً للمناظرة ثُمَّ تُلغَى المُناظَرة بسبب إسلام صاحبِها قبل أن يحينَ الموعدُ.
وهو حين يرى من يرجو إسلامهم لا يذكُر لهم من محاسن الإسلام شيئاً، بل يستخرجُ مكنوناتهم مما تُوسوسُ به شياطين الجنِّ والإنس من شُبَه يتشَوَّهُ بها الإسلامُ ثم يبدأ بنقاشِها بالمنطق العقليِّ المحضِ حتى لا يجدَ المُقابلُ أدنى حرَجٍ من القناعة بأنَّ الإسلامَ هو دين الله الحقُّ، وهذه الطريقة أورثته خبرةً بهذه الشُّبَه حتى حصَرها في 20 شبهةً وقال إنه من خلال عمله الدعويِّ وجد العوائق والشُّبَه الحاجزَة عن القناعة بالإسلام منحصرة في هذه العشرين، ولذلك كتبها ووضع إجاباتها في كتاب مستقل وطبعه ووزَّعه، وهو الآن تحت الترجمة للعربية ، نسأل الله أن يوجب له به مقعد صدقٍ في أعلى الفردوس.
وأفادنا أن هذه الشبه العشرين مُرتَّبةٌ بحسب كثرة الورود على الأذهان واعتراض الملاحدة وأهل الكتاب بها، غير أنَّ لها أزمنةً تتغير فيها مواضعُها في الترتيب بحسب كثرة الإثارة، ومن ذلك شبهة مفهوم الجهاد في الإسلام فقد كانت في المرتبة 13 و 14 دائماً وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قفزت للمرتبتين الأولى والثانية.
والدكتور/ ذاكر فرحٌ جداً بأن أقامه الله هذا المقام الدعوي وهو يقول (كنتُ طبيبَ أبدانٍ فجعلني الله طَبيب أرواح) يعالج أرواح البشرية في محاضراته وخطبه ومناظراته التي غطت كثيراً من مساحة الكرة الأرضيَّـة في الهند، وأمريكا، وكندا، وبريطانيا، والسعودية، والبحرين، وعمان والإمارات، وقطر، والكويت، وجنوب أفريقيا، وموريشيوس، وأستراليا، وماليزيا وسنغافورة، وهونج كونج، وتايلند، وجويانا إضافةً إلى الإذاعات والقنوات التي تُتيح للناس مشاهدته في أكثر من 100 دولة ويهتم بعضها بإعادة خطبته في عطلة الأسبوع، وهذا باختصار مُجمل ما دار في هذا المجلس النافع، وبقيت لديَّ بعضُ الإشارات الشخصية المهمَّـة:
• لمست في حديث هذا الرجل قول الله تعالى


• لاحظتُ انضباط الرجل الشديد في وقته فقد حضر مبكراً وسأل عن الوقت المُتاح له والتزم به، ومن كان في مواقيته كذلك – بحسب من خَبرتُ – فهو لما سواها من أمور الحقوق والدعوة والتعليم أحفظُ وأضبط، والعكسُ (أصحُّ) فمن لا يحترم أوقات النَّاس ومواعيدَهم فهُو لما سوى ذلك أضيعُ، وهذا من شؤم خصال النفاق إذا ابتُلي المرءُ بإحداها.
• لفت انتباهي جداً في هذا المحاضر تواضعه الشديدُ في السَّلام والابتسامة والهيئة والملبَس برغم شهرته العالمية، ومتابعته المليونية، وجنسيته البريطانية، وشهادته الطبية الجراحية، وكثرة المهتدين على يده الذين جاوزوا الآلاف وبالرغم من أنه احتلَّ المرتبة 82 في قائمة "المئة هندي الأكثر قوة" واحتلَّ كذلك المركزالثالث من قائمة أعلى 10 معلمين روحيين يحظون بكثرة المتابعة وهو المسلم الوحيد في هذه القائمة، وهذا كله لم يزدِ الرَّجُـلَ إلا تبسُّطاً وخفضَ جَناحٍ للمؤمنينَ، وهذا هو المفترضُ في كل مسلم يعرفُ معنى قوله



• ومن جماليَّات هذا الدَّاعية نسبته الفضلَ لأهلهِ (وإنَّ الفَضلَ يَعرِفُهُ ذَوُوهُ) فلم يستنكف أن يردد أكثرَ من مرَّة أنهُ حسنةٌ من حسنات الداعية أحمد ديدات، والذي كان مُعجَباً بتلميذه ومُشيدا به لدرجةٍ قال فيها له (إنَّ ما حققته أنت في أربعِ سنواتٍ حقَّقته أنا في أربعين سنةً) يعني بسبب ما توفر حديثاً من وسائل الاتصال والتواصل، وقد قال لنا إن أحمد ديدات حولني من طبيب أبدان لطبيب أرواح.
• اتَّعظتُ كثيراً أثناء هذه المحاضَرة من سعة رحمة الله الذي عدَّد أبواب الجنَّـة وقسَمها بين عباده فمنهم من يدخُلها مع رحمة الله لبلائه في الدعوة وآخر لبلائه في كف الأذى وآخر لبلائه في الشفاعة الحسَنة وآخر لبلائه في تبيين سبيل المجرمين وآخر لبلائه في السلامة منهُ والمهم أن يعلم الله في قلوبنا خيراً و (نخليها على الله).
• وأختم بهذا الاستنباط العجيب من هذا الداعية الأعجب فقد قال مرةً لبعض جُلسائه من المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن: إن في القرآن آيةً يستحيل معها صدق الشيعة في اتهام الشيخين



فلم يجيبوهُ فقال: إذا تدبَّرنا هذه الآية جيداً فكيف يُظَـنُّ بعد هذا الوعيد أن الشيخين



وختاماً: فهذه هي الغانية التي أطعتُ فيها هوايَ، وعلَّمتني أن ما نتدثر به ونسعى إليه من الألقاب والمناصب ليس إلا مساحيقَ للتَّجميل فيما بيننا، أما (الغَوَاني) أو (الغَانُونَ) إن صحَّ التذكيرُ فهم أغنياء عن إنفاق الأعمار في هذه المساحيق غير مأمونة النتيجة فليس كل من لبَّد بها وجه عُمُره ومسيرته العلمية يستحسنُ الناسُ منظره ويجمُل في أرواحهم، وأكبر دليل على ذلك أن هذه المساحيقَ لم تُنط بها رفعةٌ عند الله أو ضَعةٌ عنده.
وأرجُو ألاَّ يقفزَ إليَّ قافزٌ كبشير النَّصر أو نذير الحَربِ ليحملَ مآخذَ وملاحظاتٍ على الدُّكتور/ ذاكر ومنهجه وغير ذلك مما يَنصَبُ في تسطيرهِ حُماةُ الزَّوايا، ولا يسلمُ منهُ إلا المعصومُ المُنتقى


ولا تعذلاني في الغواني فإنّني
أَرَى فِي الغواني غَيْرَ ما تَرَيَانِ

http://vb.tafsir.net/tafsir31549/
تعليق