{ النقد }
{ القاعدة النحوية في ضمير الغائب }
قال صاحب المحاضرة : "القاعدة النحوية أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة, وأن يطابق هذا المذكور في التذكير والتأنيث وفي الإفراد والتثنية والجمع. هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء, فإن عرض ما يوهم تأخر المرجع عن الضمير تأولوا وتكلفوا لإثبات أن هذا التأخر اللفظي لا يستلزم تأخر الرتبة. وهم على كل حال لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه".
لم يوجد في القواعد النحوية منذ نشأت إلى يوم انعقد مؤتمر المستشرقين قاعدة تقول: إن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور لفظاً ورتبة, وإنما قال النحاة -كما قال ابن مالك في التسهيل-: الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب. ويعللون هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب تفسرهما المشاهدة وضمير الغائب عارٍ عن هذا الوجه من التفسير, فكان الأصل تقديم معاده ليعلم المراد بالضمير قبل ذكره, وأجمعوا بعد هذا على أن العمل على هذا الأصل غير واجب, وسوَغوا أن يكون الضمير عائداً إلى متأخر في اللفظ متى كانت مرتبته في نظم الكلام متقدمة, فلم يقع بينهم اختلاف في صحة المثل السائر " في بيته يؤتي الحَكَم" وما يضاهيه في احتوائه ضميراً يعود على متأخر في اللفظ متقدم في الرتبة كما قال تعالى: (فأوجس من نفسه خِيفةً موسى)، وقال أرطأة بن سهية:
[poem=]تمنت وتلك من سفاهة رأيها=لأهجوها لما هجتني محاربُ[/poem]
فـ"الحَكَم" في المَثَل، و"موسى" في الآية، و"محارب" في البيت قد وردت مفسرةً لضمائر ذكرت قبلها, ولم يجد النحاة فيها أو في أمثالها ما يخالف قاعدة مطردة حتى يحتاجوا فيها إلى تكلفٍ وتأويل, بل النحاة أنفسهم قرروا قاعدة صحة عود الضمير على ما كان متأخراً في اللفظ وأصل رُتبته في نظم الكلام التقديم, وشواهد هذه القاعدة في القرآن وكلام العرب بالغة من الكثرة ما يمنع أن يحوم حولها خلاف, والذي جرى فيه الخلاف بينهم إنما هو الإتيان بالضمير مفسراً باسم يتأخر عنه لفظاً ورتبة نحو "زان علمهُ محمداً" فالجمهور يذهبون إلى فساد مثل هذا التركيب ويذهب الأخفش وابن جني وابن مالك إلى صحته, ومن شواهدهم على هذا قول حسان:
[poem=]ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً=من الناس أبقى مجدُه الدهر مطعما[/poem]
فالحقيقة أن النحاة لا يوجبون عود الضمير على متقدم في اللفظ والرتبة, بل يجيزون عوده على متأخر في اللفظ وهو متقدم في الرتبة, كما يجيزون عوده على متقدم في اللفظ ورتبته التأخير نحو قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُه بكلمات} . فمن الخطأ المكشوف قول المحاضر: "القاعدة النحوية أن ضمير الغائب يجب أن يعود إلى مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة".
وقول المحاضر: "هذه القاعدة شاملة لا يقبل النحويون فيها استثناء" حكمٌ لا يطابق الواقع فقد عرفت أن المحاضر حرّف القاعدة النحوية ولم يأت بها على وجهها الصحيح, وما كان منهم إلا أن قالوا: "يتمنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة" والفرق واضح بين هذه العبارة وبين أن يقال: يوجبون عود الضمير على مذكور يتقدمه لفظاً ورتبة.
ثم إن قاعدتهم الصحيحة –وهي أوسع نطاقاً من القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين– يقبلون فيها الاستثناء, وقدا استثنوا بالفعل أبواباً من الكلام نطق فيها العرب بضمائر ترجع إلى متأخر عنها لفظاً ورتبة, ولكثرة ما ورد من شواهدها أدخلها النحاة في مقاييس اللغة ولم يمنعوا أحدا من أن يصوغ الكلام على طرائقها, وهذه الأبواب المستثناة يعرفها طلاب علوم العربية من قبل أن ينتقلوا إلى كتبها العالية, وإليها يشير ابن مالك في كتاب التسهيل بقوله: "ويتقدم غير مَنوي التأخير إن جُر بِرُبَّ, أو رُفع بنعم أو شبهها, أو بأول المتنازعين, أو أبدل منه المفسر, أو جعل خبره, أو كان المسمى ضمير الشأن عند البصريين أو ضمير المجهول عند الكوفيين".
فالنحاة يستثنون من القاعدة القائلة "يمتنع عود الضمير على متأخر ورتبة" هذه الأبواب التي سردها ابن مالك, وهي مبسوطة في كتب النحو بشواهدها العربية وأمثلتها.
وما زعمه المحاضر من أنهم لا يقبلون استثناء في قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه على كل حال, لا يستقيم مع إجازتهم إعادة الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في باب "رُبّ" وتصريحهم بأنه يلتزم في هذا الضمير الإفراد والتذكير وإن كان مفسره جمعاً أو مؤنثاً, ومن شواهدهم على هذا قول الشاعر:
[poem=]ربه فتيةً دعوت إلى ما=ورث المجد دائباً فأجابوا[/poem]
{ زعم المحاضر أن في القرآن ضمائر خارجة عن القاعدة النحوية }
قال المحاضر "ولكن هذه القاعدة بجزأيها إن اطردت في الشعر والنثر, فهي لا تطرد في القرآن الكريم, ذلك أن في القرآن الكريم ضمائر لا تعود إلى مذكور يتقدمها لفظاً ورتبة, وفيه ضمائر يظهر أنها تعود إلى مذكور ولكنها لا تطابقه تذكيراً وتأنيثاً أو أفراداً وتثنية وجمعاً".
قد أريناكم كيف أورد المحاضر القاعدة بعبارة غير صادقة, وفصلنا لكم القول في أنهم لم يوجبوا عود الضمير على متقدم لفظاً ورتبة, ولم يقولوا سوى أن الأصل في مرجع الضمير أن يكون متقدماً في نظم الجملة, وسوغوا بإجماع للمتكلم أن يخالف هذا الأصل ويأتي بالضمير راجعاً إلى متأخر في اللفظ متقدم في الرتبة متى شاء, ومنهم من أباح له أن يأتي بِه راجعاً إلى متأخر في اللفظ والرتبة على نحو ما مثلنا, ورأى أن الشواهد التي ظفر بها من كلام العرب كافية لأن تجعله باباً مفتوحاً في وجه كل من يأخذ لسانه بالعربية الفصحى.
وإذا استبان لكم أن القاعدة التي وصفها المحاضر في مؤتمر المستشرقين وعزاها إلى علماء العربية لم يقلها أحد منهم فلا ضرر في أن تطرد أو لا تطرد, ونعترف للمحاضر بأنها لم تطرد ولن تطرد في شعر ولا نثر, كما أنها لا تطرد في القرآن الكريم.
أما القاعدة الصادقة وهي القائلة بامتناع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة, فهي –بعد رعاية ما استثنى منها– مطردة في القرآن الكريم حكماً مُسمّطا.
[poem=]{ حصر هذه الضمائر في تسعة أنواع }
( النوع الأول والثاني والثالث )[/poem]
تحدث المحاضر عن الضمائر التي يزعم أنها خارجة عن القاعدة النحوية , وحصرها في أنواع تسعة فقال:
"الأول الضمائر التي يراد بها الذين تعودوا حوار النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته واستفتاءه في مكة والمدينة من المسلمين وغير المسلمين. الثاني الضمائر التي يراد بها القرآن. الثالث الضمائر التي يراد بها النبي نفسه" ثم قال: "ويمكن التمثيل لهذه الأنواع الثلاثة بقوله تعالى في سورة هود : {أم يقولون افتراه} فالواو راجعة إلى المشركين من أهل مكة وهم لم يذكروا, وفاعل افترى راجع إلى النبي وهو لم يذكر, ومفعوله راجع إلى القرآن وهو لم يذكر. ومن النوع الأول كل الآيات والجمل التي تبتدئ بقوله تعالى: {ويسألونك} ومن النوع الثاني قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} من النوع الثالث قوله تعالى: {عبس وتولى}.
وضع المحاضر تلك القاعدة الهازلة وعزاها إلى النحويين, ثم بني عليها دعوى أن ضمائر الغيبة في القرآن ترد على خلاف القاعدة النحوية, وأخذ يسوق على هذه الدعوى من الآيات ما يخيل به إلى السامع أنها خارجة عن قانون علماء العربية, وإذا كنا على علم من الفرق بين وجوب عود الضمير على مذكور تقدم لفظاً ورتبة, وهو القاعدة التي يعزوها المحاضر إلى علماء النحو, وبين قولنا: "يمتنع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة إلا ما استثنى" وهو القاعدة النحوية الصحيحة, عرفنا أن هذه الآيات إنما هي خارجة عن القاعدة المصنوعة في مؤتمر المستشرقين حيث لم تعُد فيها الضمائر على مذكور تقدم لفظاً ورتبة, وهي غير مخالفة للقاعدة الصحيحة إذ لم يجيء فيها ضمير عائد على متأخر لفظاً ورتبة, وقصارى ما يقال فيها : إنها راجعة إلى ما استغنى عن ذكره بما يدل عليه من قرائن في نفس اللفظ و أحوال أخرى تحف بمقام الخطاب, وهذا الوجه من استعمال ضمائر الغيبة قد قرره النحاة والبيانيُّون ولم يروه منافياً لقاعدة من قواعدهم في حال, فهذا ابن مالك يقول في كتاب التسهيل "الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل, وهو إما مصرح به لفظه أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حساً أو علماً, أو يذكر ما هو له جزء أو كلٍ أو نظير أو مصاحب بوجه ما" . وهذا ابن الحاجب يقول في الكافية: "والمضمر ما وضع لمتكلم أو مخاطب أو غائب تقدم ذكره لفظاً أو معنى أو حكماً" وهذا السكاكي يقول في كتاب المفتاح عند البحث عن الداعي إلى أن يكون المسند إليه ضمير غيبة: "أو كان المسند إليه في ذهن السامع" وقال العلامة السيد في شرحه مبينا حضور المسند إليه في ذهن السامع: وحضوره فيه إما لكونه مذكوراً لفظاً أو معنى, وأما لكونه في حكم المذكور لقرائن الأحوال لفظية كانت أو معنوية.
وقال سعد الدين التفتزاني في الشرح المطول: وقد يكون وضع المضمر موضع المظهر لاشتهاره ووضوح أمره كقوله تعالى: {أنا أنزلناه} أي القرآن, أو لأنه بلغ من عظم شأنه إلى أن صار متعقل الأذهان نحو: هو الحي الباقي، أو لادعاء أن الذهن لا يلتفت إلى غيره كقوله في المطلع:
زارت عليها للظلام رواق
وقد ساق النحاة من الآيات ومنظوم العرب ومنثورهم شواهد على أن ضمير الغيبة يصح عوده على ما لم يتقدمه في اللفظ, وإنما حضر في ذهن السامع بقرائن الأحوال لفظية كانت أو معنوية, ومن هذه الشواهد قول الشاعر:
[poem=]وما أدري إذا يممت أمرًا=أريد الخير أيهما يليني[/poem]
فالشاعر لم يذكر إلا الخير, وأتى بضمير المثنى راجعاً إليه وإلى الشر الذي يصاحبه في الخطور على الذهن غالباً. ومنها قول الشاعر:
[poem=]وكل أناس قاربوا قيد فحلهم=ونحن خلعنا قيده فهو سارب [/poem]
فمرجع الضمير في قوله: ""قيده" لم يتقدم في اللفظ وإنما عُلم من سياق الجملة قبله, والمراد قيد فحلنا. ومنها قول الشاعر :
[poem=]فإنك والتابين عروةُ بـعد مــا=دعــاك وأيدينا إليه شوارع[/poem]
[poem=]فكالرجل الحادي وقد تلع الضحى=وطيـر المنايا فوقهن أواقع [/poem]
فالضمير في قوله "فوقهن" يعود إلى الإبل المنبّة عليها لفُظ الحادي, فإن الحادي يستدعي إبلاً محدودة فأغنى ذلك عن ذكرها. ومنها قول أبي كبير الهذلي:
[poem=]ولقد سريت على الظلام بمغشم=جـلد من الفتيان غير مثقل
ممن حملْن به وهـنّ عـواقدٌ=حبل النطاق فشب غير مهبل [/poem]
فالضمير في قوله: "حملن" عائد إلى النساء ولم يجر لهن ذكر, ولكن المراد مفهوم من لفظ "حمل" وما وقع فيه من سياق الكلام. ومنها قول لبيد:
[poem=]حتى إذا ألقت يداً في كافر=وأجنَّ عورات الثغور ظلامها [/poem]
فإنه أراد حتى إذا ألقت الشمس يداً في الليل إذ غربت, ولم يجر للشمس ذكر في شعره . ومنها قول العباس بن عبدالمطلب:
[poem=]من قبلها طبت في الظلال وفي=مستودع حيث يخصف الورق [/poem]
فإنه يريد من قبل الأرض أي قبل وجودك فيها. ولم يجر ذكر للأرض في كلامه ...يتبع