برنامج (لنحيا بالقرآن) للدكتور الخضيري والدكتور الربيعة

إنضم
7 مايو 2004
المشاركات
2,562
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الخبر - المملكة ا
الموقع الالكتروني
www.islamiyyat.com
برنامج لنحيا بالقرآن
د. محمد الخضيري ود. محمد الربيعة

بعرض يومياً في رمضان على قناة الخليجية الساعة 7.30 مساء بتوقيت مكة المكرمة.

هذا تفريغ حلقة اليوم وإن شاء الله ييسر الله تعالى لي تفريغ الحلقتين الأولى والثانية.

الحلقة الثالثة:
د. محمد الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فحياكم الله أيها الأخوة الفضلاء في هذا المجلس الثاني (لنحيا بالقرآن) هذا المجلس سنتحدث فيه عن سورة عظيمة في كتاب الله تعالى ونفتتح بها وهي أعظم سورة من كتاب الله تعالى وما أحرانا أن نقف معها وقفات، وهذه السورة هي سورة الفاتحة. سورة الفاتحة تأملوا كيف جاءت في بداية المصحف افتتح الله تعالى بها الكتاب وتأملوا كيف أن الله عز وجل شرع لنا قراءتها في اليوم أكثر من 17 مرة في الفرائض وأكثر من ثلاثين مرة فرضاً ونفلاً، شيء يدعو إلى التساؤل ما هي الحكمة وما هو السر من تكرار هذه السورة العظيمة في اليوم والليلة أكثر من ثلاثين مرة؟
د. محمد الخضيري: لأنها أعظم سورة في القرآن ولأنها تضمنت المعاني الجليلة التي يدور عليها الدين
د. الربيعة: ولأنها أيضاً ربما نستطيع أن نختصرها في مقصدها أنها تحقيق العبودية لله عز وجل إنها تدعو المسلم إلى تحقيق عبودية الله عز وجل، إنها تعرّف المسلم بربه وتعرف المسلم بحقيقته في هذه الحياة ولماذا خُلِق وتعرّف المسلم بالطريق التي يسلك به هذه العبادة. إنها سورة يحتاجها المسلم في حياته كلها، يحتاجها المسلم ليجدد عبوديته لله ويحققها في كل يوم من أيامه وفي كل وقت من أوقاته. بل في كل لحظة أنت بحاجة لأن تجدد العبودية لله لأنك ما خلقت إلا لأجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) إذن نستطيع أن نقول أن هذه السورة هي سورة العبودية التي يحتاجها المسلم في حياته كلها إنها سورة تعرفك برسالتك في هذه الحياة.
د. الخضيري: تعرفك بربك وتعرفك بنفسك من أنت بين يدي الله ومن هو الله بالنسبة لك؟
د. الربيعة: لو قرأنا هذه السورة بهذا المعنى أنها تجدد عبوديتك لله حقيقة لوجدنا تجديدها في نفوسنا ووجدنا أثرها في أنفسنا حينما نقرأها في الصلاة يجب وينبغي أن نستشعر هذا المعنى العظيم أنها تحيي قلوبنا وتصلها بربنا وتحقق لنا العبودية لله سبحانه وتعالى. مقاصد هذه السورة كثيرة ومن مقاصدها أنها اشتملت على مقاصد القرآن كله وهو التوحيد الجامع لهذا الشرع الحكيم. ولذلك سميت باسماء كثيرة أكثر من عشرين إسماً الفاتحة والشافية والأساس والواقية والحمد، لماذا؟ يقول العلماء أن تكرار إسم السورة دليل على شرفها وتعدد أغراضها فهذه السورة لها أغراض كثيرة هي أساس المسلم هي وقاية للمسلم وهي شفاء للمسلم وهي تعريف للمسلم بربه عز وجل. لعلنا بعد هذه المقدمة ندلف إلى آياتها.
د. الخضيري: نأخذ الآية الأولى وهي قول الله عز وجل (الحمد لله رب العالمين) ونحن قد حددنا منهجنا في هذا البرنامج أن لا نخوض في نفسير الآية وتحليل الألفاظ كما هو موجود في برامج التفسير نحن نريد أن نقول لإخواننا المشاهدين دعونا نجعل هذه الايات حية في واقعنا عندما نقرأ آية نفرك كيف نطبق هذه الاية في حياتنا وكيف نعمل بها؟ هذا هو المقصود الأعظم. وقد يقول كثير من الناس أنا أقرأ القرآن لأجل الثواب، لأجل تحصيل الحسنات، نقول هذا مقصد طيب ولكنه ليس كافياً في تحقيق الهداية. فالهداية تختاج إلى أن تأتي إلى عالم القرآن وأنت تطلب الهداية، تطلب العمل، تريد أن تعيش بالقرآن، تريد أن تحل مشاكلك بكتاب الله عز وجل وكلامه، فأنت تتلقى الأعمال والأوامر مثل الجندي في ساحة المعركة تأتيه الأوامر فينفذ كذلك هذه أوامر من الله عز وجل لي ولك ولكل مسلم ومسلمة من حين ما تأتي الآية يعلم أن فيها أمراً ولها هد ويجب على المسلم تجاهها عدد من الأشياء. فمثلاً (الحمد لله رب العالمين) أنا سأذكر شيئاً وستبقى أشياء لكم أيها المشاهدون والدكتور محمد يشير إلى بعض منها أيضاً. (الحمد لله رب العالمين) تذكرني بأهمية الحمد كيف افتتح الله كتابه بقوله (الحمد لله رب العالمين) إحمد الله على نعمة الإسلام، إحمد الله على نعمة الصحة، إحمد الله على نعمة اللغة، إحمد الله على نعمة الأمن، إحمد الله على نعمة اللباس، إحمد الله على نعمة الأذنين والفستين واللسان والجبهة والعينين والرأس، إحمد الله على نعمة الولد، على نعمة الزوجة، على نعمة الوطن، على نعمة السكن، على نعمة النسب، إذن الحمد من أشرف الأشياء وحمدك لله عز وجل دليل على عبوديتك لله جل وعلا وعلى اعترافك بفقرك لله جل وعلا
د. الربيعة: ما هو الحمد؟
د. الخضيري: إذا ذكر الإنسان ربه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والكمال والجمال وهو يحبه ويعظمه فقد حمده. فمن ذكر ربه سبحانه وتعالى بصفاته وأسمائه الحسنى وهو محب له ومعظم فهو حامد لله.
د. الربيعة: إذن هو الثناء بالكمال أو وصف الله تعالى بالكمال المطلق.
د. الخضيري: ويمكن أن يشار إليه بمثل هذا التعبير. فنقول عندما ينعم الله عليك بنعمة تحمد الله، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى وتتأمل في أسمائه وعظمته وجلاله وكماله ونعوت جماله فتحمد الله هذا هو حقيقة الحمد ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "والحمد لله تملأ الميزان" لماذا؟ لأنك إذا قلتها كأنما ذكرت أسماء الله الحسنى جميعاً واعترفت لله بأنه هو صاحب الفضل والكمال والجمال والجلال سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: يقولون الحمد ذكر وشكر، أنت هنا تذكر الله وتشكره وأفضل الدعاء (الحمد لله)
د. الخضيري: ولذلك نقول لإخواننا دائماً وأبداً إحمدوا الله، إذا بلغتم رمضان إحمدوا الله، إذا جاء العيد إحمدوا الله، إذا جاء الحج إحمدوا الله، إذا ذبحتم اضاحيكم إحمدوا الله، إذا أكلتم إحمدوا الله، إذا لبستم إحمدوا الله، إذا قمتم ونمتم إحمدوا الله.
د. الربيعة: وكثيراً ما أقف عند قوله :إن الله يحب من عبده إذا أكل الأكلة أو اللقمة فيحمده عليها.
د. الخضيري: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها.
د. الربيعة: لقمة لا تساوي عندك شيء أيها الإنسان وهي ليست شيئاً في ما عند الله ومع ذلك يحب الله ويرضى من عبده إذا أكل اللقمة أن يحمده عليها فكيف بنا بالنعم العظيمة التي منحنا الله تعالى إياها وأعظمها نعمة الإسلام ونعمة القرآن ونعمة الشرف بولاية الله عز وجل وأن نكون من المؤمنين هذه تستحق الحمد منا ليل نهار. ولذلك أقول الحمد مما يزيد الإنسان قرباً وحباً لربه ولطاعته لأنك كلما تذكر شيئاً وتكثر من ذكره تتقرب إليه أكثر والحمد يملأ قلبك سروراً ويملأ قلبك رضى بربك. ولله المثل الأعلى لو جاءك إبنك الصغير فتعطيه هدية فيثني عليك ويقول لك أنا أحمد الله أنك والدي ستسر سروراً كثيراً والله سبحانه وتعالى يحب الحمد لنفسه وهو أهل الحمد بل هو الحمد سبحانه وتعالى فما أحرانا أن نكثر الحمد لله عز وجل.
د. الخضيري: ولذلك علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إذا انتهينا من الطعام أن نقول الحمد لله الذي أطعمنا هذا الطعام ورزقناه من غير حول منا ولا قوة، هذا حمد لله عز وجل.
د. الربيعة: ومقام الحمد مقام عظيم أعظم مقام أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم هو مقام الحمد في مقام الشفاعة عندما يأتي ويسجد تحت العرش فلا يدعو وإنما يحمد الله عز وجل فيفتح الله له من المحامد بما لم يفتح عليه من قبل ويقال له إرفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفّع، إذن أنت ايها المسلم عندما تحمد الله على هذه النعمة فإنك ستزاد منها ويعطيك الله فضلها.
د. الخضيري: لعلنا ننتقل إلى قوله تعالى (الرحمن الرحيم)
د. الربيعة: الرحمن الرحيم حينما تتأمل الآيات الأربع الأولى فهي مشتملة على أعظم الصفات لله عز وجل صفة الألوهية والربوبية والرحمة والمُلك يقول إبن القيم رحمه الله أن هذه الصفات هي أصول صفات الله وأسمائه، جميع صفات الله ترجع إلى هذه الصفات الأربعة.
د. الخصيري: ولذلك افتتح بها القرآن واختتم بها القرآن في سورة الناس قال الله عز وجل (قل أعوذ رب الناس ملك الناس إله الناس)؟
د. الربيعة: وصف الرحمة وصف عظيم فما نحن فيه من هذه النعم هو من رحمة الله بنا ومن أعظم الرحمة بنا هدايته لنا إلى دينه، وإنزال هذا الكتاب علينا ومن أعظم رحمته بنا عز وجل لطفه بنا ومن أعظم رحمته بنا أن لا يؤاخذنا بذنوبنا
د. الخضيري: بل يجب أن نأخذ من هذه الرحمة الإلهية أن نكون نحن رحماء ونستفيد من ذلك أن نعزز قيمة الرحمة في حياتنا فنرحم زوجاتنا وأولادنا وطلابنا ومرؤوسينا وآباءنا وأمهاتنا ومن حولنا.
د. الربيعة: إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
د. الخضيري: ولما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجل فرآه يقبل واحداً من الأطفال فقال أوتقبل الأطفال؟ إن لي عشرة من الولد لم اقبل واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك. قيمة عظيمة من قيم هذه الدين أمر الله عز وجل بها وجعلها رمزاً من رموز الأنبياء ومعلماً عظيماً من معالم دينه أن هذا الدين نزل بالرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء) فرسول الله لا يمكن إلا أن يامر بما هو رحمة ولا يمكن أن يدل إلا على ما هو رحمة وإن بدا لنا أن هناك شيء من المشقة فإن عاقبته الرحمة وعلينا أن ننتبه لذلك ولذلك يجب علينا أن نتراحم وأن يوصي بعضنا بعضاً بالرحمة كما قال عز وجل (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿١٧﴾ البلد) كل واحد منا يوصي صاحبه لأن يرحم
د. الربيعة: والله نحن بحاجة لهذا في الوقت الذي نعيش فيه المسلمين الآن والكثير من الحاجة والفقر والأحداث والمحن نحن بحاجة إلى أن نتراحم
د. الخضيري: ولذلك قال الله تعالى معاتباً المشركين وذاماً لهم (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) الفجر) لأنهم لا يحض بعضهم بعضاً على إطعام المساكين ورحمتهم.
د. الربيعة: بعد هذه الآية يقول الله عز وجل (مالك يوم الدين) هل يمكن أن نربط مناسبة بين الآيتين؟
د. الخضيري: الذي يظهر لي والله أعلم أن الآية الأولى فيها جانب الترغيب وهذه الآية فيها جانب الترهيب والمؤمن لا يمكن أن يستقيم على طاعة الله حتى يُرغّب ويُرهّب فكأنهما جناحان للإنسان كجناحي الطائر، ترغب بالله وتخاف من عذاب الله ولذلك قال (يوم الدين) أي مالك يوم الجزاء والحساب وهو الله سبحانه وتعالى
د. الربيعة: خص الملك بيوم الدين لم يقل مالك السماء أو الدنيا والآخرة؟
د. الخضيري: لأن المُلك في ذلك اليوم ينفرد به الله ولا يدعيه أحد سوى الله (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) غافر) فيكون الملك لله جل وعلا وهو المهيمن وهو القاهر الجبار وجميع من في الأرض وجميع الخلق ضعفاء بين يدي الله عز وجل
د. الربيعة: هل نلمس في (مالك يوم الدين) بدلاً من مالك يوم القيامة ماذا تعطي من معنى؟
د. الخضيري: لعلها والله أعلم أن الدين بمعنى الجزاء والحساب فكل ما تعمله سوف تجزى عليه وكل ما تقوم به وتقدمه في الحياة ستلقى جزاءه عند الله سبحانه وتعالى. لعلنا نقف عند هذا الحد إن شاء الله.
د. الربيعة: هذه السورة العظيمة تحتاج إلى جلسات، لعلنا نكمل في الحلقة القادمة.
د. الخضيري: نسال الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وأن ينفعنا بكتابه وكلامه وأن يجعلنا من المتدبرين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
برنامج لنحيا بالقرآن
د. محمد الخضيري ود. محمد الربيعة

بعرض يومياً في رمضان على قناة الخليجية الساعة 7.30 مساء بتوقيت مكة المكرمة.

الحلقة الأولى:
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن. أما بعد فحياكم الله أيها الإخوة الفضلاء في هذا البرنامج المبارك (لنحيا بالقرآن) والذي نسير وإياكم فيه مسيراً نرجو أن نبث فيه حلقات مباركة نحيي بها قلوبنا في ضوء وظل كتاب الله عز وجل وآياته البينات. لعلنا دكتور محمد بعد هذه الآيات الخمس التي نزلت كما نعلم نزلت بعدها آيات ليست معها وإنما هي تتمة لها وهي إذا أردنا أن نجعل لها موضوعاً خاصاً أي موضوع الآيات الباقية فإنها تبين لنا أثر الجهل وأنه يدعو الإنسان إلى الطغيان وإلى التصرف الأحمق وإلى الكفر والتكذيب وتبدأ هذه الآيات من قول الله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) العلق) أي إن الإنسان بغير هذا العلم وغير علم الله عز وجل لا عقل له حقيقة يعقل به حقيقة الحياة ويقيس به المقاييس الصحيحة يعرف به قيمة المال ويعرف به قيمة التعامل مع البشر ويعلم به قيمة وجوده في هذه الحياة. فإذا كان بلا علم صحيح فإنه سيرى نفسه أنه على شيء وهو ليس على شيء (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)) رآه أي رأى نفسه أنه استغنى ولا يمكن أن يستغني.
د. الخضيري: بالفعل كما ذكرت متى رأى الإنسان نفسه أنه استغنى فقد ولج باب الطغيان، متى رأيت في نفسك أنك غني عن الله عز وجل وأنه لا حاجة لك بالله وأن ما عندك من مال وعرَض وما عندك من نفوذ وخدم أن هذا كاف في حياتك، هنا تدخل الطغيان شئت أم أبيت. وهنا نقول يجب على المسلم أن يستشعر دائماً وأبداً أنه مفتقر إلى الله وأن كل هذا المتاع الذي بين يديه لن يغنيه عن الله طرفة عين. ولذلك نقول الآية جاءت بقوله (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)) يعني رأى نفسه قد استغنى أما إذا لم ير نفسه قد استغنى فإنه لا يضره الغني بإذن الله عز وجل فقد يكون الإنسان غنياً بماله عنده مال وعنده دنيا واسعة لكنه لا يستغني عن الله طرفة عين ولا يرى هذا المال شيئاً فهو مفتقر إلى ربه سبحانه وتعالى فهذا لا يجعله يطغى. ولذلك نقول أن هذا يدلنا على موضوع آخر وهو الزهد. الزهد ليس هو عدم كثرة المال في اليد بل قد يكون الإنسان من أكثر الناس مالاً وهو أزهد الناس إن لم تكن الدنيا في قلبه لم يتعلق بها ولم يركن إليها ولم يعتدّ بها ويرى أنها تصنع له كل شيء، هذا الرجل قد يكون زاهداً مع أن الدنيا في يده يسكن قصراً ويركب سيارة فارهة وعنده خدم وحشم لكنه لا يطغى.
د. الربيعة: لا يطغى لأنه لا يرى أن هذه هي حياته. ولو أننا ضربنا نموذجاً لهذا الطغيان الذي يبعث الناس إلى الاستغناء نضرب مثل الرجل الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو أبو جهل. انظر وتأمل الآيات الأولى من السورة ترمز إلى اشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أُنزل عليه هذا الوحي فشرف به فكان أشرف عالِم.
د. الخضيري: عندما قيل له إقرأ فقرأ أما أبو جهل لما قيل له إقرأ لم يقرأ ولم يؤمن بل تحول إلى ما ذكره الله عز وجل في هذه الآيات (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ﴿٩﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴿١٠﴾ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴿١١﴾ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴿١٢﴾ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿١٣﴾ العلق) وصفه الله بصفات كثيرة جداً وبين أنه صار في صف من يصدون الناس عن الدعوة ومن يقومون بإيذاء الدعاة ومن يحاربون الرسل والرسالات وكل ذلك جهلاً منه وكل ذلك استكباراً منه وكل ذلك لأنه كما مر بنا نسي الرجعى إلى الله عز وجل ونسي الدار الآخرة وهذه قضية في غاية الأهمية وهي أننا متى نسينا الآخرة ونسينا الجنة والنار ونسي البعث والجزاء والحساب حصل منا ما حصل من هذا الرجل الذي ذكر الله عز وجل صفته في هذه الآيات.
د. الربيعة: إن أعظم ما يمنع الإنسان من الطغيان في ماله وفي جاهه وفيما آتاه الله هو أن يعلم أنه منتقل إلى الله وأنه راجع إلى الله وأنه له أجل سينتهي له وأنه سيموت وأن هذا الجاه وهذا الشرف وهذه الدنيا التي جعلت الإنسان يطغى ستنتهي وأن إلى ربك الرجعى وأنك راجع إلى الله. والإنسان إذا تذكر ورأى نفسه في هذه الدنيا وأعطاه الله لكنه تذكر أنه إلى الله صائر وأنه إلى الله راجع فإن هذا أعظم ما يبعثه على الإتزان في الحياة وأنه يعرف حقيقة هذا المال ولا يطغى به هذا المال إنما أوتي من أوتي من قِبَل ماله بنسيان الآخرة وطغيانه بماله، يبطر بالنعمة فيتباهى على خلق الله عز وجل ونسي أمر الله عز وجل.
د. الخضيري: ولذلك قوله تعالى (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) العلق) يجب أن تكون نبراساً لحياتنا. عندما يعلم الإنسان أنه سيرجع إلى الله تعالى سيتصاغر ويتواضع ويحرص أن لا يترفع على الله أو على عباد الله أو أن لا يستكبر على الدعوة الحقة أو على ما يقال له أو ما يسمعه من الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وهذه نلاحظها في الذين تأتيهم الدعوة لأول مرة قد يردونها لأنهم ينسون الآخرة وأنهم سيبعثون لأن الحق دائماً عليه بينة وعليه نور فإذا نسي الإنسان فإنه يضرب بالحق عرض الحائط ولا يبالي برد الحق لكن إذا كانت الآخرة حية في قلبه ويخاف من لقاء الله عز وجل ويخشى أن يموت على حال هو ليس فيها على الحق فإنه في هذه الحالة سيرجع ويتذكر ويتعظ ويتقبل الحق ولا يستغني عنه طرفة عين.
د. الربيعة: لعلنا نأخذ من هذه الآية أن أعظم ما يوعظ به أولئك الناس الذين طغوا بأموالهم وأملاكهم هو أن يوعظوا بنهايتهم وموتهم وعاقبتهم وأنهم إلى الله صائرون لأن الله تعالى قال (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) أي أيها الإنسان الطاغي الذي قد استغنيت بمالك إعلم أنك راجع إلى الله. لذلك ينبغي أن نجعل هذا في معالجة أهل الطغيان إذا رأينا إنساناً ألهاه ماله فينبغي أن نذكره بمآله.
د. الخضيري: لو نقف عند قوله الله عز وجل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) العلق) عندما عاتب الله سبحانه وتعالى الإنسان الذي نهى وطغى وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده بقوله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) ما هي الفائدة العملية التي نستفيدها في حياتنا من هذا التأنيب والعتاب من الله سبحانه وتعالى؟
د. الربيعة: الحقيقة أن هذه الموعظة وهذا الخطاب كاف للإنسان أن يزجره عن طغيانه وعن صده عن سبيل الله وعن إعراضه فيقال له (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) ألم تعلم أن الله قادر رب الخلق أجمعين والملك سبحانه وتعالى ذو السلطان العظيم يراك فكيف سوف يعاملك؟ لا شك أن هذا سوف يدعوه إلى الخوف من الله عز وجلز ثم إننا نأخذ من هذه الآية منهجاً في حياتنا نحن بأننا نجعل هذه الاية منهج حياة، كيف ذلك؟ ألم نعلم بأن الله يرة، إجعل هذه الكلمة أمام عينيك في كل حياتك فأنت أخي الشاب وأنت أختي الفتاة عندما يأتيكم الشيطان ليغريكم بشهوة تطغوا بها ادعلوا هذه الجملة أمام عينيكم.
د. الخضيري:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
هذا الذي خلق الظلام أو جعلني في غرفة وحدي أو في مكان لا يراني فيه أحد من البشر فإن الله سبحانه وتعالى مطّلع ويراني فيه. ونحن يجب أن نربي أبناءنا على مراقبة الله في كل شيء. قيل أن مربياً أراد أن يربي تلاميذه على هذا المعنى فأعطى كل واحد من طلابه دجاحة وقال إذهب واذبحها في مكان لا يراك فيه أحد فذهبوا وكل واحد اختبا في مكان لا يراه فيه أحد فذبحوا الدجاجة التي أعطاهم إياها ثم عادوا فعادوا جميعاً وقد ذبحوا ما معهم إلا طالب واحد فقال له لم لم تذبح الدجاجة التي أعطيتك إياها؟ فقال لم أجد مكاناً لا يراني فيه أحد، قال ولم؟ قال لأنه لا يوجد مكان إلا والله سبحانه وتعالى يراني فيه فقال أحسنت وأعطاه جائزة.
د. الربيعة: وذكر لي أحد الإخوة الشباب يقول أكون لوحدي أحياناً في غرفتي فيغريني الشيطان بفتح بعض المواقع الإباحية على الانترنت يقول فأقع أحياناً في ذلك فيقول أرشدني أحد الإخوة أن أضع هذه الكلمة أمام عيني وأضعها أمامي على شاشة الكمبيوتر فقصصت هذه الآية ووضعتها (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) موعظة يجدد بها مراقبته لله عز وجل فالحق أن هذه الآية منهج حياة.
د. الخضيري: لعلنا نختم بقول الله عز وجل (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) العلق) يعني أن الداعية إلى الله عز وجل ومن يريد إنقاذ الناس ومن يقوم بأمر الله ينبغي له أن يصبر على ما يلاقيه من العذاب وأن يثبت على دينه ودعوته وأن لا يبيع دينه لأجل ضغوط قليلة أو بعض محاولات من أعداء الدعوة أو مناوئين لها يريدون قطع الطريق على الداعية بل يثبت والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فكان أبو جهل يحاول أن يصد النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يصلي وأن يقوم بأمر الله عز وجل فالله عز وجل يثبته ويقول له لا تطعه ثم يأمره بما يدل على التوحيد (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) يعني اسجد لله سبحانه وتعالى فإنك إن سجدت لله حصل لك القرب من الله سبحانه وتعالى وهذا يفسره قول النبي صلى الله عيله وسلم "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء.
د. الربيعة: لعلنا نلمس من ختام هذه السورة بهذه الجملة العظيمة أنه ابتدأها بالأمر بالعلم والعلم إن لم يحكمه تقوى الله فإنه قد يؤدي بالإنسان إلى الطغيان فإذا ملك الإنسان علماً أيّ علم سواء علم الشرع أو علم الدنيا فينبغي أن يُخضعه ذلك لله عز وجل وأعظم سبيل للخضوع إلى الله هو العلم لأن الله عز وجل قال (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر) الذين يعرفون على الحق والحقيقة ويقفون عليها فيدفعهم ذلك إلى معرفة الله. وأيضاً نلمس من هذه الآيات العظيمة أنه قال (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) هل يمكن أن نلمس منها معنى يدلنا على أمر السجود؟
د. الخضيري: السجود أعظم أعمال الصلاة فأنت لن تكون أقرب إلى الله عز وجل في حال مثلما تكون في حال السجود فكلما سجد الإنسان اقترب إلى الله لأنه يظهر العبودية لله عز وجل ويجعل أشرف أجزاء جسده مستوية مع مواطئ قدميه خضوعاً لله عز وجل.
د. الربيعة: يعني نستطيع أن نقول أيها المسلم إذا أردت أن تقترب من الله وتتقرب منه صلة به ومنزلة عنده فأكثر من السجود ولعل هذا يدلنا على قصة خادم النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء له بوضوئه قال من أتى بوضوئي؟ قال أنا، قال سلني، قال أرجئني، فكر في الأمر لأن هذه دعوة سيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال اسألك مرافقتك في الجنة فقال أعني على نفسك بكثرة السجود. غذا كنت تريد المراتب العالية والمراتب السامية فعليك بالخضوع والذل ببه سبحانه وتعالى. ما أعظم هذه السورة وما أعظم أن نتدبرها لنشرف بها ونشرف بالعلم ونشرف بالقرب من الله عز وجل ونشرف بهذا الوحي العظيم الذي أنزله الله تعالى ليكون شرفاً لنا وعزاً لنا فلنقرأ هذه السورة أيها الإخوة قراءة متدبرة لنسير فيها مسيراً نصعد به في أمتنا وفي أنفسنا إلى علوٍ وسمو نسأل الله عز وجل أن يشرفنا بالقرآن والعلم وإلى اللقاء بإذن الله عز وجل في جلسة أخرى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة الثانية:
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله القائل (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) ص) والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد حياكم الله جميعاً في هذا المجلس المبارك من مجالس برنامجكم لنحيا بالقرآن، برنامج نتحدث فيه عن قضية مهمة، قضية يجب على كل مسلم ومسلمة أن ينتبه لها وهي تدبر القرآن. تدبر القرآن امتثالاً لأمر الله عز وجل في قوله (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد) وفي قول (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82) النساء) وكذلك في قول الله عز وجل التي افتتحت بها هذا البرنامج (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) ص). أنزل الله هذا الكتاب من أجل أن يُتلى وأن يتدبر ليعمل به ليكون منهج حياة يحيا به المسلم وينطلق منه ويعود إليه ويتحاكم إليه ويعيش به حتى يسعد وينجو ويُفلح ويرى الخير في الدنيا وفي الآخرة. فالتدبر أمر عظيم أهمله المسلمون في العصور المتأخرة ولعل هذا هو أحد أسرار تخلفهم في هذا العصر لأنه عندهم كتاب عظيم لكنهم لا يعقلونه ولا يفهمونه ولا يخالط قلوبهم ويغير حياتهم. إن علينا أن نعيش مع القرآن وأن نهتم بالقرآن تدبراً وتذكراً واتعاظاً وعملاً. وهذا ما نريد أن نتحقق منه في هذا البرنامج المبارك ولكن بطريقة نرجو أن نوفق فيها إلى الحق والحكمة والصواب.
د. الربيعة: لا شك ولا ريب أننا نتفق على أهمية التدبر فهو الغاية الأولى التي أنزل الله تعالى من أجلها هذا القرآن ليدعونا ويبعثنا على الحياة به وهو الموصِل إلى العمل. ولذلك قد يسأل سائل كثيراً ما يُسأل هذا السؤال: ما هو التدبر الذي دعا الله تعالى إليه لئلا يكون هناك التباس بينه وبين التفسير وهو فهم المعنى؟ نقول أن التدبر حقيقة هو الوقوف مع كتاب الله عز وجل والتأمل والنظر فيه بقصد الانتفاع والإيمان والعلم والعمل، يون قصدك من قراءتك العمل، الامتثال، الإتباع الذي أمر الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ (106) الأنعام) ثم إذا وفقك الله لذلك فإنك ستجد بإذن الله تعالى أثر هذا القرآن على نفسك. ستجد حياة أخرى غير حياتك التي أنت فيها، لماذا؟ لأن قلبك عاش مع كتاب ربك ومع كلامه الذي مثله النبي صلى الله عليه وسلم بالربيع والربيع هو الجدول الذي فيه الماء يسقي تلك الحديقة في دعائه عليه الصلاة والسلام "أن تجعل القرآن ربيع قلبي" ما معنى ربيع قلوبنا؟ يعني غذاء لقلوبنا يدخل هذه القلوب وفيغذيها ويحييها فتُزهر وتصبح حديقة غنّاء من الإيمان بالله والأنس به سبحانه وتعالى وحتى الحياة العملية في السلوك والعمل وفي الصيام وفي التعامل بهذا القرآن ولهذا كان خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن.
د. الخضيري: إذن نحن نقول أن التدبر هو أن يُقبل الإنسان بقلبه على القرآن وأن يفتح قلبه لكلام الله عز وجل وهذا ممكن لكل واحد منا. هناك فرق بين التدبر والتفسير، التفسير هو أن تفهم معنى الآية كما أراده الله سبحانه وتعالى وأن تصل إلى المراد منها أما التدبر فهو أن تفتح قلبك للقرآن لتنتفع به فقد تنتفع بجملة من الآية وقد تنتفع بختام الآية وقد تنتفع بفحوى الآية ومدلولها ولذلك التدبر يؤمر به كل أحد، يؤمر به الصغير والكبير والذكر والأنثى والأعرابي والحضري وغير ذلك كل هؤلاء يؤمرون بالتدبر أما التفسير فإنه يحتاج إلى عُدّة وإلى آلة وإلى كتب وإلى نظر فيما قاله الأقدمون. أما التدبر فهو أن تفتح قلبك للقرآن وأن لا تقرأ القرآن بلسانك وأن لا تستمع إلى القرآن بأذنك بل كما قال الله عز وجل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ق)
د. الربيعة: من أجل ذلك أحببنا أن يكون لنا هذا البرنامج الذي أسأل الله عز وجل أن يرزقنا فيه الإخلاص والتوفيق والسداد وأن نعرض فيه منهجاً عملياً في ظل كتاب الله عز وجل نحيا مع آيات من كتاب الله. وأحب أن أبين أن هذا البرنامج سوف يكون في سور نقرأها كثيراً في صلاتنا خاصة ويحفظها صغار المسلمين وكبارهم وهي قصار السور من سورة الضحى إلى سورة الناس مع سورة الفاتحة التي هي مقدمة القرآن وفاتحته. فأحببنا أن نعيش مع هذه السور لنقرأها في الصلاة ونحن نستشعر معناها وحقيقة ما أراد الله تعالى منها ونعي مقاصدها لتحيا بها قلوبنا ولذلك كان عنوان هذا البرنامج (لنحيا بالقرآن) نسأل الله تبارك وتعالى أن يحيينا بكتابه عز وجل وأن يرزقنا وإياكم هذا الهدي الكريم.
د. الخضيري: لكن نحن المنهج الذي سنسير عليه ونحب أن نذكره ليس هو أن نأتي بدقائق الاستنباطات ولكننا سنري إخواننا المشاهدين أنه بإمكان أي واحد منهم أن يتدبر في مثل هذه السور الذي تفعله نحن. فعندما نأتي مثلاً إلى قول الله عز وجل (الحمد لله رب العالمين) نبيّن فضل الحمد وأنه ينبغي عليك أيها المسلم أن تحمد الله كثيراً على كل نعمة وأن تكثر من الحمد بعد كل أمر تعمله وترى أن حمد الله من أجل وأعظم العبادات.
د. الربيعة: وأن يستشعر المسلم قيمة الحمد لله عز وجل.
د. الخضيري: ولذلك أحب أن اذكر لإخواني بما أن وقت البرنامج هو ثلث ساعة وسنستعرض سور قصار المفصّل كلها لن نقف عند كل آية ولن نستطيع ذلك لكن سنختار من كل سورة موطنين أو ثلاثة وقد نصل إلى أربعة مواطن أو خمسة نستنبط منها عملاً حتى نحيا بالقرآن بالفعل. بمعنى أن نأخذ من السورة قضية أو قضيتين أو ثلاثة وأعطيكم مثالاً إذا وصلنا إلى سورة الماعون سنتحدث عن قول الله عز وجل (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)) أثر التكذيب بالدين على حياة الإنسان وعلى أعماله الصالحة والفاسدة، سنتحدث عن إكرام اليتيم وحرمة إهانته، سنتحدث عن الحضّ على إطعام المساكين، سنتحدث عن خطر الرياء، سنتحدث عن خصلة عظيمة جداً سيئة وقع فيها المشركون وتحدث القرآن عنها وهي منع الماعون، نقول أيها المسلم إياك أن تمنع الماعون وإياك إذا استعار منك أخوك المسلم شيئاً أن تمنعه إياه إذا كان فائضاً عن حاجتك! إلى آخر ما هنالك وهذا هو مقصودنا، لا أنت نتحدث عن الغريب ولا عن المعاني التفصيلية أو الدقائق التي يستنبطها العلماء من الآيات حتى نقول لكم جميعاً أيها المشاهدون هذا القرآن بين أيدينا إنه منهج حياة وينبغي أن نعود إليه ونعلم أنه من أيسر الأشياء أن نعود إليه وأن نستفيد منه كما قال الله عز وجل (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)
د. الربيعة: لعلك شوقتنا يا دكتور محمد للبدء بهذا البرنامج.
د. الخضيري: لعلك تبدأ بالاستعاذة.
د. الربيعة: لا شك أن الله عز وجل أمرنا حينما نقرأ كتابه بالاستعاذة به من الشيطان الرجيم لأنه هو الذي يصرفنا عن هذا القرآن الذي به حياتنا ولا شك أن الشيطان لا يريد حياتنا حقيقة وكما قال تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) النحل) فالمسلم وهو يريد أن يقرأ القرآن ينبغي أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويستحضر أن خلفه عدو يتربص به يصرفه عن هذا القرآن.
د. الخضيري: بل إنه لا يشتد حزنه ولا يتألم في حال مثلما يتألم إذا رأى المسلم أقبل على القرآن.
د. الربيعة: ولذلك يلحظ أحدنا وهو يقرأ القرآن يأتيه الشيطان يذكّره ببعض أعماله الدنيوية، نسيت الإتصال على فلان، أو يملله لكي يغلق المصحف لأن هذا القرآن هو عدوه الأول، هو يُفسد وهذا القرآن هو المُصلِح الأول.
د. الخضيري: ولذلك سنلاحظ في آخر سورة وهي سورة الناس أن الله عز وجل بين أن الشيطان وسواساً خناساً، متى يوسوس ومتى يخنس؟ يوسوس إذا غفلت عن ذكر الله وبعدت عن ذكر الله ويخنس يعني يهرب ويشتد هربه عندما تقبل على الله وتذكر الله سبحانه وتعالى. فدواء إبليس وعدوه الأول الذي لا يمكن أن يجتمع معه هو ذِكر الله وذكر الله أعلاه تلاوة القرآن. ولهذا نقول لماذا شُرعت الاستعاذة في بداية القرآءة؟ لأن الشيطان حريص على صرف الإنسان عن القرآءة.
د. الربيعة: لكن هل الاستعاذة مشروعة عند كل قرآءة؟ يقرأ الإنسان ثم يكون هناك مجلس يقرأ كل أحد فهل مشروعية الاستعاذة لكل أحد أو لأول ما يُقرأ القرآن في أول مجلس؟
د. الخضيري: الذي يظهر لي والله أعلم أن قرآءة الأول واستعاذة الأول هي استعاذة للجميع. كما أن الإنسان إذا دخل في القرآءة فاستعاذ ثم أراد أن ينتقل إلى سورة جديدة أو مقطع آخر يقرأ منه فإنه لا يحتاج إلى استعاذة جديدة ما دام في نفس المجلس أما إذا انقطع المجلس وانقطعت التلاوة تماماً وأراد أن يعود إليها مرة أخرى فإنه يستعيذ.
د. الربيعة: لو وقفنا وقفات بسيطة مع جُمل هذه الاستعاذة؟ ما هو العوذ؟
د. الخضيري: هو الإلتجاء والاعتصام بجناب الله عز وجل، أنا ألتجيء بجناب الله وعظمته من أن يدخل عليّ الشيطان.
د. الربيعة: ونعم بالله، إستعانة بعظيم.
د. الخضيري: ولاحظ أنها جاءت بالجملة الفعلية يعني أنا استعيذ مرة بعد أخرى فأنا بحاجة إلى مدد من الله سبحانه وتعالى دائماً وابداً لأن الصراع مع الشيطان باقي ودائم ومستمر إلى أن تغرغر الروح وتفارق هذا البدن.
د. الربيعة: الشيطان هل معناه له دلالة بما يوسوس له ويوصف به وعمله؟
د. الخضيري: الشيطان يقول العلماء أنه مأخوذ من شطن أي بعُد فلبعده عن ذكر الله عز وجل وعن طاعته فإنه سمي شيطاناً. وسُمّي رجيماً أيضاً لأنه مبعد ومطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى. ولا يختصر ذلك على الشيطان المعروف الذي هو أبو الجنّ بل كل من سلك سبيله وسار في دربه وصار مناوئاً لدعوات الرسل وعدواً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهو شيطان وهو رجيم. حتى الكُتاب الذين يكتبون ويشككون الناس في كتاب الله عز وجل هم شياطين نعوذ بالله منهم ومن شرهم ومن وسوستهم.
د. الربيعة: ولذلك لم يقل أعوذ بالله من غبليس وإنما أعوذ بالله من الشيطان لأنها أعم. لعلنا ندلف إلى البسملة.
د. الخضيري: البسملة عظيمة وينبغي أن نقف عندها لأنها هي حقيقة الإستعانة بالله جل وعلا. الباء في البسملة هي الاستعانة. فمعنى ذلك أنك إذا قلت بسم الله كأنك تقول أستعين باسم الله وهذا يدلك على أن المسلم لا يستقل بشيء ولا يستطيع أن يقوم بشيء إلا أن يعينه الله سبحانه وتعالى عليه فهو يعلم أنه مفتقر إلى الله في كل شيء ويعلم أنه لا يستطيع أن يقوم بشيء إلا إذا أعانه الله عليه. ولذلك المسلم كلما بدأ بعمل يقول بسم الله، إذا أكل قال بسم الله، إذا ذبح قال بسم الله، إذا خرج قال بسم الله، إذا نام قال بسم الله، إذا دخل المسجد قال بسم الله، هذا يعني أن بسم الله منهج حياة يعني أني أستعين بالله على كل أموري لا أتصرف في شيء حتى أُعلن لله أني أطلب العون منه، هذا معنى بسم الله هي توحيد بل هي حقيقة التوحيد في الاستعانة بالله وإظهار الافتقار التام له سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: ولعل دليلها قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) العبادة لا تكون إلا بالاستعانة بالله ولذلك في الدعاء الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" لا سبيل لك للعبادة الحقة إلا بعون الله
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فكل ما يجني عليه اجتهاده
د. الخضيري: وبهذه المناسبة نلاحظ أنه إذا نادى المنادي للصلاة فقال حيّ على الصلاة نقول لا حول ولا قوة إلا بالله يعني أننا نستعين بالله في أن يقوينا، في أن يعطينا القوة على إقامة هذه الصلاة. لعل هذه الإلماحة عن البسملة تعطينا جميعاً أهمية هذه البسملة ولكن أحب أن أبيّن أن البسملة إنما تقال في افتتاحية السورة وليس في افتتاحية القرآءة يعني لو قرأت سورة البقرة من وسطها – لا شك أن بعض أهل العلم يرون أن تقرأ البسملة – لكن الذي يظهر والله أعلم أن البسملة تُقرأ حيث كُتبت متى مررت بها في أول السورة تقرأها وإذا كنت تقرأ في وسط السورة وبدأت من وسط السورة فإنك تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتبدأ قرآءة الآيات.
د. الربيعة: الإستعاذة في أول السورة وفي وسطها وفي آخرها وفي أي مكان في أول القرآءة.
د. الخضيري: أما البسملة فتكون في أول السورة. وبهذا نكون قد أعطيناكم لمحة عن حقيقة هذا البرنامج وأهمية التدبر وما هي المعالم العامة والواضحة لفكرة هذا البرنامج وافتتحنا بالحديث عن الاستعاذة وعن البسملة. نسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في بقية حلقات هذا البرنامج إلى أن نصل إلى مرادنا وأن نفتح قلوبنا وقلوبكم لهذا القرآن العظيم وهذا الوحي الإلهي الكريم. أسال الله أن ينفعنا وإياكم بكلامه وأن يجعلنا من يستمعون القول فيتبعون أحسنه وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة الرابعة:
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات في برنامجنا هذا البرنامج القرآني (لنحيا بالقرآن) وهذه الحلقة نتفيؤ بها ونتمم فيها حديثنا عن أعظم سورة من كتاب الله عز وجل وهي سورة الفاتحة. وقد تحدثنا عن أول هذه السورة ولعلنا نبين ونذكر بمقصد هذه السورة. هذه السورة العظيمة سورة الفاتحة التي افتتح الله بها كتابه لو تأملناها حقاً لوجدنا أنها تحمل غرضاً عظيماً يتضمن مقصد القرآن كله وهو تحقيق العبودية لله عز وجل ولذلك سماها الله عز وجل السبع المثاني والقرآن العظيم في بعض أقوال العلماء في ذلك. وتضمنت هذه السورة مقاصد القرآن كله لأنه لو رأينا القرآن كله لوجدنا أنه كله خطوط وخيوط تربط المسلم بتحقيق عبوديته لله عز وجل التحقيق الكامل.
د. الخضيري: واليوم سنتحدث بإذن الله عز وجل عن (إياك نعبد وإياك نستعين)
د. الربيعة: عن آية عظيمة فيها هي سرها وهي مجمعها
د. الخضيري: وهي سر القرآن كله لأن القرآن كله دائر على أمرين إما إخلاص العبادة لله وإما تحقيق الاستعانة بالله، حياتك ايها المسلم، مسيرتك إلى الله عز وجل دائرة على هذين الميزانيين أن تحقق العبودية لله فلا تعبد إلا الله وأن لا تستعين في أمورك كلها إلا بالله عز وجل فتجعل ربك سبحانه وتعالى هو عونك في كل أمر وتفتقر إلى الله في كل شيء.
د. الربيعة: أذكر من اقوال العلماء في هذه الآية وفضلها ما ذكره شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله تعالى وقد ورد هذا عن بعض السلف أن الله عز وجل جمع الكتب في أربعة كتب الزبور والقرآن والتوراة والإنجيل وجمع الأربعة كتب في القرآن وجمع القرآن في الفاتحة وجمع الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين.
د. الخضيري: هذه وردت عن الحسن البصري رحمه الله وبيّن هذا المعنى وهذا من فقهه رحمه الله فإن من يتأمل خلاصة القرآن ويتأمل خلاصة هذا الدين يجد أنها متحققة في هذه الكلمات الأربعة (إياك نعبد وإياك نستعين) يعني لا نعبد إلا إياك يا الله ولا نستعين إلا بك يا الله، فإذا تحقق المسلم منهما فقد حقق التوحيد على أجلى صوره وأجملها.
د. الربيعة: ولهذا أقول أن قرآءة هذه الآية وإعادتها وتكرارها مما يجدد ويحقق معنى العبودية لله عز وجل في نفس الإنسان خاصة إذا تأمل فيها حق التأمل وتدبرها حق التدبر. ولعلنا نبحر فيها قليلاً في بعض معانيها أو بعض هدايتها وظلالها ولن نستطيع أن نحصي ذلك لكن لنقف معها وقفات عملية تطبيقية.
د. الخضيري: لعلي أفتتح ذلك بشيء شامل ذكره إبن القيم رحمه الله تعالى فقال أصناف الناس في إياك نعبد وإياك نستعين أربعة: الصنف الأول من حققوا العبودية على أتم وجوهها وأكملها وحققوا الاستعانة بالله فهم لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا بالله وهؤلاء هم أعلى الخلق وأجلّ الخلق وهم الأنبياء والرسل والصديقون والصالحون من عباد الله والكُمّل من أولياء الله هؤلاء حققوا هذين الركنين وقاموا بهما على أتم الوجوه وأكملها نسأل الله أن يجعلنا منهم. الثاني من هم ضد هؤلاء من لا عبودية ولا استعانة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) الفرقان) فلا يعبدون الله ولا يستعينون بالله عز وجل وهؤلاء هم شر الخلق نسأل الله العافية والسلامة. والصنف الثالث هم من يعبدون ولا يستعينون كيف ذلك؟ تجد همته وقلبه مصرف إلى عبادة الله لكنه ينسى أن يستعين بالله تمر به الحاجة فلا يلتجئ إلى الله، يريد أن يقوم بالعبادة فلا ينصرف إلى الله عز وجل ويسأل الله أن يعينه على تلك العبادة، تقع به النكبة أو المصيبة فتجده فكر فيمن ينقذه منها ويبحث في ذهنه عن إنسان يشفع له أو يعينه على هذه المصيبة لأنه لا يستحضر معونة الله له في حياته فهو لا يتحقق من قوله إياك نعبد وإياك نستعين على قوله إياك نستعين. والعجيب أن إبن القيم رحمه الله تعالى قال وهذه كثيرة في الصالحين كثيرة في العُبّاد أنهم ينشغلون بتحقيق العبودية بمعنى أن الواحد تجده يتهجد ويصلي ويصوم ويتصدق ويذكر الله عز وجل ولكنه ينسى أن يستعين بالله عز وجل لى على عبادته، تجده وهو يستعد لقيام الليل يضع الساعة على الثانية ليلاً ويجتهد أن ينام لطريقة معينة ويهيئ الأسباب لقيام الليل لكنه لا يقول يا رب أعني على أن أقوم يا رب أعني على أن أخشع في صلاتي، يا رب أعني على أن تقبل مني صلاتين يا رب أعني على أن أفهم هذا القرآن، يا رب أعني على أن أكون معك في عبادتي، يا رب اجعل هذه الصلاة أحب شيء إلي وقرة عيني كما كانت قرة عين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه حقيقة هي العبودية مع الاستعانة. والصنف الرابع هم من يستعينون ولا يعبدون أولئك الذين لا يعبدون الله عز وجل لا يقومون بالفرائض ولا يؤدون الواجبات بل ويرتكبون المحرمات لكنهم يشعرون أنهم لا يستطيعون الوصول إلى حاجاتهم إلا بالله فتجده كلما وقعت مصيبة يقول يا رب واستعان بالله حتى أنه يستعين بالله على الحرام فتجده مثلاً لو يريد أن يسرق بيتاً تجده يقول يا رب، هو يستعين لكن أين هو من العبادة؟! هذا ليس عابداً وهذا كثير في اللصوص وكثير فيمن عنده أصل التوحيد توحيد الربوبية لكن ليس عنده عبادة ولا شرع يقوم به. بل ويقع في المشركين كانوا إذا اشتد بهم الضر التجأوا لله عز وجل.
د. الربيعة: ولهذا قرن الله سبحانه وتعالى العبادة بالاستعانة وأنها لا تأتي إلا بإذن الله تعالى. ومواصلة للحديث في أمر العبادة وشأنها في الإنسان هي الغاية التي خُلِق من أجلها.
د. الخضيري: لكن ما هي العبادة؟
د. الربيعة: العبادة كما بينها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هي إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
د. الخضيري: يعني ليست هي الصلاة والزكاة والحج فقط
د. الربيعة: بل هي كل ما يحبه الله.
د. الخضيري: بر الوالدين عبادة، صلة الرحم عبادة، الإنفاق على الأولاد عبادة، طلب الكسب الطيب يكون عبادة، النوم من أجل الاستيقاظ للصلاة والاستعانة على الأمور المباحة التي أباحها الله يعتبر عبادة أيضاً.
د. الربيعة: إذن يستطيع الإنسان أن يسأل نفسه وهو هل هذا العمل يحبه الله؟ هل هذا العمل يرضي الله؟ سيفتيه قلبه لأن قلبه على الفطرة فسيقول هذا من العمل الذي يحبه الله ويرضاه فيستعين بالله تعالى ويفعله فالعبادة هي حياتنا كلها في صلاتنا وزكاتنا وبرنا وفي نومنا وأكلنا وشربنا وذهابنا وإيابنا (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) الأنعام) من الذي يستشعر عبودية الله في حياته كلها فيوقف حياته كلها لله؟!
د. الخضيري: ولذلك ينبغي أن نعلم أن الفرق بين كثير من العابدين وكثير من الغافلين هو في أنهم يستحضرون أنهم يتعبدون لله يعني الفرق في استحضار النية. العابد يأكل والغافل يأكل ولكن العابد ينوي بهذا الأكل ليس اللذة فقط وإنما التقوي على عبادة الله، التقوي على صلى الرحم، التقوي على طلب العلم، التقوي على الكسب الحلال وأما الغافل فيأكل لأجل اللذة ياكل من هذا ومن هذا وهذا، هذا أكل وهذا أكل نفس الطعام على نفس المائدة هذا أُجر وهذا لم يؤجر، لا نقول أثِم وإنما نقول لم يؤجر ففاته حظه من العبادة.
د. الربيعة: يعني لا يجد الإنسان أجره إلا بما استحضره من النية
د. الخضيري: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"
د. الربيعة: كنت قبل قليل مع أحد المصورين معنا وقلت له أنت الآن تعمل في قناة الخليجية المباركة فمع أنك تعمل وتأخذ مبلغاً من المال وأجراً دنيواً لكنك تعمل في خدمة للإسلام لو استحضرت هذه النية فإن هذا عمل عظيم
د. الخضيري: وتؤجر كما يؤجر أولئك الذين بذلوا أموالهم وقدموا أنفسهم أو تكلموا في هذا البرنامج وبهذا تكون قد خدمت نفسك ودينك
د. الربيعة: ولهذا نقول كل إنسان في أي مجال من مجالات الخير الت يخدم بها دين الله فهو على أجر عظيم باستحضار النية سواء كان في مجال حتى في علم الرياضيات وعلم الكيمياء كم من علماء المسلمين الذين صعدوا فكان لهم شأن في هذه العلوم. نحن المسلمون أكرمنا الله عز وجل بأن جعلنا بهذه النية الصالحة نبلغ عبادته رضى. لو أننا نتأمل هذه الآية الكريمة العظيمة (إياك نعبد) قوله غياك نعبد ولم يقل نعبدك ونستعين بك هل نلمس منها معنى معيناً يستحضره الإنسان وهو يقرأ هذه الآية؟
د. الخضيري: (إياك نعبد) العلماء يقولون أن فيها قاعدة حتى يستحضرها المشاهدون وهو أنه في العربية إذا قُدِّم شيء عن مكانه فإن ذلك له دلالة قال العلماء تقديم ما حقه التأخير يدل على الحصر معناه أن هذه يُشعر بالحصر فقوله إياك أصلها نعبدك فقدمت الكاف مع إيا فصارت إياك نعبد هذا التقديم لما حقه التأخير يدل على الحصر يعني معنى قوله إياك نعبد لا نعبد إلا أنت. ولذلك فسرها بعض السلف تفسيراً عجيباً وأنا أتوقع أن بعض الإخوة المشاهدين قرأ في كتب التفسير أن إياك نعبد أي لا إله إلا الله لماذا؟ لأنها بمعنى لا إله إلا الله تماماً. هي إياك نعبد بمعنى لا إله إلا الله. هذا يدعونا إلى أن نتحقق من توحيدنا لله عز وجل في كل أمر من أمورنا، لا نصلي إلا لله، لا نتصدق إلا لله، لا نعتكف إلا لله، لا نتكلم إلا طلباً لما عند الله، وهو من أخطر الأمور لأن الشيطان يأتي إليك والنفس تحدثك والإعجاب يطرأ على قلبك فينبغي لك أن تستحضر عبوديتك لله في كل شيء وأنه لا دافع لك ولا باعث لك على العمل إلا إرادة الله عز وجل.
د. الربيعة: لعلنا نأخذ في الاية (إياك نعبد) لماذا قال إياك نعبد ولم يقل إياك أعبد؟ ماذا يستحضره المسلم وهو يقول إياك نعبد؟
د. الخضيري: الذي يظهر لي أن كلمة إياك نعبد أولاً يستحضر الإنسان أنه مع جماعة المسلمين فلا نيفرد عنهم وثانياً ويستحضر التواضع بين يدي الله بمعنى أن الإنسان إذا ذكر أنه يعبد الله مع الناس ليس فيها من الإعتداد بالنفس كما لو أنه يذكر أنه يعبد الله سبحانه وتعالى وحده
د. الربيعة: كأنه يقول أنا يا ربي من جملة عبادك
د. الخضيري: وأنا مسكين لا يمكن أن أكون عابداً على وجه حقيقي
د. الربيعة: كما قال الشاعر
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
ومعنى آخر أن هذا الدين دين الإسلام دين جماعة فكأنك تقول نحن يا رب أمة الإسلام نعبدك حق عبادتك بل إنك تستشعر أن جميع الخلق من في السموات ومن في الأرض هم في عبودية لله عز وجل فإنك بذلك تعترف أعظم إعتراف لا تقل فقط أنا أعبدك يا رب بل إن جميع الخلق حقّ لهم أن يعبدوك وحدك لا شريك لك. لأن الله عز وجل إتصف بالكمال المطلق الذي ذكره الله تعالى في بداية السورة فلما استحق الكمال المطلق بحمد وربوبيته ورحمته وملكه إعترف المسلم لله عز وجل بالعبودية المطلقة له سبحانه وتعالى من جميع الخلق. نختم بـ (إياك نستعين) فلماذا قال نستعين مع أن العبادة مستملة بالاستعانة؟
د. الخضيري: لأن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بالعبادة إلا عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى. وهنا مسألة قد يسالها إنسان يفكر تفكيراً عميقاً فيقول إن العبادة لا تكون إلا بعد الإستعانة فلماذا قُدمت العبادة على الإستعانة؟ فنقول والله أعلم سر ذلك أن العبادة لله وتحقيقها حق لله تعالى والاستعانة حظ للمخلوق فقدم حق الله على حظ المخلوق هذا أمر وثانياً أن السورة من أولها إلى هذه النقطة (إياك نعبد) هي لله والسورة من قوله وإياك نستعين إلى قوله (ولا الضالين) هي للمخلوق، هي للعبد. كما قال في الحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين". فجُعل إياك نستعين مع حظ العبد وإياك نعبد مع حق الله لتكون السورة بذلك مقسومة نصفين ثلاث آيات ونصف لله وثلاث آيات ونصف للعبد.
د. الربيعة: بمعنى أن تقديم العبادة هنا هو أولاً من باب تقديم حق الله عز وجل ومن باب أن العبادة هي الأصل والاستعانة وسيلة لها. هذه الآية العظيمة آية تحتاج منا لتدبر وتأمل لا نشبع منها ولذلك نحتاج لأن نتروى من هذه الآية ومن جميع آيات كتاب الله وهذه السورة العظيمة سورة الفاتحة فما أحرانا أن نعيشها علماً ومعرفة وعملاً وتطبيقاً. لنا بإذن الله عز وجل معكم لقاء في تمام السورة في جلسة أخرى نلقاكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
 
جزاكم الله خيراً على دعائك ولكم مثله وأكثر إن شاء الله.
في الحقيقة كنت قررت قبل رمضان أن لا أشغل نفسي بالانترنت كثيراً وإنما أقتصر على تفقد موقعي فقط لأتفرغ للعبادة في هذا الشهر الكريم. ولكن متابعة مثل هذه البرامج القرآنية النافعة في شهر القرآن جعلتني أبدل رأيي على الفور فوجدتني أطبع الحلقات مباشرة لأضعها بين أيديكم فهي في أساس تدبر القرآن الذي نطمح إليه جميعناً في رمضان وباقي أشهر العام.
وفق الله الجميع لكل خير وبارك في علمائنا الأفاضل.
 
جهد مشكور
بارك الله فيك ونفعنا وإياكم بالقرآن العظيم

لكن أليس هناك إمكانية في القنوات في تفريغ مثل هذه البرامج كما هو موجود لدى البعض ؟
فإن مثل هذا سيفيد كثيرا ويوفر على كل حريص أمر الوقت في مسألة التفريغ لأنه جهد ضخم ومتعب ويحتاج دقة في النقل
 
جزاك الله خيرا
وحقيقة جهد تشكرين عليه جعله الله في موازين حسناتك ونفع بك الإسلام والمسلمين .
 
بارك الله بكم جميعاً إخوتي وأخواتي على تعقيباتكم الطيبة وتشجيعكم المستمر.
حلقة الأمس ستكون بين أيديكم بعد قليل إن شاء الله.
فقط أطلب منكم الدعاء
 
الحلقة الخامسة:
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. ما زلنا نواصل حلقات هذا البرنانج المبارك "لنحيا بالقرآن" والذي نأخذ فيه آيات سور المفصّل مع الفاتحة ونحاول أن نتلمس بعض الهدايات العملية التي نحولها إلى واقع نعيشه في حياتنا. وبدأنا كما علمتم في الليالي الثلاث الماضية بسورة الفاتحة واليوم نختم الحديث عن سورة الفاتحة وهي في الحقيقة تستحق منا حديثاً طويلاً ولكن كما يقال "يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق". وفي هذا المجلس نتحدث عن قول الله عز وجل (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)) في هذه الآيات الثلاث التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في ختام سورة الفاتحة نجد أن الحديث عن معنى عظيم وهو الهداية إلى الصراط المستقيم وبيان من انحرفوا عن هذا الصراط ومن ضلوا عنه وصدق السؤال لله جل وعلا في طلب هذه الهداية التي هي أعظم مطلوب. وهنا يبدو لنا هنا سؤال مهم جداً عندما نقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6)) نريد أن نتلمس ما هي المناسبة بين هذا الدعاء وبين الآية التي قبلها؟
د. الربيعة: هذا ينبغي أن نستحضره ونحن نقرأ هذه السورة. فالإنسان في أول السورة يثني على الله بالكمال ويحمده ويعترف له سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية والملك وهذا هو تمام الكمال. فإذا تبين ذلك وقف بين يدي الله معترفاً له بالعبودية بأنك يا رب مستحق للعبودية ونحن نعبدك. وهذه العبودية لها منهج ولها طريق ولها سبيل تحتاج من المسلم أن يسلكه. لما اعترفت ثم أقررت بالعبودية تحتاج أن تسأل الله أن يسلك بها هذا الطريق ليهديك إلى غايته وهي رضاه والجنة سبحانه وتعالى. فأنت أيها المسلم حينما تقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تعترف بالعبودية الكاملة الخالصة له وأنت تستعين به ثم تسأله الهداية والتوفيق والإرشاد لهذه العبودية ولهذا يقول شيخ الإسلام أن هذا السؤال هو أعظم سؤال يسأله العبدُ ربَه، وهذا الدعاء أنفع دعاء للعبد بين يدي الله عز وجل
د. الخضيري: ألاحظ أن هناك مناسبة دقيقة بين قوله (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وقوله (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) عندما اعترفت لله بأنك لا تستعين إلا به كأنها إلماحة يا رب أنا أريد أن أستعين بك فيقول الله عز وجل بم تريد أن تستعين بي يا عبدي؟ فيذكر العبد أعظم مطلوب له وهو أن يُهدى إلى الصراط المستقيم فهي مناسبة تمام المناسبة لقوله (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لما جاء حق العبد قال (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يعني أنا أريد أن أستعين بك في شيء يا الله فيقول ماذا تريد يا عبدي مني؟ فيقول له العبد أعظم مطلوب وأهم وأجمل وأكمل مراد هو أن أطلب الهداية إلى الصراط المستقيم.
د. الربيعة: لو تصورنا حقيقة الهداية وسب هذه الهداية. من أمثلتها في واقع الحياة التي يستحضرها الإنسان ويطلب الله عز وجل هذا السؤال مثل ذلك وأنت حتى في طلبك للعلم تقول إهدنا الصراط المستقيم وأنت تطلب أن تشتري بيتاً تقول إهدنا الصراط المستقيم وأنت تريد أن تطلب وظيفة أو تتزوج تقول إهدنا الصراط المستقيم أو تطلب العلم أو تُشكل عليك مسألة من المسائل تقول إهدنا الصراط المستقيم بل إذا كنت في مشكلة تقول إهدنا الصراط المستقيم هذا المعنى قليل من الناس يستحضره، يستحضر أنه يُهدى إلى الدين العام لكن لا يستحضر أنه يهدى إلى كل جزئيات هذا الدين بل كل جزئيات حياته.
د. الخضيري: وهذا الكلام يحل لدينا مشكلة، ما هو معنى إهدنا الصراط المستقيم؟ قد يفهم بعض الناس أن إهدنا بمعنى دلنا وأرشدنا فيقول أنا الآن عرفت الإسلام وعرفت الدين فلماذا أسال الله في كل صلاة أن يهديني للإسلام وقد هديت للإسلام؟ فنقول نعم إهدنا الصراط الكستقيم تعني دلنا على الصراط المستقيم وهو الإسلام والدين والقرآن والسنة والجماعة هذا المعنى الكامل وهو أيضاً لمن تحقق به فعرف الإسلام دلالة على الأشياء التفصيلية. يا من هديت إلى الإسلام هل هديت إلى كل ما يريده الله منك في هذا الدين؟ لا شك أنه ما أحد منا يدّعي ذلك ولذلك نحن بحاجة إلى الهداية.
د. الربيعة: إذن المقصود بالهداية هنا طلب الهداية الكاملة في جميع شؤون الحياة.
د. الخضيري: ولذلك افترض أنك هُديت فتعلمت لنفترض هذا وهذا قد لا يكون إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما هديت إلى العلم فهل ستُهدى إلى العمل؟ أنت بحاجة إلى أن تسأل الله أن تُهدى إلى العمل لأنك إذا عرفت ولم تعمل لم تُهدَ إلى الصراط المستقيم.
د. الربيعة: وصف الله الصراط ، مّرت علي لطيفة في قوله الصراط، لماذا عبّر بالصراط بدل أن يعبِّر بالطريق؟ أنه يتذكر الإنسان بهذا اللفظ (إهدنا الصراط) صراط الدنيا بعبادة الله وصراط الآخرة الذي يسلكه إلى الجنة والمنصوب على متن جهنم. هو يقول إهدنا الصراط المستقيم في هذه الدنيا بعبادتك واهدنا الصراط المستقيم للآخرة لننال جنتك. هل هناك معنى يستحضره المشاهدون من وصف الصراط بالمستقيم؟
د. الخضيري: يظهر لي والله أعلم أن المستقيم هنا يدل على أن الإنسان يبنغي له أن لا يتذبذب وأن لا يتراجع وأن لا يتوقف وأن هذا الصراط أيضاً واسع يسعني ويسعك أنت تعمل في الأعمال الخيرية وأنا في طلب العلم وهذا في نفع الناس والثالث في بر الوالدين والرابع في الصلاة والخامس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسادس في الجهاد في سبيل الله فهو صراط واسع ومستقيم موصل إلى الله عز وجل.
د. الربيعة: وسهل، يعني الدين واضح جداً وميسور لا يحتاج إلى أن الإنسان يتقعر ويتشدد إنما هو يسلك ما أرشده الله إليه ورسوله. بعد هذا يقول الله عز وجل تأكيداً على هذا الصراط (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) لماذا أكّد مرة أخرى طلبه بقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)؟
د. الخضيري: ليبيّن من هم أهل هذا الصراط وأهل هذا الصراط وصفهم اله عز وجل في آية أخرى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا (69) النساء) هذا الصراط قد تخترعه لنفسك أو قد تتخيله، قال لا، قد كفيت، هذا الصراط المقصود كان عليه رسول الله، كان عليه الأنبياء وكان عليه الصالحون من عباد الله وكان عليه الصديقون والشهداء فاسلكه فإنك إذا سلكته سلكت سبيلهم وهُديت إلى الله عز وجل.
د. الربيعة: إذن هو صراط واضح سلكه من قبلك يعني لا يحتاج أن تقول أخشى أن أضل وأخشى أن أنحرف عنه وأخشى أن لا تجده بل هو تجده في كتاب الله عز وجل. لندلف إلى ختام هذه السورة الآن هنا الله عز وجل أرشد المؤمنين إلى أن يطلبوه ويسألوه هداية الصراط المستقيم ولو أن الإنسان سلكه ووفقه أليس هناك ما يعيقه عن الصراط والشيطان من هنا والأهواء من هنا والدنيا من هنا؟ فكيف يسلم من هذه العقبات التي تقف أمامه؟.
د. الخضيري: الصراط مكون من فرعين علمٌ صحيح وعمل صالح وإذا تأملنا هذا جيداً عرفنا أن الإنسان إذا أخل بأحد هذين الركنين حصل له الإنحراف عن الصراط. فإذا كان عنده علم صحيح وليس عنده عمل صالح فقد ضلّ في هذا الطريق مثلما حصل لليهود قد كان عندهم علم صحيح يعرفون رسول الله صلى اللله عليه وسلم ويعرفون أنه نبي حق ومع ذلك كذبوا به ولم يؤمنوا به ماذا ينفعهم هذا العلم الصحيح إذا لم يوافقه عمل صالح؟! النصارى على العكس من ذلك كانوا يعملون أعمالاً صالحة في نظرهم ويتعبدون لله بل وصلوا إلى الرهبانية كما قال الله عز وجل في سورة الحديد (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا (27) الحديد) عندهم ربهانية، هذا العمل لم يكن على بينة ولم يكن على سنة ولم يكن عن طريقة أخذوها عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فصاروا ضالين أيضاً. إذن الإنحراف يأتي من جهتين من جهة العلم أو من جهة العمل إذن صراط المنعم عليهم هو الصراط الذي جمع بين العلم النافع والعمل الصالح لذلك نقول يا إخواننا عليكم بالعلم النافع العلم الذي يهدي إلى الله وعليكم بلعمل الصالح وهو العمل الموافق لذلك العلم، ما تعمل أعمالاً من عند نفسك، لا تخترع عبادات وتتقرب بها إلى الله، لا، قد كفيت وهديت وما هناك عمل إلا العمل الذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تركنا على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
د. الربيعة: إذن حينما يقرأ المسلم (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فإنه يسأل ربه سبحانه وتعالى أن يسلّمه من سبل الإنحراف بعد سلوكه السبيل السويّ صراط المنعَم عليهم. سبل الإنحراف هناك سبيلان سبيل المغضوب عليهم وسبيل الضالين.
د. الخضيري: والمغضوب عليهم هم اليهود ومن شابههم، من علم علماً صحيحاً ولم يعمل به فهو من المغضوب عليهم.
د. الربيعة: علماً صحيحاً يعني تبين له الحق لكنه لم يعمل به. مثل ماذا؟
د. الخضيري: مثل المنافقين، المنافقون علموا الحق عرفوا أن هذا رسول الله وعرفوا أن هذا دين الله لكنهم لم يستجيبوا ولم يذعنوا فهم من المغضوب عليهم. وأيضاً الضالون كل من تعبد لله واجتهد وأحرق بدنه وجسمه ولكنه في المقابل ليس على بينة وليس على هدى بل اجتهد في العبادة على غير هدى من الله سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: هل يمكن أن نضرب على هذا أمثلة واقعية في حياتنا حتى يستحضرها المسلم في حياته؟ المغضوب عليهم مثل إنسان يعلم أن الربا حرام
د. الخضيري: ومع ذلك تغريه الأرباح الربوية فيذهب ويساهم في البنوك الربوية هذا من طريق المغضوب عليهم
د. الربيعة: كل من علم حُكم شيء من الشرع ولم يعمل به
د. الخضيري: فله حظ من هذا الوصف. وفي المقابل نجد بعض الناس عنده همّة على العبادة لكنه يأخذ هذه العبادة من عند نفسه أو يأخذها من بيئته ومجتمعه ولا ينظر هل ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل وردت؟ هل دلّ عليها دليل؟ لا يتأكد من هذا ولا يتثبت منه فهذا خطير. ولذلك جاء رجل يقال له أبو إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنذر أن يقوم في الشمس وأن يصوم وأن لا يتكلم، ثلاثة أشياء أراد بها أن يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، فماذا حصل؟ رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي ما لأبي إسرائيل؟ قالوا نذر أن يقوم في الشمس ويصوم وأن لا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليتم صومه وليستظل وليتكلم أو كما قال عليه الصلاة والسلام لأن التعبد لله بترك الكلام والتعبد لله بالوقوف في الشمس هذه ليست من سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم وليس من دين الله. فهمها كنت مجتهداً وذو نية صحيحة فإن ذلك لا يشفع لك عند الله سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: (وَلاَ الضَّالِّينَ) من الأمثلة التي تقع منا ونحن نشعر بها من صفات الضالين التي يخشى المسلم أن يقع فيها مثل الذي يعمل بجهل، يتعبد الله بجهل كأن يستحدث عبادة من عند نفسه كأولئك أهل البدع والخرافات الذين يتعبدون لله بما لم يشرعه الله ولا رسوله كأنهم يستدركون على الله ورسوله.
د. الخضيري: وهذا خطير على المسلم. لعلنا نختم بشيء مهم جداً وهو نلاحظ أن سورة الفاتحة افتتحت بالثناء على الله عز وجل ثم باعتراف العبد بين يدي الله عز وجل بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ثم بالدعاء، ما هي الفائدة العملية التي يستفيدها المسلم منهذه الطريقة في سورة الفاتحة؟
د. الربيعة: من الأمور التي ذكرها إبن كثير رحمه الله وبعض المفسرين أن المسلم يقدّم بين يدي دعائه الثناء على الله وأن هذا من أسباب الإجابة بإذن الله. فأول ما تسأل الله عز وجل إحمده أنت لو أتيت إلى تاجر فأنت تثني عليه هو وأهله وأنه صاحب الفضل والصدقات ثم تسأله والله تعالى صاحب الفضل العظيم والكرم العظيم يحب الحمد فاحمده واثني عليه بما هو أهله ثم اسأله ما تريد أن تساله، هذا من آداب الدعاء التي نستفيدها ونستنتجها من هذه السورة العظيمة.
د. الخضيري: إذن إذا رفعتم أيديكم لتدعوا الله سبحانه وتعالى فلا تبادروا بالمسألة بل إجعلوا بين يدي مسالتكم حمداً وثناء وافتقاراً لله عز وجل واعترافاً وذلاً وعبودية لله عز وجل وصلاة وسلاماً على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يستجاب الدعاء فإنكم إذا فعلتم ذلك فحريٌ بهذا الدعاء أن يستجاب وأن يُقبل.
د. الربيعة: الكلام في هذه السورة لا يمل وكلنا بحاجة إليه وإلى هذه السورة. هذه السورة باختصار تعطينا الكمال البشري لمن أراد الكمال إذا حقق عبودية الله وعرف الله حق معرفته وافتقر إليه وأظهر عبوديته بين يديه ولذلك إخواني ينبغي أن نقف عند هذه السورة التي نكررها في اليوم أكثر من ثلاثين مرة فرضاً ونفلاً أن نقف معها متدبرين عاملين ممتثلين نسأل الله أن يجعلنا من المتدبرين العاملين. ولنا معكم بإذن الله عز وجل لقاء يتجدد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة السادسة
د. الخضيري: السلام عليم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في هذه الجلسة نعيش مع بقية سورة الضحى حيث أخذنا في الحلقة الماضية جزءاً من هذه السورة ونأخذ اليوم بقيتها ونقف مع بعض آياتها لنستهدي بها. وصلنا لقوله تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)). دعونا نحاسب أنفسنا مع أول آية (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) هذا ربنا سبحانه وتعالى قد آوى اليتيم واليتيم هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي فقد أبويه في صغره أما أبوه فقد فقده قبل أن يولد وأما أمه فبعد أو وُلِد عليه الصلاة والسلام. إذن ما دورنا نحن؟ دورنا أن نؤوي الأيتام وأن نكرمهم وهذا ما أمرنا به نبيينا صلى الله عليه وسلم وحثنا عليه فقال عليه الصلاة والسلام (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) وأشار بإصبعيه إذن علينا أن نعاهد أنفسنا على إيواء الأيتام وأن نرحمهم فإننا إذا رحمناهم رحمنا الله.
د. الربيعة: ولو تأملت القرآن لوجدته كثيراً ما يذكر اليتيم
د. الخضيري: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا (10) النساء)
د. الربيعة: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) البلد) فهذا يدلك على منزلة اليتيم عند ربه لأنه ليس له من يؤويه فالله تعالى هو الذي تولى هذه الرعاية، ما أشمل هذه الرعاية!
د. الخضيري: إذا كان الرب سبحانه وتعالى قد نسب هذا الإيواء إليه فنحن حري بنا أن نسارع إلى أن نحيي هذا الأمر في بيوتنا وفي مجتمعاتنا إذا كان لك جار يتيم أو قريب يتيم أو حتى أخ يتيم ترحمه تتحنن عليه تكرمه تقوم برعايته، تقضي حاجته، تعلمه دروسه، وهذا من أعظم الرعاية تهديه إلى المسجد وإلى الصلاة وإلى الله عز وجل
د. الربيعة: البعض يظن أن إيواء اليتيم وكفالة اليتيم في إطعامه فقط أو في كسوته والرعاية الأعظم والأهم هي التربية الإسلامية الصحيحة التي ترعاه في دينه تكفل له حماية هذا الدين. الحقيقة في هذه الآية (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) فإنها تعطينا نظرة للحياة بأننا هذا الضعيف مهما كان ضعفه فإنه ربما يكون في يوم من الأيام ذا شأن عظيم. وأنت تلمس هذا في واقع الحياة كم من يتيم ضعيف ربما كان يتيم الأبوين
د. الخضيري: فكان سبباً في علو شأنه ورفعة قدره. الإمام أحمد بن حنبل كان يتيماً وابن حجر كان يتيماً وابن جرير كان يتيماً وكثير من العلماء كانوا أيتاماً.
د. الربيعة: ومن علمائنا المتأخرين إبن باز والسعدي رحمهم الله. تقف عند سر من أسرار حياة اليتيم أنه وراءه مستقبلاً لو أعطيناه عناية وأحسنا إليه - بما أوصانا الله به وإلا فالله تعالى يرعاه – لكن هذه الرعاية البشرية هي من أسباب استقامته وصلاحه وهدايته للطريق ولذلك اقول إننا لو راعينا يتيماً رأينا فيه النبوغ ورأينا فيه الذكاء ورأينا فيه الصلاح فإنه يكون لهذا اليتيم شأن.
د. الخضيري: أذكر في هذا المقام قصة جميلة جداً في رعاية اليتيم: رجل وامرأة لا يولَد لهما عقيمان فذهبا إلى دار اليتيم وأخذا يتيماً ويتيمة وآواهما إلى بيتهما وبقيا يربيانهما ويحفظانهما ويقومان على رعايتهما رعاية تامة كأنهما أبناؤهما حتى زوجوهما، في الليلة التي زوجوهما فيها حملت تلك المرأة في أول حمل لها وكان الأطباء يقولون لا تحمل، في تلك الليلة بدأت مرحلة الحمل والولادة لأولاد حقيقيين وكأنها هدية من الله عز وجل أو كرامة من الله عز وجل لهما على ما فعلاه بالأيتام فكما تفعل بالأيتام يُفعل بك وكما تكرم الأيتام تُكرم في الدنيا والآخرة ويهيئ الله لذريتك وأولادك من يكرمهم. ولذلك يذكر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) ثم يقول (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) يعني قابل هذه النعمة يا محمد بأن لا تقهر اليتيم وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان أباً للأيتام يكرمهم ويرحمهم، يحنو عليهم ويعطيهم ويقدمهم ويقربهم لا يدّخر شيئاً عليهم وكان يأمر أصحابه بأن يرحموهم وأن يلطفوا بهم بل حتى أن يمسحوا على رؤوسهم حتى ترق القلوب وتتنظف الأفئدة من أدران الكبر والعجب.
د. الربيعة: والآية هذه تعطي اليتيم نفسه سلوى وتسلية لأن نبيه صلى الله عليه وسلم كان يتيماً وينبغي أن نشير إلى هذا الملحظ للأيتام
د. الخضيري: نقول لهم لا تياسوا فأشرف الخلق كان يتيماً وخيار عباد الله الصالحين كانوا أيتاماً ولم يضيعهم الله سبحانه وتعالى. كنُ حسن الظن بالله، ليكن أملك واسعاً لتكن مشرق النفس إعلم أن الله سبحانه وتعالى لن يضيعك وأنت لا تضيع نفسك. ولذلك نحن نقول لإخواننا الأيتام ولمن ابتلي باليتم ولمن كان عنده أيتام أبشروا وأمّلوا ولا تظنوا بربكم إلا خيراً.
د. الربيعة: لعلنا ننتقل إلى رسالة أخرى من رسائل هذه السورة العظيمة وهي قوله (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) امتنان من الله على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وجده ضالاً، تأمل كلمة ضال.
د. الخضيري: ما معنى ضال؟
د. الربيعة: ضالاً لم يكن على شريعة حباه الله تعالى عليها
د. الخضيري: لم يكن على علم بهذا الوحي فهذا هو الضلال المقصود في هذه الآيةة أنه لم يكن يعرف بهذا الوحي ولم يكن يعلمه فسماه الله عز وجل ضلالاً وسمى نزول الوحي عليه هدى
د. الربيعة: مقارنة بالهدى الذي آتاه الله لأنه لم ضلال شرك ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد ولم يسجد النبي لصنم قط ولم يلتفت لغير الله أحداً لكنه بالنسبة لما أتاه الله من الهدى والنور والحق كان ضلالاً. ولهذا فإن هذه الآية تعطيك أيها المسلم بأنك إذا لم تكن على هدى من الله وبصيرة في دينك فلتنظر إلى حالك. فإن الإنسان ليس دليلاً فقط عن الإسلام أنه على هدى ففيه هدى أي الهدى الكامل وكمال الهدى أن تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عقيدتك وعبادتك وأخلاقك فهذا هو الهدى. فقد تكون مسلماً بشهادتك أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكن يجب أن تطلب كمال الهدى. ثم إن الإنسان أحياناً يشعر بأنه حينما يوفق للخير كأن يكون يخدم في مجال من مجالات الخير أو قد يوفق لحفظ كتاب الله أو يوفق للعيش مع هذا القرآن، والله إن من عاش مع كتاب الله عز وجل ليجد أن حياته الأولى ضلال، لماذا؟ لأنه وجد مع هذا الكتاب إنشراح وسكينة واستقراراً ووجد أنه إنسان يعبد الله على بصيرة
د. الخضيري: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ (122) الأنعام) ما هو النور؟ هو هذا الوحي. قال الله عز وجل وهو تفسير لهذه الآية وبيان لما أشرتم له من معنى جميل (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) الشورى)
د. الربيعة: أذكر أحد الأخوة ممن كان تخصصه في مجال التقنية والحاسب ويعمل في شركات تصدر البرامج الغنائية والأفلام وغير ذلك ثم وفقه الله عز وجل للعمل في موقع يخدم كتاب الله عز وجل يقول والله إني أجد الآن حياتي وأسأل الله أن يميتني على هذا الحال. هو مسلم لكنه شعر أنه كان في ضلال في سلوكه وشيء من أعماله ثم هداه الله لخدمه دينه وكتابه، حقاً هذا هو الهدى. فلينظر المسلم إلى السبيل الذي يسلكه في الحياة يجد فيه الهداية التامة.
د. الخضيري: نأخذ موقفاً آخر من هذه السورة يستضيء به المسلم في حياته. نحن تعاهدنا على أن نقف ثلاث أو أربع وقفات مع سورة من قصار المفصّل فنقبس منها واقعاً عملياً ونستضيء بها في حياتنا. الآية الثالثة التي نأخذها في هذا المجلس هي قول الله عز وجل (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) يعني وجدك فقيراً ليس بيدك مال فأغناك الله عز وجل وأعطاك المال. ماذا يعطيني ويعطيك أخي المسلم أن نرحم الفقراء وأن نغنيهم وأن نعطيهم وأن لا ننساهم وإذا أنعم الله علينا وأفاء بالمال أن نكرمهم وأن لا نحرمهم ما آتانا الله عز وجل. واعلم أن هذا المال الذي آتاك الله إياه هو فضل من الله وهو امتحان فعليك شكراً لنعمة الله عز وجل أن تعطي السائلين وأن تمنح المحرومين وأن تكرم المساكين وأن لا تدخر وسعاً في هذا الباب وكلما أعطيت سيعطيك الله وكلما رحمت يرحمك الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما نقصت صدقة من مال"، "أنفق يا ابن آدم ينفق عليك"، "ما من يوم يصبح فيه إلا وملكان يقولان اللهم أعط منفقاً خلفا وأعط ممسكاً تلفا"
د. الربيعة: وهنا معنى آخر في هذه الآية ولطيفة مهمة نعرف بها حقيقة الغنى (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) ما هو الأمر الذي أغنى الله به نبيه؟ لا شك أن من أعظم ما أغنى الله به نبيه هو هذا الكتاب العظيم وهذه الشريعة وهذا الهدى وهذا الخير الذي منحه إياه. ثم ما منحه الله من فتوح غنى أمته ومنحه ملك فارس والروم بل ملك الأرض كلها وهذا يجعلنا نقول أن أعظم الغنى غناك بإيمانك بالله وهدايتك بالكتاب العظيم ومن ذاق ووجد هذه النعمة وهُدي إليها فإنه والله سيشعر بحقيقة غير الحقيقة
د. الخضيري: وايضاً ذكرتني بمعنى جميل جداً في في هذه الآية وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس". غنى النفس أن تقنع بما آتاك الله وأن لا تتطلع بما في أيدي الناس هذا هو غنى النفس. فإذا كان الإنسان راضياً بما قسم الله له مطمئناً إلى ما قدّره الله له فليعلم أنه في بحبوحة من العيش لأن ذاك الذي جعل عينيه في ايدي الناس وفيما أوتي الناس قد صار قلبه فقيراً أشد الفقر فهو لا يشبع من الدنيا مهما أوتي منها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً ولو كان له واديان لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" فلنعلم أنفسنا القناعة فهي كنز من أعظم كنوز الدنيا. وهنا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يملك الدنيا بيديه وكانت بين يديه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم ينفقها
د. الربيعة ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر
د. الخضيري: وكان عليه الصلاة والسلام يدّخر لأهله قوت سنتهم ثم ينفق ذلك الذي ادخره فيمر الشهر والشهران والثلاثة ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، كل ذلك من غنى نفسه صلى الله عليه وسلم وينام على الحصير ويبيت جائعاً ويخرج إلى أصحابه وقد ربطوا الحجر على بطونهم وقد ربط الحجرين على بطنه عليه الصلاة والسلام.
د. الربيعة: قد يُشكل على بعض الناس هذه الآية عندما يقرأوها (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاش عيشة كفافاً بل عاش في ايام كثيرة من حياته في فقر وحاجة لكننا نقول لتنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما أتاه الله من غنى في دين الله وما آتى أمته. أن ما آتى الله أمته من الغنى وفتح الله هذه الفتوح وهذا الخير هو ما آتاه النبي صلى الله عليه وسلم
د. الخضيري: إذن الدرس الذي نأخذه من هذه الآية هو أن يدرب الواحد منا نفسه على غنى النفس وعلى القناعة وأن يكون كل واحد منا أيضاً يتذكر هذا الوحي فيعتني به وهذه الشريعة وهذا النبي فيعتني بها ويحمد الله عليها ويعلم أن ما فاته من الدنيا ليس بشيء أمام ما آتاه الله عز وجل من الحظ العظيم وهو القرآن ولذلك ختمت السورة بقوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) لعلنا نأخذ لمحة عنها.
د. الربيعة: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك وكما ذكر أن أعظم النعم القرآن فيحدث بها بنشرها وتعليمها للناس وهنا نأخذ درساً عظيماً أن ما آتاك الله من الخير ومن نعمة الهداية ونعمة الإسلام فينبغي أن تحدث به الناس وتنشره للناس، هذا من شكره (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم) والإنسان ينبغي دائماً أن يذكر نعمة الله ويحمده عليها، آتانا الله كذا وكذا ولله الحمد والمنة على فضله. أما الذي لا يشكر ربه فإنه سبيتلى يفقده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغبة". حينما تحدث بنعمة الله وحينما تكون راضياً بما آتاك الله فإن هذا باعث على المزيد بإذن الله من فضل الله عز وجل.
د. الخضيري: إذن نحن نقول للمشاهدين إحمدوا الله على النعمة وأكثروا من شكر الله وحدثوا بنعم الله دائماً إذا أصبحت وقيل لك كيف أنت يا فلان؟ قل الحمد لله ولو كنت مريضاً ولو كنت فقيراً أكثِر من الثناء على الله عز وجل ولعلنا بهذا نختم جلستنا المباركة مع سورة الضحى ونقول لمشاهدينا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة السابعة
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، أيها الأحبة هذا المجلس هو المجلس الثامن من مجالسنا المباركة مع البرنامج الذي نحيا به بإذن الله عز وجل "لنحيا بالقرآن" ومع سورة شريفة هي سورة التين لنقف أولاً قبل أن نقطف ثمارها لنقف معها وقفة مقدمة وتمهيد. هذه السورة حينما يقرأها المسلم فإنها تدعوه وتبيّن له شرفه شرف هذا الإنسان بالدين وأن هذا الإنسان ليس له شرف بغير هذا الدين. هذه السورة الكريمة حينما يقرأها المسلم قراءة متدبرة متمعنة فإنها تُظهر له قيمته بالدين وشرفه ومنزلته وأنه بغير هذا الدين لا يساوي شيئاً.
د. الخضيري: لا يساوي شيئاً بل هو في أسفل سافلين.
د. الربيعة: هو من أشرف المخلوقات بالدين ومن أسفل المخلوقات بغير هذا الدين. لنتأمل في افتتاحيتها ودلالة هذه الافتتاحية على هذا المعنى. يقول الله عز وجل (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿١﴾ وَطُورِ سِينِينَ ﴿٢﴾ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿٣﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٦﴾ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ﴿٧﴾ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴿٨﴾) أقسم الله تعالى بأربعة أشياء بالتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين، ما علاقة هذه الأربعة بالدين وشرف الإنسان؟ علاقتها هي أن هذه الأمور شرفت بالدين، هذه الثمار (التين والزيتون) وهي إشارة إلى بلد نوح عليه السلام والزيتون بلد عيسى عليه السلام في فلسطين وطور سنين هو الجبل الذي بعث الله عز وجل به موسى أو كلّمه والبلد الأمين هو البلد الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. انظر كيف شرُفت الأماكن بالدين فكيف بالإنسان الذي خُلق من أجل هذا الدين؟!. فما أعظمنا حينما نتأمل هذه السورة. وقد يسأل سائل فيقول لماذا لم يذكر الشام وفلسطين وقال التين والزيتون؟ في الحقيقة أطلت البحث في هذا لأنه له ملحظ مهم فاطلعت على دراسة أخيرة حديثة حول دراسة يابانية قام فريق بحث علمي من اليابان بدراسة الإنسان فوجدوا كيف أن الإنسان وهو طفل ينمو ثم يهرم، ما الذي يجعله ينمو ثم يهرم مع أنه قد يطعم طعاماً واحداً ويأكل أكلاً واحداً ونوماً واحداً؟ فما الفرق؟ حللوا هذا الإنسان فوجدوه يفرز مادة من صغره هي التي تنمي جسمه وتجعله قوياً فهذه المادة كلما كبر الإنسان ونما هي تزيد معه إلى سن الأربعين إذا بلغ أشده. ثم بعد الأربعين إلى الستين تستوي، ثم بعد الستين تنقص وهو الهرم. فحللوا هذه المادة ووجدوا جزئياتها فما هي المادة؟ فما هي المادة المماثلة لها في النباتات أو الحيوانات؟ درسوا الحيوانات فوجدوا المادة التي في الحيوانات تختلف اختلافاً عن مادة الإنسان، ثم درسوا النباتات فوجدوا أن أدل النباتات إفرازاً لهذه المادة التي تعادل مادة الإنسان هي التين والزيتون.
د. الخضيري: يعني أن المادة المستخلصة من التين والزيتون هي التي تعوض الإنسان ما نقص من مواد تنمي الحيوية والشباب
د. الربيعة: أجله محدود بيد الله عز وجل. ثم جاء عالم مصري مهتم بالإعجاز العلمي فدرس هذه الجزئية فوجد أن التين والزيتون في هذه السورة، ما دلالتهما؟ فتبين له أن اجتماع التين والزيتون له اثر في خلق الإنسان ولهذا قال الله عز وجل (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) إلى أن قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)
د. الخضيري: وهذا ما نريد أن نقف عنده وقفة ثانية في هذه السورة وهي قوله (لقد خلقنا) أقول لنفسي وللمشاهدين ينبغي أن نقف عند هذه الآية وقفة كريمة وهي أن هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد كرمنا وقد شرفنا ولذلك لا يليق بك أيها الإنسان ويا ابن آدم تزدري نعمة الله عليك وأن تقلل من فضل الله تعالى عليك وتنسى هذه النعمة العظيمة تنسى أن الله سواك وأحسن خلقك وعدّلك وأنبتك نباتاً طيباً كريماً فكلما تأملت أن هناك شيء ناقص عندك تأمل أن الله كملك وأحسن صورتك فنحمد الله سبحانه وتعالى وتقول الحمد لله أنا في نعمة أنا في خير. كان النساء يأتون إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيقلن لها فلانة قد أنجبت فتقول هل هو سالم في عينيه، سالم في أذنبه، سالم في فمه، فكانت تطمئنهم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يعني لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى ما هو غير ذلك يعني المرأة تقول أنا أريد المولود جميل أو أشقر أو أبيض أو أصفر أو أحمر ويدون ويشكل وكأنه يريد أن ينافس الناس بجمال أبنائه وحسنهم، نقول لا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) بعض النساء تعيش هماً عظيماً وكمداً متوالياً بسبب أنها ترى نفسها أنقص في الجمال وأقل في لون البشرة من أختها أو ابنة عمها أو صديقتها أو جارتها أو غير لذك نقول لها لا تنسي انظري إلى أولئك المشلولين وإلى الذين ابتلوا بالعاهات الدائمة ومع ذلك صبروا وذلك من حكمة الله.
د. الربيعة: ثم إن هناك تقويماً وشرفاً أعظم من هذا البدن وهو جانب الدين
د. الخضيري: هذا إذا نظرنا إلى الإنجاز المادي، ما هو الجانب المعنوي في هذه القضية؟
د. الربيعة: جانب الدين، فالله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم خلقته في أحسن تقويم يهيؤه لعبادة الله عز وجل. أرأيت كيف أن هذه القوامة بطول الإنسان وهو المخلوق الوحيد الذي شرّفه الله بقوامته وقيامه ومشيه على قدمين في أصله لا مخلوق فيما أعلم في أصل خلقته في طبيعته يمشي على رجليه قد يمشي الوطواط على رجلين لكنه يمشي على رجلين أو على أربعة لكن هذا الإنسان قد نصبه الله أولاً شرفاً له وثانياً أن هذا الجسم هو أهيأ ما يكون في خضوعه لله عز وجل
د. الخضيري: ولذلك إذا أراد أن يسجد تمدد هذا الجسم وانقبض ليتحقق له هذا السجود وهذا الخضوع والركوع لله
د. الربيعة: تأمل ليونة مفاصل الإنسان هي لأجل أن يلين لله عز وجل ويخضع ويخشع (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ليهيؤه لعبادة الله عز وجل. ثم تأمل بعد ذلك قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) كيف ذلك؟ لقد هيأك الله تعالى أيها الإنسان لعبادة الله وشرّفك بهذه العبادة وخلقك على أحسن تقويم في جسمك ولسانك وعينيك وجميع قواك لتعبد الله فإن خرجت عن هذه المهمة العظيمة وهذا الشرف العظيم فإن الإنسان بهذا في أسفل سافلين. في أسفل سافلين في منزلته بين الدواب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) التوبة) هم أشرّ من الدواب ثم إنه في أسفل سافلين في النار. هذا معنى الآية (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هيأه الله سبحانه وتعالى بقوامته وهيأته وعقله لدين الله فإن هو تخلى عن هذا الشرف فإنه في أسفل سافلين.
د. الخضيري: ولهذا نقول ليس لنا خيار إما أن تقوم وتحمل هذه الأمانة وإلا فإن مردك إلى أسفل سافلين
د. الربيعة: ولهذا فإن أهل الطاعة في الحقيقة في عزّ "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله". انظر إلى حال المسلمين حينما ساروا وراء الغرب!
د. الخضيري: صاروا متخلفين وفي ذل القائمة وإلى يوم الدين إلى أن يشاء الله أن يرجعوا إلى دينهم.
د. الربيعة: ولذلك إن الإنسان كلما استقام على دين الله تعالى كان أعظم عزة وفخراً وإحساساً بهذه الحياة وعزتها وشرفها. فلنشرف بهذا الدين حينما نتمسك به ونعتز به ونعلم يقيناً أنه لا شرف لنا إلا بما شرفنا الله به. أما حينما يطلب الإنسان الشرف في موضاته الغربية وقصات وأشكال عجيبة هذا ليس والله لا شرف ولا عزّ.
د. الخضيري: مما يؤكد كلامك أنه ستأتي معنا السور القادمة أن كل الناس خاسرون وأنهم كلهم جميعاً هالكون إلا من التزم بالمواصفات الربانية كما سيأتي معنا في سورة العصر (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) إذا قمت بهذه الواجبات وأديت هذه الشروط استحقين هذا النجاح وفزت وسعدت في دنياك وأخراك وإذا تركت هذه الشروط فاعلم أنك خاسر في دنياك وخاسر في أُخراك ولا يغرنك أنك تملك أدوات وأجهزة وأموال وغيره، هذا لا يغرك هذا متاع زائل وذاهب. إذن نؤكد على أنفسنا ونتأكل هذا المعنى العظيم في نفوسنا خلقنا الله بأحسن تقويم لنعبده فإن لم نعبده فإن مردّ هذا القوام الحسن أن يكون حطباً لجهنم كما قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (6) التحريم)
د. الربيعة: تأمل كأمثلة نضربها على هذه الآية، من أشرف الناس؟ الأنبياء والرسول صلى الله عليه وسلم أشرفهم، بماذا شرفوا؟ برسالة الله، بهذا الوحي الذي هو هذا الدين إنما كان الملبلِّغ الأول له عليه الصلاة والسلام ورسل الله أجمعين، ثم من حمل لواء هذه الدعوة.
د. الخضيري: من الصحابة والتابعين والصالحين والصديقين
د. الربيعة: ولذلك تجد أعظم الناس شرفاً في نفوس الناس هم العلماء، هم أهل الدين الذين يذبّون عن دين الله والذين ينشروه في الأرض دعاة الله في الأرض هؤلاء سبحان الله لهم في قلوب الناس مكانة.
د. الخضيري: ولذلك قال الحسن البصري كلمة جميلة قال إنهم (اي أهل المعاصي) إن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البرادين فإن ذل المعصية في رقابهم لا يفارقهم حتى يفارقوا معصية الله سبحانه وتعالى. وهذا ذل فطري قد يتبارى الإنسان بالعز والجبروت ولكن في قلبه ذل بحيث أنه إذا قابل عالماً أو صالحاً أو ولياً من أولياء الله تجده يتصاغر أمامه ويعلم أن ذلك على الحق وأنه على المنهج الرباني الصحيح وأنه هو ليس على شيء. ولذلك نجد الكثير من هؤلاء من فنانين وغيرهم تختم لهم بخواتم نسأل الله العافية والسلامة، خواتيم كثير منها سوء، بعضهم ينتحر وبعضهم يموت ميتة لا تُحمد ثم ترى جنائزهم نسأل الله العافية والسلامة في غاية السوء لا يشهدها إلا الفُسّاق والعصاة وأراذل عباد الله.
د. الربيعة: بعدها قال الله عز وجل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) كيف نربط هذه الآية بما قبلها؟
د. الخضيري: لا شك أنه الآن لما بيّن الله سبحانه وتعالى أنه من لم يأخذ بهذا الدين فإنه في أسفل سافلين بيّن المنجى من ذلك وهو في أمرين وإنهما يسيران على من يسره الله سبحانه وتعالى عليه وهي أن يؤمن الإنسان بالله إيماناً صادقاً ويعمل الصالحات. والحمد لله عمل الصالحات ميسور لمن أقبل بقلبه وصدق مع ربه. عمل الصالحات أن تقوم بالصلوات الخمس وأن تصوم رمضان وأن تحج بيت الحرام مرة في العمر وأن تؤدي الزكاة وبر الوالدين وصلة الرحم.
د. الربيعة: إذن الدين يسير وهذا ملحظ في السورة مقصود وأن هذا الدين ليس صعباً، هذا الشرف الذي تنال به شرف الدنيا والآخرة تناله بعمل بسيط.
د. الخضيري: يعني الدين لا يمنعك من شهواتك تستطيع أن تستمتع بما أحلّه الله سبحانه وتعالى تستطيع أن تأكل وتشرب وتملك وتذهب وتجيء وتسافر وتستمع بمتع الحياة ومع ذلك تلتزم بأوامر الله وتنتهي عن نواهي الله ولا تتعدى حدود الله وتعلم بذلك أنك تحصل الشرف في الدنيا وتحصّل الفلاح في الآخرة
د. الربيعة: تأمل كيف ختم الله تعالى هذه السورة. إن كان هذا الدين موضع شرفك فما الذي يجعلك تتخلى عنه؟
د. الخضيري: والله ما هو إلا النفس الأمارة واتباع الهوى ومسايرة الناس وإلا سل الآن اي إنسان أوغل في معاصيه تقول له هل تشك في الله؟ يقول لك لا، تقول هل تشك في رسول الله؟ يقول لا، تقول هل تشك في كتاب الله؟ يقول لا، إذن ما الذي يمنعك من أن تتبعه وتقوم به وتؤدي حقوقه عليك؟ يقول لا أعرف، لأنه يريد أن يكون مثل زملائه يشرب الدخان ويترك الصلاة ولا يريد أن يصوم ولا يريد أن يزكي ولا يريد أن يصل رحمه ولا يريد أن ينصح ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يطعم المسكين ولا يرحم اليتيم، سبحان الله! إلى متى؟! هذه إن فعلتها فهي خير لك وهي حتى سعة لصدرك وراحة لبالك وانشراح لدنياك ولذة عاجلة
د. الربيعة: كما قال تعالى في آخر السورة (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) أنك حينما تُمنح هذا الدين فهو حكمة الله أعظم حكمة أنه خلقك أيها الإنسان وهيأك لهذا الدين وجعل لك أجراً غير ممنون أي غير مقطوع وغير محاسب عليه والله إنها لأعظم حكمة. الحقيقة أن هذه السورة سورة عظيمة لا نمل منها ولا نشبع، سورة تعطينا شرفنا وتبين لنا قيمتنا في هذه الحياة بأننا لا شرف ولا عز ولا تمكين إلا بهذا الدين. نسأل الله عز وجل أن يشرفنا بهذا الدين ويجعلنا به أعزة ويجعلنا متمكنين. نختم الحلقة ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. وإلى لقاء آخر بإذن الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
لم يتم عرض الحلقة في اليوم الثامن من رمضان وهذه حلقة التاسع من رمضان

الحلقة التاسعة
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه الجلسة السابعة من دلسات برنامجكم (لنحيا بالقرآن) نسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بالقرآن. وهذه الجلسة ستكون مع سورة تنشرح بها الصدور وتأنس بها النفوس إنها سورة الشرح. ويقول الله عز وجل (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿٤﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴿٧﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴿٨﴾) هذه السورة العظيمة هي متممة لسورة الضحى ولذلك تأمل قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) كما قال في سورة الضحى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) فهي متممة لتمام امتنان الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم.
د. الخضيري: إذن ما الفرق بينها وبين سورة الضحى؟
د. الربيعة: يبدو والله أعلم للمتأمل والمتدبر أن الفرق بينها أن سورة الضحى تضمنت امتنان الله عز وجل على نبيه بالنعم الحسية التي فيها اليتم والضلال والفقر وأما هذه السورة فهي في امتنان الله عز وجل على نبيه بالنعم المعنوية بشرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر. فهذه السورة حينما نتأملها نجد أنها في امتنان الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم أولاً وهي أيضاً تظهر للمسلم حينما يقرأها امتنان الله عز وجل عليه ما أتاه من انشراح صدره بهذا الدين (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ (22) الزمر) والله لن يكون للإنسان انشراح صدر تام إلا بهذا الدين. ثم أيضاً امتنان الله عليه بمغفرة ذنبه ورفع ذكره بأن جعله في هذا الدين عزيزاً شريفاً أشرف مخلوق. فما أعظم هذه السورة حينما نتأملها وحينما ننظر إليها من هذا المنظار. لعلنا نأخذ بعض آياتها التي فيها بعض الجوانب التي نعيشها في حياتنا.
د. الخضيري: لعل أول شيء نلاحظه في هذه السورة قول الله عز وجل (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) هذا الاستفهام يسميه العلماء استفهام التقرير يعني هذا تقرير من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول له قد شرحنا لك صدرك ألم نشرح لك بمعنى قد شرحنا لك صدرك، هذه نعمة وكون الرب سبحانه وتعالى قدّمها في هذه السورة تدل أيضاً ولا شك أن من أعظم النعم وأجلّها وأعلاها منزلة هو أن ينشرح صدر الإنسان فقد يكون عند الإنسان قصر وسيارة وزوجة وولد ومال وأشياء كثيرة ولكن صدره ضيق فلا يأنس بشيء من متاع الدنيا. وقد يكون الإنسان على عكس ذلك لا زوجة ولا ولد ولا بيت ولا سيارة وهو فقير وحاله بائسة لكن نفسه منشرحة فهو يعيش نعيم الدنيا ولذتها. ولذلك نقول للمشاهدين تعلموا كيف تشرحون صدوركم بهذا الدين وبهذه النعمة وبهذا الوحي، حتى قال بعض السلف إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. تصور أن الإنسان إذا حافظ على ذكر الله عز وجل اطمأنت نفسه، إذا حافظ على أوراد الصباح والمساء اطمأن قلبه (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد) إذا حافظ على ورده من هذا الكتاب هذا القرآن العظيم تقرأ منه كل يوم ما شاء الله متدبراً ينشرح صدرك، إذا رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً فإنك تنشرح نفسك، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك إنشرح صدرك. إذن علينا جميعاً أن نسعى لشرح صدورنا وأن نعلم أن شرح الصدور له أسباب وأن من أعظم الإيمان ومن أعظم أسبابه العمل الصالح ومن أعظم أسبابه قراءة القرآن بالتدبر ومن أ‘ظم أسبابه الدعاء، ومن أعظم أسبابه المحافظة على أذكار الصباح والمساء ومن أعظم أسبابه الرضا بالقضاء ترضى بقضاء الله وقدره ينشرح صدرك فمن رضي بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه. ثم لا ننسى الدعاء ادعوا الله أن يشرح صدوركم في صبيح كل يوم قُل رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري مثلما دعا موسى عليه السلام لما كُلِّف بالرسالة قال (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) طه) فنحن ينبغي لنا أن ننتبه لموضوع شرح الصدر.
د. الربيعة: وهناك نقطة مهمة هي أن المسلم حينما يصيبه همّ أو غمّ أو تضيق به أمور الدنيا من قلة العيش فليقرأ هذه الآية (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم يؤتيك الله هذا الدين نعمة؟ أنت مسلم وأنت مؤمن كفاك أن ينشرح صدرك بهذه النعمة العظيمة حينما فقدت أمور الدنيا.
د. الخضيري: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) يونس). النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يدعو ويستعيذ بالله عز وجل من الهمّ والحزن لأنهما إذا جثما على قلب إنسان ضاقت الدنيا في عينه وتكدر عيشه وأصبحت حياته عذاباً مع العلم أنه قد يكون في سعة من الرزق وقد يكون في رغد من العيش لكن إذا ضاق الصدر لا يمكن أن يُملأ بشيء
د. الربيعة: وأعظم ما يضيق به الصدر حقيقة هو معصية الله عز وجل والغفلة عن ذكر الله فإذا وجد الإنسان ضيقاً فليتهم نفسه (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30) الشورى)
د. الخضيري: ومن أعظم المصائب ضيق الصدر. إذن إذا أصابك ضيق صدر فاعلم إنه بسبب ذنب أحدثته (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) المطففين) ولعل هذا يذكرنا بالآية التي بعدها قال (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾)
د. الربيعة: انظر كيف قارن الله تعالى بينهما. كأن أعظم ما يشرح الصدر مغفرة الذنوب ومغفرة الذنوب تستوجب العبد تطهر من هذه الذنوب بالاستغفار لكن هذه الآية ابتداء هي امتنان من الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم حينما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
د. الخضيري: كما قال في سورة الفتح (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2))
د. الربيعة: تأمل أيضاً قول الله عز وجل هنا (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾) الحق أن الوزر وأن الآثام وأن المعاصي تزيد الإنسان هماً وتحمله حملاً عظيماً في هذه الحياة كأنه يحمل جبلاً. لكنك في هذه الآية حينما يخاطب الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم فإن الأمر الذي اثقل حمل النبي عليه الصلاة والسلام هو الهمّ همّ المعصية أو همّ الخطأ والأنبياء هم معصومون في شرع الله عز وجل لكن قد يخطئون في همّ الحياة فلا شك أن الإنسان ينبغي إذا وجد الحياة ثقيلة عليه أن يتذكر ذنوبه فيستغفر الله عز وجل.
د. الخضيري: ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول - وهذا حديث عظيم جداً في معناه – يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه" إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " (ليغان) يقول العلماء الغين غشاء رقيق جداً يكون بسبب الغفلة أحياناً أو الانشغال بأسباب الدنيا ومتاعها، " إنه ليغان على قلبي" يكون هناك غشاء رقيق يهيمن على القلب وإني لأبطل ذلك وأعوضه بالاستغفار " وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة" بل كانوا يعدّون له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد وهو يقول أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة.
د. الربيعة: هذا وهو رسول الله الذي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه.
د. الخضيري: ولذلك على الإنسان الذي يقول أنا تعبان، أنا مهموم، عندي ضيق، ماذا أصنع؟ نقول له الدواء موجود، استغفر تُب إلى الله، عُد إليه، والله إننا لنقسم على ذلك بالله سبحانه وتعالى ونعلم أننا صادقون لأنه ما (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) الشورى)
د. الربيعة: بل إذا ضاقت الأمور على الإنسان كأن يطلب وظيفة فلم يجد، كأن يطلب رزقاً فلم يُفتح له، ولداً فلم يُرزق به، إعلم أن من أعظم مفاتيح الرزق هو الاستغفار (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) نوح) فلا شك أن الاستغفار له من الآثار والثمار والخير والنتائج ما لا يحصى من إزالة الهموم ومن سعة الرزق من مغفرة ذنبه ومن انفكاكه من هذا الحِمل الذي أثقله.
د. الخضيري: دعنا نتأمل في حال بعض العصاة من المسلمين تجده ينحرف عن المسجد ويفوّت الصلاة ولا يكاد يشهد الصلاة مع المسلمين إلا من الجمعة إلى الجمعة، ماذا يحصل له؟ أول بلاء يحل عليه هو ضيق الصدر ولذلك يبحث عن منفِّسات فيذهب إلى الدخان وإلى الشيشية وإلى السينما وإلى المخدرات والأفلام الإباحية يريد أن يخرج من همومه ومشاكله وأحزانه، هي حقيقة تخدره لكن يضيع عن عالمه الحزين ثم إذا ذهب مفعولها يعود إليه الضيق وزيادة، فماذا يفعل؟ يعبّ مرة أخرى منها وهكذا يستمر يعالج البلاء ببلاء. لكننا نقول له ليس الطريق من هنا، الطريق من الاستغفار والتوبة كما أوحت به الآيات (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾)
د. الربيعة: لعلنا نأخذ آية أخرى في هذه السورة.
د. الخضيري: قول الله عز وجل (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)). نحن اتفقنا أننا لن نقف عند كل آية وإنما سنأخذ بعض الآيات ونقول لهم هذه هي الطريقة العملية لنحيا بالقرآن من خلال هذه الآيات. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) ربنا سبحانه وتعالى يبين لنا أن كل عسر يحل بنا فإن معه يسر ولذلك يؤكد هذا المعنى في الاية مرتين فيقول (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) يعني إذا أصابك العسر يا عبد الله فاعلم أن الله كتب معه اليسر وأنزل معه اليسر فلا تحزن ولا تيأس ولا تقنط من رحمة الله عز وجل. إنتبه لهذا يا عبد الله ولا تيأس من روح الله وإذا اشتدت عليك أزمة وكُربت فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالفرج فلا تستعجل. ولذلك ذكر ابن عباس شيئاً عجيباً في هذه الآية فقال: لن يغلب عسرٌ يسرين. كيف ذلك؟ في هاتين الآيتين ذُكر العسر واليسر مرتين ومع ذلك العلماء يقولون إن العسر المذكور هنا هو واحد واليُسر اثنين، كيف ذلك؟ يقول العلماء - وهذه لفتة لغوية - إن المعرفة إذا كُررت في الكلام فهي شيء واحد كما لو قلت جاء الرجل، ذهب الرجل، رأيت الرجل، فهذا رجل واحد مهما كررته في الكلام لأنه معرفة أما لو كان نكرة فإنك إذا كررته في الكلام فإنه يتعدد. لو قلت جاء رجل ورأيت رجل ومررت برجل، هؤلاء ثلاثة، تأملوا في الآية أن العسر جاء معرفة فهمها تكرر فهو واحد واليسر جاء نكرة (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فإنه إذا تكرر تعدد إذن لن يغلب عسرٌ يسرين.
د. الربيعة: والآية فيها سر ولطيفة عظيمة هي أولاً وعد من الله عز وجل ثم إنه تكرار وإعادة وتأكيد والتأكيد يدل على تحقق لتستيقن أيها المؤمن أنه إذا أصابك العسر فاعلم أنه سيكون بعده اليسر.
د. الخضيري: قصة يوسف عليه السلام هي أعظم ما يتسلى به المؤمن. يوسف عليه السلام اعتدى عليه إخوانه، ألقوه في الجُب، بيع، صار خادماً، اعتدت عليه امرأة العزيز، سُجِن وهو مظلوم ثم خرج من أقبية السجون إلى عروش الملك صار يدبر أمر مصر كلها، سبحان الله! أليس بعد العسر يسرا؟
د. الربيعة: وهذا يتجلى ظاهراً في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ألم يكن في بداية حياته في شدة وأوذي حتى وضع الجزور على رأسه وهو ساجد.
د. الخضيري: وحُبس في الشعب ثلاث سنين لا يكاد يدخل إليه من الطعام إلا خلسة وخفية.
د. الربيعة: وطرده أهل الطائف وأذوه حتى أدموه
د. الخضيري: أدموا عقبيه. وطرده قومه حتى هاجر عليه الصلاة والسلام، هذا شيء لا يوصف من العسر ولذلك أشد الناس بلاء الأنبياء. ثم حصل ذلك اليسر ففتح الله عليه وولاه على المدينة وجيّش الجيوش وما مات عليه الصلاة والسلام حتى أذعنت جزيرة العرب وبدأ عليه الصلاة والسلام يخاطب ملوك الشرق والغرب.
د. الربيعة: حقاً من صبر ظفر.
د. الخضيري: ولنعلم أن كل عسر ينزل بنا فإن معه اليسر فلنصبر ولنحتسب ولنترقب الفرج.
د. الربيعة: هل يمكن أن نضرب نماذج في واقع الحياة الاجتماعية التي يذوق فيها الإنسان عسرا؟
د. الخضيري: اضرب مثالاً وهو أن الإنسان إذا مر امتحان فلا يظن أن هذا نهاية المطاف وليترقب الفرج. وأذكر أحد مشايخنا كان يقول كان هناك طالب ضعيف في دراسته ووصل إلى الثالث ثانوي فرسب في السنة الأولى فأصابه شيء من اليأس ففكر في ترك الدراسة فرأى نملة تمشي بجواره وتريد أن تصعد الجدار صعدت صعدت ثم سقطت فرآها مرة ثانية فصعدت مرة أخرى ثم سقطت فصعدة مرة ثالثة ورابعة وخامسة والعاشرة والإحدى عشر، في الحادية عشر صعدت وانطلقت وأكملت طريقها. فقال والله والله والله لأكملن الدراسة حتى لو بقيت مثل ما بقيت هذه النملة وبقي في الثالث ثانوي 11 سنة يعيدها في كل مرة ثم نجح.
د. الربيعة: لو أخذنا آية أخرى في هذه السورة. في ختامها يقول الله عز وجل (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) والله إن الإنسان وهو يقرأ هذه السورة ليقف مع هذه الآية. فإذا فرغت من ماذا؟ لم يذكر مفعولاً هنا يعني فإذا فرغت من أمور الدنيا فانصب في أمور الآخرة وإذا فرغت من أمور الآخرة فانصب في أمور الدنيا. لكن السورة هنا مختومة بأول السورة التي فيها امتنان من الله عز وجل بأنه عليك أن تنصب لربك عبادة وذكراً وشكراً لله عز وجل والإنسان ليس في كل حاله فارغاً بل هو في نصب حتى لو كان في إجازات الصيف وفي مثل فرص من فرض الحياة عليه أن يعلم أنه ينصب في أموره ويجدد حياته مع الله ويعلم أن هذه فرصة من الفرص التي يجدد فيها طاقته وحياته. الحقيقة أن الفراغ حينما يجعله الإنسان من نيته فيه وقصده أن يجدد فيه طاقته فإنه يجد فيه متعة لكن حينما يخرج هنا وهناك هكذا بلا هدف فإنه يرجع وهو يشعر بالملل والتعب. وهذا كثير من الناس يشكون منه يقولون نذهب ونستمتع ثم نرجع ونشعر بالملل أقول جربوا إذا خرجتم في متعة أو سفر فاجعلوه سبيلاً وسبباً يجدد لكم طاقتكم في عبادة الله عز وجل. (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) لعلنا نختم هذه السورة العظيمة وبها ينشرح الصدر ولا يمل الإنسان من ذكرها نسال الله عز وجل أن يشرح صدورنا بالقرآن وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وإلى لقاء آخر بإذن الله عز وجل.
 
الحلقة العاشرة
د. الخضيري: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في برنامجكم لنحيا بالقرآن هذا هو المجلس التاسع من مجالسنا مع سور قصار المفصل. وفي هذه السور نحن لا نرمي إلى بيان معاني الآيات ولا نثير في تفسيرها وإنما نذهب إلى مواطن العمل والهداية ونأخذ منها ما نظن أنه سهل ميسور عليكم حتى نعمل به في حياتنا. ولنضرب مثالاً في ذلك سورة العلق التي هي تحفيز على طلب العلم وعلى الهداية بالعلم وتعلم الخط والكتاب وأن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بهما وجعلنا نتعلم من خلالهما. هذا المعنى المقصود في السورة ظاهر فيها حيث افتتحت الآيات الخمس الأولى بذلك (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾) ثم قال الله بعد ذلك (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)). فالمقصود أن الآيات الخمس الأولى هي من أول ما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه وهي دلّتنا على هذا المعنى العظيم أنه لا حياة للأمة ولا رقي ولا تقدم ولا نجاة لها إلا بأن تكون أمة قارئة وأمة تكتب وتستفيد من القلم وأن القلم والعلم رفعة للناس من الجهل والانحطاط وأنه سبب لنجاة الناس من الخسران بإذن الله جل وعلا. دعونا نقف مع بعض آيات هذه السورة ونحاول أن نستنبط العبر والدروس العملية من آياتها.
د. الربيعة: أحب أن أبيّن ما ذكرتَه في أول هذه السورة العظيمة ونؤكد أنها أول سورة نزلت مما يدلنا دلالة واضحة على أهميتها وبدؤها بالأمر بالقرآءة للنبي صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الله تعالى أراد لهذه الأمة أن تكون أمة إقرأ أمة العلم لأن العلم هو موضع الصعود والعلو والرفعة فالله سبحانه وتعالى أراد لنا الرفعة بالعلم، أولاً العلم الشرعي علم الله الشرعي وأوامره ونواهيه والعلم الدنيوي حتى في أمور الدنيا يجب أن نكون على علم وبينة لنسبق العالم ونكون ذا شأن فيه
د. الخضيري: حتى نكون أمة قوية وتستغني عن الآخرين، قال الله عز وجل (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ (60) الأنفال) والقوة شاملة.
د. الربيعة: أقف مع كلمة (إقرأ) هذه الكلمة العظيمة ذات الدلالات الكثيرة افتتح الله سبحانه وتعالى نزوله بالوحي. وكما نعلم في حديث بدء الوحي أن جبريل عندما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إقرأ فقال النبي ما أنا بقارئ قال فأخذني فشدني حتى بلغ مني الجهد ثم قال لي إقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فشدني حتى بلغ مني الجهد ثم قال إقرأ باسم ربك الذي خلق، هذا التأكيد ثلاث مرات بالأمر على ماذا يدل؟
د. الخضيري: يدل على أهمية ما سيلقى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأمر بالقرآءة
د. الربيعة: وأن هذا الوحي يحتاج إلى قلب يعي هذا الوحي العظيم ويحتاج إلى أن الإنسان ينبغي أن يتحمل عبء الدعوة وعبء هذا الوحي العظيم في تبلغيه والصبر عليه لا شك أنه أمر يحتاج المسلم أن يهتم به غاية الاهتمام.
د. الخضيري: من ذكرك لهذا الحديث العظيم عن نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة في غار حراء يتعبد لله عز وجل فغطه غطاً شديداً حتى بلغ منه الجهد ثلاث مرات، أقول أن هذا فيه فائدة تربوية أن لا نلقي المعلومات على أبنائنا وأطفالنا وتلاميذنا في المدارس جزافاً فجبريل عندما أراد أن يلقي المعلومات على النبي هيأه لذلك ثلاث مرات هذه الثلاث تجعله يستقبل المعلومة بكل حفاوة ولا يمكن أن ينساها. أنت إذا ألقيت عشر معلومات على متعلم يمكن أن يلقي منها سبع ويأخذ ثلاث لكن عندما تعطيه المعلومة بصورة مؤكدة ومحفزة وبعدد من الطريق وبأساليب متنوعة هذا يدعوه إلى أن يحفظ هذه المعلومة ولا ينسى شيئاً منها
د. الربيعة: أنت إذا أردت أن تنبه إبنك وهو غافل ربما تشده لينتبه، أساليب التنبيه كثيرة وفي هذا العصر تعددت أساليب التنبيه والتعليم والتوجيه مما ينبغي أن نأخذ منها ونستفيد بها. تأملت في أول آية افتتح الله كتابه وفي آخر آية نزولاً وهي آية الدين. فأول ما ابتدأ الله عز وجل نزول هذا الوحي كلمة (إقرأ) للنبي صلى الله عليه وسلم ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ومن يؤمن من الناس بالقرآءة فيعلمهم القرآءة قرآءة هذا القرآن الكريم أولاً. في آخر ما نزل آية الدين التي فيها الأمر بالكتاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ (282) البقرة) تكررت كلمة كتب في الآية كثيراً وهذا التكرار ليس إلا لحكمة عظيمة وهي لا شك حكمة عظيمة وهي آخر آية وقد وقفت معها متأملاً أنها آخر آية نزلت في أقوال مختلفة لعل هذا من أظهرها وهي آية طويلة لعل هذا إرشاد من الله لنا بعد أن تلقينا الوحي تلقياً وحفظاً أن نحفظ هذا الدين بكتابة والتدوين كأن هذا أمر من الله تعالى أن تعلم الكتابة لندوّن الشريعة بعد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فانظر كيف أن الله عز وجل عنى بهذه الأمة في حفظ هذا الوحي نتلقاه وحفظه أن نكتبه ونحفظه، ملحظ ينبغي أن نتنبه له ونحن نقرأ هذه السورة وتلك الآية الكريمة.
د. الخضيري: أنت الآن انتقلت إلى معنى آخر في الايات وهو تدوين العلم وحفظه وهذا أمر قصّر فيه المسلمون في الأزمنة المتأخرة وقد بالغ المسلمون في العناية به في الأزمنة المتقدمة وكان أحد أسرار انتصارهم وعزهم وهيمنتهم واتساع علومهم أما نحن الآن نسمع كثيراً في التلفاز والراديو والأشرطة ونقرأ في الكتاب ولكننا لا ندوّن بل ولا ندون معلوماتنا وتجاربنا التي استفدناها في حياتنا وهذا لا شك أثّر علينا فكثير من التجارب ومن العلوم وكثير من الأشياء ذابت وذهبت وانذثرت بل حتى تزول عن الإنسان نفسه فقد يكون حصل على معلومة في وقت من الأوقات ثم بعد خمس أو عشر سنين نسيها لأنه لم يدونها ولم يحتفظ بها فأنا اقول هذا تنبيه لنا جميعاً أن ننتبه للقلم ولذلك قال الله عز وجل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤﴾ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾) وكأنها بشارة لمن يكتب بالقلم أن الله سبحانه وتعالى سيعلمه علماً لم يكن عنده إذا أمسك القلم وبدأ يدون ملاحظاته ويفتح الله عليه.
د. الربيعة: والدليل في قوله تعالى في آخر آية الدين (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) قال بعض المفسرين اتقوا الله بتعلّم الكتابة فيعلمك الله تعالى ويفتح عليكم كما فتح الله لهذه الأمة من العلوم الشيء الكثير. خاطرة أخيرة حول ابتداء الله تعالى بإقرأ أنه ينبغي أن نتعلم القرآءة قرآءة كتاب الله عز وجل فينبغي أن يكون لنا ورد يومي بقراءة كتاب الله عز وجل لتحيا به قلوبنا ونحن نتحدث عن الحياة بالقرآن فوالله الإنسان الذي له ورد يومي يقرأ كتاب الله تعالى قراءى متدبرة سيجد فيها سعادة واطمئنان في الحياة. الأمر الثاني أن يكون لنا شأن في القرآءة عموماً في علوم الشريعة بل قرآءة علوم الدنيا لنتعلم بها ونتبصر ونكتفي بها عن غيرنا ومن المؤسف لو رأينا واقع أمة الإسلام في أمر القرآءة لوجدناه مؤسفاً بينما تجد الغرب من أساسيات حياتهم القرآءة والكتابة.
د. الخضيري: لا تكاد تجد إنساناً في عمله أو في مؤسسته أو في حياته الشخصية إلا وهو يجون ملحوظاته في مذكرات ويكتب كل ما يمر به في حياته من أمور وتجارب تاريخية علمية أدبية ولذلك تتجمع هذه المعلومات وتصبح كماً كبيراً لأنها بنتف صغيرة.
د. الربيعة: أذكر نوذجاً جميلاً ليكون مثالاً: أحد الإخوة يقول جعلت لإبني ورداً يومياً من أيسر الأمور وهو أن يقرأ صفحة من كتاب الله تلاوة وأن يقرأ صفحة من كتاب في كل يوم وجعلت الأمر منافسة بين أولادي وتخفيزاً لهم بجائزة، انظر كيف يتعلم الطفل القرآءة والكتابة خطوة خطوة ليكون ذا معرفة وإدراك تتفتح له أمور الخير ويحمي نفسه من هذه الأفكار التي تأتي من هنا وهناك. لو تجاوزنا في هذه السورة (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) هل هناك سر أنه بدأ بالقرآءة ثم ذكر بعده الخلق؟ ما سر تقديم القرآءة؟ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾) مما يدلك فيما يظهر أن أمر العلم منّة الله عز وجل على الإنسان بهذا العلم وأعظم ذلك تعليمه هذا القرآن أعظم من خلقه أليس الله يقول (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) الرحمن) فلا شك أن منّة الله تعالى علينا بتعليمنا هذا القرآن وهذا الوحي أعظم من هذا الخلق لأن الخلق يشترك معنا فيه سائر الخلق لكن هذه المنة العظيمة منة الهداية والوحي خص الله تعالى البشر به.
د. الخضيري: وتأكيداً على هذا الكلام ما جاء في بداية البقرة (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)) فبيّن أن العلم هو الذي تميز به آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة وقال العلماء لو كان هناك يتميز به آدم أعظم من العلم لميّزه الله به فكان العلم بذلك أعظم ميزة يتميز بها الإنسان.
د. الربيعة: ولذلك نستطيع أن نقول للشاب والشابة أن شرفك في العلم ليس شرفك في بدنك ولا زينتك ولا نسبك وللأسف نجد كثيراً من الشباب همّه ديكوره، الديكور الذي يخرجه أمام الناس لكن الشرف والعز والرفعة في مقامك بين الناس هو بالعلم ولا شك في ذلك.
د. الخضيري: لذا نحن نؤكد ونقول إعلموا أن العلم هو عزّ الإنسان ومصدر شرفه فعلينا أن نهتم بالعلم بوسائله الكثيرة التي أتيحت لنا في هذا العصر لم تتح لمن كان قبلنا ونحمد الله على توفرها وتيسرها فتستطيع هذا عن طريق الانترنت والصحف والمجلات والقنوات المفيدة والأشرطة والإذاعات.
د. الربيعة: هذه الأمور لم تكن من قبلنا ولذلك انظر قول الله عز وجل في هذه السورة (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) كم علمنا الله تعالى من علوم. نحن ربما نسمي هذا العصر عصر العلم وكم من العلوم انتشرت اليوم وهذا يدل على أن العلوم التي عند الله عز وجل لا منتهى لها.
د. الخضيري: كل ما أوتيه الناس من علم الله عز وجل مثل ما يُدخل أحدنا المخيط أو الإبرة في البحر فلينظر بم ترجع هذه العبرة، يعني هذا هو مقدار علوم كل الناس منذ أن خلقهم الله عز وجل بالنسبة إلى علم الله عز وجل (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) لقمان)
د. الربيعة: وقوله (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) بالنسبة لعلم الله, وهذا يجعلنا نسأل الله عز وجل أن يفتح لنا أبواب العلم وأن يعلمنا ما لم نعلم وأن يرزقنا فهم كتابه والعلم به وهذا ما أوصي به نفسي وإخواني أن يكون دعوة دائمة في ليله ونهاره بهذه الدعوة.
د. الخضيري: اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا علماً ينفعنا وفي القرآن (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) طه) هذه وصية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ليزيده. وموسى عليه الصلاة والسلام رحل رحلة طويلة لأن الله علمه أن هناك في الأرض من يعلم علماً لا يعلمه موسى مع أنه هو كليم الرحمن وسيد أهل الزمان ومع ذلك أمره الله أن يرحل ليتعلم فالعلم شرف ولذلك نقول لأنفسنا عليكم بالعلم، يقولون العلم من المحبرة إلى المقبرة ينبغي أن يكون هذا برنامج أو ديدناً لنا نأخذه نأخذه على أنفسنا ونعلمه أبناءنا ونحرص عليه فإن شرفنا وعزنا يكون بعد إذن الله عز وجل في تعلمنا وفي حرصنا على العلم. أسأل الله أن يوفقنا لنكون من العلماء الصادقين الصالحين وأن يجعلنا ممن يعملون بعلم وأن ينفعنا بما علمنا ويرزقنا علماً ينفعنا وإلى لقاء قادم مع بقية هذه السورة الكريمة وهي سورة العلق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
[align=center]شكر الله لكِ أختي الكريمة هذا الجهد وجعله في ميزان حسناتك [/align]
 
الأخت المباركة سمر الأرناؤوط
كم لكم من الفضائل والجهود المباركة في خدمة القرآن وبرامجه ، وما أظن ذلك إلا توفيق من الله لكم ، (خيركم من تعلم القرآن وعلمه )
ولا شك أنكم بهذه الأعمال تبذلون أوقاتاً طويلة ، لكننا نحسبها جهاد في سبيل خدمة كتاب الله ، وأنتم في شهر القرآن ، فإن هذا الجهد الذي تسعون به إلى نشر هذه البرامج وتوثيقها ، هو أجر محفوظ محسوب لكم من الصدقة الجارية بإذن الله ، ذلك أنه جهد باق منتفع به إلى قيام الساعة بإذن الله .
ولا ننسى جهدكم الكبير في برنامج الدكتور فاضل السامرائي ( لمسات بيانية ) فقد نفع الله به كثيراً .
ويأتي جهدكم هذا في تفريغ برنامجنا( لنحيا بالقرآن ) ليؤكد مسيرتكم القرآنية المباركة .
وإني لأوصيكم بالثبات والاستمرار ، مع الاستعانة بمن تعرفون من الأخوات لرصد كل برامج قرآنية نافعة يمكن تفريغها ونشرها ، وإن كان هذا عمل كبير ، لكنه يسير على ذوي الهمم العالية أمثالكم ، وأبشركم أن هذا العمل سيكون مادة ثرية لموقع تدبر الذي سينطلق قريباً بإذن الله تعالى . بارك الله في علمكم وعملكم وعمركم ، وجزاكم عنا خير الجزاء .
 
جزاكم الله خيراً شيخي الفاضل د. محمد الربيعة على هذا التعقيب الطيب الذي أعتز به وأحمد الله تعالى أن يسر لي تفريغ هذه الحلقات فعلى الرغم من الوقت الذي يحتاجه إلا أني أحتسبه عند الله تعالى تدبراً لكتاب الله العزيز في شهر القرآن وأحتسبه زكاة يومية لوقتي أسأله تعالى أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم.

كما أشكركم على برنامج (لنحيا بالقرآن) فقد علمتمونا أن نعيش مع آيات القرآن العظيم بطريقة عملية تفيدنا في ديننا ودنيانا ولا عجب أن تقول السيدة عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن" ولا عجب أن حال المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة عن حالنا لأنهم كانوا يقرأون القرآن كلاماً ومنهجاً تطبيقياً في حياتهم ففازوا وأفلحوا في الدنيا والآخرة. وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا البرنامج مفتاحاً لنا لكي نسير على المنهج القرآني الذي اختاره لنا ربنا عز وجل ليكون منهج حياتنا وسعادتنا في الدارين.

وأتمنى عليكم أن تواصلوا البرنامج بعد رمضان إن شاء الله تعالى وأرجو أن تعلموني باي برنامج قرآني لكم على أية قناة وإن شاء الله ستجدوني مستعدة لتفريغه وهذا أقل حقكم علينا فأنتم أهل العلم والقرآن وخدمة كتاب الله تعالى واجب علينا كلٌ بحسب مقدرته.

وأحمد الله تعالى أن هذه المادة المكتوبة ستكون في موقع تدبر الذي ننتظره إن شاء الله وأنا أضع بين أيديكم كل ما لدي من حلقات مفرّغة تضعون منها ما تشاؤون في الموقع إن شاء الله تعالى.

وختاماً أرجو منكم الدعاء لي ببركة الوقت حتى أستكمل شكر هذه النعمة الني أنعمها الله تبارك وتعالى عليّ بخدمة كتاب الله.
 
معذرة أيها الأفاضل، حلقة اليوم من برنامج لنحيا بالقرآن هي حلقة معادة (الحلقة الأولى التي عرضت في أول يوم من رمضان)
إن شاء الله نستكمل التفريغ في الغد إذا عرضت حلقة جديدة.
 
الحلقة 12
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. هذا المجلس هو المجلس الحادي عشر من مجالس هذا البرنامج المبارك لنحيا بالقرآن وهذا البرنامج نحاول أن نأخذ بعض الهدايات العملية من الآيات القرآنية التي نتلوها بتكرار واستمرار ونحفظها وتتردد على مسامعنا كثيراً. اليوم معنا سورة القدر هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها منزلة ليلة القدر وأن الله شرّف هذه الليلة بشرف عظيم وأنه أنزل فيها القرآن الكريم فشرُفت هذه الليلة بهذا الشرف العظيم وهو إنزال القرآن. وجعل الله سبحلنه وتعالى هذه الليلة خيراً من ألف شهر يعني أن العمل الصالح فيها بعدل عند الله جل وعلا عمل ألف شهر. وألف شهر عمر إنسان كامل من أمة محمد وزيادة لأنه يتضمن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر فأنت إذا تعبدت لله عز وجل في هذه الليلة وأحسنت العبادة حصّلت أجراً عظيماً وزاداً وافياً وافراً تقدم به على الله عز وجل. وانظروا بأي شيء شرّف الله عز وجل هذه الليلة؟ لقد شرف الله عز وجل هذه الليلة بإنزال القرآن. وهذا يدلنا على أن القرآن شرف وأنه إذا كان في شيء كان شرفاً له. إذا كان في ليلة شرفت تلك الليلة فصارت خيراً من ألف شهر خيراً من ثلاث وثمانين سنة وأربعة اشهر، وإذا كانت في جوف الإنسان فاذا يكون هذا الإنسان؟
د. الربيعة: لا شك أنه عظيم، ويعظم. ولعلنا أيضاً نأخذ من هذا المعنى الجميع أن الله عز وجل اختار لإنزال كتابه ليلة مباركة أن المسلم القارئ للقرآن ينبغي أن يختار لكتاب الله عز وجل في قرآءته أعظم أوقاته وليس فاضل أوقاته بل يختار أصفى أوقاته وهي الليل والفجر ووقت الصفاء وليس وقت الفراغ الذي بعد كدّه وتعبه يقرأ، ولا يؤتيك القرآن ثماره وتجد الأُنس به إلا حينما تقرأه بصفاء وبوقت تفرّغ فهذا من تعظيم القرآن فينبغي أن نعظم وقت القرآن كما عظمه الله عز وجل.
د. الخضيري: ولذلك ذكر الله عز وجل في سورة المزمل (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)) يعني إن قرآءة القرآن بعد قيام الليل إلى الفجر هي أشد مواطئة للقلب وأقوم قيلا يعني هذا القول يكون ظاهراً بيّناً مفيداً للنفس مؤثراً فيها وهذه إشارة في غاية الروع نحن نقول إحرصوا على أن تقرأوا القرآن في أوقات تخلو فيها النفس من جميع مشاغلها، تكون فيها النفس خالية مقبلة لا شيء يشغلها بل وأبعدوا عن أنفسكم المشاغل وأنتم تقرأون القرآن يعني لا ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن مثلاً وهو يشاهد التلفاز أو مثلاً يقرأ القرآن وهو بين أولاده يلعبون عنده أو غير ذلك قد يقرأه الإنسان فيؤجر ولكنه يحرم من بركاته وهدايته والفوائد العظيمة التي يحصّلها من قرآءة القرآن.
د. الربيعة: تأمل الله عز وجل قال (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) الإسراء) لماذا خصّ الفجر؟ هذا وقت النزول الإلهي والملائكة وكما قال ابن القيم (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) يشهده الله وملائكته. وقت الفجر مع هذا الفضل لأن وقت شهود الله وملائكته فإنه وقت صفاء ووقت روحانية والحقيقة هذا أمر مجرّب كثير من الإخوة الذين يقولون أن أجعل وردي اليوم بعد صلاة الفجر خاصة إذا أخذ قسطاً من النوم ليلاً فإنه يجد في هذه القرآءة متعة بعد الفجر وقبل الفجر. وقبل الفجر أفضل لمن وفقه الله وأعانه على القيام كمثل أيام رمضان. ايام رمضان أيام فاضلة، أيام صفاء وليالي رمضان أيضاً صافية ونحن في ليالي رمضان نقوم مع الإمام كم يجد الإنسان من متعة ويقرأ ويسمع كلام الله عز وجل خلف إمام قارئ ذا صوت حسن يجد للقرآن طعماً. ولذلك تجد رجوعاً للقرآن في وقت رمضان وتجد حياة في رمضان من المسلمين وتغيراً ما تجده في غيره وغير ذلك من الأوقات التي نشير إليها إشارة في هذه الآية .في السورة بعد ذلك قول الله عز وجل (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر) شرف هذه الليلة العظيمة
د. الخضيري: هذه الليلة العظيمة كما قال العلماء هي في رمضان وهي في العشر الأواخر من رمضان وترجى في أوتار العشر أكثر من أشفاعها وقد ذكر العلماء أن أرجى تلك الليالي ليلة السابع والعشرين ومع ذلك هي تتحول كما قال العلماء فقد تكون في ليلة خمس وعشرين وقد تكون في ليلة الثالث والعشرين وقد تكون في ليلة واحد وعشرين أو تسع وعشرين.
د. الربيعة: هل نلمس فضائل لهذه الليلة في تفضيلها؟ م حكمة تفضيلها وتشريفها؟
د. الخضيري: سميت ليلة القدر من وجهين الوجه الأول ليلة القدر بمعنى ليلة الشرف والمنزلة أُنزل فيها القرآن ومن تعبد لله عز وجل فيها وأخلص فيها العبادة وقام فيها الليل كله أو أكثره حصل له الشرف والمنزلة والعظمة بقدر ما حصّل. ويمكن أن تكون أيضاً ليلة القدر من التقدير لأن الله عز وجل يجعل فيها مقادير العام كله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) الدخان) لأن مقادير الله قد كتبت في اللوح المحفوظ هذا التقدير العام الكلي الشامل ثم يأتي التقدير العمري وهو الذي يكون عندما يرسل الملك والإنسان في بطن أمه فيكتب عمره وعمله شقيٌ أو سعيد ثم يأتي التقدير الحولي وهو الذي يكون في ليلة القدر. ففي هذه الليلة تكتب المقادير فتفصل من اللوح المحفوظ كأنها سجلات مستقلة لهذا العبد ثم يأتي من بعد ذاك التقدير اليومي (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) الرحمن) فهذه الليلة ليلة عظيمة
د. الربيعة: ولعلنا نأخذ شرف هذه الليلة من السورة أيضاً، تأمل الأوصاف التي وصفها الله تعالى في هذه السورة في أربع صفات (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) نزول القرآن، فشرفت بنزول القرآن (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)) فهي ليلة تتنزل فيها الملائكة والروح فيها بإذن ربهم، فيها نزول أمر الله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) الدخان). والأمر الرابع (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) وصفها الله بالسلام. فهذه الأوصاف الأربعة تدل على شرف هذه الليلة العظيمة التي نسأل الله عز وجل أن أن يشرفنا بأن نكون من أهلها والقائمين فيها.
د. الخضيري: ومما ينبغي أن ننبه عليه عندما نتحدث عن هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ومن قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه. وأنا أهيب بنفسي وبإخواني أن يغتنموا هذه الفرصة وهي فرصة ليلة القدر في أن يجتهدوا في العبادة فيها وهي من رحمة الله بنا هذه الأمة، جعل لنا مثل هذه المواسم التي ندرك فيها ما حصّله السابقون من الأمم من طول الأعمار.
د. الربيعة: وإنمك تجد للأسف الشديد في أوقاتنا الحاضرة في الإجازات إذا توافق رمضان إجازة تلحظ عدم مبالاة كثير من المسلمين من يضيع هذه الليالي الشريفة التي يُرجى أن تكون ليلة القدر خصوصاً أنها ليلة قرب أيام العيد فينشغل الناس بشراء حاجاتهم والخروج إلى الأسواق ووالله هذا حرمان وخشران أن ينشغل الإنسان بأمور دنياه عن أمر عظيم له له به من الأجر سنوات.
د. الخضيري: عندي لفتة أرجو أن يتسع صدركم لها، لما يذكر الله عز وجل ليلة القدر ويقول إنها ليلة فيها يفرق كل أمر حكيم وفيها تقدر المقادير ألا يدلنا هذا على أن ربنا سبحانه وتعالى يبين لنا أن الأمور تجري بتقدير ولا تجري سبهللة مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن تدور الأمور كما شاء بدون أن تكون هذه المقدمات لكنه سبحانه وتعالى يقدر كل شيء قدره ويعطي لكل شيء حقه فهناك كتابة أزلية كتبت في اللوح المحفوظ كُتب كل شيء يكون في هذا الكون قال الله عز وجل للقلم اُكتب، قال ما أكتب؟ فكتب مقادير كل شيء إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. ثم يأتي من بعد ذلك يأتي التقدير العمري يعني عندما ياذن الله بخلق هذا الإنسان وخلق الروح يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد ثم التقدير الحولي تخطيط خطة عامة للحياة ثم خطط تفصيلية لكل شيء.
د. الربيعة: يدلك على عظمة شرع الله عز وجل ونظام الكون كله
د. الخضيري: فيجب علينا نحن أن نكون منظمين ونخطط لكل شيء.
د. الربيعة: هذا معنى لطيف وجميل أن يكون المسلم حقاً منظماً ومرتباً في كل شؤون حياته.
د. الخضيري: هنا أيضاً لفتة أخرى أتمنى أن نتلمسها من هذا الجانب وهي أن الأعمال عند الله ليست شيئاً واحداً بمعنى أن هناك عملاً يساوي أعمالاً وهناك ليلة تساوي ليالي. وهناك عمل مع كونه أن له أجراً مع فضله لكنه ليس بتلك المنزلة فعليه ينبغي للمسلم أن ينتهز الفرصة ويعلم أن هناك أعمالاً هي أفضل. الأعمال نوعان أعمال فاضلة تساوي أعمالاً كثيرة. وأقول يا إخواني تفقهوا في الأعمال وتفقهوا في مراتب الأعمال. قد تذكر الله بقولك سبحان الله والحمد لله وقد تقرأ آية أو سورة من كتاب الله عز وجل وهذا ذكر وهذا ذكر وكل محبوب من الله ولكل شيء منهما وقته لكن تأكد أيهما أفضل في ذلك الوقت لك أنت. قد يكون الأفضل أن يحمد الله ويسبحه وقد يكون الأفضل لفلان هو أن يقرأ القرآن ويتدبره ويعمل بما به.
د. الربيعة: وهذا معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام بعض الناس يفتح له في باب من الخير يجد فيه قلبه ويجد فيه افتقاره لله عز وجل كالصلاة والصيام وهذا من رحمة الله وفضله. نمر سريعاً على الايات البقاية في السورة كما يقول الله عز وجل (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)) الملائكة يتنزلون في تلك الليلة فلماذا؟
د. الخضيري: يتنزلون كما قال العلماء لأنهم يشيعون السلام والأمن ويشهدون مواطن العبادة مع المسلمين. تلك الليلة لا يمرون بقوم من المؤمنين إلا سلموا عليهم وتسليم الملائكة دعاء نسأل الله أن يسلمكم من كل بلاء ومن كل ضر ومن كل فتنة ومن كل عذاب.
د. الربيعة: تأمل ايها المسلم الكريم وأنت تذهب إلى بيت الله عز وجل تصلي في تلك الليالي الفاضلة وأنت تصوم وأنت تذكر الله وأنت تتصدق الملائكة تحفك تسلم عليك وتستغفر لك.
د. الخضيري: بل الآن أن بعض المسلمين عندما يذهب للصلاة تجده ينظر متى يأتي الإمام؟ تأخر الإمام دقيقة أو دقيتين، هذا والله من الشيطان! لماذا نستبطيء جلوسنا في المساجد مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال كلمة عظيمة جداً لو علم بها من يأتون إلى المساجد ويستعجلون لما فعلوا الذي يفعلون. قال عليه الصلاة والسلام: الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يُحدث. إذن لماذا لا تستكثر من دعاء الملائكة وهم يدعون لك ما دمت تنتظر الصلاة؟! بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم " وما يزال الرجل في صلاة ما دام ينتظر الصلاة"
د. الربيعة: معنى لطيف قد نلمسه في قول الله عز وجل (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)) مما يدلك على أن جبريل العظيم الذي هو أمين الوحي يتنزل في تلك الليلة ولعل هذا دليل والله تعالى أعلم أن جبريل لا يتنزل إلا لأمر عظيم لما كانت تلك الليلة عظيمة كان نزول جبريل مع الملائكة وإلا فالملائكة تنزل في الليل والنهار فهذا يدلنا على أن خيار الملائكة تنزل تلك الليلة العظيمة لتعيش مع خيار عباد الله في صلاتهم وعبادتهم وذكرهم لله عز وجل نسأل الله أن يجعلنا منهم.
د. الخضيري: هذا يدلنا على أن الملائكة معنا وأننا يجب أن نحب هؤلاء الملائكة وأن نعترف لهم بالفضل فهم يدعون لنا وهم يسلمون علينا وهم يشهدون مجالسنا الطيبة وهم يتعاقبون علينا ويحفظوننا كما ذكر الله عز وجل في سورة الرعد (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ (11)). إذن نأخذ من هذ السورة محبة الملائكة بل والاستكثار بهم، كيف تستكثر بهم؟ عندما تشعر أيها المؤمن أنك ضعيف وأن الأعداء قد هيمنوا عليك وأنهم قد أحاطوا بك من كل جانب أو أن أعداء الإسلام أو من يناوؤنك ويعادونك قد آذوك تذكر أن ملائكة الله الذين لا يحصي عددهم إلا الله معك.
د. الربيعة: بل يأنس الإنسان بهم إذا رأى قلة المؤمنين وقلة الطائعين وقلة المصلّين فيأنس أن هنالك ملائكة تحضر الصلوات وتحضر مجالس الذكر
د. الخضيري: وتؤيد المؤمنين وتمدهم وتكون معهم وهذه سلوى للمؤمن. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلامك وأن يجعلنا من الصالحين من عباده نسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأصلي واسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 13
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين حياكم الله في هذا البرنامج المبارك الذي نريد أن نعيش وإياكم فيه مع القرآن (لنحيا بالقرآن) ونحن مع حلقة من حلقات هذا البرنامج مع سورة كريمة منه من قصار المفصّل سورة البينة هذه السورة وهي من أطول قصار المفصل. قصار المفصل من سورة الضحى إلى سورة الناس وهذه السورة وسورة العلق هي من أطول هذه السور. (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿١﴾ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴿٢﴾ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴿٣﴾ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴿٤﴾ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴿٥﴾ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿٦﴾ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴿٧﴾)
هذه السورة من إسمها يتبين مقصدها (البينة) يظهر فيها أن الله عز وجل منح هذه الأمة بل منح البشرية هذا الدين البين الواضح الذي يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشرية وما هو هذا الدين؟ نتلوه من كتاب الله عز وجل. بيان في بيان واضح فمن يوفق في الإطلاع على هذا الدين وهذا الكتاب العظيم وهذا البيان الشامل من النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه سيعرف الحق والحقيقة وسيعرف أن هذا الدين هو الحق. ولذلك تأمل معي أفواج النصارى الذين يؤمنون بهذا الدين حين يطلعون عليه حق الإطلاع. يحدثني أحد الإخوة الذين لهم جهود في دعوة النصارى يقول أخذت شريطاً بقراءة الشيخ الحذيفي ومترجم معانيه باللغة الفرنسية يقول أهديه إليهم يقول والله لقد هدى الله به أناس من غير ما أشرح لهم هذا الدين، قالوا هذا القرآن؟! قالوا هذا حق. هذا يدلنا على كل من اطلع على هذا الدين وعلى هذا القرآن سيتبين له الحق كما سماه الله تعالى بيان (وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (185) البقرة) فهذه السورة الكريم حينما نقرأها يتبين فيها أن الله عز وجل أرسل للبشرية منهجاً قيماً وبيّنه ولذلك قال في افتتاحيتها (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) منفطين عما هم فيه من ضلال ودين محرّف حتى تأتيهم البينة.
د. الخضيري: معنى هذه الآية أنه لن ينفك هؤلاء سواء المشركون الذين كانوا في مكة أو جزيرة العرب أو أهل الكتاب الذين كان جزء منهم في جزيرة العرب وكثيرون منهم خارجها من اليهود والنصارى لم يكونوا تاركين شيئاً مما عهدوا عليه آباءهم حتى تأتيهم البينة يعني دليل واضح ساطع يدلهم على أن ما هم فيه ضلال وأن ما جاءهم من الله وعلى لسان رسول الله وما أنزل الله على رسوله هو الحق وقد جاءهم بحمد الله ذلك. كل الدلائل الموجودة في القرآن من أعظم ما يميزها هو بيانها ووضوحها وظهورها ليس فيها تعقيد وليس فيها غموض وليس فيها ألغاز بل هي واضحة وجلية وبينة وقريبة.
د. الربيعة: ولذلك يقول تعالى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44) النحل)
د. الخضيري: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34) النور) (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) آل عمران) و(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17) القمر) فهو بيّن وواضح. لكن السؤال قال (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ثم فسّر البينة (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)) هذا يدلني على أن الله أنزل علينا الحق هذا الكتاب فيه البيان وفيه الرحمة فلنعد إليه ولنرجع إليه ووالله لن نجد الحق إلا به ولن نعرف الهدى إلا منه. ولذلك لا نتعب أنفسنا فقد تعب أقواماً بذلوا جهوداً عظيمة وألفوا مؤلفات وكتباً كثيرة وفي نهاية المطاف ما وجدوا الحق إلا في كتاب الله عز وجل. لذلك نقول قد كفينا فعلينا أن نأتي إلى المعين الذي لا ينضب، إلى المعين الصافي ولذلك قال (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً) صحف وهذا الكتاب نقرأها ونتلوها ونستهدي منها ونستخرج منها الهداية.
د. الربيعة: أحد الإخوة قال لي في بيان أن هذا القرآن وأنه شامل واضح في كل شيء يقول ما مر علي مشكلة ولا قضية ولا أشكل عليّ أمر إلاقرأت كتاب الله بقصد أن أبحث فيه عن بيان وأبحث فيه عن منهج يهديني ويعالج هذه المشكلة، ويقول والله من غير مبالغة إني أجد ذلك بكل يسر وسهولة، أفتح المصحف من أي موضع ثم أقرأ كتاب الله عز وجل بقصد الشفاء وبقصد الفرج وبقصد حل مشكلة ما، ثم بعد ذلك أشعر كأن هذه الايات تخاطبني مباشرة في هذه المشكلة.
د. الخضيري: وهذا واضح وجربه كثيرون. نقول إجعلوا هذا الكتاب حياة لكم، إجعلوه نبراساً يضيء لكم هذه الحياة، نعم والله لو صدقنا مع الله لكفانا ولكننا مع كل أسف قد صُرفنا عنها وحالت بيننا وبينه حوائل وعوائق مفتعلة ومصطنعة، والشيطان له دور كبير فيها يريد أن يصرفنا عن هذا الكتاب، ويريد أن يحول بيننا وبين كتاب الله عز وجل لأنه يغار منا ويرى أننا أخذنا فضلاً عظيماً عندما أنزل الله عز وجل هذا الكتاب.
د. الربيعة: تأمل الآية التي بعدها (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) لماذا تفرقوا؟ بعد أن جاءتهم البينة الواضحة؟
د. الخضيري: هذه النعمة جاءت وهي أن هؤلاء القوم كانوا يقولون نحن لا يمكن أن نترك ديننا حتى تأتيما البينة فلما جاءتهم البينة الموافقة لما في كتبهم استكبروا وكان الدافع لهم في الغالب هو الكِبر والحسد، كذبوا حسداً وكذبوا كِبراً كما ذكر الله عز وجل فهم لم يمنعهم عدم وضوح البينة ولم يمنعهم أن هذا الكتاب لم يطابق ما جاء بالإشارات في كتبهم لا والله بل كل الإشارات لا يمكن أن تنطبق إلا على رسول الله وإلا على هذا القرآن.
د. الربيعة: كأن هذه الآية تحذير من الله لنا ونحن نقرأ هذا القرآن أن نتصف بهذه الصفة تأتينا البينة الواضحة ثم نتفرق ونترك دين الله. إنما يذكره الله عز وجل ليخبرنا عنهم لنحذرهم ونحذر وصفهم. تأمل قوله بعد ذلك (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)
د. الخضيري: هذا تعجيب، بمعنى أيها المنحرفون عن اتباع رسول الله يا من تلكأتم عن الاستجابة لدعوته وقد ثبت إليكم بالدليل الصادق أنه رسول آيات واضحة تدل على أنه رسول وقد تحديتم به أنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله فدلّ على أنه كلام الله، ما الذي دعاكم إلى أن تكذبوه علماً بأنكم لو رجعت إلى الأوامر الموجودة في كتاب الله لوجدتم أنها هي التي جاءت بها الأنبياء يعني ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ايها الناس تعالوا واعبدوني أو اعبدوا إلهاً غير الله سبحانه وتعالى حتى يكون لكم سبيل في تكذيب رسول الله. رسول الله ما جاء إلا ليقول لكم اعبدوا الله مخلصين له الدين، أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، وهذا هو الدين الذي جاءت به الأنبياء إذن ما هو الملحظ؟ على ماذا كذبتم؟
د. الربيعة: نستطيع أن نأخذ من الكلام دليلاً على أن كتب الله كلها متفقة في الدعوة إلى التوحيد وما تضمنته اليوم من الإنجيل وغيره للدعوة إلى التثليث فإنما هو محرّف وباطل
د. الخضيري: ولذلك نحن نقول إن أصل الدين واحد وعلينا أن نتأكد منه ونتثبت من عمل ذلك وهو إخلاص الدين لله وأن لا نعبد الله إلآ بما شرعه عن رسول الله وأن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة هذا هو الدنيا التي جاء بها الأنبياء من فعل هذه الأشياء فقد أقام الدين وقد وحد الله رب العالمين وقد استقام على المحجة التي جاء رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم وجاءت بها الأمم السابقة. ونلاحظ هنا أنه لم يقل (مخلصين له اليوم ويصلون ويزكون) ولم يأتي بها الأمم السابقة . ولم يقل مخلصين له الدين ثم قال مصلون ومزكون وإنما قال (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ (5) البينة)
د. الربيعة: الوصف الأول قال (حنفاء) فما معنى حنفاء؟
د. الخضيري: الحنيف يقول العلماء الذي مال عن الشرك
د. الربيعة: ولذلك وصف الله تعالى نبيه حينما كان قومه يعبدون غير الله عز وجل كان حنف عنهم ومال إلى التوحيد وهذا يدلنا على أن الإنسان في هذه الحياة ينبغي أن يميل عن الطرق المنحرفة ويبحث عن الحق فإن أمامه طرقاً تستهويه. ختام الآية في قوله (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
د. الخضيري: يعني ذلك الدين المستقيم بأصحابه فمن سلكه فهو واصل إلى الله.
د. الربيعة: كما قال الله عز وجل (دِينًا قِيَمًا (161) الأنعام) وهذا في الحقيقة يجعلنا أن نقول أن ديننا دين القيم، ديناً قيماً في بنائه ونظامه وهو دين القيم الذي يبني في أنفسنا القيم، دين الأخلاق دين المبادئ السامية دين المعالم تلتي تبني كمال البشرية إذا أراد الإنسان الكمال في هذه الحياة. ما أعظم هذا الوصف العظيم لهذا الدين القيم!
د. الخضيري: لعلنا نتوقف مع قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7))
د. الربيعة: بعد أن بين الله هذا البيان رسم الطريق
د. الخضيري: رسم الطريق وبيّن أصناف الناس وموقفهم من هذا الكتاب. لا يمكن أحد يقول أنا وسط لست مع هؤلاء ولست مع هؤلاء نقول لا، إما أن تكون من خير البرية وإما أن تكون من شر البرية ليس هناك طريق بين هذين الطريقين (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ (37) المدثر) فإما تتقدم فتعمل وإما أن تتأخر فتهلك نسأل الله العافية والسلامة. وهذه موعظة لي ولكم هل نحن مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكون من خير البرية أو مع من تخلوا عن العمل الصالح وهو شر البرية؟
د. الربيعة: وتأملوا كيف عبر الله تعالى عن الكافرين بشر البرية وعبّر عن المؤمنين بخير البرية. والله إنه لوصف يدعو الإنسان أن يتبصر فيحض نفسه على أن يكون مع خير البرية. هذه البرية التي براها الله عز وجل كل البرية خيرها هم المؤمنون وشرّها هم الكافرون بالله عز وجل.
د. الخضيري: وبهذا نعلم أن هذين الفريقين لا يمكن أن يجتمعا وأن هاتين الفئتين لا يمكن أن يجمع بينهما بعض الناس يعمل خلطاً يريد أن يجعل المسلم والنصراني والبوذي واليهودي والملحد شيء واحد فيما يسمونه الدعوة لوحدة الأديان دعونا نكون واضحين ونعلم أن الطريق واحد، الموصل إلى الله واحد كما قال الله عز وجل (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (153) الأنعام) هناك سبل كثيرة لو اتبعناها، لو أطعناها لو طاوعنا أصحابنا عندما يدعوننا إليه والله لتصدننا عن سبيل الله.
د. الربيعة: كيف يتفقان ويجتمعان وهذا في أسمى مكانة وهو طريق المؤمنين وذلك في أسفل مكان! لعلنا نختم السورة بخير ختام، يقول الله عز وجل في جزاء المؤمنين (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )
د. الخضيري: استوقفتني قوله (عِندَ رَبِّهِمْ) بدأ بالصاحب والجار قبل الدار (عند ربهم) أولاً ما ذكر الجنة وهذا يدلنا على أن الإنسان يختار الجار قبل الدار ويحرص عليه لأنه هو الذي تقوم به السعادة الحقيقية.
د. الربيعة: الجار الحقيقي هو جار الدين والخير والصلاح تصاحبه في دنياك ليعينك على طاعة الله عز وجل.
د. الخضيري: ويستوقفني في الختام قوله تعالى (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي ذلك الجزاء العظيم الرفيع العالي لا يكون ولا يتحقق إلا لمن خشي الله سبحانه وتعالى أي خاف منه الخوف الذي يليق به. والفرق بين الخشية والخوف كما يقول العلماء أن الخشية خوف برفق وأما الخوف فإنه يكون اضطراباً وقلقاً فالمؤمنون الذي يخشون الله يخافونه وهم يعلمون ذلك ونحن يجب علينا أن نخشى الله بل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقسم لنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين معصيته.
د. الربيعة: وقد قال الله عز وجل (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) مما يؤكد هذه الآية في عظم أمر الخشية (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ (40) النازعات) (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) الرحمن) فما أعظم هذا الوصف يتصف به المسلم! خير ختام يقول الله قبل هذه الجملة (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) والله إن هذا لوصف عظيم إذا استحضره المسلم يرجو رضى الله وهو راض عن الله عز وجل. هذه السورة إخواني سورة نتبين فيها هذا الدين البيّن لنكون من أهله ونكون من هذا الدين القيم فنكون على أقوم طريق نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على الطريق السوي البيّن ولنا لقاء معكم بإذن الله في جلسة قادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 14
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس الثالث عشر من برنامجكم المبارك "لنحيا بالقرآن". هذا المجلس سنخصصه لسورة الزلزلة هذه السورة التي قال الله عز وجل فيها (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿١﴾ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿٢﴾ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴿٣﴾ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿٤﴾ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴿٥﴾ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿٦﴾ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾) إذن هذه السورة كما هو ظاهر من أسلوبها ومن إسمها ومن مضمونها تتحدث عن الزلزلة العظيمة والهزة القوية والرجفة الشديدة التي ستكون يوم القيامة. إنها تزلزل قلوب المؤمنين تزلزل قلوب الخائفين الخاشين فيخافون من ذلك اليوم ويستعدون للقاء الله عز وجل، وهي في الوقت ذاته تزلزل قلوب الكافرين الذين يكذبون بيوم الدين وتذكرهم بأنهم سيلقون يوماً عظيماً تتزلزل فيه القلوب. هذه السورة تبين لها شيئاً من أهوال يوم القيامة وشيئاً مما سيحدث فيها من الجزاء والحساب. دعونا نأخذ بعض الوقفات معها ونحول تلك الوقفات إلى محتويات عملية لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها ويجعلنا وإياكم من المتدبرين الذين امتثلوا قول الله عز وجل (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29) ص)
د. الربيعة: كما ذكرت أن هذه السورة تزلزل القلوب من يقرأها بتدبر وخشوع ومعرفة يعرف الهول الذي سيصيب هذه الأرض وأهلها، زلزلة عظيمة. ومن يقرأها يعرف قيمة الأعمال التي يعملها يريد الله عز وجل من هذا التهويل وهذه الزلزلة أنك أيها الإنسان في هذه الحياة أمامك أهوال فاستعد لها بالأعمال ولذلك ختم الله تعالى السورة بقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾) كأنه يقول أيها الإنسان إذا أردت أن تقي نفسك من هذه الزلزلة وأهوالها فاعمل فإنك لك الذرة من الخير وإن عليك الذرة من الشر. وتأمل قول الله عز وجل في افتتاح السورة (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي أن للأرض زلزلة عظيمة ونحن نشاهد بين وقت وآخر في بلدنا هذا وفي كل بلد ربنا عز وجل يعظنا وينبهنا ويحذرنا من تلك الزلزلة بزلازل تحدث هنا وهناك وانظر موقف الناس من تلك الزلازل.
د. الخضيري: يصيبهم من العرب والهول الشيء العظيم ويتفرقون ويقتل أناس كثير وتتهدم أبنية على رؤوس الناس
د. الربيعة: وهي مجرد هزة
د. الخضيري: وفي بقعة يسيرة قد لا تتجاوز مائة كيلو في مائة كيلو.
د. الربيعة: فكيف إذا تحرك هذا الجُرم العظيم تحركاً هائلاً واهتز وأخرج من فيه وأخرج ما فيه. لذلك قال الله عز وجل (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿١﴾ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿٢﴾)
د. الخضيري: أثقالها يعني من في بطنها من الموتى والكنوز.
د. الربيعة: حدثنا يا دكتور محمد عن هذا المعنى العظيم، عن هذه الهزة وعن الأمر العظيم الذي تحدثه هذه الهزة.
د. الخضيري: لا شك أن هذا الهول يزلزل القلوب وأن ما يحدث في يوم القيامة شيء فوق الوصف ولذلك ذكر الله عز وجل في بداية سورة الحج وصفاً يقرّب لنا الحقيقة وإذا الحقيقة أعظم مما تخيله عقولنا قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) يوم ترون هذه الساعة المرأة التي ألقمت رضيعها ثديها فهي أقرب ما تكون إليه وأحنّ ما تكون عليه وأرحم ما تكون له تذهل ومن شدة الهول تطلق هذا الرضيع فيسقط من بين يديها. هل رأيت امرأة أصابها رعب فتركت رضيعها؟ نحن فيما نرى مما يحيط بنا في الدنيا أن المرأة أول ما يصيبها الرعب تضم جنينها إليها وطفلها إليها وتنجو به وما سيأتي يوم القيامة هو شيء سيجعل هذه المرأة تذهل عن ذلك الرضيع حتى يسقط على الأرض وهي لم تشعر به (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) إذن الأمر عظيم وأعظم من أن تتصوره
د. الربيعة: يجب أن يستحضره المسلم وهو يقرأ هذه السورة العظيمة.
د. الخضيري: وليس الإستحضار هو المجرد فقط وإنما الاستعداد لأنه بقدر عملك وبقدر استعدادك يكون رعبك والهول الذي يكون عليك. فالمؤمنون يلقي الله عز وجل عليهم الطمأنينة لأنهم كانوا في الدنيا خائفين وكانوا يخشون الله فالله يطمئنهم والكافرون كانوا لاهين عابثين مكذبين غافلين ولذلك يجعل الله في قلوبهم من الرعب ومن الهول أضعاف أضعاف ما يكون على المؤمنين.
د. الربيعة: قوله (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) يدلنا على أن الأرض ستخرج من فيها من الأموات وتخرج من فيها من كل شيء لعظم هذه الهزة. ثم يبين الله عز وجل حال الناس (وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا)
د. الخضيري: ماذا بها؟ ماذا حصل لهذه الأرض؟ إعلموا أن هذا شيء قد أخبرتم به وإن هذا شيء قد جاء القرآن به ودلّ عليه، هذه زلزلة كتبها الله على الأرض ونهاية لهذا العالم الأول وبداية لذلك العالم الآخر فانتبهوا لذلك واستعدوا له فقد أُنذرتم وقد حذرتم فاتقوا الله في أنفسكم واستعدوا للقاء الله عز وجل.
د. الربيعة: بعد هذه الآية كأنه جواب من الله تعالى يقول (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) يعني أن هذه الأرض تلك الهزة العظيمة وإخراج ما في بطنها من الأموات وغيرهم وأيضاً فإنها (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ستخبر بكل عمل كان عليها
د. الخضيري: يا الله، هذه تدعو الإنسان إلى أن يتقي الله عز وجل كما قلنا في سورة العلق (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)) الله يراك وأيضاً قد جعل في هذه الدنيا من يراك ويحصي عليك عملك، حتى هذه الأرض ستحدد ما فُعِل عليها من خير أو شر تقول فلان صلى هنا وفلان صام هنا وفلان مشى إلى المسجد فوقي، فلان مشى إلى السرقة فوقي، فلان مشى إلى الزنا فوقي إذن الأرض التي تمشي عليها أيها المؤمن ستشهد عليك ولذلك قال العلماء أنه يستحب للإنسان أن يكثر من مواضع الصلاة لأن الأرض ستحدث بما عمل فوق ظهرها وتخبر بذلك.
د. الربيعة: يعني كل شبر من الأرض تعمل فيه عملاً صالحاً أو سيئاً فالأرض تخبر ربها بهذا العمل.
د. الخضيري: حتى المؤذن إذا اذن ما يبقى شيء يسمع صوته من شجر أو حجر أو تراب إلا جاء شاهداً يوم القيامة يشهد له لأنه سمعه يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. أحد السلف رضوان الله عليهم جميعاً كان إذا أراد منه بعض الناس أن يصحبه في السفر اشترط عليهم أن يكون هو المؤذن فسالوه لماذا أنت حريص على ذلك. قال من أجل أن لا أؤذن في مكان إلا شهد لي ذلك المكان. فنحن نقول لإخواننا إجعلوا كل أرض تشهد لكم في غرفة نومك أكثر من الصلاة حتى تشهد لك أنك تقوم للصلاة وفي بيتك أكثِر من الصلاة ومن الذكر حتى يشهد لك.
د. الربيعة: بل إنك ينبغي يا أخي الكريم إذا ذهبت في أي بلد وفي أي رقعة بل وأنت تخرج في رحلة برية أو نزهة على البحر أو نزهة هناك وهناك ينبغي أن يكون المكان الذي تكون فيه تذكر الله فيه ليشهد لك.
د. الخضيري: ونحرص على أن تصلي في المكان الذي يقل ذكر الله فيه.
د. الربيعة: لعل تلك البقعة لا تشهد إلا لك وتكون في ميزان حسناتك. يقول الله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) لماذا تحدث أخبارها؟
د. الخضيري: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) هي تطيع الله عز وجل بمجرد أن أوحى الله لها أن تحدث بأخبارها قامت بالواجب الذي عليها. وهذا يدلنا على أن هذه الكائنات مطيعة لله مستسلمة لله منقادة لله فلا تكن خيراً منا نحن العقلاء الذين أنعم الله علينا وكرّمنا (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) لا يجوز أبداً أن نكون أقل من هذه المخلوقات التي لم تحفل بذلك التكريم فإنها تطيع الله عز وجل وتستسلم لأمره ولذلك نقول إن الكفار أضل من البهائم لأن البهيمة خلقت لشيء فأدّته فهي في ظاهر الأمر في ضلال لكنها أدّت ما كُتب عليها. أما الكافر فلم يؤد لكن لأنها قد أدّت ما كتب عليها أنها كتبت عليه فالكافر أضل منها لأنه قد خُلق لشيء فلم يؤدّ ما خُلِق لأجله
د. الربيعة: لعله مما يشهد لهذه الآية أيضاً قوله عز وجل (إذا السماء انشقت)
د. الخضيري: أذنت بمعنى استمعت وحُق لها أن تذعن وتخضع.
د. الربيعة: إذا كانت هذه الأرض العظيمة، إذا كان هذا الجرم العظيم يخضع لله عز وجل فكيف أنت أيها الإنسان الضعيف الذي لست بشيء مقارنة بهذه الأرض؟!.
د. الخضيري: في قول الله عز وجل (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) في يوم القيامة يأتون أشتاتاً وأوزاعاً متفرقين من أجل أن يشاهدوا ما عملوه في الدنيا يروا نزاعهم، ماذا عليهم. يأتي الإنسان يوم القيامة وله صحائف ملء البصر فيجد فيها كل شيء حتى قوله يوم حار ويوم بارد هذا يعجبني ولا يعجبني وأنا أحب ولا أحب وأفّ وها كلها مكتوبة. كما قال الله عز وجل (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) الكهف) فهذا يجعلني وإياك وكل من يشاهدنا الآن يتذكر أنه سنجد يوماً فلا ينفعنا في ذلك اليوم إلا ما قدمناه فيه من عمل.
د. الربيعة: ولذلك انظر كيف ختم الله تعالى هذه السورة بآية عظيمة بقوله تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) يعني أننا نستحضر أن كل عمل دقيق وجليل مكتوب لنا، قولنا جزاك الله خيراً مكتوب له، قول الإنسان لأخيه سبّاً أو شتماً مكتوب عليه
د. الخضيري: بل أن تنظر إنسان بعين الرحمة مر بك فقيراً تنظر له بعين الرحمة تكتب لك، حركة قلبك في إحسان الظن بأخيك أو رحمته أو اللطف معه مكتوب لك، أو مكتوب عليك إن أسأت بذلك كله كما قال الله عز وجل (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) غافر) هذه الحقيقة تجعل المؤمن على يقظة تامة. ما هناك مسامحة، ما هناك شيء يُعفى عنه فلا يكتب، كل شيء يًكتب أيها الإنسان ولا يعني أنه يُكتب أنه قد يُحاسب عليه فإنه قد يكتب من أجل أن يرصد ويبين لك يوم القيامة أنه مرصود ولم يضع من عملك شيء.
د. الربيعة: لذلك يقرب الله عبده يوم القيامة ألم تفعل كذا؟
د. الخضيري: هذا يظن أنه قد هلك فيقول الله عز وجل إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني اغفرها لك اليوم.
د. الربيعة: هاتين الآيتين ينبغي أن نجعلهما أمام أعيننا دائماً لنحسب لأعمالنا حساب، كم من الأعمال نفرط فيه؟ كثير. كم من إنسان تأتيه الفرص ولا يغتنمها كم من إنسان يفعل من المعاصي والموبقات ما لا يشعر به! حقاً إننا ينبغي أن نعيش مع هذه الاية كيف نعيش مع هذه الاية؟ نعيش مع هذه الاية إذا استحضرنا عظم ذلك اليوم الذي سنحاسب فيه، استشعرنا تلك الهزة العظيمة والزلزلة الكبير، استشعرنا ذلك الهول واستشعرنا أن الأرض ستخبر بأعمالنا صغيرها وكبيرها وستشهد علينا بكل عمل.
د. الخضيري: أنا الآن بدت لي ملاحظة مهمة جداً وهي ملاحظة عملية نقدمها لإخواننا المشاهدين وهي أن الأعمال إذا كانت بالذرات ستحسب لنا أو علينا نقول لهم يا إخواني بإمكاننا في الدقائق التي نعيشها أنت ننتج ذرات من الإحسان ذرات الإحسان. وأنت تشاهد الأخبار ما الذي يمنعك أن تقول لا إله إلا الله، سبحان الله، هذه ذرات بل هي عظيمات عند الله ومع ذلك لا تأخذ منك إلا الجزء اليسير ثم يحقق منها الكثير.
د. الربيعة: ما أجمل أن يجعل الإنسان لحظات الإنتصار في الاستغفار وفي ذكر الله. هذه السورة تعطينا معاني عظيمة ويجب أن نستحضرها استحضاراً ونحن نقرأها في الصلوات الجهرية والسرية.
د. الخضيري: هذه بعض الوقفات مع هذه السورة الكريمة نسأل الله أن ينفعنا بها وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 15
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله وأصلي وأسلم على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين. ما زلنا وإياكم في عرض الحلقات المباركة مع برنامج نريد أن نعيش وإياكم فيه مع القرآن "لنحيا بالقرآن" وفي هذه الحلقة نعيش جميعاً وإياكم فيها بإذن الله مع سورة كريمة من سور القرآن من قصار المفصل وهي سورة العاديات. (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴿١﴾ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ﴿٢﴾ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ﴿٣﴾ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ﴿٤﴾ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴿٥﴾ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ﴿٦﴾ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴿٧﴾ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴿٨﴾ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴿٩﴾ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿١٠﴾ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ﴿١١﴾) لعلنا نقف منها أولاً وقفة متدبرة نستخرج منها أبرز ما فيها والمقصد الذي ربما أن يكون تجمعه. حينما نتأمل إمسها العاديات ونتأمل افتتاح الله عز وجل بالقسم بالعاديات بصفاتها الخمس ثم جواب القسم في بيان حال الإنسان إذا تجرد عن حقيقته حقيقة الدين نعلم أن هذه السورة تبين لنا حقيقة الإنسان وهدفه في الحياة. ما هو هدفه في الحياة؟ ما هو الأمر الذي يكون عليه الذي خلقه الله من أجله؟ وما هو الأمر الذي يكون عليه إذا تجرد عن دين الله عز وجل؟. تأمل كيف افتتح الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالقسم بالعاديات. والعاديات على القولين أنها الخيل أو الجِمال، لكن الأصح أنها الخيل وهي الأكثر عند المفسرين. وهي ليست كل خيل وإنما هي الخيل التي تعدو في الجهاد في سبيل الله عز وجل، أي الخيل التي تحمل غايتها أو حقيقة هدفها في الحياة، ما هو أعظم غاية لهذه الخيل؟ هو الجهاد (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) الأنفال) من الخيل من أعظم أغراضها أهدافها أن تكون مركوباً للجهاد في سبيل الله. لعلنا نتأمل أوصاف هذه الخيل والصفات الخمس وماذا تعني؟ أولاً (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) ما معنى العاديات ضبحاً؟
د. الخضيري: العاديات من العدو وهي السرعة والضبح صوت أنفاس الخيل عند الجري
د. الربيعة: لعلنا نلمس من هذا المعنى وهو انطلاقها بقوة إلى هدفها وهذا يجعلنا نأخذ معنى يحققه الإنسان في هدفه في الحياة وهو العبودية أن ينطلق إلى هدفه بقوة ويكون انطلاقه صادقاً، انطلاقاً صادقاً وانطلاقاً قوياً.
د. الخضيري: بمعنى أنه لا يكون ممن يجر رجله في أهداف الحياة جراً بل يكون مقبلاً عليها. ولذلك ذكر الله عز وجل حال المؤمنين بأنهم إذا أتوا إلى عمل الآخرة يسعون لها سعياً قال عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (9) الجمعة) ليس اسعوا يعني اركضوا وإنم أقبلوا، (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) وسابقوا وسارعوا وفي المقابل ذكر المنافقين (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى (142) النساء) يجر الواحد منهم رجليه جراً إلى الصلاة.
د. الربيعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ (38) التوبة) هذا في حال المنافقين. إذن هذه الصفة تعطينا وصفاً ينبغي أن نتحلى به نحن عباد الله وهو السعي والمسابقة إلى عبادة الله عز وجل إذا كانت هذه الخيل قد انتصرت فنحن أولى بها. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) ما المعنى الذي نفهمه من هذه الآية؟
د. الخضيري: الإيراء هو ما يحصل من ضرب حوافر الخيل للصخر والحصى فينقدح مثل النار ولذلك قال (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) إذا ضربت حوافرها بالصخر خرج من الصخر أو من حوافرها مثل الشرر بسبب ضربها أو عدوها على تلك الحصى.
د. الربيعة: لعلنا إذا كان هذا المعنى نلمس فيه معنى ظاهرة في قوة هذا الخيل، إذا كانت هذه الخيل تضرب بالأرض ضرباً حتى تقدح الحجارة بالنار
د. الخضيري: الآية الأولى أخذنا منها الانطلاق والسرعة
د. الربيعة: والثانية القوة. كيف يكون المسلم قوياً؟
د. الخضيري: يكون قوياً إذا أعدّ نفسه إعداداً جيداً وحرص على تقوية نفسه نفسياً وإيمانياً وجسمياً أيضاً ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف" ويوسف عليه الصلاة والسلام قال في وصف نفسه (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) يوسف) عنده القوة على حفظ الشيء والقوة على إدارته والإحاطة به وحسن ترتيبه والقيام به.
د. الربيعة: إذن هي القوة في كل مجالات الحياة حتى القوة في جسمه لأنه إذا قوي في جسمه
د. الخضيري: قوي على طاعة الله عز وجل ولذلك وصف طالوت قال (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ (247) البقرة)
د. الربيعة: الوصف الثالث (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) حينما تتأمل في هذه الجملة تلحط معنى عظيماً وهي أن هذه الخيل وهي تسير إلى الجهاد تبادر العدو صباحاً أي أنها تبدأ عملها في الصباح الباكر
د. الخضيري: وقد بورك لهذه الأمر في بكورها
د. الربيعة: نلمس من هذا معنى عظيماً وهو أننا نحن المسلمين يجب أن نبادر وما هو أول عمل يعمله الإنسان في يومه؟
د. الخضيري: لا شك أن أول ما يفتتح به المسلم يومه به هو الصلاة وذكر الله عز وجل لذلك المسلم ينادى للفجر فيقوم ويجيب النداء إن كان رجلاً ذهب إلى المسجد وإن كانت امرأة صلّت في بيتها فيفتتح يومه بذكر الله وبالصلاة وإذا افتتح المسلم ذلك اليوم بهذين الأمرين فلا شك أن هذا اليوم يوم مبارك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "من صلّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يُمسي" في حفظ الله ورعايته والله سبحانه وتعالى سيطالب من يسيء إليه ويلاحقه ويتابعه حتى يأخذه بالجريرة.
د. الربيعة: إذن نأخذ من هذا الوصف وصف المبادرة، المسلم مبادر دائماً في المقدمة ولذلك السبق إلى الصف الأول كم جاء فيه من الأحاديث والسبق إلى الأعمال الصالحة والسبق إلى كل عمل يرضي الله عز وجل
د. الخضيري: ولذلك في مرة من المرات جاء نفر من الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب رديئة جداً فقام أحد الصحابة فبادر فذهب وجاء بصُرة من الدراهم تكاد يده تعجز عن حملها فوضعها بين يدي رسول الله فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنه مذهبة ثم تقاطر الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" يعني ذاك الأول له أجر من جاء بعده ممن عمل مثل عمله.
د. الربيعة: يعني إذا كنت أيها المسلم أول عامل في عمل وتبعك الناس فلك أجرك وأجرهم. الوصف الرابع (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) ما معنى هذا الوصف؟
د. الخضيري: إذا عدت الخيل وأورت يعني قدحت النار في عدوها صار للغبار ثوران أثرن به نقعاً أي غباراً أثارت الغبار في ساحة المعركة
د. الربيعة: لعل هذا يعطينا معنى في هذه الخيل للمسلم في حياته وهو أن يكون له غبار وأثر وصولة وجولة في المجتمع ويكون هنا في دعوة إلى الله وهنا في نفع المساكين وهنا في مجالات متعددة في الخير، له أثره في المجتمع وله وجوده.
د. الخضيري: يعني ليس صالحاً في نفسه بل صالح مصلح ولما وصف الني صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة قال "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" لما سُئل عنهم قال الذي يصلحون إذا فسد الناس أو يصلحون من أفسد الناس.
د. الربيعة: لعل له معنى آخر وهو أن هذه الخيل تصول على العدو فأنت أيها المسلم يجب أن يكون لك صولة على عدوك، كيف ذلك؟.
د. الخضيري: عندما يخطط المسلم لأعماله بشكل جيد ولا تكون أعماله ردود فعل لما يعمله الكفار بل يخطط من أجل أن ينتقص من هؤلاء الكفار ومن أجل أن يزيد في بلاد الإسلام ودولة الإسلام فلا شك أن ذلك هو الذي يؤذي الكفار قد يعمل أعمالاً لكن في نهاية المطاف لا يكون لها ثمرة ولكن على الإنسان أن يعمل أعمالاً مفيدة ويسعى لها سعياً شديداً.
د. الربيعة: الوصف الأخير لهذه الخيل (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) يعني كانت في وسط العدو وهذا معنى نأخذ منه والله أعلم أنك أنت أيها المسلم يجب أن تكون دائماً في وسط الناس، في موقع القيادة في موضع التأثير وفي موضع القدوة فما أحرانا أن نتصف بصفات هذه الخيل. لكن لعلنا نعقّب على الجزء الثاني من هذه السورة.
د. الخضيري: في هذه الأوصاف المستنبطة مما أقسم الله عز وجل به هو من التدبر العميق الذي قد لا يستطيعه كل واحد ولكن نبين أن كل ىية تحتها من الأعمال ما هو جدير بالانتباه وجدير بالتوقف، هذا نموذج ما ذكره الدكتور في هذه المقدمة هو نموذج، أما النموذج الآخر وهو الواضح البيّن الذي يستطيعه كل واحد منا انظروا قد أقسم الله تعالى بهذه الأقسام الخمسة (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي من طبع الإنسان أنه جحود لنعم الله، ينعم الله عليه فيجحد نعم الله عليه ولا يشكرها ولا يؤديها دائماً يتذمر من قضاء الله وقدره دائماً يتشكى، دائماً ينسى النعم التي أنعمها الله عليه، إذا أصابته يوماً ضراء نسي ألف يوم من السرّاء جحد نعمة الله عز وجل ونسي فضل الله عز وجل وهذا ما لا ينبغي أن يكون المسلم عليه بل من العجائب التي ذكرها بعض أهل العلم قالوا إن الخيل يكرمها صاحبها فإذا جاء يوم الشدة ويوم الجهاد أقدمت ودخلت في ساحة المعركة تريد أن تنتصر لصاحبها أما الإنسان فإنه بعكس ذلك يكرمه ربه سبحانه وتعالى ويعطيه وإذا أراد منه أن يطيعه ويسجد له تلكأ وتأخر فلا يكون الخيل أفقه منك ولا يكون أحسن حالاً منك بل عليك أن تكون نبيهاً شريفاً ذا مروءة وذا نظر صائب فتشكر نعمة الله عز وجل دائماً وأبداً وتذكر أن نعم الله عليك كثيرة.
د. الربيعة: وقفة عند كلمة (كنود) كلمة رجعت إلى أقوال المفرسين فيها فوجدت فيها معاني متعددة جحود وكفور وغير ذلك من المعاني وفكأن هذه الكلمة تجمع مساوئ الإنسان قد تكون بضد تلك الحسنات الخمس كأن كنود تجمع الصفات السيئة للإنسان الذي لم يتصف بهذا الدين الذي يشرفه الله تعالى به
د. الخضيري: لاحظ قول الله عز وجل (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أريد أن أبين أمرين الأمر الأول قوله (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْر) الخير هنا بمعنى المال وهذا المعنى معروف في كتاب الله عز وجل قال الله عز وجل (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) البقرة) خيراً أي مالاً والمقصود مالاً كثيراً، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد) أي يعظم هذا المال وهذا نلاحظه من أنفسنا وممن حولنا فكل الناس متفقون على محبة المال وما يسلم من محبة المال إلا من امتلأ قلبه بحب الله عز وجل فالمال يعتبر عنده وسيلة. هذه الآية تدلنا على أن الإنسان يحب المال حباً شديداً وهي جاءت لتحذرنا من هذه الخصلة، إياك أيها المسلم أن تحب المال حباً شديداً فتنسى حق الله فيه وأن لا تعبد الله سبحانه وتعالى به وأن تعبد هذا المال وتنسى أن تجعله مطية لرضوان الله جل وعلا. ولذلك ذكر الله في سورة الفجر من صفات المشركين قال جل وعلا (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) حباً شديداً حتى إنه يدعوكم إلى أن تظلموا اليتيم وتأخذوا حقه وتتركوا حق المسكين فلا تتصدقون عليه وتتركوا حق الوالد والوالدة والإبن والزوجة والفقير والمسكين وأن تبذل الأموال فيما يصلح أحوال الناس فلننتبه لذلك
د. الربيعة: ولهذا يحذرنا الله تعالى ما الذي يجعلنا نقف مع هذا الموقف موقفاً صحيحاً؟ قوله تعالى (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) يعني ألا يعلم الإنسان أنه ذاهب إلى القبر ثم إذا بُعثر وهو في البعث فإذا تذكر الإنسان مصيره إلى قبره وموته لا يمكن أن يتعلق بهذا المال تعلقاً ينسيه آخرته. ويختم الله تعالى بقوله (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) ما معنى هذه الآية؟
د. الخضيري: يعني هذا الذي يقع في صدرك من نيات ومن أعمال قلبية سيحصّل ويُكشف ومنه تعلّقه بالدنيا وحبه للمال حباً شديداً يطغي الإنسان وينسيه ذكر الله سبحانه وتعالى
د. الربيعة: ويختم الله عز وجل بما يقرر للإنسان حقيقة أمره فيقول (إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) حقاً إن الإنسان إذا قرأ هذه السورة وعى حقيقته إذا قرأ هذه السورة وعى هدفه في الحياة وما ينبغي أن يكون عليه وما هي الصفات التي يحذرها وما هو واعظ الله الذي يعظه ويوقفه من التمادي مع هذه الدنيا بلا حدود وهي واعظ الموت، واعظ علم الله، واعظ خبر الله عز وجل فهو خبير دقيق بالأمور. وأنت تعلم معنى خبير أنها دقيق العلم فما أحرانا أن نتدبر هذه السورة وأن نمتثلها على واقع ما ذكرناه وما يمكن أن يفتح الله تعالى به علينا من معاني ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتدبرين لكتابه العاملين ولنا لقاء معكم بإذن الله تعالى في جلسة أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 16
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس الخامس عشر من مجالس برنامجنا الذي نسأل الله عز وجل أن يبارك فيه لنا ولكم "لنحيا بالقرآن" هذه المجالس جعلناها على مائدة هذا الكتاب العزيز نستخرج من قصار المفصل آية أو آيتين من سورة من سوره ثم نحاول أن نجعل منها برنامجاً عملياً كيف نحيا بها ونجعلها مؤثرة على حياتنا وسلوكنا وكيف نجعلها مهيمنة على جميع أعمالنا وتصرفاتنا. اليوم جلستنا مع سورة القارعة. لن نتوقف كثيراً عند كل كلمة من كلمات هذه السورة العظيمة ولو أتحنا لأنفسنا وأردنا أن نسترسل مع معانيها وما فيها لطال بنا المقام ولكننا نركز على بعض المعاني البارزة حتى نُشعر أنفسنا أننا يمكن أن نتأمل كتاب الله عز وجل ونستخرج منه الهدايات والعبر والعظات والأعمال ونجعل من ذلك سلوكاً نعيش به في حياتنا. هذه السورة يقول الله عز وجل فيها (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿٤﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴿٥﴾ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾) هذه السورة افتتحت بذكر وصف من أوصاف يوم القيامة، إنه وصف القارعة يعني أن هذه القيامة لشدة هولها تقرع القلوب وترجف بالأفئدة فتخاف وتوجل ويصبها الاضطراب وتتزلزل كما ذكرنا في سورة الزلزلة.
د. الربيعة: لعل لفظ القارعة وتسمية السورة بالقارعة يدل دلالة واضحة على أن الغرض والله أعلم منها قرع القلوب الغافلة عن طاعة الله وقرع قلوب المشركين وقرع قلوب المعرضين بالأهوال التي تزلزلهم وتبين لهم الحق. ولذلك تأمل كيف وصف الله عز وجل أوصاف الناس فيها.
د. الخضيري: قال (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)
د. الربيعة: تطايرهم، والجبال ليس الإنسان فقط، تلك الجبال الراسية العظيمة تكون كالعهن المنفوش
د. الخضيري: مثل القطن المنفوش
د. الربيعة: بعد هذا القرع وهذا الهول فما ميزان الإنسان؟
د. الخضيري: هنا يأتي البيان حال الناس في ذلك اليوم بحسب ما عندهم من الأعمال. هي تقرع وتقلقل وتزلزل لكن المؤمن بما آتاه الله عز وجل من الأعمال الصالحة يكون ثقيلاً فإذا اهتز الناس لا يهتز وإذا تشتتوا وزلزلوا واضطربوا وإذا به ساكن (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) النمل) (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا اليوم يجب أن نعمل له. لكن هنا ملاحظة: من قرعت القيامة قلبه في الدنيا اطمأن يوم القيامة فلا يجمع الله على عبد زلزلتين ولا خوفين ولا أمنين من أمن في الدنيا خاف يوم القيامة ومن خاف في الدنيا أمِن يوم القيامة ومن قرعت القيامة قلبه في الدنيا في يوم القيامة يكون مطمئناً.
د. الربيعة: ولهذا سبحان الله إنظر إلى السر في تكرار لفظ القارعة، ثلاث مرات تكررت والسورة إنما هي قصيرة (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾) كلها لتقرع القلب مرة بعد مرة بعد مرة، القلب الغافل الذي قد تراكمت عليه الذنوب وتراكمت عليه الشبهات وتراكمت عليه المعاصي وأنواع الشرك يحتاج إلى قرع شديد حتى ينفكّ والله تعالى أعلم أن هذا من أسرار تكرار لفظ القارعة في الآية ولهذا المسلم ينبغي إذا قرأ ينبغي أن يتذكر هذا المعنى ليقرع بها قلبه الغافل وكلنا ذلك الرجل نحتاج إلى ما يقرع قلوبنا فيصححها ويفتح مغاليقها إلى ذكر الله عز وجل. يقول الله عز وجل في وصف عظيم لهذه القارعة وهو (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) والله إنه لمشهد عظيم، هؤلاء الناس الذين يعيشون على هذه الأرض ويمشون عليها في لحظة يكونوا متطايرين في الهواء كالفراش المبثوث من خفّتهم بسبب الهول التي أصاب تلك الأرض كما ذكرنا في سورة الزلزلة (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) إذا كانت الأرض ستخرج ما فيها فكيف حال الإنسان؟ لا قيمة له!
د. الخضيري: ولذلك لما ذكر حال الناس عندما تأتي هذه القارعة وهي أنهم ينتشرون كالفراش قال بعدها (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7))
د. الربيعة: بماذا تثقل الموازين؟
د. الخضيري: هذا هو السؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا ولذلك أقول هذه النقطة بعد هذه المقدمة في ذكر القارعة هي التي يجب أن يلتفت لها نظر المؤمن. إسأل نفسك، هل عملت على أن تثقّل موازينك؟ إن هذا السؤال يجب أن يلاحقك في يومك وليلك بل في كل ساعة من ساعات يومك وهي كيف أثقّل موازيني؟ إن ساحات العمل كبيرة وإن العمل متاح وتثقيله لا يلزم منه أن الإنسان يكون عنده مال ولا يلزم الإنسان أن يكون عنده زوجة ولا يلزم أن يكون الإنسان عنده ولد ولا سيارة ولا بيت، يمكن أن يقوم بأعمال صالحة كثيرة جداً، ذكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة، الصوم، نصيحة الخلق، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، أعمال كثيرة.
د. الربيعة: وقبل ذلك وبعده التوحيد الذي يثقل الميزان حقيقة.
د. الخضيري: نعم وتعرف حديث البطاقة، الرجل الذي جاء يوم القيامة وله سيئات كالجبال من كثرتها حتى إذا ظنّ أنه هالك قال له الله تعالى إنك لا تُظلم، فيؤتى له ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، فيقول ما تغني هذه البطاقة عند هذه السجلات؟! فتوضع السجلات على كفة ولا إله إلا الله على كفة فتطيش بهن لا إله إلا الله، يعني تثقّل الميزان. لا إله إلا الله قيلت بصدق وحق وتوحيد بإيمان وإخلاص ويقين فنفعت وليس أن يقولها الإنسان بلسانه وهو لا يفهم من معناها شيئاً أو يقولها ويُشرك مع الله سواه.
د. الربيعة: وأيضاً من أعظم ما يثقّل الميزان مما ورد في الحديث الصحيح "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". حينما تسبح الله وأنت تحمده لا شك أن هذا عظيم.حُقّ لهذا المعنى العظيم أن يُثقّل الميزان. وحينما تصف الله بالعظمة لا شك أن هذا معنى عظيماً يثقل الله به الميزان. ليس فقط أن تقول باللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، بل ينبغي أن تستحضر معنى سبحان الله وبحمده. سبحان الله وبحمده يعني تنزّه الله تنزيهاً كاملاً مصاحباً لحمده وهو وصفه بالكمال.
د. الخضيري: هذا هو الوصف التام، التنزيه مع الثناء ووصف الكمال لله سبحانه وتعالى. عندي قصة في مسالة ثقيل الموازين علها تنفع، كانت هناك فتاة تحب السعي في كفالة الأيتام من فقراء الملسمين في أنحاء العالم الإسلامي عبر إحدى الجمعيات الخيرية الموجودة في بلاد المسلمين فكانت تأخذ هذه الكفالات وتعرضها على زميلاتها وصديقاتها وتأخذ مبلغ الكفالة وترسله إلى المؤسسة لتقوم بكفالة يتيم من أيتام المسلمين. هذه الفتاة ذات يوم رأت في منامها أنها في عرصات القيامة وأنها في هول شديد وأنها عارية ليس عليها شيء وأنها قد وضعت على الميزان، جيء بها إلى ميزان حقيقي ووضعت عليه فوجدت أن الميزان لم يتحرك إلا شيئاً قليلاً فعلمت وايقنت بالهلاك قالت فخفت خوفاً شديداً ثم قالت ما شعرت إلا وعدد من الأطفال ياتون إلى الميزان ويتعلقون بي فرأيت المؤشر قد ارتفع فوصل إلى النهاية ففرحت ثم قمت فعلمت أن الذين أمسكوا بهذا الميزان وثقلوه هم هؤلاء الأيتام. وهذا يدلنا غلى أن كفالة الأيتام ورعايتهم من أجل الأعمال وأعظمها.
د. الربيعة: بل يدلنا على أن الإنسان ينظر ما هو أرجى عمل يرجوه عند الله يثقل به الميزان.
د. الخضيري: وهناك مسألة أخرى وهي مهمة جداً وينبغي أن ننبه عليها ونعظ أنفسنا بها فنحن أحوج بأن نعظ أنفسنا وهي أن يكون لك أخي المسلم خبيئة تثقل بها ميزانك لا يطلع عليها أحد لا والد ولا زوجة ولا ولد، صدقة خفية، عمل سري تعمله كل يوم لا تذكره لأي إنسان، تصدق مع الله فيه ويكون ذلك العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه القضية ينبغي لنا أن نحرص عليها وأكثر من الخبيئات فليكن لك في الصلاة خبيئة وليكن لك في قرآءة القرآن خبيئة وليكن لك في الذكر خبيئة وليكن لك في كفالة الأيتام خبيئة وليكن لك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خبيئة وليكن لك في صلة الرحم خبيئة وهكذا حتى إذا جئت يوم القيامة ووردت على الله عز وجل ماذا وجدت؟ نجد أعمالاً كثير كلها تثقل ميزانك. وبهذه المناسبة أحب أن تذكر المشاهدين من هو المفلِس؟
د. الربيعة: من إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي عليه.
د. الخضيري: هذا البخيل والمفلِس من يأتي يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولكنه يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا فنقول إنتبهوا يا إخواني وغياكم أن تكونوا من هؤلاء المفلسين تعملون أعمالاً تثقل موازينكم ولكنكم تفسدونها بظلم العباد وأخذ أموالهم وأكل حقوقهم والنيل من أعراضهم فهذا والله لا يليق بكم.
د. الربيعة: في تمام الآية يقول الله عز وجل (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هذا الذي ثقلت موازينه سيكون عند الله عز وجل في ذلك اليوم الذي فيه القارعة وفيه الهول وفيه تطاير الناس في عيشة راضية (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) هو في ذلك اليوم في الفزع آمن وهو عند الله بعد ذلك في جزائه في عيشة راضية. تأمل قوله عز وجل (فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هو سيعيش عند الله عيشة راضية يعني سيرضى. متى يرضى الإنسان في العيشة؟ إذا كان عنده رغد العيش تماماً فستكون أيها المؤمن بأعمالك الصالحة في عيشة راضية وكلما كنت أعظم أعمالاً بإخلاص وصدق فأنت أعظم عيشة وأعظم رضى بإذن الله. لعلك تقف وقفة سريعة مع ختام هذه السورة قال الله عز وجل (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9))
د. الخضيري: من خفت موازينه أي لم يجد في ميزانه ما يثقل به ذلك الميزان، ليس عنده أعمال صالحة لا صلاة ولا صوم ولا بر والدين ولا صلة رحم فهو يعيش لنفسه، يعيش ولا يرى في هذه الدنيا إلا ذاته ولهذا خف ميزانه يوم القيامة، فهذا أمه هاوية يعني أمه النار، النار ستكون أمه تضمه ضماً شديداً وتحتويه وتؤويه إليها لأنه لا يليق به لما جفّ من الأعمال الصالحة لا يليق به إلا أن يكون حطباً لنار جهنم.
د. الربيعة: ولذلك قال بعدها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) إنه والله وعظ عظيم للمؤمن إذا قرأ هذه السورة. هذه السورة نحتاج والله أن نعظ بها قلوبنا ونحن ينبغي أن نقرأ هذه السورة كثيراً عندما تقسو قلوبنا ونشعر بغفلة وما يران على قلوبنا من غفلة يجب أن نقرأ هذه السورة التي تفتح لذكر لله عز وجل ولطاعته وينبغي أن نتذكر دائماً أنه لن يثقل ميزاننا عند الله إلا بأعمالنا ولن نعيش عيشة راضية إلا باعمالنا الصالحة بعد رحمة الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتعظين بكتابه ولنا بإذن الله معكم لقاء آخر ونستودعكم الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 16
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس الخامس عشر من مجالس برنامجنا الذي نسأل الله عز وجل أن يبارك فيه لنا ولكم "لنحيا بالقرآن" هذه المجالس جعلناها على مائدة هذا الكتاب العزيز نستخرج من قصار المفصل آية أو آيتين من سورة من سوره ثم نحاول أن نجعل منها برنامجاً عملياً كيف نحيا بها ونجعلها مؤثرة على حياتنا وسلوكنا وكيف نجعلها مهيمنة على جميع أعمالنا وتصرفاتنا. اليوم جلستنا مع سورة القارعة. لن نتوقف كثيراً عند كل كلمة من كلمات هذه السورة العظيمة ولو أتحنا لأنفسنا وأردنا أن نسترسل مع معانيها وما فيها لطال بنا المقام ولكننا نركز على بعض المعاني البارزة حتى نُشعر أنفسنا أننا يمكن أن نتأمل كتاب الله عز وجل ونستخرج منه الهدايات والعبر والعظات والأعمال ونجعل من ذلك سلوكاً نعيش به في حياتنا. هذه السورة يقول الله عز وجل فيها (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿٤﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴿٥﴾ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾) هذه السورة افتتحت بذكر وصف من أوصاف يوم القيامة، إنه وصف القارعة يعني أن هذه القيامة لشدة هولها تقرع القلوب وترجف بالأفئدة فتخاف وتوجل ويصبها الاضطراب وتتزلزل كما ذكرنا في سورة الزلزلة.
د. الربيعة: لعل لفظ القارعة وتسمية السورة بالقارعة يدل دلالة واضحة على أن الغرض والله أعلم منها قرع القلوب الغافلة عن طاعة الله وقرع قلوب المشركين وقرع قلوب المعرضين بالأهوال التي تزلزلهم وتبين لهم الحق. ولذلك تأمل كيف وصف الله عز وجل أوصاف الناس فيها.
د. الخضيري: قال (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)
د. الربيعة: تطايرهم، والجبال ليس الإنسان فقط، تلك الجبال الراسية العظيمة تكون كالعهن المنفوش
د. الخضيري: مثل القطن المنفوش
د. الربيعة: بعد هذا القرع وهذا الهول فما ميزان الإنسان؟
د. الخضيري: هنا يأتي البيان حال الناس في ذلك اليوم بحسب ما عندهم من الأعمال. هي تقرع وتقلقل وتزلزل لكن المؤمن بما آتاه الله عز وجل من الأعمال الصالحة يكون ثقيلاً فإذا اهتز الناس لا يهتز وإذا تشتتوا وزلزلوا واضطربوا وإذا به ساكن (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) النمل) (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا اليوم يجب أن نعمل له. لكن هنا ملاحظة: من قرعت القيامة قلبه في الدنيا اطمأن يوم القيامة فلا يجمع الله على عبد زلزلتين ولا خوفين ولا أمنين من أمن في الدنيا خاف يوم القيامة ومن خاف في الدنيا أمِن يوم القيامة ومن قرعت القيامة قلبه في الدنيا في يوم القيامة يكون مطمئناً.
د. الربيعة: ولهذا سبحان الله إنظر إلى السر في تكرار لفظ القارعة، ثلاث مرات تكررت والسورة إنما هي قصيرة (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾) كلها لتقرع القلب مرة بعد مرة بعد مرة، القلب الغافل الذي قد تراكمت عليه الذنوب وتراكمت عليه الشبهات وتراكمت عليه المعاصي وأنواع الشرك يحتاج إلى قرع شديد حتى ينفكّ والله تعالى أعلم أن هذا من أسرار تكرار لفظ القارعة في الآية ولهذا المسلم ينبغي إذا قرأ ينبغي أن يتذكر هذا المعنى ليقرع بها قلبه الغافل وكلنا ذلك الرجل نحتاج إلى ما يقرع قلوبنا فيصححها ويفتح مغاليقها إلى ذكر الله عز وجل. يقول الله عز وجل في وصف عظيم لهذه القارعة وهو (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) والله إنه لمشهد عظيم، هؤلاء الناس الذين يعيشون على هذه الأرض ويمشون عليها في لحظة يكونوا متطايرين في الهواء كالفراش المبثوث من خفّتهم بسبب الهول التي أصاب تلك الأرض كما ذكرنا في سورة الزلزلة (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) إذا كانت الأرض ستخرج ما فيها فكيف حال الإنسان؟ لا قيمة له!
د. الخضيري: ولذلك لما ذكر حال الناس عندما تأتي هذه القارعة وهي أنهم ينتشرون كالفراش قال بعدها (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7))
د. الربيعة: بماذا تثقل الموازين؟
د. الخضيري: هذا هو السؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا ولذلك أقول هذه النقطة بعد هذه المقدمة في ذكر القارعة هي التي يجب أن يلتفت لها نظر المؤمن. إسأل نفسك، هل عملت على أن تثقّل موازينك؟ إن هذا السؤال يجب أن يلاحقك في يومك وليلك بل في كل ساعة من ساعات يومك وهي كيف أثقّل موازيني؟ إن ساحات العمل كبيرة وإن العمل متاح وتثقيله لا يلزم منه أن الإنسان يكون عنده مال ولا يلزم الإنسان أن يكون عنده زوجة ولا يلزم أن يكون الإنسان عنده ولد ولا سيارة ولا بيت، يمكن أن يقوم بأعمال صالحة كثيرة جداً، ذكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة، الصوم، نصيحة الخلق، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، أعمال كثيرة.
د. الربيعة: وقبل ذلك وبعده التوحيد الذي يثقل الميزان حقيقة.
د. الخضيري: نعم وتعرف حديث البطاقة، الرجل الذي جاء يوم القيامة وله سيئات كالجبال من كثرتها حتى إذا ظنّ أنه هالك قال له الله تعالى إنك لا تُظلم، فيؤتى له ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، فيقول ما تغني هذه البطاقة عند هذه السجلات؟! فتوضع السجلات على كفة ولا إله إلا الله على كفة فتطيش بهن لا إله إلا الله، يعني تثقّل الميزان. لا إله إلا الله قيلت بصدق وحق وتوحيد بإيمان وإخلاص ويقين فنفعت وليس أن يقولها الإنسان بلسانه وهو لا يفهم من معناها شيئاً أو يقولها ويُشرك مع الله سواه.
د. الربيعة: وأيضاً من أعظم ما يثقّل الميزان مما ورد في الحديث الصحيح "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". حينما تسبح الله وأنت تحمده لا شك أن هذا عظيم.حُقّ لهذا المعنى العظيم أن يُثقّل الميزان. وحينما تصف الله بالعظمة لا شك أن هذا معنى عظيماً يثقل الله به الميزان. ليس فقط أن تقول باللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، بل ينبغي أن تستحضر معنى سبحان الله وبحمده. سبحان الله وبحمده يعني تنزّه الله تنزيهاً كاملاً مصاحباً لحمده وهو وصفه بالكمال.
د. الخضيري: هذا هو الوصف التام، التنزيه مع الثناء ووصف الكمال لله سبحانه وتعالى. عندي قصة في مسالة ثقيل الموازين علها تنفع، كانت هناك فتاة تحب السعي في كفالة الأيتام من فقراء الملسمين في أنحاء العالم الإسلامي عبر إحدى الجمعيات الخيرية الموجودة في بلاد المسلمين فكانت تأخذ هذه الكفالات وتعرضها على زميلاتها وصديقاتها وتأخذ مبلغ الكفالة وترسله إلى المؤسسة لتقوم بكفالة يتيم من أيتام المسلمين. هذه الفتاة ذات يوم رأت في منامها أنها في عرصات القيامة وأنها في هول شديد وأنها عارية ليس عليها شيء وأنها قد وضعت على الميزان، جيء بها إلى ميزان حقيقي ووضعت عليه فوجدت أن الميزان لم يتحرك إلا شيئاً قليلاً فعلمت وايقنت بالهلاك قالت فخفت خوفاً شديداً ثم قالت ما شعرت إلا وعدد من الأطفال ياتون إلى الميزان ويتعلقون بي فرأيت المؤشر قد ارتفع فوصل إلى النهاية ففرحت ثم قمت فعلمت أن الذين أمسكوا بهذا الميزان وثقلوه هم هؤلاء الأيتام. وهذا يدلنا غلى أن كفالة الأيتام ورعايتهم من أجل الأعمال وأعظمها.
د. الربيعة: بل يدلنا على أن الإنسان ينظر ما هو أرجى عمل يرجوه عند الله يثقل به الميزان.
د. الخضيري: وهناك مسألة أخرى وهي مهمة جداً وينبغي أن ننبه عليها ونعظ أنفسنا بها فنحن أحوج بأن نعظ أنفسنا وهي أن يكون لك أخي المسلم خبيئة تثقل بها ميزانك لا يطلع عليها أحد لا والد ولا زوجة ولا ولد، صدقة خفية، عمل سري تعمله كل يوم لا تذكره لأي إنسان، تصدق مع الله فيه ويكون ذلك العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه القضية ينبغي لنا أن نحرص عليها وأكثر من الخبيئات فليكن لك في الصلاة خبيئة وليكن لك في قرآءة القرآن خبيئة وليكن لك في الذكر خبيئة وليكن لك في كفالة الأيتام خبيئة وليكن لك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خبيئة وليكن لك في صلة الرحم خبيئة وهكذا حتى إذا جئت يوم القيامة ووردت على الله عز وجل ماذا وجدت؟ نجد أعمالاً كثير كلها تثقل ميزانك. وبهذه المناسبة أحب أن تذكر المشاهدين من هو المفلِس؟
د. الربيعة: من إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي عليه.
د. الخضيري: هذا البخيل والمفلِس من يأتي يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولكنه يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا فنقول إنتبهوا يا إخواني وغياكم أن تكونوا من هؤلاء المفلسين تعملون أعمالاً تثقل موازينكم ولكنكم تفسدونها بظلم العباد وأخذ أموالهم وأكل حقوقهم والنيل من أعراضهم فهذا والله لا يليق بكم.
د. الربيعة: في تمام الآية يقول الله عز وجل (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هذا الذي ثقلت موازينه سيكون عند الله عز وجل في ذلك اليوم الذي فيه القارعة وفيه الهول وفيه تطاير الناس في عيشة راضية (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) هو في ذلك اليوم في الفزع آمن وهو عند الله بعد ذلك في جزائه في عيشة راضية. تأمل قوله عز وجل (فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هو سيعيش عند الله عيشة راضية يعني سيرضى. متى يرضى الإنسان في العيشة؟ إذا كان عنده رغد العيش تماماً فستكون أيها المؤمن بأعمالك الصالحة في عيشة راضية وكلما كنت أعظم أعمالاً بإخلاص وصدق فأنت أعظم عيشة وأعظم رضى بإذن الله. لعلك تقف وقفة سريعة مع ختام هذه السورة قال الله عز وجل (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9))
د. الخضيري: من خفت موازينه أي لم يجد في ميزانه ما يثقل به ذلك الميزان، ليس عنده أعمال صالحة لا صلاة ولا صوم ولا بر والدين ولا صلة رحم فهو يعيش لنفسه، يعيش ولا يرى في هذه الدنيا إلا ذاته ولهذا خف ميزانه يوم القيامة، فهذا أمه هاوية يعني أمه النار، النار ستكون أمه تضمه ضماً شديداً وتحتويه وتؤويه إليها لأنه لا يليق به لما جفّ من الأعمال الصالحة لا يليق به إلا أن يكون حطباً لنار جهنم.
د. الربيعة: ولذلك قال بعدها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) إنه والله وعظ عظيم للمؤمن إذا قرأ هذه السورة. هذه السورة نحتاج والله أن نعظ بها قلوبنا ونحن ينبغي أن نقرأ هذه السورة كثيراً عندما تقسو قلوبنا ونشعر بغفلة وما يران على قلوبنا من غفلة يجب أن نقرأ هذه السورة التي تفتح لذكر لله عز وجل ولطاعته وينبغي أن نتذكر دائماً أنه لن يثقل ميزاننا عند الله إلا بأعمالنا ولن نعيش عيشة راضية إلا باعمالنا الصالحة بعد رحمة الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتعظين بكتابه ولنا بإذن الله معكم لقاء آخر ونستودعكم الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 16
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس الخامس عشر من مجالس برنامجنا الذي نسأل الله عز وجل أن يبارك فيه لنا ولكم "لنحيا بالقرآن" هذه المجالس جعلناها على مائدة هذا الكتاب العزيز نستخرج من قصار المفصل آية أو آيتين من سورة من سوره ثم نحاول أن نجعل منها برنامجاً عملياً كيف نحيا بها ونجعلها مؤثرة على حياتنا وسلوكنا وكيف نجعلها مهيمنة على جميع أعمالنا وتصرفاتنا. اليوم جلستنا مع سورة القارعة. لن نتوقف كثيراً عند كل كلمة من كلمات هذه السورة العظيمة ولو أتحنا لأنفسنا وأردنا أن نسترسل مع معانيها وما فيها لطال بنا المقام ولكننا نركز على بعض المعاني البارزة حتى نُشعر أنفسنا أننا يمكن أن نتأمل كتاب الله عز وجل ونستخرج منه الهدايات والعبر والعظات والأعمال ونجعل من ذلك سلوكاً نعيش به في حياتنا. هذه السورة يقول الله عز وجل فيها (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿٤﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ﴿٥﴾ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾) هذه السورة افتتحت بذكر وصف من أوصاف يوم القيامة، إنه وصف القارعة يعني أن هذه القيامة لشدة هولها تقرع القلوب وترجف بالأفئدة فتخاف وتوجل ويصبها الاضطراب وتتزلزل كما ذكرنا في سورة الزلزلة.
د. الربيعة: لعل لفظ القارعة وتسمية السورة بالقارعة يدل دلالة واضحة على أن الغرض والله أعلم منها قرع القلوب الغافلة عن طاعة الله وقرع قلوب المشركين وقرع قلوب المعرضين بالأهوال التي تزلزلهم وتبين لهم الحق. ولذلك تأمل كيف وصف الله عز وجل أوصاف الناس فيها.
د. الخضيري: قال (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)
د. الربيعة: تطايرهم، والجبال ليس الإنسان فقط، تلك الجبال الراسية العظيمة تكون كالعهن المنفوش
د. الخضيري: مثل القطن المنفوش
د. الربيعة: بعد هذا القرع وهذا الهول فما ميزان الإنسان؟
د. الخضيري: هنا يأتي البيان حال الناس في ذلك اليوم بحسب ما عندهم من الأعمال. هي تقرع وتقلقل وتزلزل لكن المؤمن بما آتاه الله عز وجل من الأعمال الصالحة يكون ثقيلاً فإذا اهتز الناس لا يهتز وإذا تشتتوا وزلزلوا واضطربوا وإذا به ساكن (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) النمل) (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا اليوم يجب أن نعمل له. لكن هنا ملاحظة: من قرعت القيامة قلبه في الدنيا اطمأن يوم القيامة فلا يجمع الله على عبد زلزلتين ولا خوفين ولا أمنين من أمن في الدنيا خاف يوم القيامة ومن خاف في الدنيا أمِن يوم القيامة ومن قرعت القيامة قلبه في الدنيا في يوم القيامة يكون مطمئناً.
د. الربيعة: ولهذا سبحان الله إنظر إلى السر في تكرار لفظ القارعة، ثلاث مرات تكررت والسورة إنما هي قصيرة (الْقَارِعَةُ ﴿١﴾ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٢﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴿٣﴾) كلها لتقرع القلب مرة بعد مرة بعد مرة، القلب الغافل الذي قد تراكمت عليه الذنوب وتراكمت عليه الشبهات وتراكمت عليه المعاصي وأنواع الشرك يحتاج إلى قرع شديد حتى ينفكّ والله تعالى أعلم أن هذا من أسرار تكرار لفظ القارعة في الآية ولهذا المسلم ينبغي إذا قرأ ينبغي أن يتذكر هذا المعنى ليقرع بها قلبه الغافل وكلنا ذلك الرجل نحتاج إلى ما يقرع قلوبنا فيصححها ويفتح مغاليقها إلى ذكر الله عز وجل. يقول الله عز وجل في وصف عظيم لهذه القارعة وهو (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) والله إنه لمشهد عظيم، هؤلاء الناس الذين يعيشون على هذه الأرض ويمشون عليها في لحظة يكونوا متطايرين في الهواء كالفراش المبثوث من خفّتهم بسبب الهول التي أصاب تلك الأرض كما ذكرنا في سورة الزلزلة (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) إذا كانت الأرض ستخرج ما فيها فكيف حال الإنسان؟ لا قيمة له!
د. الخضيري: ولذلك لما ذكر حال الناس عندما تأتي هذه القارعة وهي أنهم ينتشرون كالفراش قال بعدها (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7))
د. الربيعة: بماذا تثقل الموازين؟
د. الخضيري: هذا هو السؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا ولذلك أقول هذه النقطة بعد هذه المقدمة في ذكر القارعة هي التي يجب أن يلتفت لها نظر المؤمن. إسأل نفسك، هل عملت على أن تثقّل موازينك؟ إن هذا السؤال يجب أن يلاحقك في يومك وليلك بل في كل ساعة من ساعات يومك وهي كيف أثقّل موازيني؟ إن ساحات العمل كبيرة وإن العمل متاح وتثقيله لا يلزم منه أن الإنسان يكون عنده مال ولا يلزم الإنسان أن يكون عنده زوجة ولا يلزم أن يكون الإنسان عنده ولد ولا سيارة ولا بيت، يمكن أن يقوم بأعمال صالحة كثيرة جداً، ذكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة، الصوم، نصيحة الخلق، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، أعمال كثيرة.
د. الربيعة: وقبل ذلك وبعده التوحيد الذي يثقل الميزان حقيقة.
د. الخضيري: نعم وتعرف حديث البطاقة، الرجل الذي جاء يوم القيامة وله سيئات كالجبال من كثرتها حتى إذا ظنّ أنه هالك قال له الله تعالى إنك لا تُظلم، فيؤتى له ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله، فيقول ما تغني هذه البطاقة عند هذه السجلات؟! فتوضع السجلات على كفة ولا إله إلا الله على كفة فتطيش بهن لا إله إلا الله، يعني تثقّل الميزان. لا إله إلا الله قيلت بصدق وحق وتوحيد بإيمان وإخلاص ويقين فنفعت وليس أن يقولها الإنسان بلسانه وهو لا يفهم من معناها شيئاً أو يقولها ويُشرك مع الله سواه.
د. الربيعة: وأيضاً من أعظم ما يثقّل الميزان مما ورد في الحديث الصحيح "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". حينما تسبح الله وأنت تحمده لا شك أن هذا عظيم.حُقّ لهذا المعنى العظيم أن يُثقّل الميزان. وحينما تصف الله بالعظمة لا شك أن هذا معنى عظيماً يثقل الله به الميزان. ليس فقط أن تقول باللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، بل ينبغي أن تستحضر معنى سبحان الله وبحمده. سبحان الله وبحمده يعني تنزّه الله تنزيهاً كاملاً مصاحباً لحمده وهو وصفه بالكمال.
د. الخضيري: هذا هو الوصف التام، التنزيه مع الثناء ووصف الكمال لله سبحانه وتعالى. عندي قصة في مسالة ثقيل الموازين علها تنفع، كانت هناك فتاة تحب السعي في كفالة الأيتام من فقراء الملسمين في أنحاء العالم الإسلامي عبر إحدى الجمعيات الخيرية الموجودة في بلاد المسلمين فكانت تأخذ هذه الكفالات وتعرضها على زميلاتها وصديقاتها وتأخذ مبلغ الكفالة وترسله إلى المؤسسة لتقوم بكفالة يتيم من أيتام المسلمين. هذه الفتاة ذات يوم رأت في منامها أنها في عرصات القيامة وأنها في هول شديد وأنها عارية ليس عليها شيء وأنها قد وضعت على الميزان، جيء بها إلى ميزان حقيقي ووضعت عليه فوجدت أن الميزان لم يتحرك إلا شيئاً قليلاً فعلمت وايقنت بالهلاك قالت فخفت خوفاً شديداً ثم قالت ما شعرت إلا وعدد من الأطفال ياتون إلى الميزان ويتعلقون بي فرأيت المؤشر قد ارتفع فوصل إلى النهاية ففرحت ثم قمت فعلمت أن الذين أمسكوا بهذا الميزان وثقلوه هم هؤلاء الأيتام. وهذا يدلنا غلى أن كفالة الأيتام ورعايتهم من أجل الأعمال وأعظمها.
د. الربيعة: بل يدلنا على أن الإنسان ينظر ما هو أرجى عمل يرجوه عند الله يثقل به الميزان.
د. الخضيري: وهناك مسألة أخرى وهي مهمة جداً وينبغي أن ننبه عليها ونعظ أنفسنا بها فنحن أحوج بأن نعظ أنفسنا وهي أن يكون لك أخي المسلم خبيئة تثقل بها ميزانك لا يطلع عليها أحد لا والد ولا زوجة ولا ولد، صدقة خفية، عمل سري تعمله كل يوم لا تذكره لأي إنسان، تصدق مع الله فيه ويكون ذلك العمل على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه القضية ينبغي لنا أن نحرص عليها وأكثر من الخبيئات فليكن لك في الصلاة خبيئة وليكن لك في قرآءة القرآن خبيئة وليكن لك في الذكر خبيئة وليكن لك في كفالة الأيتام خبيئة وليكن لك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خبيئة وليكن لك في صلة الرحم خبيئة وهكذا حتى إذا جئت يوم القيامة ووردت على الله عز وجل ماذا وجدت؟ نجد أعمالاً كثير كلها تثقل ميزانك. وبهذه المناسبة أحب أن تذكر المشاهدين من هو المفلِس؟
د. الربيعة: من إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي عليه.
د. الخضيري: هذا البخيل والمفلِس من يأتي يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولكنه يأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا فنقول إنتبهوا يا إخواني وغياكم أن تكونوا من هؤلاء المفلسين تعملون أعمالاً تثقل موازينكم ولكنكم تفسدونها بظلم العباد وأخذ أموالهم وأكل حقوقهم والنيل من أعراضهم فهذا والله لا يليق بكم.
د. الربيعة: في تمام الآية يقول الله عز وجل (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هذا الذي ثقلت موازينه سيكون عند الله عز وجل في ذلك اليوم الذي فيه القارعة وفيه الهول وفيه تطاير الناس في عيشة راضية (وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) هو في ذلك اليوم في الفزع آمن وهو عند الله بعد ذلك في جزائه في عيشة راضية. تأمل قوله عز وجل (فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) هو سيعيش عند الله عيشة راضية يعني سيرضى. متى يرضى الإنسان في العيشة؟ إذا كان عنده رغد العيش تماماً فستكون أيها المؤمن بأعمالك الصالحة في عيشة راضية وكلما كنت أعظم أعمالاً بإخلاص وصدق فأنت أعظم عيشة وأعظم رضى بإذن الله. لعلك تقف وقفة سريعة مع ختام هذه السورة قال الله عز وجل (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9))
د. الخضيري: من خفت موازينه أي لم يجد في ميزانه ما يثقل به ذلك الميزان، ليس عنده أعمال صالحة لا صلاة ولا صوم ولا بر والدين ولا صلة رحم فهو يعيش لنفسه، يعيش ولا يرى في هذه الدنيا إلا ذاته ولهذا خف ميزانه يوم القيامة، فهذا أمه هاوية يعني أمه النار، النار ستكون أمه تضمه ضماً شديداً وتحتويه وتؤويه إليها لأنه لا يليق به لما جفّ من الأعمال الصالحة لا يليق به إلا أن يكون حطباً لنار جهنم.
د. الربيعة: ولذلك قال بعدها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) إنه والله وعظ عظيم للمؤمن إذا قرأ هذه السورة. هذه السورة نحتاج والله أن نعظ بها قلوبنا ونحن ينبغي أن نقرأ هذه السورة كثيراً عندما تقسو قلوبنا ونشعر بغفلة وما يران على قلوبنا من غفلة يجب أن نقرأ هذه السورة التي تفتح لذكر لله عز وجل ولطاعته وينبغي أن نتذكر دائماً أنه لن يثقل ميزاننا عند الله إلا بأعمالنا ولن نعيش عيشة راضية إلا باعمالنا الصالحة بعد رحمة الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتعظين بكتابه ولنا بإذن الله معكم لقاء آخر ونستودعكم الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 17
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴿١﴾ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ﴿٢﴾ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ﴿٣﴾ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴿٤﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴿٥﴾ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ﴿٦﴾ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴿٧﴾ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ﴿٨﴾ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ﴿٩﴾)
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد. معكم في حلقة من حلقات برنامجنا المبارك "لنحيا بالقرآن" والذي نتفيؤ فيه ظل آيات الله عز وجل نقف معها وقفات تدبرية نعني بالجوانب العملية والتطبيقية في حياتنا اليومية. في هذه الحلقة نعرض لسورة من قصار سور المفصل وهي سورة الهمزة. هذه السورة العظيمة يرمز لنا إسمها وافتتاحيتها بالحديث عن أولئك الذي قد سخّروا ألسنتهم للصدّ عن سبيل الله والسخرية بعباد الله وأذيّة المؤمنين بالهمز واللمز وكيف أثرهم على المؤمنين ثم يبين الله في ختام السورة عاقبتهم (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). إذن هذه السورة العظيمة سورة تتحدث عن أولئك الذي سخّروا ألسنتهم للسخرية بالمؤمنين وأذيتهم بالقول لمزاً وهمزاً وسخرية واستصغاراً ويبين الله عز وجل سبب ذلك فيهم ثم يبين عاقبتهم فلعلنا نتدبر هذه السورة نأخذ منها جوانب عملية من خلال هذا المعنى لنحذر من أن نتصف بهذه الأوصاف أو نكون من أهلها.
د. الخضيري: من أول الأوصاف التي تواجهنا وتبدو لنا ظاهرة من السورة بل من اسمها قوله (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) هذا العيّاب اللعان الشتام الطعّان الذي يؤذي الناس بلسانه فلسانه مثل الثعبان لا يكاد يمر بشيء إلا لدغه، هذا الإنسان ويلٌ له، ولا يجوز لأحد أن يجعل من صفته وسمته أن يكون همازاً لمازاً "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء" وهذه قضية يستهين بها مع كل أسف كثير من الناس حتى من المسلمين فتجده إذا أوتي لساناً وأوتي كلاماً صار يتكلم يقول كلمة فيؤذي هذا ويقول كلمة فيؤذي هذا ويقول كلمة فيلعن ذاك ويقول كلمة فيغتاب ذاك، ويقول كلمة فينمّ بين هذا وهذا ويقول كلمة فيسخر بها من هذا أو ذاك. والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من عاقبة اللسان لما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" ليس أمامك إلا خيارين إما أن تقول الخير أو تسكت عما سواه، لأنك إذا تكلمت فيما سواه فأنت بين سوأتني السوءة الأولى أن تقول شراً فتهلك والسوءة الثانية أن تقول شيئاً مباحاً فتندم، لأنك إذا جئت يوم القيامة هذا اللسان الذي يمكن أن تحصّل فيه الحسنات والخيرات وإذا بك حصّلت به التفاهات فيكون ندامة وحسة لك يوم القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما قال له إملك عليك لسانك وأخذ بلسانه، فقال معاذ أونؤاخذ يا رسول الله على ما نتكلم به؟ قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" تصوروا ماذا يحصل للناس يوم القيامة إن كثيراً من جرائمهم وكثيراً من سيئاتهم وكثيراً مما يكبهم في النار هو ما يتفوهون به بألسنتهم ولذلك ورد في الحديث "إن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً" ويتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يبلغ بها من رضوان الله مبلغاً عظيماً.
د. الربيعة: ولعل أعظم ما يتكلم به الإنسان إثماً وجرماً وظلماً هو أن يكون هذا الكلام في الصدّ عن سبيل الله والسخرية بالمؤمنين.
د. الخضيري: هذا في القمة وقد يُخرِج الإنسان من دينه.
د. الربيعة: أرأيت الذي يلمزون المطوعين من المؤمنين ويلمزون أهل الحسبة من المؤمنين ويلمزون أهل الخير والاستقامة من المؤمنين، كيف وزرهم وإثمهم؟
د. الخضيري: كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان في غزوة تبوك رجالٌ سولت لهم أنفسهم وتكلموا بكلمات ما ظنوا أنها تبلغ ما بلغت، قالوا ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء (وهم خيار الصحابة) أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء فسمعهم أحد الصحابة فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوا فأنزل الله عز وجل قوله (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) التوبة) فالقضية خطيرة.
د. الربيعة: إذن الويل كل الويل لمن جعل همه ووظيفته في الحياة أن يسخر بالمؤمنين في الصحف أو في مواقع أو في وسائل الإعلام أو في أي مجال
د. الخضيري: حتى في المجالس العادية، أحياناً يتندّر الإنسان يريد أن يضحك الناس فيستهزئ بعبد من عباد الله، إمام مسجد أو مفتي أو عالِم أو حتى مؤمن عادي، كل ذلك من موارد الهلاك، إتقِ الله، النبي صلى الله عليه وسلم نهى المؤمن أن يسخر من أخيه المؤمن و قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) الحجرات)
د. الربيعة: ما الفرق بين اللمز والهمز؟
د. الخضيري: هذه قضية اختلف فيها المفسرون فبعضهم يقول الهمز يكون بالعين واللمز يكون باللسان ويستدلون على ذلك بقول الله عز وجل (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة)
د. الربيعة: لمزوهم بألسنتهم
د. الخضيري: إذن الهمز يكون بالعين أو بأداة أخرى. وعلى كل أنا أرى أن هذا من الأمثلة الواضحة للخلاف الذي يقع بين اللغويين أو يقع بين السلف الصالح في تفسير الآية لكنهم جميعاً يحومون حول معنى واحد سواء قلت الهمز هذا أو اللمز هذا أو العكس فالجميع مذموم.
د. الربيعة: ولهذا أذكر معنى جميلاً لأحد المفسرين يقول الغرض في الجمع بينهما ليشمل كل حال من أحوال السخرية والهمز واللمز والعيب ظاهراً أو باطناً، خفياً أو علناً، باللسان أو بالإشارة أو غير ذلك. إذن كل من اتخذ المؤمنين وسيلة لعيبهم بأي مجال من مجالات أو من الوسائل فهو داخل في هذه الآية.
د. الخضيري: ولذلك نقول في هذه المناسبة هناك شيء قد لا يفظن له بعض الناس والآية تصرّح بأنه داخل في هذه الأمور التي ذكرناها. هؤلاء رسامي الكاريكاتور قد يرسم كاريكاتوراً يسخر به من جماعة أو من أهل الحسبة أو من بعض طلاب العلم أو من بعض النافعين من العباد فنقول له إحذر أن تكون من الداخلين في هذا الوعيد (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) طعّان عيّاب همّاز سخّار بالناس فنحن نحذر هؤلاء ونقول إتقوا الله في أنفسكم وفي دينكم لئى يصابوا باللاء ولئلا يستجرهم ذلك إلى عقوبة الله عز وجل.
د. الربيعة: وأعظم ما يدخل في هذا أولئك أعداء الله الذين سخروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فرسموا فيه تلك الرسومات والتصاوير المهينة، إن أولئك من أعظم من يدخل في هذه الآية ومن أعظم ما يستحق له الويل وأسأل الله ما يذيقهم ما فيه وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ مهانة وذلة.
د. الخضيري: هناك ملحظ نريد أن نصوره للمشاهدين. نحن نلاحظ أن عندنا أزمة حقيقية في ألفاظنا يجب علينا أن نسعى جميعاً لتداركها، الألفاظ التي نتفوه بها ونتكلم بها في كثير من علاقاتنا ألفاظ جافة ليس فيها دفء وليس فيها رحمة ولا لين ولا مودة ولا رحمة وإنما تجد السب والشتم والكلمات الجارحة. عندما يحدثك معك لا يناديك إلا بأقبح أسمائك واقبح ألقابك وهذا لا يليق بنا نحن نحن المؤمنين. يجب علينا أن نكون مجتمع حضاري في علاقاتنا مع بعضنا ألفاظاً جافة والسب والشتم والألفاظ الجارحة لا يناديك لا يناديك إلا بأقبح اسمائك وأقبح ألقابك وأقبح ما تُكنى به وهذا لا يليق بنا نحن المؤمنين، يجب أن نكون مجتمعاً رفيعاً حضارياً مجتمع راقي "رحماء بينهم" عندما تنادي صاحبك وتقول له يا أخي، يا حبيبي، تقول لوالدتك أو تقول لوالدك أو ولدك يا قرة عيني كم تشيع بيننا المحبة عندما نستعمل هذه الأساليب؟
د. الربيعة: إنما تصدر من القلوب التي تشعّ بالإيمان فالإيمان يبعث على هذه الكلمات الطيبة. نحن ما زلنا في الاية الأولى.
د. الخضيري: نقف قليلاً عند (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) هذا الذي جعله يكون همازاً لمازاً أنه اعتدّ بماله، جمع المال وأخذ يعده ويقول عندي رصيد، عندي سيارات، عندي خدم، عندي حشم فيسب هذا ويتكبر على هذا وليس عنده مانع أن يفعل ذلك ويظن أن المال سيخلده. سيأتي يوم تكون فيه تراباً وهذا المال الذي جمعته واعتتدت به سيذهب كما ذهبت أنت.
د. الربيعة: ولكن انظر كيف عاقبته، هذا الذي تجبر واعتلا بكبريائه وغطرسته وقوله السيء ما عاقبته عند الله؟
د. الخضري: (كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) ليطرحنّ طرحاً في الحطمة.
د. الربيعة: معنى عظيم. موقف فيه إهانة وفيه إذلال وفيه طرح بلا أي قيمة.
د. الخضيري: وأيضاً يقول الحطمة يعني كما حطّم الناس بلسانه وقوله وعابهم وكسر خواطرهم سيحطم هو في نار جهنم. ما قال كلا لينبذن في النار، لا، في الحطمة، والتحطيم يدل على التكسير والإهانة والإذلال وهذا معنى مناسب لذلك الشخص الذي كان يسخر ويعيب ويطعن في أعراض الناس.
د. الربيعة: ولهذا قال تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) ليستحضر الإنسان هذه الاية.
د. الخضيري: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7))
د. الربيعة: تلك الأفئدة التي امتلأت بالكبر والشر والأذى الذي ينفذ به اللسان.
د. الخضيري: هذه النار ستدخل في أجوافهم وتطلع على أفئدتهم. لما كان مصدر الهمز واللمز شيء من القلب من احتقار الناس وازدرائهم جعل الله عز وجل العذاب يصل إلى المكان مصدر ذلك الاحتقار والازدراء، تطلع على الأفئدة وتعرف ما فيها وتذيب ما فيها من الكبر. ولذلك أقول نقِّ قلبك من الكبر، نقِّ قلبك من الضغينة، إحرص على أن تكون صادقاً مع نفسك وتظهر قلبك من كل شر وبلاء ودخن.
د. الربيعة: يختم الله هذه السورة بقوله (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)) مغلقة مؤصدة وهم أيضاً في عمد ممددة مقيدون مسلسلون بتلك العُمد يعذبون بها في نار جهنم والعياذ بالله. هذه السورة تعطينا عظم تولي كِبر الصدّ عن سبيل الله بالأذى باللسان بالاستهزاء بالمؤمنين ويا ويل لمن اتخذ هذا وظيفة له في هيه الحياة! في أي مجال من مجالات الحياة، في الصحف، في القنوات، في مواقع الانترنت، يا ويله! ونعوذ بالله أن نكون من أهل هذا الوصف. فعلينا إخوة الإسلام أن نحذر من هذه الأوصاف ونسال الله عز وجل أن يحفظنا وإياكم وأن يجعلنا ممن ينصر هذا الدين بقوله ولسانه ولنا لقاء بإذن الله تعالى في جلسة أخرى وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 18
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿١﴾ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿٢﴾ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٣﴾ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٤﴾ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿٥﴾ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴿٦﴾ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴿٧﴾ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴿٨﴾)
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نسأل الله عز وجل أن يحيي قلوبنا بالقرآن. نحن مع مجالس هذا البرنامج المبارك مع المجلس السابع عشر مع سورة التكاثر. لعلنا نقف وقفة مقدة مع هذه السورة ثم ندلف إلى ما فيها من درر وآيات بينات. بالتأمل في هذه السورة والتدبر فيها نجد أن هذه السورة تتوجه أول من تتوجه إليه إلى أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن آخرتهم، إلى أولئك الذين همهم في هذه الحياة الدنيا الجمع والتكاثر متناسين ذلك اليوم الذي سيلقونه وتلك النار العظيمة التي سيصلاها العصاة والكافرين. ولذلك القارئ خينما يقرأ هذه الآية ينبغي أن يلحظ هذا المعنى وهو أن هذه السورة هي موعظة له حينما كان منشغلاً بأمر دنياه عن آخرته، بتكاثره، بماله، بأصوله، بأولاده، التكارث هنا يعم كل شيء. كما قال الضحّاك قال هذه سورة التُجّار، كيف هي سورة التُجّار؟ إنها موعظة للتجار. وأذكر أحد الإخوة ذكر لي قال جاءني رجل أعمال يقول أنا مع ما آاتني الله من مال فأنا أعيش في ضيق وأجد ضغطاً نفسياً فما الحل وما العلاج؟ قال لن أعطيك علاجاً صعباً وإنما سأعطيك علاجاً يسيراً بإذن الله،
د. الخضيري: ما هو هذا العلاج؟
د. الربيعة: قال أريدك أن تقرأ سورة التكاثر عشرين مرة، قال سورة التكاثر؟ سورة نحفظها جميعاً قال تقرأها وتسمعها لكنك لم تفهمها كما ينبغي.
د. الخضيري: ولم تتعظ بها كما ينبغي أن يتعظ بها.
د. الربيعة: لو قرأتها كما أراد الله منك في قراءتها والله لوعظتك وجدت قيمة الحياة وعرفت قيمة المال الذي عندك. قال فذهب فأكثر من قراءتها يقول فلقيته بعد مدة قال والله إني وجدت لها أثراً وطعماً في نفسي وفي حياتي، قال كيف؟ قال وعرفت قيمة الحياة حقاً وقيمة المال الذي أنا فيه فإن همّي الذي انغمس في هذا المال وهذا التكاثر وهذا الجمع هو في الحقيقة الذي أقلقني وهو الذي ملأ قلبي غفلة عن الآخرة ولم أجد للصلاة طعماً ولم أجد لذكر الله أثراً فعرفت أنني في طريق الخطأ.
د. الخضيري: ولذلك جاء التعبير في السورة بـ (ألهاكم) يعني كلما يشغل الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى بما هو صورته قد تكون حسنة لكنه يريد أن يكاثر زميله وصديقه وأخاه وأباه وجماعته واقاربه ومن حوله أن يقول لهم أنا أكثركم مالاً، أنا أكثركم دمراً، أنا أكثركم بساتين، أنا أكثركم سيارات، أنا أكثركم شهادات. هنا عندما يكون قصد الإنسان هو التكاثر يكون ما هو فيه له، حتى أذكر شيئاً في غاية الغرابة وهو لو أن إنساناً أراد أن يجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يقول لزملائه وأقرانه أنا أحفظ أكثر منكم بل أريد أن أذكر ما هو أغرب من ذلك وهو أن الإنسان قد يحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها عبادة ومع ذلك لا يكون قصده إلا ليكاثر بها أصحابه وزملاءه واقرانه ومشايخه يقول أنا أحفظ منكم، أنا أكثر جمعاً للأحاديث منكم، فيكون بذلك مع أنه في ظاهره في أمر الدين إلا أن الذي حمله على ذلك المفاخرة، لم يحفظها ليعمل بها، لم يحفظها من أجل أن يبلّغها وأن يقوم بحقها وإنما من أجل أن يقول أنا أكثر منكم. فما دام هذا فإن الذي يفعله يعتبر لهواً. ولاحظ أنه عبّر باللهو لأن اللهو مشغلة للقلب، بمعنى أن قلبه قد انشغل. لأن العادة في القرآن إذا عبّر باللهو فمعنى ذلك أنه للقلب وإذا عبّر باللعب فمعنى ذلك أنه للبدن. (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ (64) العنكبوت) اللعب للبدن واللهو للقلوب. نحن نقول هذه موعظة لنا جميعاً أنه أي شيء ننافس فيه ونحرص عليه إن كان مرادنا به وجه الله وزيادة العمل فهذا ليس لهواً وإن كان مرادنا أن ننافس به الأصدقاء والأصحاب ونلفت به أنظار الناس ونوجه به قلوبهم إلينا فهذا لهو ولا ينفعنا عند الله.
د. الربيعة: إذن المناط هو النية
د. الخضيري: نعم المناط هو النية. هذا فيما هو من عمل الآخرة أما فيما هو من أعمال الدنيا فهذا ينبغي أن يكون الإنسان حذراً فيه، أحياماً الإناسن يجمع الدنيا ثم يجمع ثم يجمع تقول له لماذا؟ ما الذي يحملك على أن تجمع هذه الدنيا ولو كانت من حِلّ وتترك الواجبات من صلة الرحم وبر الوالدين والصلاة مع الجماعة والقيام بحقوق الله والقيام حقوق الزوجة والولد وغير ذلك؟ فيقول حتى تكون أموالي كثيرة، حتى أصل إلى الأرقام التي وصل إليها فلان وفلان، وحتى أستطيع أن أكون أكبر وأكثر وأقدر وأغنى (يريد أفعل التفضيل أيّاً كان، على حساب ماذا؟)
د. الربيعة: لو أن الإنسان اعتنى بجمع المال وأحسن الني وجاهد نفسه أن لا تشغله عن طاعة الله واجتهد في إخراج ما ييسر الله ويعينه الله عليه في أمور الخير هل يلام في هذا؟ تكاثر في المال لكن ليس قصده أن يباهي ويفاخر إنما قصده أن يكون عنده مال يغنيه عن الناس ويكون قصده بإذن الله نفع هذه الأمة بإنفاق المال، هل يُلام في هذا؟ أو هل يعد من أهل هذه الآية أم لا؟
د. الخضيري: إذا قصد بماله أن يجمعه لينفقه في سبيل الله فإني أرجو أن لا يكون داخلاً في هذه الآية. لكن هل تتوقع أن أحداً من الناس يجتهد في الدنيا فلا يُضر إجتهاده في الدنيا بآخرته؟! هما ضرّتان ولذلك ينبغي على الإنسان أولاً إذا فتح الله عليه شيئاً من الدنيا أن يكون متيقظاً لحظّ الآخرة، لحق الله عز وجل في الواجب الذي أوجبه الله عليه ثم ما بقي من الوقت أو زاد إذا صرفه في أمور الدنيا فإنه لا ملامة عليه بإذن الله إذا نوى في ذلك النية الطيبة وصدق في عمله.
د. الربيعة: ما الذي يجعله يذكره بأن لا تكون نيته التكاثر؟ لأنه قد يغفل
د. الخضيري: قد يكون والله أعلم من أهم الأسباب التي تقيه من ذلك أن يستكثر من مجالسة الصالحين فإن هؤلاء يردونه كلما شعر بأنه قد انغمس في الحياة ردّوه كما قال عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) الكهف) هذا أمر. والثاني قراءة القرآن بتدبر فإنه إذا قرأ القرآن كلما قرأ من ورده شيئاً رجع إلى الحقيقة وفكر لماذا خُلِق؟ وعاد إلى الله سبحانه وتعالى وسخر هذه الدنيا التي أوتيها في طاعة الله جل وعلا ولم تصرفه عن أداء الحقوق والقيام بالواجبات.
د. الربيعة: ولذلك قال الله عز وجل بعدها (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) مما يجعلك تتذكر وتعرف حقيقة هذا المال ونهاية هذا التكاثر أنك ستتركه وتزور المقابر.
د. الخضيري: ما المقصود بتزور المقابر؟
د. الربيعة: إما أن يكون المقصود بها أجلُك ستزورها يوماً من الأيام بعد موتك وتكون من أهلها.
د. الخضيري: يقولون قد سُميت زيارة لأنها قصيرة هي برزخ ثم بعدها يُبعث الإنسان ويعيش الحياة الحقيقية إما في نعيم دائم أو في عذاب مقيم والعياذ بالله.
د. الربيعة: أيضاً نلمس من هذا أن زيارة المقابر وزيارة القبور مما تذكّر بالآخرة وتُبعد عن التكاثر في الدنيا وغيرها.
د. الخضيري: ولذلك قال النبي صلى اله عليه وسلم "أكثروا من ذكر هادم اللذات" و"وزوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة" فنقول داوي قلبك يا مسلم كلما شعرت أنك انغمست في هذه الحياة وكاثرت الناس وبدأت تنشغل بها عما خُلٌِت له داوي قلبك بأن تجعل لنفسك زيارة بين أسبوع وآخر بين شهر وآخر، تذهب فتزور المقابر تنظر إليها وتعتبر وتتفكر، زيارة المقابر ليس المقصود بها أن نستشفع بالموتى أو نسألهم أو نستعين بهم فهم بحاجة إلى دعائنا وصلواتنا وسلامنا عليهم أن نسلم عليهم وندعو لهم بالرحمة والمغفرة ونتذكر الآخرة.
د. الربيعة: معنى ذلك أن من أعظم ما يجعل الإنسان في هذه الدنيا مّتزناً هو أن يتذكر الآخرة. ثم انظر ماذا قال الله بعد ذلك، ليس فقط تذكرك لهذه المقابر قال (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٣﴾ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٤﴾ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿٥﴾ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴿٦﴾) وهذه هي والله الطامة الكبرى. هذه التي تجعل الناس حقاً يتذكر هذه التي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "ذكر النار يجثو لها الملائكة المقربون والأنبياء المرسلون"
د. الخضيري: في ذلك اليوم تجثو كل أمة من شدة ما ترى من الهول. وأنا أقول والله أعلم إنما ذُكرت النار لما قال الله عز وجل (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) ذُكرت النار لأن ذكرها هو الذي يؤثر في قلب الإنسان فيوقفه عند حده ويجعله يتذكر أنا عندما اقف بين يدي الله وأقوم وهذه النار جيء بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمان سبعون ألف ملك يجرّونها، ماذا ينفعني؟! هل سينفعني هذه الصور التي جمعتها؟ هؤلاء الأصدقاء الذين تكاثرت بهم؟ هذه النوادي التي سجّلت بها؟ هذه الشهادات التي حصّلتها؟ هذه الأموال التي جمعتها من حلال أو من حرام إذا كان الإنسان كاثر بها عما أوجب الله عز وجل عليه؟ عند ذلك سيندم على كل ما تشاغل به عن ذكر النار والاستعداد لها.
د. الربيعة: انظر إلى ختام السورة وما مناسبته للسورة؟ ما هو ختام السورة؟
د. الخضيري: ختام السورة ختمها بقوله (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
د. الربيعة: هذا تذكير آخر مما يجعل الإنسان يوقفه عن هذا اللهو والتكاثر بالمال في هذه الدنيا والإنشغال به عن طاعة الله أنه يعلم أنه مسؤول عنه.
د. الخضيري: هذه الآية تذكرني بقصة وقعت مع النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة أبو بكر وعمر وكلٌ منهما قد وضع على بطنه حجراً من شدة الجوع وجلسا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أخرجكما؟ قالا والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع وأرياه الحجر الذي على بطونهم فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بطنه وإذا عليه حجران يعني هو أشد جوعاً منهم فعند ذلك رقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحالهما وأراد أن يزور رجلاً من الأنصار كان الله عز وجل قد أفاء عليه وهو أبو الهيثم اين تيّه فذهب إليه في بستان قريب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء إليه في بستانه سلّم فردّت امرأته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين ابو الهيثم؟ قالت إنه ذهب يستعذب لنا الماء فأمرتهم بالدخول فدخلوا في البستان فجاء أبو الهيثم وقال من أكرم مني أضيافاً اليوم؟ فذهب وجذ لهم عرقاً من النخل ووضعه بين ايديهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلاّ اجتليت لنا أي انتخبت لنا شيئاً من التمر أو من الرطب فقال أبو الهيثم يا رسول الله إني أردت أن تأكلوا من بُسره ورُطبه وتمره. ثم أخذ المدية يعني السكين يريد أن يذبح فقال النبي صلى الله عليه وسلك إياك والحلوب يعني لا تضر بنفسك وتذبح شاة من غنمك يكون فيها حليب فيه نفع لك ولأولادك، يعني إذبح جدياً فذبح لهم وشوى لهم ثم قرب لهم الطعام فأكلوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قُرِّب لهم الماء قال لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، ولما قُرب لهم التمر قال لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ولما قُرب لهم اللحم قال لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة.
د. الربيعة: وهم إنما أكلوا من جوع
د. الخضيري: من جوع وفي حال بئيس وشدة وقد يأكلون اليوم ويبقون بعده يومين لا يأكلون شيئاً. فقال عمر يا رسول الله أونُسأل عن هذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عمر ألم تسمع ربك يقول (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)؟ إذا كان رسول الله يقول لصاحبيه وهما أجلّ الناس وأعظم الناس وأعبد الناس يقول لهم ستسألون عن هذا النعيم، فما بالنا بي وبك؟ فما بالنا بأنفسنا؟ ماذا نقول وهذه النعم من حولنا قد طغت علينا أو كثرت علينا ومع ذلك نتباطئ بشكر الله، نسهر عن صلاة الفجر، ونتثاقل عندما نجر أنفسنا لنذهب إلى المسجد لنقيم صلاة مما أمر الله سبحانه وتعالى أن نؤديه. والله لنُأالنّ عن هذا النعيم، عن الأنوار والمكيفات والشوارع والسيارات والمياه وكل شيء مما حولنا فلنتق الله عز وجل ولنعدّ لهذا السؤال جواباً. وأحب أن أذكّركم بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة أن يُقال له ألم نصلح لك جسمك ونرويك من الماء البارد؟ وكثير منا ولله الحمد قد أصح الله لهم أجسامهم واعطاه من الماء البارد فهذه نعم وسنسأل عنها يوم القيامة وسؤال الله عز وجل لنا عن هذه النعم يعني هل أدينا شكرها وهل قمنا بالواجب في مقابل ذلك؟ إسأل نفسك أخي وإسألي نفسك أختي الكريمة هل أديت ذلك وحمدت الله على النعمة؟.
د. الربيعة: إذن هذه السورة ما أعظمها أنها تعطينا موعظة وتذكّر بأمر هذه الدنيا وحقيقتها وما ينبغي أن نتمثله فيها أن نتذكر الآخرة وأننا مسؤولون عن هذا النعيم. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين. ولنا بإذن الله عز وجل لقاء مع سورة أخرى وصلى الله علي نبيينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
 
الحلقة 19
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر)
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس الثامن عشر من مجالسنا في حلقات برنامجكم "لنحيا بالقرآن". هذه الحلقات المباركة التي نتدارس فيها آيات قصار المفصّل ونحاول أن نطبق هذه الآيات في حياتنا أو نأخذ من هذه الآيات ما نعمل به في حياتنا ونعطيكم بذلك النموذج العملي كيف نجعل من هذه الايات آيات تعيش في واقعنا وتحيا معنا ونهتدي بهديها ونقبس من نورها ولا يكن مجرد طلب الثواب أو البحث عن الأجر بكثرة قراءة الحروف هو المقصود الأعظم لنا، نعم الإنسان يؤجر بقراءة هذه الحروف ويثاب على ذلك ولله الحمد والمنّة ولكن أعظم من ذلك أن يهتدي الإنسان بالقرآن (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء). اليوم معنا سورة عظيمة قال فيها الإمام الشافعي رحمه الله "لوما أنزل الله حجة على خلقه إلا هي لكفتهم"، إنها سورة العصر هذه السورة التي قلّت آياتها وقصرت كلماتها لكن عظمت معانيها وجلّت واتسعت حتى شملت الدين كله. أقسم الله سبحانه وتعالى في أولها (وَالْعَصْرِ) ثم بيّن المُقسَم عليه (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم استثنى من هؤلاء الخاسرين وهم كل الناس (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). هذه السورة على قلة ألفاظها إلا أنها كبيرة المعاني والله لو حققناها في حياتنا لعلمنا أننا قد عملنا بالدين كله وكانت سبباً في نجاتنا وسبباً في صلاح جميع أحوالنا.
د. الربيعة: لعلي قبل هذا أشير إلى المعنى في مقصد السورة وفي موضوعها. السورة تلحظ منها تعظيم هذا الزمن الذي يعيشه الإنسان. جاء التعظيم من القَسم الذي افتتح الله تعالى به السورة ولذلك سميت السورة بالعصر لعظمة هذا الزمن الذي هو موضع العمل، العمل الصالح والعمل الفاسد، فيقسم الله تعالى بهذا الزمن الذي جعله الله وقتاً للعمل حُقّ له أن يُقسم به وإنه عظيم.
د. الخضيري: يعني النجاة الخسران والفلاح والفوز والبطر كله في هذا الزمان؟ في هذا الزمن فلتعتني أخي المسلم بهذا الزمن لكي تنجو.
د. الربيعة: فيه نجاتك، فيه خسارتك وفيه فوزك.
د. الخضيري: قال النبي صلى الله عليه وسلم مصداقاً لهذا الملام "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة الصحة والفراغ" يعني أن كثيراً من الناس عنده هاتان النعمتين ولا يحسن الإستفادة منهما ولا يستطيع أن يسخرهما لكي يكونا سبباً لنجاته وسبباً لتحصيل الخير له في الدنيا وفي الآخرة.
د. الربيعة: لعلنا نقف مع بداية السورة في قول الله عز وجل (والعصر) فتقف هنا تتأمل هذا العصر هذا الوقت الطويل، هذا العمر الذي تعيشه أنت أيها الإنسان وهذه الحياة التي سخرها الله عز وجل. تأمل هذه الوقفة في هذه الآية لها دلالة في تأملك وتدبرك لتعرف حقيقة هذا الوقت والإنسان لا يمكن أن يستفيد من الشيء إلا إذا عرف قيمته وقدره (ولو عظّموه في النفوس لعُظِّم) كيف تستفيد من وقتك؟ أن تتأمل فيه، لماذا خُلقت فيه؟ لماذا سخره الله لك وهيأه الله لك؟ إنه لأجل أن تعمل فيه بما يرضي الله عز وجل ويكون فيه نجاتك. (والعصر) ولفظ العصر هنا فيه فخامة وفيه عظمة فالتأمل في هذا العصر وهذه الحياة وهذا الزمن يجعلك تدرك حقيقة الزمن. إذا عرفت أنك اليوم شاباً ومتعك الله ستكون يوماً من الأيام كبيراً، أين زمن الشباب؟ ولّى وذهب. إذا كنت كبيراً فإن زمنك قد قرُب على الزوال فاغتنم ذلك
د. الخضيري: وكما ورد في الحديث "خذ من صحتك لمرضك ومن شبابك لهرمك"
د. الربيعة: ينبغي أن نتأمل في هذا الوقت، كثير من الناس تضيع عليه أوقاته وأيامه لأنه لا يدرك أهمية هذا الزمن وقيمته في الحياة ولو أدرك ذلك حقيقة لاغتنمه اغتناماً صحيحاً ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)
د. الخضيري: يعني كل الناس خاسرون
د. الربيعة: في الأصل الإنسان خاسر
د. الخضيري: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) مريم)
د. الربيعة: الإنسان بكونه إنساناً لكن حينما يتصف بصفات الدين فيكون مسلماً أو مؤمناً أو محسناً فإنه سينقلب من الخسران إلى الفلاح فالإنسان في أصله خسران إلا بما يملأ به هذا الزمان وهذا العصر بما يجعله رابحاً
د. الخضري: مما يؤكد كلامك من أن الإنسان خاسر قول الله عز وجل (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) الأحزاب) في الأصل أن الإنسان مركب فيه الظلم والجهل فإذا استجاب لهما ولبّى داعيهما في نفسه ولم يترفع ويزكي نفسه بالأخلاق الطيبة والعلم النافع والعمل الصالح فإنه لا محالة خاسر. ولذلك لكا يقول الله عز وجل لآدم يوم القيامة يا آدم أخرِج بعث النار فيُخرج بعث النار، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، والناجي من بني آدم واحد من ألف، هذا هو الناجي. هل أنت هذا الواحد؟ تأكد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الذي ينجو من بني آدم واحد من ألف، فهل عملت حتى تكون هذا الواحد؟
د. الربيعة: عمر رضي الله عنه كان يقول: لو قيل يوم القيامة كل الناس ناجون إلا رجل لظننت أني أنا هذا الرجل، من خوفه وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه!. في هذا السياق لو تأملنا واقع الناس اليوم في حياتهم لوجدنا أن كثيراً من الناس مغبون ومحروم من وقته وخسران، كم تضيع علينا الأوقات؟! تجد الإنسان يسمر مع زملائه ساعات ولا يبالي مع الأسف ولا يظن أنه خاسر
د. الخضيري: وعندما تقول هه في المقابل يا فلان هناك محاضرة، هناك درس، هناك جلسة قرآن، يقول لك والله أنا مشغول، عندي ارتباط، تأتي المشاغل وتأتي الهموم وتأتي الارتباطات عندما تكون هناك جلسة حقيقية تعيد الإنسان إلى صوابه وتعود بوصلة الإنسان للإتجاه الصحيح. أما عندما يكون هناك سمر وسهر ولعب ولهو فإن الإنسان يعطي الأوقات بلا حساب
د. الربيعة: أضرب مثالاً في وقت الصلاة تجد الناس إذا أتوا للصلاة وتأخر الإمام دقائق معدودة فإذا هم ينظر الواحد منهم إلى الآخر ثم إذا سلّم الإمام وخرج ربما يقف هو وصاحبه ساعة كاملة يتحدثون عند الباب في أمور الدنيا
د. الخضيري: أو ذهب إلى بيته وبقي أمام التلفاز يشاهد البرامج والله لا تعود عليه بشيء من النفع.
د. الربيعة: لماذا؟ أن مقياسه للحياة مقياس عكسي لو كان يعرف حقيقة هذا الزمن والوقت وأنك بطاعة الله ومكوثك في المسجد الذي تستغفر لك به الملائكة والله لازدت بذلك طمأنينة ومكوثاً. ثم الواقع الذي نعيشه تجد بعض الشباب يسمر مع أصحابه في استراحة أو على البحر أو في نزهة طيلة الليل ومن جلوسهم إلى انتهائهم لا يذكرون الله.
د. الخضيري: وهذه مصيبة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار". دعنا ننتقل إلى شروط النجاة والخسران، ذكر الله أربعة شروط يعني من حققها نجا ومن أخل بواحد منها فله نصيب من الخسران، قد يكون الخسران كاملاً وقد يكون ناقصاً قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
د. الربيعة: لعلنا نشير إشارات.
د. الخضيري: أولها الإيمان. أنا أريد أن أسأل نفسي وأسأل المشاهدين هل نحن مؤمنون حقاً؟ المؤمن حقاً هو الذي يرى ما وراء الغيب كأنه بين عينيه. أنت مؤمن بالجنة؟ تقول نعم أنا مؤمن بالجنة، لو كنت مؤمناً بها حقاً لعملت لها. أنت مؤمن بالنار؟ لو كنت مؤمناً بها حقاً لخفت منها ولحذرت منها. مثل أن تقول لإنسان أنت تحب الغنى؟ يقول نعم أنا أحب الغنى ولذلك أخرج إلى العمل من الصباح إلى الليل. هل تخاف من الفقر؟ نعم أنا أخاف من الفقر بدليل أني ما أترك فرصة يبدو لي فيها ربح أو مكسب إلا بادرت إليها. غذن أنت بالفعل تحب الغنى وتخشى الفقر. إذا لماذا لا تعامل الجنة والنار بمثل ذلك؟ لأن الإيمان ضعيف، باهت، قد ذبُل في نفسك. إذن ينبغي أن أراجع إيماني، إيماني بالله، إيماني برسله، إسماني بملائكته، إيماني باليوم الآخر، إيماني بالقدر، إيماني بالكتب، إيماني بكل ما أوجب الله عز وجل.
د. الربيعة: يعني من أعظم مقاييس الربح وموازينه الإيمان.
د. الخضيري: سأسمعك قصة ولا تخفى على مثلك. رجل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى خيبر فدعاه النبي إلى الإسلام فأسلم ولما أسلم دخل الإيمان في قلبه فقال له بعض الصحابة إذهب إلى صاحبك فقال بل أذهب فأرد إليه الغنم وأعود لأقاتل مع رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه كأنه لم يستعجل عليه فقاللا، ألم أبايعك على أني إن قاتلت معك فقتلت دخلت الجنة؟ قال نعم، فذهب وردّ الغنم إلى صاحبها ثم جاء فقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار في كلامه مع رسول الله قال أريد يا رسول الله أن يأتيني سهم طائش فيضربني هاهنا فأموت فأدخل الجنة، فوجدوه وقد ضربه سهم في المكان الذي اشار إليه ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لم يسجد لله سجدة ومع ذلك دخل الجنة. انظر إلى مستوى الإيمان عندما ارتفع عند هذا الرجل تحقق له النجاة به بإذن الله.
د. الربيعة: أعظم موازين الربح الإيمان ولذلك يقول عمر رضي الله عنه "لو وُزِن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر" لعظم إيمانه. الميزان الثاني من موازين الربح والخسارة هو العمل الصالح ربحاً والعمل السيء خسارة. فالعمل الصالح هو جميع أمور الطاعات بعد الإيمان من الصلاة والذكر وبر الوالدين وصلة الرحم والنفقة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الخُلُق
د. الخضيري: والقيام بهذه الوظائف الموكولة إلينا وأدائها على الوجه الصحيح هذه من العمل الصالح. والثالث التواصي بالحق أن أوصيك بالحق وتوصيني، أن أكون مرآة لك وأن تكون مرآة لي، اصدق معك وتصدق معي، أنصحك وتنصحني
د. الربيعة: والله هذه التي نحن بحاجة إليها.
د. الخضيري: والآن نلاحظ أن مجتمعاتنا صارت تسقط إذا رأينا واحداً من إخواننا قد نقصت دنياه جميعاً ننكب وننصحه عندما نراه قصّر في دنياه. مثلاً الأب لما يرى ابنه قد تخلف عن وظيفة أوعن المدرسة ينصحه ويشفق عليه ويعظه وقد يزجره ولا يهنأ له نوم ويخاف عليه أن يخسر في الدنيا، لكن عندما ينام عن الصلاة، عندما يترك الصوم، عندما لا يبادر إلى الحج، عندما لا يطيع الله عز وجل يقول لكم دينكم ولي ديني والهادي هو الله. لماذا لا يكون الهادي هو الله في أمور الدنيا؟
د. الربيعة: إذن يجب علينا أن نتواصى بالحق
د. الخضيري: وأن يكون كل واحد منا مرآة لأخيه. ويختم بالتواصي بالصبر.
د. الربيعة: التواصي بالصبر ختم الله بها هذه الصفات لأنها جامعة لهذه الأمور، نحن بحاجة إلى الصبر في الإيمان والعمل الصالح والتواصي. والتواصي بالصبر يعني في واقع حياتنا أن نصبر على طاعة الله ونصبر عن معصية الله ونصبر على أقدار الله المؤلمة، هذا هو كمال الصبر. ونحن في هذه الحياة كم تأتينا من الأمور التي ربما يواجهها الإنسان وقد لا يصبر. يحتاج لأن يوثق نفسه بالصبر. فأنت أيها المؤمن حينما تتصف بهذه الصفات الأربعة الإيمان والعمل الصالح ثم تنشر هذا الإيمان والعمل الصالح بالدعوة والتواصي بينك وبين إخوانك ثم تصبر وتثبت إن هذا هو الدين الحق وأن هذا هو الربح والفوز.
د. الخضيري: ومما يؤكد كلامك بأن الصبر ليس صبراً على أقدار الله فقط وإنما أيضاً على طاعة الله قول الله عز وجل (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه) لما استعمل الصبر في أمر الأهل بالصلاة قال واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى. هذه الأمور الأربعة إذا التزمنا بها وقمنا بها وتعاهدنا عليها ووصى بعضنا بعضاً بها فإننا والله مفلحون ناجحون مدركون لخيري الدنيا والآخرة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينني وغياكم على ذلك وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 20:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿١﴾ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴿٢﴾ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿٣﴾ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴿٤﴾ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴿٥﴾ الفيل)
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. هذا هو المجلس التاسع عشر من مجالسنا المباركة في هذا البرنامج "لنحيا بالقرآن". كما وعدناكم وكما عاهدناكم سنقف مع كل سورة من سور قصار المفصل لنأخذ وقفة أو وقفتين أو حسب ما يقتضيه المقام ونتحدث عن معنى الآية وكيف نحوّلها إلى برنامج عملي في حياتنا. هذا ما نقصده لنجعله منهجاً من مناهج التدبر التي طالبنا ربنا سبحانه وتعالى أن نُعامل بها كلامه ونقوم بها تجاه آيات الكتاب العزيز. معنا اليوم سورة الفيل، هذه السورة التي جعلها الله سبحانه وتعالى سلوةً للضعفاء، الضعفاء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، يسلّيهم الله عز وجل بهذه السورة ويقول لهم إنه سينصر أولئك الضعفاء وإن لم يكن بأيديهم ما ينتصرون به فالله قادر على كل شيء وبيده الأمر كله وله القوة كلها سبحانه وتعالى. وتعرفون -ولا يخفى على شريف علمكم- قصة الفيل عندما جاء أبرهة بجنود كثيرة ومعه أفيالٌ لا عهد للعرب بها قد قدِم بها من أرض الحبشة فجاء ليهدم بها الكعبة وليُذِلّ بها خُدّام الكعبة وليريهم أنه أعلى منهم شأناً. فماذا حصل؟ لما وقف على أبواب الحرم أرسل الله عز وجل عليه الطير الأبابيل إلى نهاية وحصلت القصة المعروفة فقتل من كان معه وقتل أبرهة ذاته فجعل الله عز وجل ذلك آية ونصراً عظيماً ودافع الله عز وجل عن حرماته وعن هذه المقدسات الشريفة وانتصر للضعفاء. في هذه السورة سنجعل المعلم الأول هو معلم الانتصار للضعفاء وأن الله هو القادر على شيء
د. الربيعة: هذه السورة تعطي المؤمنين سلوى بتعظيم قوة الله وأن قوة أهل الأرض مهما بلغت فليست عند الله وقوته شيئاً. انظر كيف غمز الله عز وجل إلى قوة الكافرين بالفيل الذي هو في جيش أبرهة علامة على أنه أقوى سلاح عندهم. فهذا الفيل الذي سُميت به السورة للدلالة على عظمته وأنه اتُخذ ليكون هيبة لقريش لجسده وعظمته وأن يروه بهذه المهابة فإنما اتخذ ليكون قوة عظمى. هذه القوة ماذا جعلها الله عز وجل؟ أولاً سخرها الله عز وجل بعدم تحقيق مرادهم فجثى الفيل ورجع إذا وُجِّه للكعبة توقف وإذا وُجّه للحبشة رجع. إذن نستطيع أن نأخذ من هذا أننا نحن المسلمون يجب أن لا نهاب ونخشى ونخاف قوة أعداء الله مهما بلغت ويجب ان نعظِّم قوة الله فقوة الله أعظم من كل قوة. إذا كان هذا حقاً يقيناً في قلوبنا فإننا بإذن الله عز وجل سيقوينا الله عز وجل وسيسخر لنا قوة أهل الأرض.
د. الخضيري: إذن نحن علينا أن نتفقد أنفسنا في معاملتنا مع الله ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا تفقدنا هذه الأنفس فإن الله سينصرنا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30) الشورى) ولذلك قال الله عز وجل (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ (165) آل عمران) فنحن نقول القوة من عند الله والنصر من عند الله وهذه القوة التي بايدي الكافرين لا يمكن أن تعمل عملها أو تؤثر أثرها إلا إذا أذن الله لها بذلك. ولعل من الشواهد على ذلك ما مضى في سائر الأيام فيما مضى من هذه الأيام السابقة لنا عندما جاء اليهود بقدهم وقديدهم ومعهم السلاح الفتاك ومعهم قوة أميركا والدول الأوروبية لا ليغزوا دولة وإنما ليغزوا قرية إسمها غزّة وأحاطوا بها وجمعوا لها الجنود والعتاد والقوة ومعهم كل شيء وحاصروا إخواننا عاماً كاملاً منعوا عنهم الغذاء والمعدات وكل شيء ثم أرادوا أن يستأصلونهم وبقوا ثلاثاً وعشرين يوماً وهم يدكّونهم ليل نهار ويدمرون البيوت والبنى التحتية، ماذا حصل؟ رجعوا ولله الحمد خائبين خاسرين وكانت دليلاً على أن النصر بيد الله وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدير هذه الأمور ويدبر ما يشاء ويفعل ما يريد.
د. الربيعة: مع أنهم استخدموا أسلحة لم يستخدموها من قبل. فهذا دليلنا في السورة تعطينا هذه السورة قدرة الله وعظمته سبحانه وتعالى وتعطينا ضعف أهل الأرض مهما بلغوا ومهما بلغت قوتهم ومهما آتاهم الله من قوة فهذه القوة من الذي سخرها لهم؟ إنه الله. الآية الأولى يقول الله عز وجل فيها (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وهي خطاب للأمة كلها ألم تروا كيف فعل الله بأصحاب الفيل؟
د. الخضيري: هم لم يروا بالفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد عام الفيل فالمقصود بـ (ألم تر) يعني ألم تعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.
د. الربيعة: رمز لهم بأصحاب الفيل، أصحاب تلك القوة. ثم قال (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)
د. الخضيري: ألم يجعل كيدهم، تخطيطهم، تدبيرهم، كونهم يبثون الرعب بين العرب بهذه الآلة التي لا علم للعرب بها جهل الله كيدهم في تضليل يعني جعل تدبيرهم تدميراً عليهم، هم كادوا كيداً (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) إبراهيم) لكن الله سبحانه وتعالى مكره أعظم، يمكرون ويمكر الله، يكيدون والله سبحانه وتعالى يكيد من ورائهم ولا يشعرون. وهذا ما نراه بأنفسنا عندما كادنا أعداؤنا سواء في غزة أو في العراق أو في مواقع أخرى من بلاد المسلمين، أرادوا شيئاً وخططوا له ودبروا له وكادوا المسلمين لكن الله سبحانه وتعالى أبطل كيدهم وردّه في نحورهم.
د. الربيعة: وتأمل قول الله عز وجل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أضلهم هم كانوا على تخطيط ثم أضلّهم الله عن هذا التخطيط الذي كانوا عليه.
د. الخضيري: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ) يمكن أن نستبط منها استنباطاً جميلاً وهي أن قوة الله سبحانه وتعالى كانت في هذه الطائرات الحيّة التي جاءت على هؤلاء المشركين من فوقهم وهذا يجعلنا نقول لأنفسنا وللمسلمين أنه يجب على المسلمين في هذا الزمان أن يمتلكوا هذه القوة وهي قوة الطيران ويستقلوا بها حتى يستطيعوا أن يهيمنوا بها على أرض المعركة.
د. الربيعة: يعني نستطيع أن نقول أن من أعظم القوى قوة الطيران. ولعل هذا يشهد له قوله تعالى (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى (17) الأنفال) هذه الطائرات ليست إلا بالرمي.
د. الخضيري: وهذه الطيور التي جاءت كانت تحمل معها حجارة فوقفت فوق هذا الجيش وبدأت ترميهم بحجارة حتى أبادتهم وأهلكتهم عن آخرهم فلم ينجو منهم ديّار.
د. الربيعة: وهنا ملحظ، انظر كيف أن الله عز وجل عامل هؤلاء أصحاب هؤلاء القوة أرسل عليهم من أضعف جنده، طيور صغيرة ماذا تُغني؟، أرسل عليهم طيوراً ليعلموا أن هذه الطيور مرسلة بقوة الله لم يرسل عليهم جبالاً ولم يرسل عليهم قوة عظيمة وإنما أرسل عليهم جنداً ضعيفاً هذا وهو ضعيف فكيف لو كانت القوة العظمى من الله عز وجل؟! فالله تعالى بقدرته وقوته يستطيع أن يُبطل أعظم قوة في الأرض بأضعف جند.
د. الخضيري: نعم وانظر إلى الريح، هذا الهواء اللطيف يسلطه الله سبحانه وتعالى علة من يشاء فيدمر ويذهب ويزيل ويقتلع الأشجار والأحجار والرجال العتاة الغلاظ حتى يجعلهم الله تعالى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وهي ريح، هواء لطيف يسخره الله فيكون رحمة ويسلّطه فيكون عذاباً شديداً. ولذلك نحن نقول ينبغي علينا أن نكون مع الله وأن لا نخاف من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى وأن تكون ثقتنا بالله وبما عند الله سبحانه وتعالى عظيمة جداً.
د. الربيعة: ما معنى أبابيل؟
د. الخضيري: طيراً أبابيل يعني جماعات غثر جماعات فكانت هذه الطيور تأتي من جهة البحر كما يقول بعض المفسرين تأتي جماعات إثر جماعات ومعها هذه الحجارة التي هي من سجيل أي من طين قد طُبخ وقد تصلّب.
د. الربيعة: قال بعض المفسرين أنها من حجارة النار.
د. الخضيري: من حجارة النار. فالمهم تأتي هذه الطير وترمي بالحجارة على هؤلاء الكفار وتقاتل عن بيت الله سبحانه وتعالى وهذا يدلنا على أن بيت الله محمي وأن شرع الله عز وجل لا يمكن لأحد أن يستأصله من الأرض كما قال الله جل وعلا (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ (97) المائدة) فهذه الكعبة باقية إلى أن ياذن الله عز وجل بزوالها فإذا زالت زال العالم وزالت الأرض وما عليها واذن الله بقيام الساعة.
د. الربيعة: لعلنا نتدبر ختام السورة (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)
د. الخضيري: مثل الهشيم اليابس الذي قد أكلت الدواب شيئاً منه وداست شيئاً منه فصاروا في وضع يرثى له من شدة ما أصابهم من البلاء وما نزل بهم من العذاب نسأل الله العافية والسلامة. جاؤوا متكبرين وجاؤوا وهم ممتلئون حماسة وحيوية وإذا بالنتيجة تنتهي عند هذا الحدّ نسأل الله العافية والسلامة.
د. الربيعة: الحقيقة أن هذه السورة العظيمة سورة الفيل فيها تسلية للمؤمنين وبيان بأن الله عز وجل هو قوتهم العظمى حينما يتسلحون بالإيمان به والتوكل عليه والاعتماد عليه عز وجل أولاً وآخراً ثم الاستعانة بالأسباب التي يسخرها الله عز وجل بقوة كما قال الله عز وجل (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ (60) الأنفال) فالله تعالى أمرنا بفعل الأسباب لكن قبل ذلك أعظم سبب إيماننا ويقيننا بالله عز وجل. هذه السورة العظيمة نحن بحاجة إليها في هذا القوت الذي طغت فيه أمم الكفر وتجبرت وأذلّت المسلمين وسامتهم سوء العذاب في بقاع من الأرض. نحن بحاجة إلى أن نعتصم بقوة الله ونرجع إليها ونعلم أن هؤلاء حينما يصدون عن سبيل الله عز وجل فإن الله سيقهرهم ولكن يأمرنا الله عز وجل بأن ننصر دينه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) محمد) نصر الله يأتي.
د. الخضيري: لعلنا قبل نختم لقاءنا حول هذه السورة العظيمة أذكر لطيفة جميلة وهي قوله (بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) فهم صاروا أصحاباً للفيل ولم يكن الفيل صاحباً لهم، لماذا؟ لأن الفيل جاء لمهم وهو قائم بأمر الله عز وجل يؤدي مهمته في نقل الناس وفي خدمتهم، لكن لما كانت مقاصدهم سيئة ومقصده ليس سيئاً لما جاءت النهاية التي هم أرادوها أن يستعملوا الفيل في تدمير عباد الله هذا الفيل أبى، فصاروا هم أصحاباً للفيل وكان الفيل سيداً. انظر إلى الكلب في سورة الكهف نُسِب إلى الفتية (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ (22)) الكلب نُسب إليهم لأنه تابع للمؤمنين، وهنا هم أصبحوا تابعين أصحاب الفيل، لم يُذكروا ولم يبيّن حقيقتهم وإنما عُرّفوا أنهم أصحاب الفيل فكأن الفيل خير منهم ونحن نقول لكل مؤمن ولكل مؤمنة، هذا الحيوان قد يكون خيراً منك لأنه عرف حقيقة ما خُلِق له ولم تعرف أنت حقيقة ما خُلِقت له. لعلنا نختم بهذا المعنى. نسأل الله تعالى أن ينفعنا بكتابه وكلامه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 21
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4) قريش)
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله في برنامجكم القرآني "لنحيا بالقرآن" نسأل الله أن يحيي قلبونا بالقرآن. معنا اليوم سورة عظيمة من سور كتاب الله عز وجل هي سورة قريش وفي الحلقة 20 من هذا البرنامج. وسورة قريش هي سورة متممة لسورة الفيل ولعلنا نقف مع مقصدها وما يبرز فيها ثم ندلف إلى آياتها. هذه السورة هي امتنان من الله عز وجل على قريش الذين قد جعل الله لهم شأناً في بيته، فكانت لهم عظمة ببركة البيت وببركة هذا البيت حماهم الله عز وجل من أصحاب الفيل.
د. الخضيري: قال (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا (57) القصص)
د. الربيعة: ولهذا سميت قريش، هذا الشرف الذي نالوه ومنّ الله عليهم بولاية هذا البيت نعمة عظيمة، هل شكروها؟ وهل عبدوا الله عز وجل رب هذا البيت أم لا؟ فهذه السورة هي في امتنان الله عز زجل على قريش بأن جعلهم أصحاب شأن نبسبهم وبخدمتهم وولايتهم لهذا البيت. ونأخذ منها معنى عظيماً هو أن من أتاه الله شرفاً ومن أتاه الله مكانة ومن أتاه الله منزلة ينبغي ان يعرف هذه المنزلة وهذا القدر وفي معرفة حق الله عز وجل عليه الذي جعله في هذه المكانة.
د. الخضيري: يعني عندما ينعم الله عليك بنعمة فإن أول ما ينبغي أن تبادر إليه هو أن تشكر الله عز وجل على هذه النعمة فتسخِّرها في طاعة الله. هؤلاء القرشيون أنعم الله عليهم بأن حماهم من الفيل ومن أصحاب الفيل الذين كادوا أن يدمروهم وأن يستأصلوهم ولم يكن عندهم قدرة ولا طاقة على ردعهم وهذا سر مجاورة سورة الفيل لسورة قريش. والثاني أن الله سخر لهم رحلتيم للتجارة وهاتان الرحلتان كانتا سببين عظيمين من أسباب رفاهية أهل مكة فكانت لهم رحلة في الصيف إلى بلاد الشام ورحلة في الشتاء إلى بلاد اليمن يأخذون من هاتين الدارين ما لذ وطاب من أنواع الثمار من الزبيب والدقيق والثياب والملابس والمراكب وغيرها. ويسعون في الأرض لا يتعرض لهم أحد لأنهم أهل الحرم وأهل البيت فلا يتعرض لهم صعاليك العرب ولا يقطعون عليهم الطريق، هذه نعمة. ماذا يقابل هذه النعمة؟ قال الله عز وجل (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ). من أنعم الله عليه بنعمة فعليه أن يبادر بشكرها فإنه إن شكر زاده.
د. الربيعة: يعرف قدرها أولاً
د. الخضيري: يعرف قدرها ويشكر الله عز وجل عليها فإنه إن شكرها قرّت وإن كفرها فرّت، الفرق بينهما نقطة (قرّت – فرّت) إذا اعترفت فعبدت وسخرتها في طاعة الله فإنه قرّت بل ستزيد (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم) وإن تركت فرّت.
د. الربيعة: وهذا الأمر مما يغفل عنه كثير من الناس بعض الناس يؤتيه الله تعالى منزله، يوتيه نسباً شريفاً، يؤتيه الله تعالى جمالاً وبهاء هذا ليس حسابه مثل حساب فقير أو ضعيف في نسبه أو في ماله أو غير ذلك، لا شك أن كلاً سيحاسب على ما آتاه الله فليحسب لذلك الأمر حساباً. لندلف إلى السورة في آياتها نتفيؤ فيها المعاني التي يمكن أن نأخذها في حياتنا. (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) الله جعل لقريش أُلفة ائتلفوا فيما بينهم والعرب كانت قريش عندهم ألفة ومكانة وحفظ لكونهم أهل الحرم. وذكر بعض المفسرين في قوله (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) معاني لعلك تشير إليها لها اثر في دلالة الاية، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) هل اللام متعلقة بما قبلها بسورة الفيل أو بما بعدها؟
د. الخضيري: بعض العلماء يقول إنها متعلقة بالسورة التي قبلها وهي قوله (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿١﴾ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴿٢﴾ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ﴿٣﴾ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ﴿٤﴾ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴿٥﴾ الفيل) يعني إنما جعل الله ذلك لكم لإيلاف قريش فهي كأنها لام للتعليل بالنسبة لما قبلها. لكن الطبري رحمه الله قال لا، قال لما فُصلت السورتان عُرف أن هذه السورة مستقلة بمعناها.
د. الربيعة: لعل في تمام السورة سؤال في قوله عز وجل (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) ماذا نلمس من هذه الآية في مناسبتها لما قبلها؟
د. الخضيري: لما ذكر الله عز وجل النعم التي أنعم بها عليهم وأعطاهم إياها جعل مقابل ذلك أن يتقدموا بشكر هذه النعمة فيعبدوا رب هذا البيت. هم أُكرموا لأجل هذا البيت وهذا البيت له رب وهذا الرب يجب أن يُفرد بالعبادة. الذي سخر لهم هذه النعم هو الله والذي يجب أن يُفرد بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى ولذلك قال (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ). مررت بقصة عجيبة يقولون إن رجلاً كان يتمسح بالكعبة وكأنه يستجديها ويسألها وكان يستنصر ويستجير بالكعبة يا كعبة الله، ويدعو الكعبة ويناديها ويجعل لها من العظمة والحرمة مثل ما لله سبحانه وتعالى فسمع به رجل من العلماء ولم يكن يعرف هذا الشيخ الذي يتحدث فالعالِم جاء إليه وقال يا أيها الشيخ أريد أن أقرأ عليك شيئاً من القرآن فقرأ عليه سورة قريش فقال إقرأ فقال العالِم سورة قريش فقال (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا هذا البيت) فقال الشيخ لا، (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) قال العالِم ليست الاية هكذا با فليعبدوا هذا البيت، ألست تقول يا كعبة الله وتستغيث بها؟ فتفطّن هذا الشيخ فلما جاء في مجلسه القادم قال للناس إني كنت اقول يا كعبة الله وأناديها وأستغيث بها ولكن الحق يقال أن هذا خطأ والمفروض أن أنادي الله سبحانه وتعالى وقد أنقذني الله بهذا الرجل.
د. الربيعة: لعل هذه القصة تجرنا وإن كان الحديث في غير سياق السورة إلى أولئك الذين يدعون غير الله ويتوسلون بأصحاب القبور، ألا يدعون ربهم عز وجل؟ ألا يتوجهون إلى الله مباشرة؟!. والله إن هذا لهو الحق. ختم الله تعالى هذه السورة بقوله (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)
د. الخضيري: يعني مقابل هذا الإطعام وهذا الأمن يجب أن تكون هناك عبادة وهذا يدلنا على عِظم هاتين النعمتين أن يبيت الإنسان وقد أمِن وامتلأ بطنه. هناك أمنان أمن داخلي فيه ما يقيه من شر الجوع وأمن ظاهري وهو أشد وأعظم وهو أن يكون آمنا من السُرّاق ومن الضربات وهجمات الأعداء فيجب الإنسان أن يستحضر الإنسان هاتين النعمتين نعمة الطعام ونعمة الأمن فهما من أجلّ نعم الله تعالى على الإنسان. وهذا ما تحقق لأهل مكة فإنهم كانوا آمنين فلا يخافون أن أحداً من العرب يهجم عليهم لأنهم في حرم الله وكان الرزق يأتيهم من كل مكان عندهم رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف وكما قال الله تعالى في سورة النحل (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112))
د. الربيعة: مثال ليُعرف فعلاً قدر نعمة الله بإطعام الإنسان وبكفايته وأن حق ذلك العبادة. تصور لو أن إنساناً يعمل عاملاً وجاء إلى سيده فأعطاه راتبه أو أطعمه وأسقاه ثم ذهب يعمل عند غيره!
د. الخضيري: لا شك أن هذا الرجل سيحنث عليه حنثاً شديداً، أنا الذي أُطعمك وأنا الذي أسقيك وأنا الذي أغنيتك وأنا الذي أصرف لك راتباً وفي النهاية تجعل خدمتك وطاعتك وعبوديتك لغيري؟! لا شك أنه سيكون ظالماً وسيكون مستحقاً للعقوبة الشديدة الرادعة له ولأمثاله.
د. الربيعة: ختام الآية في قوله (وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)
د. الخضيري: هذه فيها تقرير نعمة الأمن والله إنها من أعظم من الأمن ولا يعرف ذلك إلا من جرّبها. لا زلت أذكر أني لم أستشعر نعمة الأمن في لحظة من حياتي مثلما استشعرتها في الليالي التي كانت تُضرب فيها مدينة الرياض التي كنت أسكنها أيام حرب الخليج. فكنا غذا أردنا أن ننام أصبنا الخوف لأنه ستُرسل صواريخ وأن هذه الصواريخ قد تقع على بيتك أو على بيت مجاور فتهز بيتك وتؤذيك وتقلقك، فكان الناس يبيتون في خوف عظيم وخصوصاً إذا سمعنا صفارة الإنذار، والله إن هذا يذكّرنا بعظيم نعمة الأمن في بلادنا وهذه النعمة علينا أن نتذكرها وأن نحمد الله عليها ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أصول النعم "من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا" إذا وجد لك الأمن والصحة والقوت الذي تقي نفسه به من الجوع فكأنك ملكت الدنيا يعني أن ما وراء ذلك من الدنيا هو فضل وزيادة ولا يضرك ما فاتك. فعلينا أن نحترم هذه النعم وأن نقدّرها وأن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها ونسعى في حفظها. وهنا يأتي السؤال: كيف نسعى في حفظ هذه النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا؟
د. الربيعة: لعل هذا جوابه صريحاً في هذه السورة العظيمة (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) أن نحقق لله حقه وهو العبادة، أن نشكره (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا (13) سبأ) فما آتاك الله من نعمة استخدمها في طاعة الله، آتاك الله عز وجل بيتاً استخدمه في طاعة الله ولا تضع فيه ما لا يرضي الله، آتاك الله سيارة لا تصرفها في طريق لا يرضي الله ولا تضع فيها ما يُغضب الله، آتاك الله زوجة وأولاداً فينبغي أن تجعلهم حماة لهذا الدين وأن تعلمهم وأن ترشدهم وتدلهم على الخير ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإذا آتاك الله رغداً في العيش ورزقاً وافراً فينبغي أن يكون ذلك دافعاً لك في أن يزيد عملك الصالح ولا تبطر هذه النعمة فتجعل هذه النعمة سبباً في كبرياء وبطر على عباد الله كما قال الله عز وجل (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) العلق) هذه من أعظم الآفات في الإنسان أنه إذا اغتنى، أغناه الله بطر. هذه الصفة نجدها كثيراً في أولئك الناس الذين يمكّن الله عز وجل لهم في المال فيصرفونه في الحرام والصد على سبيل الله وفي البطر والكبرياء. أقول هذا السؤال العظيم حقاً يجب أن نقف معه وقفات لكي نستشعر ما آتانا الله عز وجل من الخير والنعمة.
د. الخضيري: كثير من الناس الآن لما أفاء الله عليهم بالنعم مع كل أسف وأكثر الله لهم من الخيرات صاروا يبذرون وصاروا يسرفون وترى الآن في الأفراح والأعراس ماذا يحصل بالنعم؟ توضع في القمامات في وقت هناك من المسلمين من هو محتاج ومن يمر به اليوم واليومين والثلاثة ولا يجد قوته وآخرون يأكلون الطعام وهم يأنفون منه ثم إذا انتهوا منه رموه في أي مكان، فوالله هذا لا يليق بنا نحن معاشر المسلمين. علينا أن نشكر الله وعلينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: هذه السورة العظيمة سورة قريش تعطينا معنى هو أننا نقدّر ما آتانا الله من النِعم نعمة الحسب والنسب ونعمة المال ونعمة الصحة والأمن والطعام والشراب ليكون ذلك دافعاً لنا لعبادة الله حق عبادته وشكر الله حق شكره. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أدّى نعمة الله عز وجل وشكره حق شكره، لنا معكم بإذن الله لقاء آخر، نستودعكم الله وإلى اللقاء وصلى الله وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 22
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه هذا هو المجلس الحادي والعشرون من مجالس برنامجكم "لنحيا بالقرآن". هذا المجلس مخصص لسورة الماعون، هذه السورة التي تتكون من آيات معدودة يقول الله تعالى فيها (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿١﴾ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿٢﴾ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿٣﴾ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾) هذه السورة هي سورة تتحدث عن المكذبين بيوم الدين وعن أخلاقهم السيئة تنفر من تلك الأخلاق وتبين أثر التكذيب بالدين على أخلاق الإنسان. إن الإنسان إذا كذب بالدين ظهر أثر ذلك على حياته فتجده لا يبالي بحقوق الخلق لا يبالي بالضعفاء ولا يرحم المساكين ولا يقوم بالواجبات ولا يقري الضيف ولا يكرم الجار ولا يحسن إلى الناس ولا يحترم الأنظمة لأنه لا يؤمن باليوم الآخر ويظن أن الحياة هي هذه الحياة وكفى ولذلك هذه السورة جاءت لتبين لنا كيف أن التكذيب بالدين يؤثر بالإنسان وعلى طريقة تعامله مع الحياة والأحياء وطريقة تعامله مع أوامر الله عز وجل ونواهيه فهي تطغى عليه تهيمن عليه وعلى تصرفاته. هذا ملاحظ جداً وسيبين الدكتور محمد كيف هذا الأثر يظهر على الإنسان عندما مكذباً بيوم الدين.
د. الربيعة: هذه السورة تتحدث عن المكذبين بالدين وصفاتهم وبيان أثر هذا التكذيب في سوء الأخلاق وسوء التعامل وانعدام نفع الناس أن يكون الإنسان المكذب همه نفسه مصلحته لأنه لا يؤمن بالجزاء ولا يؤمن بالآخرة. فما الذي يدعوه إلى الإحسان وما الذي يدعوه إلى البذل والعطاء إلا رياء وسمعة أو مصلحة شخصية فإذا انعدم الإيمان باليوم الآخر انعدم نفع الإنسان للناس وبذله وعطاؤه. وتأمل كيف سميت هذه السورة بسورة الماعون. هناك علاقة بين هذا الإسم فإن هذا الماعون إناء الطعام يشير إلى أن المكذبين بالدين يبخلون بالنفع والعطاء حتى بالماعون لأن العرب من عادتهم في قلة آنيتهم وقلة ما عندهم كان يستعير بعضهم من بعض فإشارة إلى أنهم يمنعون الماعون فضلاً عن أنهم يعطون الطعام بالماعون ويمنحونه.
د. الخضيري: قد نجد أناساً ينضبطون بالأخلاق وينفعون الناس وهم لا يؤمنون باليوم الآخر ولكن كل ذلك لمصالح حاضرة وعاجلة. مثل الآن ما نراه من الغربيين تجدهم منضبطين في حياتهم منضبطين بالأنظمة واللوائح والقواني التي تسنها الدول ما الذي يحدوهم إلى ذلك؟ الخوف من الجزاء والعقوبة الدنيوية وليس العقوبة الأخروية ولذلك إذا أمنوا هذه العقوبة نجدهم أول من يلقي بهذه القوانين والأنظمة عرض الحائط ولا يبالي بها. ولذلك تجد في بلادهم أحياماً كتب تصدر تقول لك كيف تستطيع الوصول إلى الشياء الفلانية من دون أن يكون هناك مدخل عليك من جهة الأنظمة، ليس هناك خوف من الآخرة، ليس هناك خوف من الجزاء والحساب. أبيّن هذا في مشهد يتكرر كثيراً، تجد مثلاً هؤلاء أمناء عندما تتعامل معهم معاملة مالية تجد أن هناك قدر واضح من الأمانة قد لا تجد عند بعض المسلمين للأسف الذين هم مسلمون بالإسم ولكنهم لا يمتثلون إسلامهم على الحقيقة. هذه الأمانة هل هي صادرة من الإيمان باليوم الآخر؟ لا وكلا، هي من رجائه لأن تتم المعاملة بينك وبينه حتى يضمنك كزبون لمصلحة يريد تحقيقها. الدليل على ذلك أُنظر إليه في تعامله مع والديه عندما يبلغ الثامنة عشرة يغادر بيت والديه ويذهب يضرب في الحياة، لا يكاد يعرف والديه إلا في السنة مرة في عيد الميلاد أو رأس السنة يرسل بطاقة أو رسالة قصيرة أو يتصل بالهاتف ويسلم على والده ووالدته. عندما نذكر قيمة الوفاء هم أوفياء لكن ليس لأجل الآخرة وإنما لمصالح دنيوية آنية متى علموا أنها لا تفيدهم ضربوا بها عرض الحائط. ولذلك من أحق الناس بالوفاء؟ أليس والديك؟ اللذان قاما عليك وأديا حقوقك وأطعماك واجتهدا في تربيتك ثم بعدما بدأ نفعك ذهبت وتركتهما وتبخل عليهما بنصف دولار ترسله إليهم
د. الربيعة: أذكر مثالاً على هذا في أخلاق الكافرين فيما بينهم مما يدل على جفاف نبع الخير في نفوسهم والعطاء والنفع والسبب في ذلك هو عدم الإيمان باليوم الآخر. أرأيتهم كيف تعاملهم فيما بينهم إذا ذهب بعضهم مع بعض للمطاعم تجد كل واحد يشتري لنفسه كما يقال للأسف الشديد من بعض الشباب الذي يريد أن يقلدهم "على الطريقة الأميركية". أذكر مرة من المرات كنت مع أحد الشباب ذاهب من القضيم إلى الرياض وفي الرياض وقفنا عند مطعم وقال نحن على الطريقة الأميركية فقلته له ما هي الطريقة الأميركية؟ قال تشتري لتفسك واشتري لنفسي، قلت أنا أعتذر عن هذا فأعطيت صاحب المطعم النقود فجاء ليحاسب فعاتبني فقلت هذا ليس على منهجنا وعادتنا للأسف الشديد شبابنا يظنون أن هذه الطريقة طريقة حضارية وهي الحقيقة دليل على عدم الرحمة فيما بينهم والتعاون فيما بينهم وبذا العطاء والنفع فيما بينهم.
د. الخضيري: وعدم رجاء الآخرة. النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دخل المدينة ما هي الكلمات التي أعلنها كدستور وميثاق للمسلمين وهو راكب على ناقته القصواء؟ لم يحط رحاله في مدينته، كان يقول أربع كلمات، كان يقول: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" أربعة أشياء ثلاثة منها في نفع الناس هذا موعود عليه وعد أن تدخلوا الجنة بسلام فإذا أردت أن تدخل الجنة بسلام أفشي السلام وأطعم الطعام وصِل الأرحام وصلي بالليل والناس نيام، أسأل الله أن يجعلني وإياكم كذلك.
د. الربيعة: لو أخذنا صفات الكافرين من خلال السورة يقول الله عز وجل (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) لاحظ هذا الاستفهام، اشاهدت هذا المكذب كيف أخلاقه؟ لتعلم أن تكذيبه بالدين يدل على أنه إنسان غير سوي بأخلاقه وتعامله إذن نستطيع أن نحكم على الإنسان في خلقه وتعامله مع الناس في مدى صدقه وفي مدى حسن تعامله ووفائه، في مدى بذله وعطائه وهذا يجعلنا نقول أننا نحن المسلمون ينبغي أن يكون بيننا من التعاون والتراحم والتعاطف والعطاء والبذل مما يظهر في صفاتنا مقارنة بغيرنا
د. الخضيري: ولذلك أقول عوداً على بدء متى تأخر الإيمان بالدين عنا أو غاب عن قلوبنا وعن حياتنا فإن ذلك سوف يظهر في أخلاقنا وأفعالنا وتصرفاتنا. تلاحظ الآن في حياة المسلمين ما الذي يجعلهم يكذبون ويغشون ويفعلون أفعالاً نكراء لا يبالون بحقوق الناس، يظلمون الخلق، يعتدون على أموالهم ويعتدون على أعراضهم، ما هو السبب في ذلك؟ السبب ليس أنهم لا يؤمنون بالدين ولكنهم لأن الإيمان بالدين قد غاب عن أذهانهم، لا يشاهد الجنة ولا يشاهد النار كأنه يراها رأي العين، فهو يعيش في دنياه ولذلك عنده استعداد أن يظلم ويسرق ويأكل مال الناس ويرتشي، يفعل المنكرات والمحرمات مع أنه مقتنع بأنها محرمات ومع أنه مقتنع بأنه سوف يجازى ويحاسب عليها يوم القيامة ولكن هناك غيبة وهناك غفلة وهناك تغطية على القلب حول هذه الأشياء التي تسير الإنسان وتغير مسارات
د. الربيعة: إذن نستطيع أن نقول أن من علامات صدق الإيمان نفع الناس وخاصة الضعفاء كما قال الله عز وجل في سورة البلد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿١٤﴾ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿١٦﴾) العطاء للمساكين دليل على أنه عندك إيمان لأن هؤلاء ليس بينك وبينهم مصلحة، لا ترجو منهم شيئاً هؤلاء ضعفاء مجردون من كل ما يمكن أن يمنحونك من مصالح فكلما كنت قريباً من المساكين كلما كنت أدل على صدق إيمانك وقوة دينك.
د. الخضيري: ننتقل إلى الموطن الآخر الذي نحاول من خلاله أن نركز انتباه المشاهدين على ما في هذه السورة من نواحي عملية. قال الله عز وجل مبيناً صفات هؤلاء الكافرين (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) يدع اليتيم يعني يدفعه عن حقه وهو لا يريد أن يعطيه شيئاً لا من حقه ولا من حق الله الذي أوجبه له. الله عز وجل أوجب لليتيم الاحترام والعطف والرحمة واللين والحلم ولذلك قال (فذلك) وأشار إليه إشارة إلى البعيد لأنه قد أبعد عن رحمة الله وأبعد عن معية الله سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: وتأمل كلمة (يدُعّ) كلمة فيها قوة ليست فقط يمنع بل يمنع ويدفع بإهانة وازدراء واحتقار. إن هذا لدليل على جفاف وقسوة القلوب تماماً.
د. الخضيري: ولذلك كان المشركون الذي بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يرحمون الميت، أول ما يموت الميت يأتي الكبير من روثته كأخيه مثلاً أو ابنه الأكبر فيستولي على ماله ويبقى هؤلاء الضعفاء من الأيتام لا مال لهم يتكففون الناس وياتي الرجل ايضاً ويستولي على مال أخيه أو ابنه ويدع زوجته وأولاده بلا مال فجاءت آيات القرآن منكرة هذا الوضع البشع، هذا الوضع الشنيع الفظيع الذي لا يليق بالإنسانية ولا يليق بأهل الإيمان (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يدفعه عن حقه ولا يحترمه ويمنعه عن حقه ثم يقول (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) يعني أنه أيضاً لا يرحم المساكين، إذا لم يطعمهم لا يحض على إطعامهم.
د. الربيعة: لا يحض على إطعامهم. تصور إنسان يأتيك فلا تطعمه فيذهب لآخر فلا تحضه على ذلك وربما تمنعه، إن هذا لجفاف، إن هذا انعدام الرحمة في القلب.
د. الخضيري: دعنا ننتقل إلى بعض المواطن العملية في السورة التي نريد أن نلفت أنظار المشاهدين إليها وهي قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5))
د. الربيعة: هذه الآية عندما تقرأها تستوقفك، تأمل كيف افتتحها الله عز وجل بالويل (فَوَيْلٌ) وهو واد في جهنم، توعدٌ بجنهم للمصلين، كيف ذلك؟! فيقف القارئ متدبراً كيف يتوعد الله المصلين؟ ثم تأتي الآية الآخرى مجيبة على هذا التساؤل في ذهن الإنسان المتدبر (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) هم قد يصلون في الظاهر كحال المنافقين بكن بلا إيمان، بلا روح، بلا استحضار لهذه الصلاة، فلا آثر لها في قلوبهم ولا في نفوسهم ولا في أعمالهم، أفعال مجردة ومجرد عادات. (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) تأمل وتدبر قوله تعالى (عن صلاتهم) فهم أولاً عن الصلاة غافلون وفيها أيضاً غافلون أو ساهون. فالصلاة إذا لم يكن فيها روح وإذا لم يكن فيها حضور قلب فلا أثر لها، لن يكون لها اثر. ولهذا نقول إذا أردت أيها الأخ المسلم أن يكون لصلاتك أثر وتجد فيها الطمأنينة والراحة وتكون ظاهرة على مالك فلتكن في خشوع وحضور قلب.
د. الخضيري: أيضاً لعلنا نستكمل المشهد في هذه السورة بذكر خصلتين مهمتين جداً وكل واحد منا لا بد أن يتوقف عندهما ويتأكد من عدم إتصافه بهما. الأولى (الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) الرياء إحذروا منه وهو أن تتعبد في ظاهر الأمر لله وفي باطن الأمر من أجل أن يقال فلان مصلي، فلان صائم، فلان متصدق، فلان قد أحسن، الرياء هو الشرك الخفي ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف علينا من الرياء ويحذرنا منه ويقول "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل" نسأل الله العافية والسلامة. ينبغي إذا قرأنا هذه هذه الآية نحذر من الرياء والأخيرة من الخصال في هذه السورة العظيمة التي اشتملت على خصال كثيرة نحتاج أن نقف مع أنفسنا من خلال السورة منع الماعون والمقصود بمنع الماعون الأشياء التي تملكها وتستطيع أن تمنحها لغيرك من إخوانك الذين يمكن أن ينتفعوا بها ويستفيدوا منها ثم يردوها إليك وهي "العاريّة" عند أهل العلم. فكل ما يُعار، قلم، محبرة، ورقة، كتاب، قدر، كأس إناء، إبريق، أثاث، كرسي، أيّاً كان طلبه أخوك المسلم ولست في حاجته فينبغي لك أن تعطيه إياه ليتم جو راحة وتعاطف وتعاون بين المسلمين وإياك أن تكون فردياً تعيش لنفسك ولا ترى أن لأحد عليك حقاً فإنك إن لم تحتج إلى الناس الآن فستحتاج إليهم فيما بعد فأحسِن حتى يُحسن إليك وأدِّ حقوقهم حتى تؤدى حقوقك.
د. الربيعة: حينما تتأمل هذه السورة تلحظ أنها ركزت على صفة الكافرين وصفة المنافقين فاحذر أيها المسلم أن تتصف بصفات هذين الفريقين الكفار والمنافقون.
د. الخضيري: لعلنا بهذا إن شاء الله نأتي على ختام مشاهد من هذه السورة العملية ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذي هم أهل الله وخاصته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 23
د. الخضيري: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا المجلس هو المجلس الثاني والعشرون من مجالس هذا البرنامج المبارك "لنحيا بالقرآن". ستلاحظون في هذه الحلقة أننا سنكون مع سورة قصيرة ولكن معانيها وما فيها من الوقفات قوي جداً. وستلاحظون أننا سنحتاج إلى وقت طويل من أجل أن نستوعب ما في هذه السورة من معاني. وهذا يدلنا على أن القرآن فيه من الخير ما يستوعب كل حاجات البشر. اليوم وقفتنا بإذن الله عز وجل مع سورة الكوثر حيث يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)) هذه السورة كما تسمعون وتقرأون مكونة من ثلاث آيات فهي أقصر سورة في القرآن من حيث تعداد الآيات. ولكن انظروا إلى ما فيها الخير الكثير يكفي أن اسمها الكوثر والكوثر يدل على الخير الكثير، يدل على ذلك النهر الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة وهو نهر عظيم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوردنا إياه. وفي الوقت ذاته يدل كما يقول كثير من المفسرين على الخير الكثير الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم. وقد شرحنا في سورة الضحى بعض الخير الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تعالى له مطمئناً لما أوحِش قلبه أن ربه قد ودّعه وقلاه قال الله (وَالضُّحَى ﴿١﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴿٢﴾ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴿٣﴾ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴿٤﴾ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴿٥﴾) هذا بعض الخير الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وهنا يقول له الله جل وعلا (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هذه السورة نزلت أيضاً تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لما سبّه المشركون وعنفوه وآذوه بألسنتهم وقال له بعضهم كما ورد في بعض أسباب النزول إن محمداً أبتر يعني لا يولد له بنون يكونون من بعد يُبقون ذكره.
د. الربيعة: لما مات ابنه عبد الله
د. الخضيري: فهم أرادوا أن يحطموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينالوا منه فقال الله عز وجل لهم لقدأعطيناك الخير الكثير يا محمد فانشغل بعبادة ربك، صلِّ لله، وانحر لله ولا تلتفت لهؤلاء الشانئين فهؤلاء هم المبتورون ولست أنت المبتور. وبالفعل بقي ذكر رسول الله وبقي اثره وبقي المحبون له وانتشر دينه وذهب أولئك إلى الجحيم، ذهبوا إلى لا شيء فلا يذكرهم أحد ولا يعرفهم أحد ولا يذكرون بخير في الناس
د. الربيعة: إذن هذه السورة سورة امتنان من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم. امتنان وتسلية، تسلية حينما شنيء منه المشركون وذلك الشقي الذي شنأ منه حينما مات ابنه عليه الصلاة والسلام وهي امتنان من الله على نبيه بان أعطاه الخير الكثير. وهذا الامتنان الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم هو امتنان من الله تعالى لأمته حينما منح الله تعالى نبيه وخصّه بهذا النهر العظيم وخصّه بهذا الخير الكثير الذي منحه إياه ومنحه أمته فما أحرانا أن نرتبط بهذه السورة حقاً إنها موضع إرتباط لهذه الأمة.
د. الخضيري: موضع ارتباط لرسول الله ولأمته لأن كل من أخذ بدين رسول الله ناله من ذلك الخير بقدر ما أخذ. وهذه فيها وقفة جميلة جداً وهي بقدر ما تأخذ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيبك الخير ويفتح الله لك من طيب النفس وانشراح الصدر وسعة الرزق وحسن الذكر ولسان الصدق بقدر ما تأخذ من ذلك الخير, فالذي أوتيه رسول الله خير كثير فالناس أمام هذا الخير مستقلون ومستكثرون. فهناك أناس يأخذون برفق أو يأخذون شيئاً يسيراً فيصيبهم من الخير بقدر ما أخذوا. وهناك أناس يخوضون في هذا الخير فيأخذون منه شيئاً كثيراً وهذه جعوة لنا جميعاً أن نأخذ من علم رسول الله وأن نأخذ من هذا الهدي الذي أنزل على رسول الله وأن نأخذ من السنة التي أبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، أن نأخذ منها ونأخذ بها ونستمسك بها فيسؤتينا الله من الخير بقدر ما أخذنا من ذلك الخير.
د. الربيعة: هناك معنى يقابل ذلك وهو أنه مهما شنأ بنا أعداؤنا واستهزؤا بنا وسخروا منا فأنت أيها المؤمن حينما يستهزئ بك أحد فإن الله تعالى قد أعطاك خيراً كثيراً.
د. الخضيري: يعني لا يصيبك اليأس والقنوط أو تصاب بحالة من الاكتئاب بسبب كلمة ألقيت عليك.
د. الربيعة: أعطاك الله الإسلام والهداية واللغة وأكرمك أن جعلك من عباده.
د. الخضيري: كنت مرة في أمريكا فكان عندي مجموعة من الطلاب أدرسهم قصار المفصل وبعض السور التي يحتاجونها لما رأيتهم يعانون عناء شديداً من نطق الحروف العربية في اول ايام تعليمهم، فقلت لهم بكم تشتري لساني هذا؟ قال أحدهم أنا أشتريه بكل ما أملك وقال الثاني أنا اشتريه بالدنيا وما عليه، وقال الثالث يا شيخ إتق الله هذا اللسان ليس له مثال في الدنيا فقلت والله إن هذا لخير كثير من الله سبحانه وتعالى أعطانا إياه قبل أن نسأله إياه وهذا من فضل الله علينا. واليوم أقول لإخواني قد زهد الناس بهذا اللسان وصاروا يتعلمون لغة الأعاجم ويدعون اللغة العربية لا يتعلمونها وهم من أهلها مع الأسف وهي لغة القرآن.
د. الربيعة: لو تأملنا في السورة يقول الله عز وجل (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هذا افتتاح عظيم فيه معاني عظيمة هل يمكن أن يفتح الله عليك بمعنى من المعاني في هذا الافتتاح؟
د. الخضيري: لا شك أن في قوله (إنا) تعظيم لهذا الذي أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله ما نسبه إلى نفسه إلا وهو عظيم عنده. فالله قد أعطى رسوله هذا القرآن فهو عظيم فمن أخذ بالقرآن أخذ بشيء عظيم. وكذلك أعطاه هذا الدين وهو عظيم ومن أخذ بهذا الدين فقد أخذ شيء عظيم.
د. الربيعة: إذن الآية فيها عِظم المُعطي والمُعطى والعطاء. المُعطي الله سبحانه وتعالى والمعطَى النبي صلى الله عليه وسلم والعطاء هو الخير
د. الخضري: هذا الخير الذي أوّله الوحي وآخره شرائع الإسلام وهذه السنن وهذه الشرائع التي جعلها الله عز وجل رحمة للعالمين.
د. الربيعة: ومن هذا العطاء ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أن الكوثر هو نهر أعطانيه الله عز وجل في الجنة لأنه خُصّ به النبي عليه الصلاة والسلام.
د. الخضيري: لعلنا ننتقل إلى قول الله عز وجل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). كما في سورة قريش لما ذكر الله عز وجل النعم على أهل مكة قال (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)) وهنا لما ذكر الله العطاء العظيم لرسول صلى الله عليه وسلم قال يا محمد قابل هذا العطاء بأن تصلي لربك وتنحر. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) صلِّ له مخلصاً له الدين وانحر. وعندي في هذا وقفات. الأولى كيف بدأ بالصلاة؟ لأنها أجلّ الأعمال وأعظمها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع فمستقل ومستكثر" وأنا أقول عظِّموا هذه الصلاة واعتنوا بها وأقيموها فأنه لم يؤمر بها في القرآن إلا على وجه الإقامة (أقيموا الصلاة، المقيمين الصلاة، أقاموا الصلاة).
د. الربيعة: وأيضاً في سر الأمر بالصلاة والله أعلم أنه لما كانت السورة نازلة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الاستهزاء الذي استهزأ به المشركون كانت الصلاة أعظم من تصله بربه وتُذهب همه فإذا أصابك هم إفزع إلى الصلاة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. فهي مناسبة في حال إذا أصاب المسلم هم أو غم أو فزع أو ضاقت به الدنيا
د. الخضيري: وأيضاً الصلاة فيها ميزة عظيمة جداً وهي أن البدن كله يتحرك بها القلب يخشع اللسان يذكر العين تنظر إلى موضع السجدة اليد تقبض على بعضها أو توضع على الركبتين، الجبهة والأنف تخضع لله عز وجل وتمرغ بالتراب بين يدي الله جل وعلا. إذن هي عنوان العبودية ولذلك بدأ الله بها. يأتي السؤال ما علاقة النحر؟ كإنها مثل الزكاة عندما يقرن الله عز وجل الصلاة بالزكاة في كثير من المواطن هنا قرن الله الصلاة بالنحر أولاً تحقيقاً للعبودية والتوحيد وهذا من الجوانب التي أخل بها المشركون فكانوا يذبحون لأصنامهم وآلهتهم شركاً والعياذ بالله.
د. الربيعة: لعل هذا فيه إشارة إلى الاستخفاف بهم أولئك يذبحون للأصنام والأحجار وأنت يا محمد تذبح لربك.
د. الخضيري: والثاني أن النحر فيه منفعة ومصلحة للناس لأنك إذا نحرت لله عز وجل أطعمت المساكين بخلاف ما ذكره الله في السورة السابقة عن الذين يكذبون بالدين فإنهم يدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين ويمنعون الماعون أما أنت فأنت تنحر وتعطي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحر مائة من الإبل ثلاثة وستين بيده الشريفة والباقي نحره علي بن أبي طالب ثم تُركت للناس يأخذون من اللحوم ما شاؤوا وهذا يدل على أن الإسلام لم يأت ليكون ديناً في مسجد أو في محراب أو جلسة مع مصحف وإنما هو دين للحياة نحن علاقتنا مع الله وعلاقتنا أيضاً مع عباد الله نتعبد لله عز وجل بأن نطيعه وأن نسجد بين يديه ونتعبد لله وأن نعطي عباده وأن نحسن إليهم.
د. الربيعة: ولعل من المعاني التي تستنبط في قوله (وانحر) الدلالة على التوحيد فهؤلاء يعبدون غير الله وأشار بالنحر الذي هو من أعظم أنواع التوحيد والعبادة فقال انحر لربك أي حقق توحيد ربك وصلّ أي اعبد ربك كما أمرك الله تعالى فإن هذا هو الشرع.
د. الخضيري: قال الله عز وجل (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ماذا يمكن أن نستفيد من دلالات من خلال هذه الجملة العظيمة التي ختم الله بها هذه السورة؟
د. الربيعة: هذا الختام هو بعد أن ابتدأ الله عز وجل الامتنان على النبي عليه الصلاة والسلام بأن أعطاه الخير الكثير وشرّفه بهذا الفضل العظيم ختم السورة بما هو مناسبتها وكأنه قال لا يهمك أمره بعد هذا العطاء وهذا الخير هل يليق بالإنسان بعد أن يعطيه الله الخير أن ينظر إلى أولئك المستهزئون وأولئك الشانئون وأولئك الساخرون؟! لا والله، كفى به شرفاً وعزاً وقوة أن يكون على هذا الدين. ختام السورة في قوله (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) كأنه قال الله عز وجل لا تأبه بهم فإن الله سيقطع أمرهم وشأنهم هو الأبتر هو الأقطع، هل في معنى الأبتر معنى في الاستهزاء بهم والسخرية منهم؟
د. الخضيري: لا شك أنهم استهزأوا برسول الله في شيء ورد الله استهزاءهم عليهم ورد كيدهم في نحورهم فجعلهم هم المبتورين. يعني وإن كنتم تملكون الإعلان والدعاية والمنصب والملك والقدرة على التأثير على الناس فإن كل ما تفعلونه سينقطع ويندثر ويذهب وسيبقى رسول الله. وانظر إلى الوعد الذي تحقق من الله سبحانه وتعالى فإن وعد الله لا بد أن يتحقق ولا يمكن أن يُخلف وعد الله أن يبترهم فبترهم ووعد الله أن يرفع ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فرفع ذكره حتى إننا اليوم نشاهد أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينقطع من الأرض طرفة عين. في الأذان فقط الآن الأذان لا ينقطع من الأرض يدور في الأرض دوراناً. هناك الآن أناس في هذه اللحظة يؤذنون الظهر والآن هناك أناس يؤذنون العصر والآن هناك أناس يؤذنون المغرب والآن هناك أناس يؤذنون العشاء وأناس يؤذنون الفجر وفي كل أذان رفعة لمحمد صلى الله عليه وسلم فكل واحد منهم يقول أشهد أن محمداً رسول الله، هذا بالأذان فكيف بأنواع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم!. هل هذا خاص برسول الله؟ ليس خاصاً برسول الله بل من سلك مسلك رسول الله وقام بدين الله فإن شانئه ومبغضه والكائد له هو الأبتر هو الذي سنقطع وهو الذي سيزول ملكه وتذهب دولته وبذهب شرفه ويبقى شرف هؤلاء الدعاة. وانظر إلى شرف دعاة الإسلام في قديم الزمان وفي حديثه يكثر أعداؤهم ويؤذون ويودعون السجون، شيخ الإسلام ابن تيمية مات وهو في السجن وخرجت جنازته من السجن، أين هم الذين سجنوه؟ من يعرفهم؟ الذين وشوا به أين هم؟ ذهبوا وبقي ذكر ذلك الرجل الذي نصر سنة رسول الله
د. الربيعة: وهذه الآية في ختام البرنامج تعطينا درساً عظيماً أن أولئك الشانئون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يمثلون بصوره اليوم كأمثال الدانمارك وغيرهم سيبترهم الله وسيقطعهم بإذن الله عز وجل.
د. الخضيري: ونحن واثقون من ذلك. كانت المعاني المستنبطة من هذه السورة على قلة آياتها كثيرة جداً ولو أردنا أن نأخذ من ظلالها ونأخذ من معانيها ومن هداياتها ونجمع ذلك فإننا لا نستطيع ذلك في حلقة ولا حلقتين ولا أكثر ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بكلامه وكتابه وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
الحلقة 24
د. الربيعة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله سلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله في جلسة من جلساتنا المباركة في برنامجنا لنحيا بالقرآن ومع سورة كريمة من سور هذا القرآن العظيم ومن قصار سوره، وهي سورة الكافرون. يقول الله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴿٤﴾ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٥﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿٦﴾). لو تأملنا في هذه السورة في تسميتها بالكافرون ونداء الله عز وجل هنا للنبي صلى الله عليه وسلم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) فإننا نلحظ ظاهراً أن هذه السورة تتحدث في موقفنا من الكافرين
د. الخضيري: ومن معبوداتهم
د. الربيعة: والمفاصلة التامة بيننا وبينهم
د. الخضيري: وأنهما لا يلتقيان مهما طال الزمن وتغيرت الوسائل وتعددت الخطان لا يمكن أن يلتقيا
د. الربيعة: إذن هذه السورة كما ذكر ابن القيم رحمه الله هي في البراءة من الكافرين ومن دينهم وعباداتهم.
د. الخضيري: ولذلك يسميها العلماء سورة الإخلاص بمعنى أنها أخلصت العبادة لله جلا وعلا فلا أحد يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى. ولعل هذا هو السر في أننا أمرنا بقراءتها في مواطن متعددة هي وسورة الصمد وهما سورتا الإخلاص، تقرآن في ركعتي نافلة الفجر وتقرآن في الركعتين بعد المغرب وتقرآن في آخر صلاة يصليها الإنسان في ليلته في ركعتي الوتر وفي ركعتي الطواف وتقرأ عند النوم وتقرأ سورة الصمد عند النوم. هذا يدلنا على أنها سورة من سور التوحيد العظيمة.
د. الربيعة: بمعنى أن الإنسان حينما يكررها ويقرأها في بداية يومه وفي نهاية يومه وفي بدء ليله ليجدد التوحيد والإخلاص
د. الخضيري: ونحن بحاجة لئن نجدد التوحيد ونجدد الإخلاص في قلوبنا وفي نفوسنا وفي حياتنا ولهذا نوجه رسالة لا تظن أنك بإيمانك الأول قد انتهى كل شيء وبتوحيدك الأول قد انتهى كل شيء أنت بحاجة لئن تجدد التوحيد في كل يوم. نلاحظ المؤذن يرفع الأذان كل يوم لا يسبح الله ويحمده إنما يؤكد على معنى التوحيد فيقول (الله أكبر الله أكبر، اشهد أن لا إله إلا الله ثم يختم بلا إله إلا الله) تجديداً للتوحيد وتأكيداً له لأننا بحاجة لئن نجدد التوحيد.
د. الربيعة: قد يتساءل المستمع في الفرق بين سورة الكافرون وسورة الصمد في سر اجتماعهما والفرق بينهما في كونهما سورتي الإخلاص
د. الخضيري: الذي يظهر والله أعلم أن سورة الكافرون هي في توحيد العبادة لله عز وجل يعني التوحيد العملي لله، يعني عملك لا يكون إلا لله، صومك، صلاتك، استغاثتك، خضوعك، ذلك، إخباتك، حجك، صدقتك، برك، إحسانك، كله لله عز وجل.
د. الربيعة: يعني إخلاص العبادة لله عز وجل.
د. الخضيري: أما سورة الصمد فهي سورة الإخلاص بمعنى أنها هي خالصة في ذكر الله عز وجل لا يشارك الله عز وجل أحد فيها فهي وحّدت الله في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته. في سورة الكافرون هي في الإخلاص العملي وسورة الصمد في العلمي الاعتقادي. فأنت أيها المسلم عندما تؤمن بسورة الصمد وتصدق فيها فإنك قد أسلمت حقاً لله ولم تشرك مع الله أحداً سواه ولذلك نلاحظ أن الشارع جعل قراءتها بثلث القرآن (وهذا سيأتي الحديث عنه)
د. الربيعة: هذا يدعوننا ونحن في هذا الوقت الذي تقاربت به أمم أهل الأرض وتداخل أهل الديانات بعضهم مع بعض أننا بحاجة أعظم الحاجة اليوم في تحقيق هذه السورة.
د. الخضيري: نعم هذا صحيح، لأنه نجد هناك من يدعون إلى وحدة الأديان ويقولون اليهودية والنصرانية والإسلام كلها أديان سماوية فلماذا لا نوحّد بينها؟ ولماذا لا نجمع بينها؟ فنقول كيف تجمع بين التوحيد والشرك؟! واحد يقول الله ثلاثة وواحد يقول الله واحد، هل يمكن أن يلتقيا؟! لا يمكن. لأنهم قد اختلفوا في أصل الدين. الآن لم يختلفوا في الصلاة هل هي الثانية عشر أو الواحدة، لم يختلفوا في الصوم هل هو في شعبان أو رمضان، لا، ولم يختلفوا في الحج هو هو في ذي القعدة أو في محرم، لكنهم اختلفوا في ما هو أعظم من ذلك هل محمد رسول أو ليس برسول؟. أما النصراني واليهودي فلا يقر برسالة محمد، هل الإله واحد أو متعدد؟!
د. الربيعة: وهذا يجعلنا نرجع إلى السورة نفسها في سببها. السورة نفسها في تقارب الأديان سبب ذلك أن المشركين حينما رأوا قوة النبي صلى الله عليه وسلم في دينه ونفوذه وتأثيره واتساعه قالوا لا سبيل لنا إلا أن نلتقي معه نتقارب معه يكون بيننا وبينه توافق فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجبهم إلى ذلك جواباً لينتظر وحياً من الله عز وجل فجاءه وحي من الله عز وجل صريحاً وبمواجهة صريحة مع الكافرين قال (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) لم يقل يا أيها الناس ولا يا قريش أو يا أيها المحاورون، تصريح في كفرهم قل يا أيها الكافرون بالله كيف نجتمع وإياكم وأنتم كافرون بالله؟ إذن كل كافر بالله في توحيده لا يمكن أن ألتقي معه.
د. الخضيري: بهض الناس يقول هذه مسألة بسيطة فلماذا أنتم تشددون في هذا الأمر؟ تقولون إن قضية التوحيد هي أخطر قضية وهي القضية التي نفاصل فيها غيرنا من الأديان فلماذا أنتم تشددون في هذا الأمر؟ الأمر اسمح من ذلك. وأنا أرد على هؤلاء برد جميل: أنت لا ترضى بهذا لنفسك، يعني زوجتك التي تزوجتها هل ترضى أن يشاركك أحد ما فيها؟ يقول لا، أبداً لماذا؟ لأنها هي حق لي ولا أرضى أن يشاركني أحد فيها. أولادك، هل ترضى أن يشاركك أحد فيهم؟ يوقل لا، أبداً لا يمكن، مالك الذي في جيبك أو رصيدك الذي في البنك هل ترضى أن نتشارك فيه؟ يقول لا أبداً، لماذا؟ لأنها حقوق خاصة لك. فإذا كانت حقوقك الخاصة لا ترضى أن يشاركك فيها أحد فالله عز وجل حقه لا يرضى أن يشارك فيه أحد وهو حقه الذي ليس وراءه حق، ليس هناك مجال أن يتنازل عن الحق أو يعترف أن هؤلاء الذين يعبدون هم آلهة بالفعل أو لهم حق في العبودية
د. الربيعة: لأنه سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الرازق، هو المجيب هو النافع هو الضارّ. هل من إله غير الله عز وجل يدفع الضر ويحلب النفع؟
د. الخضيري: أبداً. ولذلك نقول نحن نؤكد كما أكد في السورة على أن هناك براءة تامة ومفاصلة تامة بين الإيمان وبين الكفر وأنهما ضدان لا يلتقيان ولا يجتمعان وأنه من حاول أن يجمع بينهما كمن يحاول الجمع بين الليل والنهار وكمن يحاول الجميع بين الظالم والمظلوم ويجعلهما شيئاً واحداً فنقول كذبتم وربي لا يمكن لهذا أن يجتمعوا.
د. الربيعة: ولهذا هذه المفاصلة أيضاً ظاهرة في السورة في كل آياتها. يقول الله عز وجل (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾) أنا لا أعبد ما تعبدون آلهة غير الله وأنتم لن تعبدون الله حقاً إلا أن تتجردوا الألوهية له وتخلصوا العبادة له، إذن لا يمكن ذلك، كيف هم سيعبدون الله سنة مع آلهتهم فهل تتحقق عبوديتهم لله إله النبي صلى الله عليه وسلم؟
د. الخضيري: لا تقبل العبادة لله إلا إذا كانت له وحده دون أحد سواه.
د. الربيعة: ثم يعيد مرة أخرى فيقول (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)) القارئ يقول ما هذا التكرار؟ هذا التكرار مقصود في تأصيل هذه القضية وتأكيدها في النفس وإن كنا نلحظ فرقاً بين المعنيين فهل يمكن أن تبينه لنا؟
د. الخضيري: العلماء ذكروا أن الأوليين مختلفان عن الأخريين. فبعض العلماء يقول (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) (39)) هذه في المستقبل فيما ياتي من زمن بعد ذلك ، (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (5)) هذه في الماضي يعني لم يحصل ذلك ولن يحصل. وبعضهم عَكَس المعنى وبعضهم قال الأولى في الآلهة والثانية في العبادة يعني لا أعبد آلهتكم ولا أعبد كعبادتكم والمقصود من هذا كله تأكيد هذا الأمر وبيان أنه لا التقاء بين الإيمان والكفر لأنهم كما أنهم لا يؤمنون بالله ولا يوحدونه فكيف نرضى أن نلتقي معهم في شركهم نسأل الله العافية والسلامة. وبهذه المناسبة تحضرني قصة جميلة حصلت للمسلمين في القرون الأولى يقال إن يهودياً كان في بغداد يطوف على المساجد يقول يا أيها الناس هل تؤمنون بموسى؟ فيقول الناس نعم، نؤمن بموسى، فيقول حسناً، هل تؤمنون بعيسى؟ فيقول الناس نعم نؤمن بعيسى، فيقول حسناً أما نحن اليهود فنؤمن بموسى وأما عيسى فلا نؤمن به، ويقول لهم هل تؤمنون بمحمد؟ فيقول الناس نعم نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول ونحن اليهود لا نؤمن بمحمد أيها الناس دعونا نجتمع على الذي اتفقنا عليه وهو موسى وندع ما اختلفنا فيه وهو عيسى ومحمد، لبّس على الناس وجاء بشبهة ليلبّس على الناس. قالوا فما زال يطوف بالمساجد ويحير الناس بسؤاله ذلك فمرة دخل أحد المساجد فقام رجل من عقلاء المجانين وعقلاء المجانين هؤلاء أناس عندهم ذكاء لكنه بصورة مخالفة لما هو معتاد وعنده تصرفات مضحكة ولكنهم يأتون بإجابات سديدة فقام إليه في أحد المساجد وقال يا هذا من موسى الذي تدعونا إلى الإيمان به؟ هل هو موسى بن عمران الذي بشّر بمحمد أو غيره؟ قال لا، موسى بن عمران الذي لم يبشر بمحمد، قال هذا والله لا نؤمن به قال فكأنما فُرج على الناس فقاموا وضربوا ذلك اليهودي حتى كاد أن يموت.
د. الربيعة: انظر كيف تكون الحجة في بيان الحق.
د. الخضيري: وهذا يدلنا على أنه لا التقاء بيننا وبينهم. ولا يمكن أن نلتقي معهم حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحتى يوحدوا الله فلا يقولوا عُزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا يثبتوا الألوهية لأحد من دون الله عز وجل.
د. الربيعة: تأمل في تمام السورة تأتي المفاصلة مرة أخرى فيقول الله عز وجل فيها بلسان محمد صلى الله عليه وسلم (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)
د. الخضيري: دينكم خاص بكم وديني خاص بي لا أشارككم في دينكم ولا تشاركونني في ديني.
د. الربيعة: في التوحيد والعقيدة لا يمكن أن يكون هناك لقاء أما في التعامل فيما بين المسلمين وغيرهم فهذا أمر بيّنه الشرع فهناك خطوط التقاء في التعامل وفي المصالح والتجارات وغيرها أما في العقيدة والتوحيد فلا لقاء ولا التقاء.
د. الخضيري: ولذلك قال الله عز وجل في سورة الممتحنة (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)) فبينت أن من لم يقاتلنا ولم يعتدي علينا يجوز أن نبرّه ونحسن إليه ونعامله بالحسنى أما من أساء واعتدى وظلم أهل الإسلام فإنه لا يجوز لنا أبداً أن نمد يد الرحمة له لأنه كافر بالله ولأنه لم يحسن إلى أهل الإسلام.
د. الربيعة: نعرض بمثال الآن كثير من المسلمين قد يخالط كافرين في عمله أو في مجتمعه أو ربما يسافر إلى بلاد الغرب نريد منهج عملي في التعامل مع هؤلاء.
د. الخضيري: لا شك أن المسلم لا يبدأ بالعدوان على غيره ويقدم بيان الحجة والأخلاق الفاضلة ويحرص على أن يكون مسلماً بسمت حسن ويبين أخلاق الإسلام ويجتهد في ذلك ويقصد بذلك دعوة غير المسلمين. فنقول كل من لم يسئ إلى المسلمين ولم يتبين ويظهر من حاله أنه لا عدوان لا سوء منه على المسلمين فإنه المسلم يعامله بالحسنى ويتقي الله عز وجل بذلك ويقصد بذلك دعوته إلى الله جل وعلا. وأما من كان محارباً للمسلمين وظالماً لهم ومعتدياً عليهم فإن هذا ليس له عندنا إلا السيف ما لم يكن المسلم ضعيفاً فإذا كان ضعيفاً فإنه يجوز له أو يورّي أو يتقي كما قال الله عز وجل (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28) آل عمران)
د. الربيعة: إذن نلحظ أن هذه السورة العظيمة سورة الكافرون تعطينا منهجاً ربانياً في التعامل مع الكافرين منهجاً في اننا لا لقاء بيننا وبينهم في التوحيد والعقيدة أما بالنسبة للتعامل فهذا له أحكامه في الشريعة إنما ينبغي أن نأخذ هذه السورة في واقع حياتنا نجدد بها توحيدنا لله عز وجل في عباداتنا كلها فلا يكون شيء من عباداتنا في صلاة أو في صوم أو في نفقة أو في تعامل إلا لله عز وجل خالصاً. ولنسلك هذا المنهج إنه منهج رباني عظيم يجدد لنا التوحيد والإخلاص الذي نسأل الله عز وجل أن يحققه لنا في حياتنا كلها ونسأله أن يحيينا على الإخلاص ويميتنا على الإخلاص ولنا بإذن الله عز وجل لقاء في مجالس أخرى. نستودعكم الله وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 25
(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) النصر)
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد، حياكم الله في حلقة من حلقات برنامجكم المبارك "لنحيا بالقرآن" نسأل الله عز وجل أن يحيي قلوبنا بكتابه. ما زلنا وإياكم مع سور كتاب الله عز وجل، تلك السور التي نعيش فيها في ظلالها ونحيا مع آياتها متمثلين فيها المعاني التي يمكن أن نطبقها في واقعنا. معنا اليوم سورة عظيمة سورة تأنس لها القلوب المؤمنة وترجوها قلوب المؤمنين اليوم إنها سورة النصر. سورة هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم كسورة وليست كآية. نزلت عليه أولاً تبشره بأن هذا الدين الذين منحه الله تعالى إياه فسيمنحه الله تعالى معه النصر والخير الكثير. وهي إشارة في نزولها إلى تمام هذا الدين في شرعه والرسالة ولذلك هذه السورة كما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعمر رضي الله تعالى عنه أنها في أَجَل النبي صلى الله عليه وسلم. لعلنا نتأمل من خلال هذه السورة هذا المعنى العظيم ونأخذ منه مقصداً عظيماً وهو أن الله تعالى يعدنا بأن هذا الدين موصول بالنصر وموصول بالفتح إلى يوم الدين "وليبلغنّ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار". ويبين الله تعالى أن هذا النصر مربوط بأمر وشروط هي تسبيح الله عز وجل والتوبة إليه والرجوع إليه وصدق الرجوع إليه كما سيأتي في بيان هذه السورة. لعلنا نأخذ بعض آيات هذه السورة وقبل ذلك هل يمكن أن نأخذ فيها معنى بيان أَجَل النبي صلى الله وسلم؟
د. الخضيري: لا شك أن هذه السورة لما نزلت علم منها فقهاء الصحابة أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك لأنه إذا جاء نصر الله وفتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فاستغفر يا محمد وسبح بحمد ربك واستعفر إن الله تواب عليك. يفهم كل واحد من هذا المعنى من هذا السياق أنه قد أديت الأمانة وأكملت الرسالة وبلّغت المهمة التي عليك فاستعد للقاء الله بالتسبيح والاستغفار. هذا ما فهمه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وما فهمه عمر وما فهمه ابن عباس ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخذ بعض الصحابة عليه أنه يُدخل ابن عباس مع كبار الصحابة أراد أن يبين لهم لماذا يفعل ذلك، لمكانة ابن عباس وعلمه بالكتاب.
د. الربيعة: وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
د. الخضيري: نعم، ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا له قال: اللهم فقهه في الدين وعلّمه التأويل" فعُلِّم التأويل. فابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يوماً ما دعاه عمر ليدخل مع كبار الصحابة فلما اكتمل المجلس قال ما تقولون في قول الله عز وجل (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3))؟ فهم أجابوا بظاهر الآية وظاهر الآية وما أجابوا صحيح وليس خطأ ولكن عمر كان يسأل عن المعنى الذي يحتاج إلى تأمل وتدبر وإعمال فِكر فهذا هو الذي كان يبحث عنه عمر رضي الله عنه ويقيس به فهم ابن عباس ومدى رسوخه في العلم. فقال ما تقولون فيها؟ قالوا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه ونصره ودخل الناس في دين الله أفواجاً أن يسبح بحمد ربه ويستغفره. قال ماذا تقول فيها يا ابن عباس؟ قال هذه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني أنها تبين أن محمداً قد حان أجله لأنه لما قال إذا جاء نصر الله فسبح يا محمد واستغفر يعني إستعد للموت. قال لا أعلم منها إلا ما تعلم فأذعن الصحابة وعلموا ابن عباس قد أوتي علماً وهو شاب. ولذلك يقول ابن عباس في وصف نفسه وهو يتمدح في قول الله عز وجل (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) آل عمران) يقول أنا من الراسخين في العلم.
د. الربيعة: وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. نستفيد من هذا أنه إذا لمحنا من شاب فطنة وإقبالاً على العلم أننا نجعل له من أمرنا اهتماماً ونجعله في مجالس الكبار حتى يتعلم منهم.
د. الخضيري: بلى بل إننا يجب أن نكون لماحين في التعرف على أبنائنا ومن حولنا فنسخر كل واحد فيما يصلح له. قال النبي صلى الله عليه وسلم "إعملوا كلٌ ميسر لما خُلق له". فعندما أرى شاباً عنده ذكاء وفطنة فاجعله مع من يوقظه وينبهه وعندما أجد شاباً جلداً على الزراعة والحرث أعلمه ما ينتفع به، كما كان النبي يسخر الصحابة لما أسلم خالد بن الوليد قال هذا سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين.
د. الربيعة: هذه رسالة.
د. الخضيري: ولما اسلم أبو هريرة وجاء ورأى عنده حرصاً على أحاديث رسول الله دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في الحفظ فصار أحفظ أصحاب رسول الله حتى حكى لهذه الأمة أكثر من خمسة آلآف حديث وعنده خير كثير لم يدانه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
د. الربيعة: لعلنا نقف عند لفتة في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالعلم أنه ينبغي أن نُكثر من الدعاء لأبنائنا بالعلم وبفهم القرآن العظيم فإنه إن علموا وفهموا كتاب الله فقد استقاموا. لعلنا ندلف إلى السورة في قوله عز وجل (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إذا تأملت هذا الأسلوب العظيم (إذا جاء) أنه لم يأت بعد مع أنه قد جاء. هنا قال الله تعالى (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) والنبي صلى الله عليه وسلم قد نُصر وفُتح له فهذا يعطينا معنى عظيماً أن هذا النصر لا يزال ولن يزال لهذه الأمة، هذا النصر وهذا الفتح. فهذا يعطينا بشرى من الله للمؤمنين بان هذا الدين ودينكم منصور ما بقيت الدنيا فما أعظم هذا المعنى في هذه السورة العظيمة.
د. الخضيري: قول الله عز وجل (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يجب أن نعلم أن هذا النصر الذي يؤتى من الله وأنه إذا كان النصر الذي ستؤتاه الأمة من الله فيجب علينا أن نعتني بالله لأن النصر من عنده. الناس يعتنون الآن الحكومات والدول سواء منها الإسلامية وغير الإسلامية تعتني بالتسليح وتعتني باشياء كثيرة ترى أن النصر يتحقق بها وتنسى الله. نحن لا نقول لهم اتركوا الإعداد، الإعداد مطلوب ولكن يجب أن يكون هذا الإعداد وسيلة والحقيقة يجب أن نعلم أن النصر لا يكون إلا من الله ولا ينحقق إلا بالله ولا يُسأله أحد إلا الله وعلينا أن نوفي الله حقه وأن ننصر الله بتحكيم شرعه والقيام بأوامره واجتناب نواهيه. فإذا فعلنا ذلك عملت هذه الوسائل وأدّت مفعولها وأثّرت في واقع الحياة وهذا شيء يجب علينا أن ننتبه له، النصر من عند الله. ولعلنا نذكر شيئاً حدث للمسلمين في عهد قريب مع إخواننا في غزة انتصروا مع أنهم كانوا مغلوبين وكانوا محاصرين لأكثر من عام ونصف والعدو يحاصرهم من كل زاوية حتى منع عنهم الطعام والشراب والدواء ثم قاتلهم قتالاً شديداً ودمّر البنى التحية لأرضهم ومع ذلك لم يستطع أن يتقدم شبراً واحداً في أرض غزة لأنه خاف ولأنهم وجدوا أسوداً نصروا الله سبحانه وتعالى فنصرهم فكانت هزيمة ساحقة لليهود وإسرائيل التي تدّعي أنها إسرائيل وهي كاذبة في دعاوها، كانت هزيمة ساحقة. ونحن نعلم أن إخواننا في غزة عندهم أخطاء ولم يكملوا كل شيء لكنهم صدقوا في نصرتهم لله عز وجل وفي التجائهم إلى الله فأعطاهم الله النصر وإلا كانوا بين فكي الكماشة يكاد عدوهم أن يستأصلهم. وقد قال من قال من علماء الحرب والعسكريين أن اليهود سيمسحون غزة من الخارطة وسيفعلون بهم الأفاعيل وسيذهب كل من في غزة من البشر، ماذا حدث؟ ثلاث وعشرون يوماً وإسرائيل تدك وتدك إخواننا في غزة ويئست من ذلك ورجعت خاسئة خائبة بحمد الله سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: هنا وقفة أشرت إليه في قوله (نصر الله) النصر ليس على كل حال أن يكون الإنسان يُفتح له في البلاد، النصر هو لثبات على الدين والقوة والرسوخ كما مثلت في نصر إخواننا في غزة. لقد نُصروا وإن لم يفتح لهم في بلادهم لكننا نسال الله أن يُتبع الله لهم هذا النصر فتحاً فيمكنهم في الأرض وبإذن الله سيكون لهم ذلك إن ثبتوا على نصر الله ودينه. في قوله (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) هذا وعد من الله بأن هذا الدين سيدخله الناس.
د. الخضيري: وهذا رآه الناس فيما قبل ورأينا شيئاً منه
د. الربيعة: ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفتح وفي عام الوفود.
د. الخضيري: في عام الوفود بعد الفتح بعام جاءت وفود من كل مكان فدخلت في دين الله أفواجاً. ونحن اليوم نرى شيئاً من ذلك، في قارة أفريقيا يدخل الناس في دين الله أفواجاً والله ليسوا بالمئات ولا بالآلآف بل بعشرات الآلآف قرى بأكملها عن بكرة أبيها تدخل في دين الله عز وجل مذعنة طائعة.
د. الربيعة: بل في الدول العظمى التي تواجه الإسلام تجد من المسلمين كثير. لعلنا نختم السورة بختامها (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
د. الخضيري: ينبغي أن نقابل كل نعمة بأن نُكثر من عبادة الله وذكره. وذكر الله هو أجلّ العبادات. فإذا فتح الله عز وجل علينا وآتانا من فضله فعلينا أن نشطر نعمة الله سبحانه وتعالى وأن نسبح بحمد الله وأن نستغفره. قد تقول لماذا الاستغفار وقد أنعم الله علينا؟ لماذا الاستغفار وقد قمنا بنصر الله؟ فأقول لا يمكن للإنسان أن يقوم بعبادة الله على وجه الكمال والتمام فلا بد أن نقصِّر نحن بشر لا بد أن نخطيء نحن بشر، ولا بد أن يجري على أعمالنا شيء من الشوائب نحن بشر ولذلك نستغفر الله عز وجل. أُنظر إلينا أول ما ننتهي من صلاتنا نستغفر الله لأنك في صلاتك قد تخطيء، قد تسهو، قد تغفل، قد تقصر في الخشوع فإنك تستغفر الله لأنك ما عبدت الله عز وجل حق عبادته.
د. الربيعة: وهناك معنى آخر وهو أن الاستغفار يقطع على الإنسان وساوس الشيطان بالبطر والإعجاب بهذا العمل بعد تمامه فإن هذا من أعظم مداخل الشيطان يصطاد بها الإنسان يُظهر له العُجب وأنك فعلت وفعلت فيُبطل أجره. فهذا الاستغفار يجعلك تستحضر قصورك وافتقارك وأن هذا العمل ليس في حق الله لم يكن في حق الله في شيء فحق الله عظيم، هذا عمل يسير فيما آتاك الله تعالى. ختام السورة عظيم فتسبيح لله عز وجل هو تمجيد يوم أن مجّدك الله ومجّد دينك تمجّده وتسبحه. والحمد هو الوصف الكامل لله عز وجل فتسبحه وتحمده (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) فهذا من الشكر يوم أن كمّل الله تعالى لك الدين فاجعل هذا في الثناء على الله عز وجل ثم بعد ذلك في الاستغفار فالجمع بينهما له مناسبة ظاهرة. ثم في ختام السورة (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) هذا المعنى يعطينا فسحة من ربنا والله تعالى يمد يديه إلينا فيقول (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) إنه يدعونا أن نتوب وأن نستغفر وأن نرجع إليه
د. الخضيري: وهو توّاب كثير التوبة على عباده.
د. الربيعة: ما أعظم هذا الختام! وما أعظم أن نكون من أهله وأن نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم الذي كان يتأوّل هذه السورة فكان يُكثر في آخر حياته من الاستغفار والتسبيح لله عز وجل كما قالت عائشة رضي الله عنها
د. الخضيري: كان يُكثر أن يقول في سجوده وفي ركوعه سبحانك الله وبحمد اللهم اغفر لي.
د. الربيعة: ختاماً هذه السورة العظيمة التي تعطينا معنى النصر والوعد من ربنا بالنصر وتعطينا الوعد من ربنا بالفتح وتعطينا من ربنا لهذه الأمة أن هذه الأمة أمة سيكثرها الله تعالى بالدخول في دين الله عز وجل فما علينا إلا أن نقوم بحق هذا الدين بالنصر، حق هذا الدين أن نكون من أنصاره وأن ننصر الله عز وجل بعبادته وطاعته والدفاع عن دينه والبذل في سبيله علنا أن نحوز وأن نكون من أهل نصر الله عز وجل. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا نصره المبين وفتحه الكريم وأن يقر أعيننا بفتح ونصر للإسلام والمسلمين. بهذا نختم هذا اللقاء ونسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الحلقة 26
د. الخضيري: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. كما قدمنا لكم في بداية حلقات هذا البرنامج الذي نسبح فيه في عالم قِصار المفصّل تعاهدنا وتعلمنا على أن نأخذ دورة في هذه السور كيف نتدبر القرآن ونحول الآيات إلى منهاج عملي لنحيا بالقرآن. فهذا هو المجلس الخامس والعشرون وهذه هي الجلسة المخصصة لسورة المسد والتي يقول الله عز وجل فيها (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴿٥﴾ المسد). هذه السورة جاءت للحديث عن شخص لكن هذا الشخص متميز شخص خاص بمواصفات خاصة ولذلك خصصت هذه السورة له بل سميت باسمه بل صُرِّح في القرآن بإسمه على غير عادة القرآن الجارية على عدم التصريح بالكافرين والمنافقين والمناوئين للدعوة وإنما يذكرهم إجمالاً ويذكر صفاتهم. في هذه السورة حديث خاص باسمه وبعينه، لماذا؟ وما الحكمة من ذلك؟ لماذا تحدثت هذه السورة عن شخص معين.
د. الربيعة: هذه السورة سورة المسد تحدثت عن أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عمه أبو لهب وهذا يجرّنا إلى البحث عن سبب نزول هذه السورة. سبب نزول هذه السورة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُمر بإعلان دعوته (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) الشعراء) (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ (94) الحجر) فصعد على الصفا ونادى قريشاً ثم قال لهم لو أخبرتكم أن خلف سفح هذا الجبل جيشاً سيغزوكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً، قال إن ينذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب بجرأته وهم عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وهزّ يده عليه وقال تباً لك ألهذا جمعتنا؟ تبّاً يعني هلاكاً ووعيداً وتشنيعاً عليه فأنزل الله عز وجل هذه السورة لتكون عبرة لمن خلفه ممن يعلن العداوة للدعوة وأهلها. وهو عم النبي وأقرب الناس إليه لم يحابيه القرآن ولم تحابيه هذه السورة ولم يصرح القرآن برجل غير هذا الرجل من أهل الكفر الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
د. الخضيري: لم يصرح إلا بإسم أبي لهب
د. الربيعة: هذا يدلنا على أن أول المعادين للدعوة يتولى كِبراً وإثماً عظيماً (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) النور) فمن تولى كبر المعصية وساق الناس إليها ودعا الناس إليها ومن تولى كبر عمل من الأعمال
د. الخضيري: مناوأة الدعوة ومعاداة الداعين إلى الله سبحانه وتعالى ومحاولة تشكيك الناس بثوابتهم ودينهم فإنه يجب علينا أن نرد عليه بقوة ونقطعه ونبين تهافت حجته وأيضاً نصرح بإسمه
د. الربيعة: قد يقول بعض الناس لماذا نتكلم عن الأسماء؟ نحن نتكلم عن الأسماء حينما تكون هذه الأسماء رموزاً للشر ويكون لها كبر الأمر وتولي كبر هذا الفساد والإفساد حينها ينبغي أن نصرح بإسمهم تحذيراً منهم ومن شرّهم. فالقرآن في عادته لم يصرح بإسم أبي جهل ولا بإسم ابن شيبة ولا بغيرهم من صناديد قريش إنما صرح بأعمالهم وسيء أخلاقهم. أما ابو لهب حينما كان أول من تولى العداوة فقد صرّح بإسمه فنقول أننا بحاجة أن نفقه هذا المنهج الرباني في التصريح بالأسماء. لعلنا نواصل الحديث في هذه السورة لنتبين حقيقة هذا الرجل والذي دعاه إلى هذا الكبر وهذه الغطرسة، يقول تعالى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾)
د. الخضيري: ماله وولده وجاهه جعلوه يكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم إضافة إلى ما طُبع عليه من الكبر الذي منعه من قبول الحق فهو امتنع عن قبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مع وضوحها وبيان الحجة فيها وأن النبي صلى اله عليه وسلم لم يدخر وسعاً في القيام بالحجة على وجهها.
د. الربيعة: لو كان المكذبين ليسوا من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم لكان له في ذلك عذر عند قبيلته وعذر عند عشيرته لكن هذا أقرب الناس إليه فالإنسان من أعظم ما يدعوه إلى الإعراض وأعظم ما يدعوه إلى الصد عن سبيل الله عز وجل حينما يكون ذا غنى وكونه ذا جاه وذا شرف ومنصب في الناس وهذا نشاهده على الواقع، نجد في الناس من هو ذو وجاهة
د. الخضيري: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) سبأ) تأمل هذا المعنى أن الترف والرفاهية وكثرة المال والغنى يطغيان العبد كما قال عز وجل في سورة العلق (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)) متى رأى الإنسان نفسه مستغنياً فإن هذا يدعوه إلى الطغيان والاستكبار بالحق.
د. الربيعة: تأمل أيضاً سورة الهمزة (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)) جمع مالاً وعدده فكان سبباً في طغيانه واستهزائه وسخريته كما سيأتي الحديث عنه في سورة الهمزة. بعد ذلك تأمل السورة في قوله (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾)
د. الخضيري: عملك الصالح إذا اتقيت به الله عز وجل
د. الربيعة: هذه الصورة التي تمثل بها أبو لهب صورة تتكرر كثيراً في واقعنا. ولهذا أبرزها الله عز وجل في هذه السورة وأبرز هذا الرجل ليكون عبرة لغيره وكل من تصدى للصد عن سبيل الله عز وجل فيكون أمامه ابو لهب الذي توعده الله تعالى بالويل (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ). وتأمل كيف قال (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) في مقابل قوله (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ما المناسبة بين هذين اللفظين؟
د. الخضيري: لا شك أن أبا لهب كان يُكنة في الجاهلية بأبي لهب من إشراق وجهه وحمرته الحمرة التي كانت تعلوه فكان كأنه قطعة من اللهب، فالله عز وجل توعده بضد ما كان يُكنى به وهو أنه سيصلى ناراً متلهبة فكما كنت ذا لهب في الدنيا فأنت ذا لهب في الآخرة وستصلى ناراً ذات لهب.
د. الربيعة: هذا يجعلنا نقول أن الإنسان سيعذب بالأمر الذي كان سبباً في توليه هذا الكبر وإعراضه. فالإنسان الذي تولى كبره من منصبه فإنه سيعذب يوم القيامة بمنصبه.
د. الخضيري: ومن أحب شيئاً دون الله عز وجل وعبده دون الله عز وجل عُذّب به. لاحظ أيضاً مسألة أخرى مهمة جداً أن أبا لهب لم يقتصر عليه العذاب بل حتى الذين عاونوه وعاضدوه وساندوه ووقفوا معه وكان لهم دور ثانوي في دعم مسيرته في صد الناس عن دين الله عز وجل كان لهم مثل وعيده. فلا تقل أنا سرت في ركاب هؤلاء وسايرت هؤلاء الناس ومشيت معهم وهم الذين غرروا بي، لا أحد يغرر بأحد وما أحد إلا مسؤول عن نفسه ولذلك ذكر الله عز وجل في القرآن امرأته (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)) لهذا نحن نحذر أنت مسؤول بنفسك عما تعتقده وعن مواقفك وستُسال عنها أمام الله سبحانه وتعالى. لا تقل فلان قال بها فقلت بها مثلما قال، لا، عندما يقول بها فلان إعرضها على قلبك واعرضها على عقلك واعرضها كتاب ربك واعرضها على الح واعرضها علة الواقع تأمل هل هي بالفعل تستحق أن يُتبع عليها صاحبها أو لا تستحق، فلا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت ولكن وطّن نفسك إن أحسنوا أن تحسن وإن اساؤا ألا تتابعهم في إساءتهم
د. الربيعة: ما أكثر المطبلين للباطل يتبعونه وهم لا يشعرون! لكن حينما نتأمل السورة نجدها ركزت على هذا الرجل وزوجته، لماذا زوجته؟ هل فقط زوجته كانت تبعاً له أم كان لها شأن في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم؟
د. الخضيري: لا شك كان لها شأن في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقوم بادوار إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم لا تقل عما يفعله الزوج حتى أنها كانت تأتي بالقمامات والشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، كانت تحاول أن تضع العراقيل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، تشيع الشائعات، لم تكن مجرد مطبِّل فقط يعني تصفّق لأفعال زوجها فقط ولو فعلت ذلك لكانت ملومة ولكنها كانت تزيد على ذلك بأنها كانت تفعل أشياء محددة في صد الناس عن دين الله وإيذاء أصحاب الدعوات
د. الربيعة: وللسورة سبب نزول نذكره على وجه سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة ذكر المفسرون أن أم جميل امرأة أبي لهب جاءت ومعها حجر تريد أن ترمي به النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت تقول أين الذي يسبني؟ فجاءت والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند الكعبة فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم هاهي أم جميل قد أقبلت، فلما جاءت لم تر النبي صلى الله عليه وسلم حجبها جبريل عنه فقالت أين صاحبك؟ لو رأيته لرميته بهذا الحجر. هذا يدلنا على أن المرأة لها شأنها ولذلك نقول هي رمز النساء اللآئي يتولين الإفساد في الأرض.
د. الخضيري: وما أكثرهن في هذا الزمان. وبالمناسبة أشرت إلى شيء مهم أن الإنسان قد لا يكون رأساً في الفساد لكنه يطبِّل للفساد فلا تظن أنك بمنأى عن عقوبة الله عز وجل، والله أنا دعيت إلى قناة فضائية إلى أن أصور أو أؤجر للبنك الربوي هذا أنا ما لي شأن في هذه الأمور أنا ما فعلت شيئاً من الإثم، إذن من الذي هيّأ لهم هذا البلاء؟ من الذي قدّم لهم هذا العمل على طبق من ذهب؟ من الذي ساعدهم في تحقيق ممكنهم ومحاربتهم لله؟ّ هو أنت وتعلم أن هذا محرّم وهذا لا يجوز فلا يحل لك أن تتصرف هذا التصرف ووزرك على قدر عملك وكلهم مشتركون في الوزر.
د. الربيعة: في السورة قال (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)) الجيد هو الرقبة، فالرقبة تسمى جيداً إذا كان عليها حليّ تسمى جيداً فهذا الجيد الذي كان عليه الجمال والبهاء سيكون عليه حبلاً من مسد. ما هو المسد؟
د. الخضيري: هو الحبل من الليف المتين ستجر به يوم القيامة. نختم بمسالة مهمة جداً وهي أن أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينفعه قربه لما كفر برسول الله وهذا يقرره النبي صلى الله عليه وسلم لنا كلمة جميلة عظيمة أحب أن اذكر بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بطّأ به عمله لم يُسرع به نسبه" لا تقل أبي عالم، أبي تخرج من الجامعة الفلانية، أبي مفتي، أبي من الصالحين، بنى المساجد، أنفق النفقات، أنت ماذا فعلت؟ أنت ماذا قدمت؟ أنت ماذا صنعت لنفسك من الصالحات؟ لا تقل قد عمل آبائي وأنا سلسلة من الصالحين لكن ماذا عملت أنت؟ من بطّأ به عمله لن يسرع به نسبه. نسبك لن يقرّبك إلى الله إنما الذي يقربك غلى الله عز وجل هو عملك فلننتبه لهذا ولنحذر من الفخر بأنسابنا وأحسابنا وندع العمل الذي هو حسبنا ونسبنا يوم نلقى ربنا سبحانه وتعالى.
د. الربيعة: ما أعظم هذه السورة في ختام حديثنا عنها حينما تعطينا معنى عظيماً في الذين يصدون عن دين الله ويتولون كبر هذا الصدّ نحذر أن نكون منهم أو أن نكون من أتباعهم أو الناعقين باسمائهم وبدعواتهم وما أكثرهم اليوم! دعوات الباطل، تحرير المرأة، دعوات التغرير، دعوات التبعية للأعداء والغرب، دعوات التخلي عن دين الله، إنها دعوات كثيرة ينبغي أن نتفظن لها ونعرف أصحابها فنحذرهم ونحذر دعواتهم. نختم حديثنا نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذي يدعون إلى الخير ويحفظنا من الذين يصدون عن الحق ونسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولنا لقاء بإذن الله عز وجل في جلسات قادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 
الحلقة 27
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾ الإخلاص)
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله في برنامجكم المبارك الذي نلتقي فيه في ظلال كتاب الله عز وجل نحيا به من خلال تأمل وتدبر لآيات كتاب الله سبحانه وتعالى. معنا هذا اليوم سورة عظيمة سورة قدرها وفضلها في كتاب الله عظيم فهي سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن. هذه السورة العظيمة حينما نتأملها حق التأمل نجدها في مقصدها الأعظم إنها تحقق للقارئ وللمتدبر الإخلاص والتوحيد لله عز وجل فمن أراد الإخلاص وتحقيقه، الإخلاص الاعتقادي العلمي فعليه بهذه السورة.
د. الخضيري: سبق وقلنا في سورة الكافرون أن اسمها سورة الإخلاص لكن بيّنا أن الإخلاص في تلك السورة هو إخلاص في العمل وهذه إخلاص في الاعتقاد وبهذا نعلم أن الإخلاص قسمان وعلى الإنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى في امتثالهما والقيام بهما. أولاً يُخلص في اعتقاده ومعرفته بالله فهو يعلم أن الله واحد في ذاته واحد في أسمائه وصفاته، واحد في ألوهيته، واحد في ربوبيته، واحد سبحانه وتعالى لا مثيل له ولا ند ولا شبيه ولا نظير جل وعلا. فإذا امتلأ قلبه بذلك إنتقل إلى شيء آخر حقق ذلك في العبادة فلم يعبد مع الله أحداً سواه. ولذلك نلاحظ أن القارئ أو أن الشارع شرع لنا أن نقرأ هاتين السورتين في موطن واحد فنحن نقرأ سورة الكافرون وسورة الإخلاص في ركعتي الفجر وفي ركعتي المغرب وفي الوتر ونقرأهما عند النوم ونقرأهما في ركعتي الطواف. وهنا أشير إلى سر جميل ذكره ابن هبيرة رحمه الله تعالى سأل أصحابه ما الحكمة من كون الإنسان يقرأ في ركعتي ما بعد الطواف عند مقام إبراهيم سورة الكافرون والإخلاص؟ فتأمولا ولم يجدوا شيئاً فقال لقد وجدت أن الإنسان إذا طاف بالبيت قد يقع في ظنه أنه يعظِّم هذا البيت ويعبد هذا البيت فقيل له إقرأ ما يحقق لك الإخلاص. وأن طوافك هذا طاعة لله وامتثال لأمر الله وإنه لولا أن الله أمرنا بذلك لم نفعل ذلك.
د. الربيعة: وأيضاً شرع النبي صلى الله عليه وسلم قرآءتها أدبار الصلوات وهذا يجعلنا نتساءل ما سر ذلك؟ قرآتها مع المعوذتين وآية الكرسي؟
د. الخضيري: هذا لتجديد التوحيد فنحن نجدد توحيدنا في كل حال. وبهذه المناسبة أحب أن اذكر بحديث عظيم رواه الحاكم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" فالتوحيد هو حقيقة الإيمان. فأنت عندما تسأل الله سبحانه وتعالى أن يجدد الإيمان في قلبك يعني أن يجدد التوحيد في قلبك. فتتعلق بالله ولا تنظر لأحد سوى الله ويعظم الله في قلبك فلا يكون هناك مزاحم لله جل وعلا لا دنيا ولا مال ولا بنين ولا غير ذلك مما يقربه الناس ويتوكلون عليه ويحبونه أو يرجونه نسأل الله العافية والسلامة.
د. الربيعة: تأمل إسم السورة، هل ورد فيها؟ ما ورد في ألفاظها، الإخلاص. هذا يجعلنا نقول حقاً إنها سورة الإخلاص ولهذا فهي تعدل ثلث القرآن؟
د. الخضيري: ما سر أنها تعدل ثلث القرآن؟
د. الربيعة: والله أعلم ذكر بعض العلماء عدة معاني منها أنها حين كانت تتضمن التوحيد فهذا ثلث القرآن فالقرآن توحيد وعقيدة وأحكام وأخبار فهي بهذا المعنى تعدل ثلث القرآن لكونها تحقق التوحيد لله.
د. الخضيري: يعني من آمن بها واعتقدها فكأنما تحقق بثلث القرآن وكأنما إذا قرأها قرأ ثلث القرآن لأنها تشمل التوحيد بجميع جوانبه.
د. الربيعة: وهذه السورة أيضاً هي نَسَب الرب سبحانه وتعالى كما ورد أن المشركين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنسِب لنا ربك، فأنزل الله تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) واحد ليس له ولد وليس له والد.
د. الخضيري: هو الأول والآخر والظاهر والباطن. نود أن نقف عند هذه الأحادية، عندما نعتقد أنه واحد وأنه صمد يعني سيّد قد كمُل سؤدده وهو سبحانه وتعالى قد عظم في قدره وأسمائه وصفاته.
د. الربيعة: ولهذا يقول ابن عباس في ملحظ جميل في معنى ذكره في معنى الصمد قال هو الحليم الكامل في حلمه العلمي الكامل في علمه القدير الكامل في قدرته الحي الكامل في حياته، فالصمد دالٌ على أن لله عز وجل الصفات والأسماء الكاملة.
د. الخضيري: هذا المعنى إذا تحقق منه المسلم آمن به وعَلِمه وبدأ يربي نفسه عليه، ماذا يعني له؟ في نظري أنه يعني له الكثير. عندما تعلم أن الله كامل في غناه، كامل في علمه، كامل في حلمه، كامل في سؤدده، غني عن خلقه وأننا نحن بحاجة إليه وأننا لا بد أن نصمد إليه يصمد إليه الخلق بحاجاتهم جعل ذلك العبد أن يفتقر إلى الله تمام الافتقار فيعلم أنه لا يستطيع أن يتصرف حتى في قبضة يده، ولا في حركة عينه ولا في نبضة قلبه ولا في شيء مما يريد أن يفعله إلا بالله. وهذه والله لو تمكّن الإنسان منها لكان هو الموحِّد حقاً وهو أن تعترف أنك مفتقر إلى الله وأنه لا غنى لك عن الله طرفة عين وأن الله سبحانه وتعالى قادر عليك متمكن منك محيط بك لا يعزب من علمك عنه مثقال ذرة ولا أضغر من ذلك ولا أكبر.
د. الربيعة: لعل معنى الصمد هذا اللفظ العظيم حينما يستحضره المسلم بهذين المعنيين الأول أن الله سبحانه وتعالى كامل في كل شيء والمعنى الآخر أن جميع الخلق محتاجون إليه حينها فعلاً نحقق معنى الإخلاص. تعرف أن الله سبحانه وتعالى كامل في وحدانيته وألوهيته وربوبيته وكامل في أسمائه وصفاته وإذا كان هذا المعنى العظيم لله تعالى وهو الكمال حُقَّ للمخلوقين جميعاً أن يلتجأوا إليه سبحانه وتعالى وحُقّ لهم النقص فهو الكامل ولهم النقص فما أحوجهم له. هذا اللفظ بهذين المعنيين يعطي المسلم توحيداً وإخلاصاً لله عز وجل.
د. الخضيري: أريد أن أستعرض بعض المشاهد من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتقاره إلى ربه لا أقول في موطن واحد ولكن في كل المواطن. كان عليه الصلاة والسلام كثير اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى وإذا فزغ عليه الصلاة والسلام وحزبه أمر فزع إلى الصلاة. اذكر على سبيل المثال في غزوة بدر خرج مجاهداً في سبيل الله ومعه خير أهل الأرض وهم أصحابه رضي الله تعالى عنهم، لما التقى الصفان واجتمع الجندان وحصل الخوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويناشد الله، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض. الرسول صلى الله عليه وسلم يدافع عن دين الله ويجاهد في سبيل الله وجاء إلى هذا المكان امتثالاً لأمر الله ما الحاجة إلى الدعاء؟ هو كمال الافتقار، إظهار العبودية، إظهار التوحيد، إظهار أنني محتاج إليك يا الله في كل شيء. هذه هي حقيقة الصمدية يعني أن تصمد إلى الله بحاجاتك، أن تعرضها على ربك أن تعلم أنه لا يقضيها أحد إلا الله حتى إن أبا بكر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى سقط الرداء من على منكبيه رفع الرداء وقال كفاك مناشدتك ربك فإن الله منجز ما وعدك. أبو بكر يشفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إن الله سينجز لك ما وعدك، أبو بكر يأتي بالبشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم افتقاره إلى الله عز وجل. وهذا يذكرني بقصة حصلت للمنذر بن سعيد البلوطي لما طلب الخليفة أن يخرج ليستسقي للناس قال كيف تركت الخليفة؟ قال تركته وهو يتمزغ على الأرض ويقول اللهم إني أسألك أن لا تعذبهم بسببي ولا بسبب ذنوبي فقال المنذر بن سعيد فقال يا غلام أين الممطرة (التي تقي من المطر)؟ فقيل له كيف تفعل ذلك ولمّا تستسقي بعد؟ قال إذا ذلّ جبار الأرض رحِم جبّار السماء. رحمة الله تأتي بعد ذُلِّنا وافتقارنا إليه. وبالفعل خرج المنذر بن سعيد فما هو إلا أن بدأ يستسقي حتى نزل المطر كأفواه القِرب ورجع الناس وهم يتّقون المطر.
د. الربيعة: لعلنا نرجع إلى السورة في تمامها، القسم الأول هو في إثبات الكمال لله والوحداني والصمدية لله سبحانه وتعالى. في قسمها الثاني تجده نفياً بعد إثبات (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) ملحظ جميل في قوله (لم يلد) قدّم نفي الولد على الوالد مع أن الأصل نفي الوالد قبل الولد لم يولد ولم يلد، لماذا قدم نفي الولد؟ لأنه لم ينسب أحد الله إلى والد وكل الطوائف نسبت إلى الله الولد فقدّم ما هو الواقع وما هو الأهم. فالقسم الثاني كله في تنزيه الله بعد وصفه للكمال وهو ردّ لكل الطوائف التي تزعم أن لله ولد.
د. الخضيري: اليهود زعمت أن عزيراً ابن الله والنصارى زعمت أن المسيح ابن الله
د. الربيعة: والمشركون زعموا أن الملائكة بنات الله
د. الخضيري: وما زال الناس إلى اليوم ينعمون أشياء ولداً أو بنتاً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً وهذا من أعظم الفِرى. هناك ملحظ لعلنا نختم به وهو قوله تعالى (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) جمع بين نوعين من النفي النفي الأول نفي المفصّل وهذه ليست عادة القرآن نفي المفصّل إلا عند الحاجة يعني عندما يكون هناك حاجة إلى نفي المفصّل فإن النفي يأتي مفصّلاً وإلا في الأصل أن النفي يأتي مجملاً كما في قوله (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد). فالأصل في الإثبات أن يكون مفصلاً وفي النفي أن يكون مجملاً فجاء النفي هنا مجملاً وجاء النفي أيضاً مفصّلاً ولكن لأجل الحاجة. لما كانت هناك حاجة جاء النفي فيها مفصلاً.
د. الربيعة: إذن نستطيع أن نقول أن هذه السورة العظيمة سورة تحقق في نفس الإنسان الذي يقرأها بتدبر وتحقيق تحقيق الإخلاص والتوحيد لله، فمن أراد تحقيق الإخلاص والتوحيد فليقرأ هذه السورة وليكررها في قلبه قبل لسانه.
د. الخضيري: وليحبها أيضاً حتى يحبه الله كما حصل لأحد الصحابة عندما كان يختم قراءته في كل ركعة بسورة الإخلاص فجاء اصحابه وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال سلوه لِمَ يفعل ذلك؟ فقال لأن فيها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأها فقال أخبروه أن الله يحبه بحبها.
د. الربيعة: وأننا نُشهد الله عز وجل في ختام هذه الحلقة حب هذه السورة وحب كتابه نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أحبابه ومن أهل كتابه ونعتذر إليكم لأن هذه السورة لا تنتهي معانيها لعظم فضلها ولكننا أخذنا شيئاً منها لعلنا نترك لكم بقيتها في تدبر وتأمل. لنا معكم لقاء بإذن الله والسلام عليكم وحرمة الله وبركاته.
 
الحلقة 29
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿٣﴾ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿٤﴾ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿٥﴾ الفلق)
د. الربيعة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله وأصلي وأسلم على نبينا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. نجدد معكم اللقاء في تمام حديثنا في هذا البرنامج المبارك لنحيا بالقرآن ومع تمام سورة تحدثنا عنها في المجلس الماضي هي سورة الفلق. ولعلنا نجدد الحديث عن مقصدها ونتابع آياتها. هذه السورة سورة الفلق ومعها الناس المعوذتين سبب نزولهما هو التعوذ بالله من الشرور الظاهرة والباطنة ومعنى آخر هذه السورة هي للتحصن والوقاية من الشرور كلها ظاهرها وباطنها، سورة الفلق ظاهر في كونها ي الشرور الظاهرة وسورة الناس في كونها من التحصن والتعوذ بالله تعالى من الشرور الباطنة. وقفنا في هذه السورة مع قوله عز وجل (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) فهل لك أن تعطينا لمحة ووقفة.
د. الخضيري: هذه السورة تعوذت من الشرور كلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾) كما بينا في الحلقة الماضية واليوم نذكر الشرور المفصلة التي ذكرت في هذه السورة. وهذه الشرور المفصلة جاءت ثلاثة الأول الليل (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) والثاني السحر (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) والثالث الحسد (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).
د. الربيعة: قد يسأل سائل ما سر تخصيص هذه الأمور الثلاثة؟
د. الخضيري: الله أعلم ليس عندي تحقيق من هذا لكن لشدة الشرور الواقعة من خلال هذه الأشياء الثلاثة وخفائها وكثرتها وأيضاً مهما اتخذ الإنسان من احتياطات لوقاية نفسه منها فإنه لا يستطيع ولذلك لا بد له من أن يستعيذ بالله عز وجل ويعتصم بجنابه من الوقوع في شيء من شرّها. نبدأ بالاستعاذة من الليل ومن المناسب اننا نسجل هذه الحلقة في الليل ونقول يستعاذ بالله من شر هذا الغاسق الليل الذي تشاهدونه، هذا الليل إذا وقب هو الذي يستعاذ منه، لماذا الليل؟ لأنه تختبئ في ظلمته شرور كثيرة فالمفسدون في الأرض يختبئون في ظلمة الليل ويخططون في ظلمة الليل ويحبكون المؤامرات في ظلمة الليل، الذين ينشرون الفساد لا يقومون بذلك إلا في ظلمة الليل، الذي يريدون أن يسرقوا أموال الناس ويقطعوا طريقهم لا يعملون إلا في الليل، الهوام والدواب لا تسري بين الناس وتؤذيهم فتلسعهم وتلدغهم إلا في الليل. وشياطين الجن تتحرك في بداية الليل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "كفّوا صبيانكم" يعني عند غروب الشمس فإن للشياطين انتشاراً. أيضاً السباع من الذئاب والثعالب والأسود والفهود والنمور وغيرها إنما تذهب للبحث عن صيودها في الليل وتؤذي الناس في الليل. البث الفضائي والبث الإذاعي بالأغاني والمجون يكون في الليل، الرقص يكون في الليالي الحمراء والبارات والخمّارات لا يكون إلا في الليل.
د. الربيعة: إذن الإنسان وهو يتعوذ بالله من شر الليل يستحضر هذه المعاني ومنها اصحاب الشر الذين يظهرون في الليل ومنها كما ذكرتم أصحاب القنوات وأصحاب الفساد وغيرهم
د. الخضيري: نعم يستحضر هذا كله ويتعوذ بالله من هذا الليل إذا دخل لكثرة ما يكون فيه من الشر, العباد ينقسمون في الليل إنقساماً ظاهراً فمن الناس من اتخذ الليل مطية للعبادة ومناجاة الله والخلوة بالله سبحانه وتعالى ينقطع عن الدنيا وما فيها وشاغلها وهؤلاء هم خيار أهل الأرض وهكذا كان الأنبياء والصالحون من عباد الله إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن الناس من يتخذ هذا الليل وسكونه وهدأته في نشر الفساد وترويجه ويتدثر هذا الليل من أجل أن يفسد في الأرض نسال الله العافية والسلامة، أولئك شرار الخلق. الليل شيء واحد ومع هذا يستعمل في الحق وفيما يتقرب به إلى الله وفي الوقت ذاته يستعمل في شر شيء يكسبه الإنسان. ومعنى الغاسق هو الليل، وورد في الحديث (وهذه نبينها للناس حتى لا تُشكل عليهم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وهو يشير إلى القمر إستعيذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب. فقد يقول قائل النبي صلى الله عليه وسلم اشار إلى القمر فهل هذا يتعارض مع صدّرتم به الآية أنه الليل؟ نقول لا تعارض
د. الربيعة: هو هنا تعوذ فأنت تتعوذ بالله من شر هذ الليل ثم المعنى الآخر القمر أنه هو موضع الإضاءة وموضع النور والضياء والكشف فلعلك تستعيذ برب هذا القمر الذي يضيء أن يكشف لك هذه الظلمة وما فيها من الشرور ويزيلها عنك. هذا معنى لعله ظاهر في هذا.
د. الخضيري: أنا لا أعرف هذا المعنى ولعله إن شاء الله يكون مقبولاً أو شيئاً مما يتسع له صدر المفسِّر. لكن ذكر العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر وأراد به أنه آية الليل لأن القمر يظهر في الليل، فالآية اشرات إلى الليل والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر علامة الليل وهو ظهور القمر والله أعلم..
د. الربيعة: بعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)
د. الخضيري: قبل ذلك بقي أمر مهم نحن دائماً نحاول أن نربط الآيات بالواقع فنقول هذا الليل يمكن أن يستعمل بالخير ويمكن أن يستعمل في الشر فهو آية من ىيات الله وعلينا أن نستعمله في الخير وأن لا نتخذه مطيّة إلى الأعمال السيئة، هذا أولاً. ثانياً أن نتقي الشر والأشرار في هذا الليل فنكفّ أبناءنا ونمنعهم من السهر ونحرص على أن نجتمع بهم في أول الليل ثم نطمئن أنهم أخلدوا للراحة والنوم ولا نسمح لهم بالخروج إلا في حدود الحاجة والضرورة ولا نتيح لأبنائنا أن يعبثوا بالأمن ويذهبوا للأسواق ويسيئوا بالأمن ونحن في فروشنا فيؤذوا عباد الله ونكون قد تحملنا وزرهم.
د. الربيعة: في الحقيقة في الليل يجتمع شياطين الإنس والجن فيكون سبباً في الفساد المركّب. بعد ذلك يقول عز وجل في الشر الذي يستعيذ الإنسان منه (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)
د. الخضيري: المقصود بها السحر بغض النظر هل النفاثات هم السواحر أو الأنفس السواحر، المقصود بأن السحر شرّه عظيم وخطره بالغ ولأنه شيء غير مشاهد ولا يمكن أن يحترز منه فجعله الله مما يستعاذ منه في هذه السورة.
د. الربيعة: وهذا أمر ظاهر في الناس بسبب ما يكون بينهم من الشحناء والبغضاء وما يوغره الشيطان في صدورهم من العداوة فهذا السحر من أسباب إظهار الشر بينهم وهو واضح ظاهر في وقتنا الحاضر نسأل الله العافية. كم نسمع من السواحر والسحرات الذين انتشر شرهم فيستعيذ الإنسان بالله من شر هذا السحر وأهله. والتعبير بالنفّاثات هل هو دلالة على الساحرات أو الأرواح والأنفس السواحر؟ أقول تعبيره بالنفث للإستعاذة من شر هذا الساحر في وقت سحره ونفثه وهو اجتماع الأرواح الشريرة وقت فعل هذا الساحر لهذا السحر فينبغي للإنسان أن يستحضر هذا المعنى وأقول أن من أعظم ما يدفع شر الساحر والسحرة عنه أن يمتثل أمر الله عز وجل ويستعيذ بالله عز وجل من شرهم فيقرأ هذه السورة. هذه السورة من أعظم العلاج لدفع هذا السحر وهذا الشر العظيم.
د. الخضيري: ونقول ايضاً أنه متى علمت أخي المشاهد بساحر أو ساحرة يمارس هذا السحر فعليك أن تقوم بواجبك بإبلاغ السلطات والجهات المعنية عن هؤلاء لأنهم مفسدون في الأرض. وليسوا مفسدين فقط بل كفار والعياذ بالله لأن الساحر لا يتمكن من السحر حتى يخضع للجن ويعبدهم من دون الله، بل إننا وجدناهم ورأيناهم بالصور وهم والعياذ بالله يطأون على المصاحف ويبولون عليها ويتغوطون والعياذ بالله عليها ويضعونها في دورات المياه إرضاء لجنّهم وشياطينهم حتى يسخروا لهم ما يريدون أن يفعلوه بالناس. فالسحر بوابة الكفر لا يمكن للإنسان أن يكون ساحراً حتى يكفر بالله عز وجل. إذن نحن نقول متى علمتم بساحر أو علمتم بساحرة فاجتهدوا أن تكافحوهم وأن تقلعوا هذا الشر والفساد من أرض الله. وحدّ الساحر كما ورد في الحديث ضربة بالسيف فيجب أن يُستأصل هؤلاء الأشرار من الأرض.
د. الربيعة: ما أرحم الله تعالى بنا عندما أمرنا بالتعوذ من هذا الشر العظيم. الشر الذي أمرنا الله بالإستعاذة منه هو الحسد والعين (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)
د. الخضيري: والحسد شيء خفيّ ولا يكاد يخلو جسد من حسد ولكن المؤمن يدفعه ويرضى بقضاء الله وقدره ويطمئن لأمر الله. عندما تعلم أن أخاك أصابه مال كثير قد يقع في قلبك خواطر هذا الحسد لكنك لما تتذكر أن هذا فضل الله وأن الله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء وأن الله كما أعطى الآن فهو سيعطي بعد آن وأن نعم الله ليست مقصورة. ذكِّر نفسك بأشياء كثيرة هذا يدفع عن بإذن الله عز وجل الحسد فيذهب عنك ولا تلام على ما وقع في قلبك لكن المنافق والفاسق والذي لا يرضى بقضاء الله ولا يطمئن لوعود الله ماذا يفعل؟ إنه يطمئن للحسد ويبدأ هذا الحسد يفعل فعله في نفسه فما يزال يحسد أخاه حتى يكيد له وحتى يصيبه بعينه ويؤثر عليه ويؤذيه أذى بالغاً وهو شر عظيم ومن آثاره العين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العين "لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"
د. الربيعة: نلحظ في هذا الزمن كثرة هذا الشر وهذا الشر يظهر أنه يقترن كثيراً مع النعمة فإذا كثرت النعمة عند الناس حسد بعضهم بعضاً عليها وهذا عجيب والواجب عكس ذلك أن تكون هذه النعمة سبباً في فضل الناس بعضهم على بعض. وأشير في مناسبة هذا أننا ينبغي أن نتقي هذا الحسد وهذه العين بأسباب كثيرة منها التعوذ بالله والتحصن وخاصة أن نحصن أبناءنا فإن كثيراً من الناس يتساهلون وخاصة من النساء، فمنهن هداهن الله من تزيّن أبناءها بل قد تزيّن نفسها ثم تخرج إلى تلك الأفراح والمناسبات وتتعرض لأسباب الحسد والعين بذلك. أقول ينبغي علينا أن نتقي ذلك خاصة وأنه قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أكثر أمته يموتون من العين. فمن أسباب ذلك الوقاية بالتعوذ ومن أسباب ذلك البعد عن أسبابه ومسبباته. إذن هذه السورة العظيمة سورة الفلق سورة هي توجيه ووصية من الله عز وجل لنا أن نتقي الشرور بالتعوذ والإعتصام والإلتجاء إليه سبحانه وتعالى والتوحيد الخالص له سبحانه وتعالى وأن نتقي هذه الشرور بالبعد عنها أولاً ونحذر أن نكون من أهلها بالسحر والحسد والليل وغيرها. ينبغي أن نكون من أضدادها الصالحين الذي يحبون الخير للناس، الذين يدفعون الشر عن الناس، الذين ينشرون الخير بين الناسز هذه السورة العظيمة من الله عز وجل لنا أن نستعيذ بالله سبحانه وتعالى من الشرور التي كم نتعرض لها في أزماننا وحياتنا. بهذا نختم حديثنا عن هذه السورة ولنا معكم بإذن الله تعالى لقاء في مجلس آخر نسأل الله أن يقينا وإياكم وذرياتنا وأزواجنا الشرور كلها ظاهرها وباطنها وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
جزاكم الله خيراً كثيراً وبارك فيكم على ما قدمتموه لنا في تفريغ الدروس والمحاضرات فاسأل الله أن يبارك فيكم
 
وفيه بارك أخي الفاضل الغزالي وجزاك خيراً على تشجيعك المستمر. واسمح لي أن أشكرك أنت على عرضك للبرامج القرآنية في رمضان فلولا أن أرشدتني إليها لما وفقت للتفريغ فجزاك الله عنا كل خير وكتب لك أجر كل من تابع هذه البرامج واستفاد منها وجعلها في ميزان حسناتك يوم القيامة وجعلك دائماً مفتاحاً للخير دالاّ عليه وسددك في جميع أمورك.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والحمد لله الذي وفقني لهذا التفريغ الذي أرجو أن يكون مفيداً نافعاً. هناك حلقتين على ما أظن لم تعرضا فأتمنى الحصول عليهما ثم تفريغهما لكم إن شاء الله.
وأدعو من هنا الشيخين الفاضلين الدكتور محمد الخضيري والدكتور محمد الربيعة أن لا ينقطعا عن مثل هذه البرامج القرآنية على مدار العام وإن كانت بمعدل حلقة أسبوعية واحدة هكذا يستمر الخير طوال العام ويعينوا الناس على عدم هجر القرآن إن شاء الله.
وفق الله الجميع لما فيه خير هذا الدين وهذه الأمة وتقبل الله من مشايخنا هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وجعله في موازين حسناتهم وزادهم علماً وتدبراً لكتاب الله تعالى ونفعنا بما علّمهم اللهم آمين.
 
ماشاءالله تبارك الله....
جهد عظيم يستحق الدعاء لصاحبه....

لكن لدي سؤال حتى نستفيد: طريقة التفريغ كيف تكون..!
هل مباشرة تكتب في الجهاز..أم في دفتر أم ماذا..! أم عن طريق برنامج معين..!
 
جزاك الله خيراً أخي الفاضل على تعقيبك الطيب والحمد لله أنكم وجدتم هذه الحلقات نافعة ومفيدة.
بالنسبة للتفريغ أخي الكريم أنا اقوم بالتفريغ مباشرة عند العرض الأول وفي نفس الوقت أسجل الحلقة وبالتأكيد لا يمكن تفريغ الحلقة كاملة من أول مرة لكن مع الخبرة يمكن تفريغ حوالي 60 إلى 7- في المائة منها ثم اقوم بإعادة الحلقة المسحلة لملأ الفراغات التي تركتها عند التفريغ الأول ثم أقوم بوضع الآيات بالنص القرآني مع رقم الاية والسورة وأقوم ببعض التنسيقات للنص ثم أضعها بين ايديكم ولله الحمد.
التفريغ يحتاج لممارسة حتى تصبح عملية سهلة وميسرة إن شاء الله وأنا أقوم بفضل الله تعالى بتفريغ ما لا يقل عن خمس حلقات أسبوعية ما عدا ما أجده مفيداً من هنا وهناك. وهذه بعد خبرة سنوات أسرع طريقة للتفريغ وأفضل من الكتابة على ورق ثم طباعة المكتوب.
وفق الله الجميع لكل خير ولا تنسونا من دعوة صالحة.
 
منذ زمن بعيد لم أدخل إلى هذا الملتقى المبارك ، وعندما دخلت اليوم ذهلت للجهد الذي قامت به أختنا سمر .
وفقك الله يا أختنا وزادك من واسع فضله .
لقد أعجبني جهدك وعلو همتك ، فجزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين والقرآن أهله خير الجزاء .
ووقاك شر كل ذي شر من عباده .
ولا أملك لك وأنا أرى هذا البذل والعطاء لأجل القرآن وأهله إلا أن أدعو الله لك بالتوفيق والتسديد والمزيد حتى تلقي ربك الحميد .
 
كم يسعدني خدمة كتاب الله تعالى وأهل القرآن أمثالكم شيخي الفاضل وأنا التي يجب أن أشكركم على ما قدمتموه لنا في شهر رمضان من برامج قرآنية كانت بحق من أفضل البرامج التي تابعتها خلال حياتي, فقد جعلتم شهر رمضان هذا العام شهر القرآن بحق فواصلوا حفظكم الله هذه المسيرة وهذا النهج القرآني المبارك فطلابه ومريدوه كثر وعطشى لهذا العلم النافع.
وفقكم الله تعالى لكل خير ولكم مثل ما دعوتم لي وأكثر وحشرنا في زمرتكم يوم القيامة.
 
عودة
أعلى