أبو إسماعيل الهروي وكتابه منازل السائرين إلى الحق المبين

إنضم
9 أغسطس 2011
المشاركات
162
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
38
الإقامة
مصر
كلام العلماء في أبي إسماعيل الهروي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد المبلغ عن ربه كلام ربه وعلى أبوينا إبراهيم وإسماعيل، أما بعد:
فهذا مقال تحذير من كتاب منازل السائرين إلى الحق المبين للشيخ أبي إسماعيل الهروي وبيان خطأ العلماء المعاصرين الذين تولوا شرح هذا الكتاب على ما فيه من خطأ بين يخالف منهج السلف الصالح رحمة الله عليهم وبيان أن هذا الكتاب عمدة عن غالية الصوفية الحلولية أمثال العفيف التلمساني وكتابه مطبوع متداول ونبدأ بكلام أهل العلم فيه:
موقف ابن تيمية من الهروي:
قال ابن القيم عن الهروي: كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: علمه خير من عمله[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: إن الذين أدركوا عصر أبي القاسم (يعني القشيري) من مشايخ القوم لم يكن فيهم أقوم بهذا الباب من شيخ الإسلام أبى إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي لا سيما في المعرفة بأخبار القوم وكلامهم وطريقهم فإنه في ذلك ونحوه من أعلم الناس وكان إماما في الحديث والتفسير وغير ذلك[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP]).
قول أبي إسماعيل الهروي إن كلام الله حال في المصحف:
وقال ابن تيمية: وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وقالوا ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
غلوه في تكفير الأشاعرة:
غلا أبو إسماعيل الهروي في ذم الأشعرية ولعنهم بل وصل به الحد أن كفرهم مع أنه في باب القدر لا يثبت الأسباب الحكم ففي هذا يقول ابن تيمية: وإن كانوا مكفرين له (للأشعري) في مسائل الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب " ذم الكلام " فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات . وله كتاب " تكفير الجهمية "([4]) ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث . وربما كان يلعنهم . وقد قال له بعض الناس - بحضرة نظام الملك - أتلعن الأشعرية ؟ فقال: ألعن من يقول : ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي . وقام من عنده مغضبا. ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال : أبلغ من الأشعرية . لا يثبت سببا ولا حكمة بل يقول : إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة . والحكم عنده: هي المشيئة . لأن العارف المحقق - عنده - هو من يصل إلى مقام الفناء . فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق . وجميع الكائنات مرادة له . وهذا هو الحكم عنده . و " الحسنة " و " السيئة " يفترقان في حظ العبد لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه . والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس . ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم[SUP]([SUP][6][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: فالأمور الخبرية لا بد أن تطابق علم الله وخبره ؛ والأمور العملية لا بد أن تطابق حب الله وأمره فهذا حكمه وذاك علمه .
وأما من جعل حكمه مجرد القدر كما فعل صاحب " منازل السائرين " وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع [SUP]([SUP][7][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: ثم إنك تجد كثيرا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع وهو " توحيد الربوبية " والفناء فيه . كما في كلام صاحب " منازل السائرين " مع جلالة قدره مع أنه قطعا كان قائما بالأمر والنهي المعروفين[SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق فقد غلط غلطا شديدا وإن كان من أعيان المشايخ - كصاحب " علل المقامات " وهو من أجل المشايخ وأخذ ذلك عنه صاحب " محاسن المجالس "[SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله (يعني قوله: التوحيد: إفراد الحدوث عن القدم) وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الذابين عنها وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا. وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين مع علمه وسنته ومعرفته ودينه. وقد ذكر في كتابه «منازل السائرين» أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإتحاد[SUP]([SUP][10][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية في معرض كلامه عن الحلولية: وقد وقع طائفة من الصوفية - حتى صاحب (منازل السائرين) في توحيده المذكور في آخر المنازل - في مثل هذا الحلول؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون عن مثل هذا[SUP]([SUP][11][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وأما أبو إسماعيل الأنصاري صاحب " منازل السائرين " فليس في كلامه شيء من الحلول العام لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو : " مقام التوحيد " وقد باح منه بما لم يبح به أبو طالب لكن كنى عنه[SUP]([SUP][12][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقا وتوحيدا كما فعله صاحب منازل السائرين[SUP]([SUP][13][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل : أن ما قاله النصارى في المسيح حق وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء ؛ لكن ما يمكن التصريح به لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا وتوحيده الذي قال فيه:
ما وحد الواحد من واحد * * * إذ كل من وحده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته * * * عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده * * * ونعت من ينعته لأحد
فإن حقيقة قول هؤلاء أن الموحد هو الموحد ، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد ويفرقون بين قول فرعون : { أنا ربكم الأعلى } وبين قول الحلاج : أنا الحق وسبحاني . فإن فرعون قال ذلك : وهو يشهد نفسه فقال عن نفسه ، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم وكان الناطق على لسانهم غيرهم.
وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين ولهذا رد الجنيد - رحمه الله - على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال : هو الفرق بين القديم والمحدث فبين الجنيد - سيد الطائفة - أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم والعبد المحدث ؛ لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق فأولئك هم الذين يقولون : إنه بذاته في كل مكان أو إنه وجود المخلوقات وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع[SUP]([SUP][14][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا لم تبق عنده الأمور " نوعان " : محبوب للحق ومكروه ؛ بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق كما أنه مراد؛ فإن هؤلاء أصل قولهم: هو قول جهم بن صفوان من القدرية فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب " منازل السائرين " و " ذم الكلام " و " الفاروق " و " تكفير الجهمية وغير ذلك فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية وهو قول الأشعري وأتباعه وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية[SUP]([SUP][15][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: فإنه من شهد أن كل ما في الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده لا فرق عنده بين شيء وشيء إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها ومنها ما معه ألم لبعض الناس فمن كان هذا مشهده فإنه قطعا يرى أن كل من فرق بين شيء وشيء لم يفرق إلا لنقص معرفته ، وشهوده أن الله رب كل شيء ومريد لكل شيء ومحب - على قولهم - لكل شيء وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه فيكون طالبا لحظه ذابا عن نفسه . وهذا علة وعيب عندهم . فصار عندهم كل من فرق : إما ناقص المعرفة والشهادة وإما ناقص القصد والإرادة . وكلاهما علة ؛ بخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية فإنه يشهد كل ما في الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم لا فرق بين شيء وشيء فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة كما قاله صاحب منازل السائرين [SUP]([SUP][16][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: و( المقصود هنا ) أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى أن لا يستحسنوا حسنة ولا يستقبحوا سيئة ؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورا ولا يبغض محظورا فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شيئا كما هو قول الجهمية نفاة الصفات وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتا لمحبة الله ورضاه وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئا غير الإرادة الشاملة وهذا وقع فيه طوائف من مثبتة الصفات تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات كحال صاحب " منازل السائرين " وغيره[SUP]([SUP][17][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: والإرادة الصالحة ما وافقت محبة الله ورضاه وهو حكمه الشرعي والله عليم حكيم . فالأمور الخبرية لا بد أن تطابق علم الله وخبره ؛ والأمور العملية لا بد أن تطابق حب الله وأمره فهذا حكمه وذاك علمه . وأما من جعل حكمه مجرد القدر كما فعل صاحب " منازل السائرين " وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع[SUP]([SUP][18][/SUP][/SUP]).
قال في معرض كلامه عن نفاة حكمته وعدله: وهؤلاء منتهى توحيدهم توحيد المشركين وهو توحيد الربوبية فأما توحيد الإلهية المتضمن للأمر والنهي ولكون الله يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه فهم ينكرونه ولهذا هم أكثر اتباعا لأهوائهم وأكثر شركا وتجويزا من المعتزلة ومنتهى متكلميهم وعبادهم تجويز عبادة الأصنام وأن العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين[SUP]([SUP][19][/SUP][/SUP]).
وقال في معرض كلامه على المتكلمين: وكل الأصول العقلية التي ابتدعها هؤلاء وهؤلاء باطلة في العقل والشرع وإن كانت كل واحدة من الطائفتين تعتقد أنها من أعظم الدين ويقدمونها على الأصول الشرعية فإنهم في ذلك بمنزلة ما يعظمه العباد والزهاد والفقراء والصوفية من الخوارق الشيطانية ويفضلونها على العبادات الشرعية والعبادات الشرعية هي التي معهم من الإسلام وتلك كلها باطلة. وإن كانت أعظم عندهم من العبادات حتى يقولوا : نهاية الصوفي ابتداء الفقيه ونهاية الفقيه ابتداء الموله. وكذلك صاحب " منازل السائرين " يذكر في كل باب ثلاث درجات فالأولى وهي أهونها عندهم توافق الشرع في الظاهر والثانية قد توافق الشرع وقد لا توافق والثالثة في الأغلب تخالف ؛ لا سيما في " التوحيد" و " الفناء " و " الرجاء " ونحو ذلك وهذا الذي ابتدعوه هو أعظم عندهم مما وافقوا فيه الرسل وكثير من العباد يفضل نوافله على أداء الفرائض وهذا كثير. والله أعلم[SUP]([SUP][20][/SUP][/SUP]).
وقال في كلامه عن الحلول المقيد والمطلق وأن أبا إسماعيل الهروي وقع في الحلول المقيد: ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة ومخالفة لبعض الأمر. وإذا أوغل الرجل منهم دخل في الإباحية والانحلال وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد كما قد وقع لكثير من الشيوخ ويوجد في كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك.
وقد يدخل بعضهم في " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق كما يقول صاحب " الفتوحات المكية "[SUP]([SUP][21][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وهؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ . فتارة : يقولون في امتثال الأمر والنهي : إنه من مقام التلبيس أو ما يشبه هذا . كما يوجد في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين[SUP]([SUP][22][/SUP][/SUP]).
وقال ابن تيمية: وقد ذكر في كتابه «منازل السائرين» أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإتحاد.
ولهذا قال الهروي في «منازل السائرين»: باب التوحيد: قال الله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران التوحيد تنزيه الله عن الحدث[SUP]([SUP][23][/SUP][/SUP]).
قال الهروي في «المنازل»: وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل.
قال الهروي في «المنازل»: والتوحيد على ثلاثة أوجه:
الأول: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد.
والثاني: توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق.
والوجه الثالث: توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة.
فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر وصحت به الملة للعامة وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب. هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد، والشواهد هي الرسالة والصنائع تجب بالسمع وتوجد بتبصير الحق وتنمو على مشاهدة الشواهد[SUP]([SUP][24][/SUP][/SUP]).
قال «الهروي في المنازل»: وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة. وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها ويحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث. هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع[SUP]([SUP][25][/SUP][/SUP]).
قال الهروي في «المنازل»: وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقاطها. هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء أهل هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة. وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال وإليه قصد أهل التعظيم وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه خبر أو يقله سبب[SUP]([SUP][26][/SUP][/SUP]).
قال الهروي في «المنازل»: وقد أجبت في سالف الدهر سائلا سألني عن توحيد الصوفية بهذه القوافي الثلاث:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد([27])([28]).
شرح ابن تيمية لأبيات الهروي:
قال ابن تيمية: وقد بسطت الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع لكن ننبه هنا على ما يليق بهذا الموضع. فنقول: أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل. (...).
والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح واقتضاء السعادة في الآخرة به. ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه. وحقيقته إخلاص الدين كله لله. والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلاهية الحق في قلبك وتنفي إلاهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات، فتقول: لا إله إلا الله، فالنفي هو الفناء، والإثبات هو البقاء. وحقيقته أن تفنى بعبادته عما سواه ومحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه و بالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه([29]).
وقال ابن تيمية: وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه توحيد الخاصة فهو الفناء في توحيد الربوبية؛ وهو أن يشهد ربوبية الرب لكل ما سواه وأنه وحده رب كل شيء ومليكه.
والفناء إذا كان في توحيد الألوهية: وهو أن يستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته حتى لا يحس بشيء آخر مع العلم بثبوت ما أثبته الحق من الأسباب والحكم وعبادته وحده لا شريك له بالأمر والنهي ولكن غلب على القلب شهود الواحد كما يقال غاب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته.
كما يذكر أن رجلا كان يحب آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له: أنا وقعت فلماذا وقعت أنت. فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني.
فصاحب هذا الفناء إذا غلب في ذلك فهو معذور لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشيء آخر كما يعذر من سمع الحق فمات أو غشي عليه وكما عذر موسى صلى الله عليه و سلم لما صعق حين تجلى ربه للجبل.
وليس هذا الحال غاية السالكين ولا لازما لكل سالك ومن الناس من يظن أنه لا بد لكل سالك منه وليس كذلك فنبينا صلى الله عليه و سلم والسابقون الأولون هم أفضل وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت عند سماع القرآن.
وإنما تجد هذا الصعق في التابعين لا سيما في عباد البصريين.
ومن الناس من يجعل هذا الفناء: هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين وهذا أضعف من الذي قبله.
وما يذكر عن أبي يزيد البسطامي من قوله: ما في الجبة إلا الله.
وقوله: أين أبو يزيد؟ أنا أطلب أبا يزيد منذ كذا وكذا سنة ونحو ذلك.
فقد حملوه على أنه كان من هذا الباب ولهذا يقال عنه: إنه كان إذا أفاق أنكر هذا فهذا ونحوه كفر لكن إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان كالنوم والإغماء لم يكن مؤاخذا بما يصدر عنه في حال عدم التكليف ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز.
وأما الفناء الذي يذكره صاحب «المنازل»: فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره، وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه «الفاروق» في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب «تكفير الجهمية»، وصنف كتاب «ذم الكلام وأهله» وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب.
والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع. وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التى تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص.
ولهذا قال في (باب التوبة) في لطائف أسرار التوبة:
اللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم.
أي الحكم القدري وهو خلقه لكل شئ بقدرته وإرادته فإن من لم يثبت في الوجود فرقا بالنسبة إلى الرب بل يقول: كل ما سواه محبوب له مرضي له مراد له سواء بالنسبة إليه ليس يحب شيئا ويبغض شيئا فإن مشاهدة هذا لا يكون معها استحسان حسنة ولا استقباح سيئة بالنسبة إلى الرب؛ إذ الاستحسان والاستقباح على هذا المذهب لا يكون إلا بالنسبة إلى العبد: يستحسن ما يلائمه ويستقبح ما ينافيه.
وفي عين الفناء لا يشهد نفسه ولا غيره بل لا يشهد إلا فعل ربه. فعند هده المشاهدة لا يستحسن شيئا ويستقبح آخر على قول هؤلاء القدرية الجبرية المتبعين لجهم بن صفوان وأمثاله.
وهؤلاء وافقوا القدرية في أن مشيئة الرب وإرادته ومحبته ورضاه سواء.
ثم قالت القدرية النفاة: وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فهو لا يريده ولا يشاؤه فيكون في ملكه ما لا يشاء.
وقالت الجهمية المجبرة: بل هو يشاء كل شيء فهو يريده ويحبه ويرضاه.
وأما السلف وأتباعهم: فيفرقون بين المشيئة والمحبة. وأما الإرادة فتكون تارة بمعنى المشيئة وتارة بمعنى المحبة.
وقد ذكر الأشعري القولين عن أهل السنة المثبتين للقدر قول من فرق بين المحبة والرضا وقول من سوى بينهما واختار هو التسوية.
وأبو المعالي يقول: إن أبا الحسن أول من سوى بينهما لكني رأيته في الموجز: قد حكى قوله عن سليمان بن حرب وعن ابن كلاب وعن الكرابيسي وعن داود بن علي.
وكذلك ابن عقيل يقول: أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولم يقل: إنه يحبه غير الأشعري.
وأما القاضي أبو يعلى فهو في (المعتمد) يوافق الأشعري وفي مختصره ذكر القولين وذكر في المعتمد قول أبي بكر عبد العزيز أنه يقول بالفرق وتأول كلام أبي بكر بتأويل باطل.
لكن أهل الملل كلهم متفقون على أن الله يثيب على الطاعات ويعاقب على المعاصي وإن كانت المشيئة شامله للنوعين فهم يسلمون الفرق بالنسبة إلى العباد والمدعون للمعروفة والحقيقة والفناء فيهما يطلبون أن لا يكون لهم مراد بل يريدون ما يريد الحق تعالى فيقولون الكمال أن تفنى عن إرادتك وتبقى مع إرادة ربك وعندهم أن جميع الكائنات بالنسبة إلى الرب سواء فلا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة.
وهذا الذي قالوه ممتنع عقلا محرم شرعا. ولكن المقصود هنا بيان قولهم.
ولهذا قال شيخ الإسلام في توحيدهم وهو التوحيد الثاني: إنه إسقاط الأسباب الظاهرة) فإن عندهم لم يخلق الله شيئا بسبب، بل يفعل عنده لا به.
قال الهروي في «منازله»: والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة.
وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سببا لشيء أصلا ولا شيء جعل لأجل شيء ولا يكون شيء بشيء. فالشبع عندهم لا يكون بالأكل ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلا لا في نفسه ولا في نفس الأمر ولا الطاعات عندهم سبب للثواب ولا المعاصي سبب للعقاب فليس للنجاة وسيلة بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث ويصدر مع الآخر مقترنا به اقترانا عاديا لا أن أحدهما معلق بالآخر أو سبب له أو حكمة له ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلما ودليلا على الآخر بمعنى أنه إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجودا معه وليس العلم الحاصل في القلب حاصلا بهذا الدليل بل هذا أيضا من جملة الاقترانات العادية.
ولهذا قال الهروي في «منازله»: فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه.
أى يشهد أنه علم ما سيكون وحكم به أي أراده وقضاه وكتبه وليس عندهم شيء إلا هذا. وكثير من أهل هذا المذهب يتركون الأسباب الدنيوية ويجعلون وجود السبب كعدمه. ومنهم قوم يتركون الأسباب الأخروية، فيقولون: إن سبق العلم والحكم أنا سعداء فنحن سعداء وإن سبق أنا أشقياء فنحن أشقياء فلا فائدة في العمل. ومنهم من يترك الدعاء بناء على هذا الأصل الفاسد.
ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالف لصريح المعقول ومخالف للحس والمشاهدة. (...)
ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على خطأ هذا الكلام ثم قال رحمه الله:
فكيف يمكن أن يشهد أن الله لم ينصب على توحيده دليلا ولا جعل للنجاة من عذابه وسيلة ولا جعل لما يفعله المتوكل من عباده سببا.
وهو مسبب الأسباب، وخالق كل شيء بسبب منه، لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب بمعنى أنه لا يطمئن إليها ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع فلا يجوز التوكل إلا عليه.
كما قال تعالى (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون). [سورة آل عمران 160].
وما سبق من علمه وحكمه فهو حق وقد علم وحكم بأن الشيء الفلاني يحدثه هو سبحانه بالسبب الفلاني فمن نظر إلى علمه وحكمه فليشهد الحدوث بما أحدثه وإذا نظر إلى الحدوث بلا سبب منه لم يكن شهوده مطابقا لعلمه وحكمه.
فمن شهد أن الله تعالى خلق الولد لا من أبوين لسبق علمه وحكمه فهذا شهوده عمى بل يشهد أن الله تبارك وتعالى سبق علمه وحكمه بأن يخلق الولد من الأبوين والأبوان سبب في وجوده فكيف يجوز أن يقال إنه سبق علمه وحكمه بحدوثه بلا سبب وإذا كان علمه وحكمه قد أثبت السبب فكيف أشهد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه؟
والعلل التي تنفي نوعان: أحدهما أن تعتمد على الأسباب وتتوكل عليها وهذا شرك محرم.
والثاني: أن تترك ما أمرت به من الأسباب وهذا أيضا محرم.
بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك فليست العلة إلا ترك ما أمرك به الرب أمر إيجاب أو استحباب ومن فعل ما أمر به كما أمر به فليس عنده علة ولكن قد يجهل حقيقة ما أمر به كما أمر به فيكون منه علة.
وقول القائل: (يسلك سبيل إسقاط الحدث).
إن أراد أنى أعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أنى أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثا وهو مرادهم فهذا خلاف ما أمرت به وخلاف الحق.
بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شيء قط.
وقول القائل: (يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل).
إن أراده أنه يبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة؛ فهذا حق.
وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا، بل لا أشهد إلا القديم فقط؛ فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق، وهذا من باب الجهل والضلال، وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا.
أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع.
ولما كان هذا مرادهم قال الهروي في «منازله»: هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع. فإن المراد بالجمع أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته وأنها صادرة بإرادته لا يرجح مثلا عن مثل، فلا يفرق بين مأمور ومحظور وحسن وقبيح وأولياء الله وأعدائه.
والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله أهل الحق فإنهم أمروا بالفرق الثاني: وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه فأحب هذا وأبغض هذا وأثاب على هذا وعاقب على هذا فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا.
وأما قوله الهروي في «منازله»: (ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع) فسيأتي. وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر؛ فإن أولئك الذين قالوا: الأمر أنف. قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده. وفي ذلك إبطال الأمر والنهي. لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه فأثبتوا الشرع ونفوا القدر.
وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر.
قال الهروي في «منازله»: وأما التوحيد الثالث: فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره.. إلى آخر كلامه. وقد تقدم حكايته فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث. وحقيقة قول هؤلاء الاتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح، وهو أن يكون الموحد هو الموحد ولا يوحد الله إلا الله وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم. كما قال:
ما وحد الواحد من واحد (أي من واحد غيره) إذ كل من وحده جاحد
فإنه على قولهم: هو الموحد والموحد.
ولهذا قال:
توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به، وهذه عارية أبطلها الواحد ولكن إذا فني عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فني من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد ويكون هو الموحد وهو الموحد.
ولهذا قال: (توحيده إياه توحيده).
أي توحيد الحق إياه أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له فإن لا يوحده عندهم مخلوق بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ليس الناطق هو المخلوق كما يقوله النصارى في المسيح إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت.
وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم. وإذا غاب وفني عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع صار الحق هو الناطق المتكلم بالتوحيد وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره. وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا، وهو الاتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت كما يقول النصارى: إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله. وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى. ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الاتحاد والحلول مطلقا ومعينا فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ويتحلون بما فيها من تحقيق الإتحاد العام ويرون كل ما في الوجود هو مجلى ومظهر، ظهر فيه عين الحق وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا أنشد:
يتجلى في كل طرفة عين ... بلباس من الجمال جديد
وينشد الآخر:
هيهات يشهد ناظري معكم سوى ... إذا أنتم عين الجوارح والقوى
وينشد الثالث:
أعاين في كل الوجود جمالكم ... وأسمع من كل الجهات نداكم
وتلتذ إن مرت على جسدي يدى ... لأني في التحقيق لست سواكم
ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل لم يمكن أصحاب هذا الإتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها، ومن باح بالسر قتل.
وقد يقول بعضهم: إن الحلاج لما باح بهذا السر وجب قتله.
ولهذا قال الهروي في «منازله»: هو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه.
فيقال: أما توحيد الحق نفسه بنفسه وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران 18.
وقوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني سورة طه 14.
فذاك صفته القائمة به كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته وغير ذلك.
وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا كسائر صفاته. بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره، فكيف بصفات الخالق؟. (...).
وقول القائل الهروي في «منازله»: وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه.
فيقال: أفضل صفوته هم الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه و سلم وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد. وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا وارث نبي، أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه، لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس.
فأما أن يقال: إن محمدا صلى الله عليه و سلم عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده. فهذا ليس كذلك.
ثم يقال: إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم. فهذا قول النصارى، وهو باطل شرعا وعقلا.
وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم. فهذا حق لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده.
وقد يسمى المثل الأعلى ويفسر به قوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض [سورة الروم 27] أي في قلوب أهل السموات والأرض.
ويقال له المثال الحبي والمثال العلمي وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة بحيث فني في حبه حتى لا يشهد في قلبه غيره، أن نفس المحبوب صار في قلبه وهو غالط في ذلك بل المحبوب في موضع آخر: إما في بيته وإما في المسجد وإما في موضع آخر . (...)
قال ابن تيمية رحمه الله: وأما أهل الاتحاد العام فيقولون: ما في الوجود إلا الوجود القديم وهذا قول الجهمية، وأبو إسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس، ولهذا قال الهروي في «منازله»: ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته.
والاتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته.
وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه أو أن الحق يتكلم على لسانه أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكة حول العرش ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد[SUP]([SUP][30][/SUP][/SUP]).
قال ابن تيمية: وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في اعتقاد أهل السنة ؛ وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة.
باب القول في القرآن
اعلم أن الله متكلم قائل مادح نفسه بالتكلم ؛ إذ عاب الأصنام والعجل أنها لا تتكلم وهو متكلم كلما شاء تكلم بكلام لا مانع له ولا مكره والقرآن كلامه هو تكلم به ؛ وقد تأول ابن عقيل كلام شيخ الإسلام بنحو ما تأول به القاضي كلام أحمد . وقال شيخ الإسلام أيضا في كتاب " مناقب الإمام أحمد بن حنبل " في باب الإشارة عن طريقته في الأصول ؛ لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا هو مخلوق وجرت المحنة العظيمة ثم ظهرت مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي وغيره . إلى أن قال : ثم جاءت طائفة فقالت : لا يتكلم بعد ما تكلم ؛ فيكون كلامه حادثا . قال : وهذه سخارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة . فانتبه لها أبو بكر بن إسحاق اللنجرودي ابن خزيمة وكانت حينئذ نيسابور دار الآثار تمد إليها الرقاب وتشد إليها الركاب ويجلب منها العلم . وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي والضبعي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان والتثبت والقدر ؛ والمحفل لا يسرون بالكلام واشتمام لأهله ؛ فابن خزيمة في بيت ومحمد بن إسحاق السراج في بيت وأبو حامد بن الشرقي في بيت . قال شيخ الإسلام : فطار لتلك الفتنة ذاك الإمام أبو بكر ؛ فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في ردها ؛ كأنه منذر جيش حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر ؛ ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب : أن الله متكلم إن شاء تكلم وإن شاء سكت ؛ فجزى الله ذاك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيرا[SUP]([SUP][31][/SUP][/SUP]).
قال ابن تيمية: أثبت أئمة من أهل السنة «الحد» كما قيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه. قيل له: بحد؟ قال: بحد. وكذلك أحمد في أشهر الروايتين عنه، وكثير من أصحابه كالقاضي وابن الزاغوني وغيرهما، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وحكاه عن أهل السنة وشيخ الإسلام الهروي، وخلق كثير[SUP]([SUP][32][/SUP][/SUP]).
قال ابن تيمية: فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق فقد غلط غلطا شديدا وإن كان من أعيان المشايخ - كصاحب " علل المقامات " وهو من أجل المشايخ وأخذ ذلك عنه صاحب " محاسن المجالس " - وظهر ضعف حجة من قال ذلك[SUP]([SUP][33][/SUP][/SUP]).
كلام الذهبي:
قال الذهبي: ولقد بالغ أبو إسماعيل في (ذم الكلام) على الإتباع فأجاد، ولكنه له نفس عجيب لا يشبه نفس أئمة السلف في كتابه (منازل السائرين)، ففيه أشياء مطربة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح له ما أشرت إليه، والسنة المحمدية صلفة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة[SUP]([SUP][34][/SUP][/SUP]).
وقال الذهبي: قد انتفع به خلق، وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في «منازل السائرين»، وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم. كلا، بل هو رجل أثري، لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا.
وفي «منازله» إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء هو الغيبة عن شهود السوى، ولم يرد محو السوى في الخارج، ويا ليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين! ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله، وذلوا له وتوكلوا عليه، وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم[SUP]([SUP][35][/SUP][/SUP]).
وقال الذهبي: كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طودا راسيا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر كتابه (الفاروق في الصفات) بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده، وصنف(الأربعين)في التوحيد، و(أربعين)في السنة، وقد امتحن مرات، وأوذي، ونفي من بلده[SUP]([SUP][36][/SUP][/SUP]).
وقال الذهبي: غالب ما رواه في كتاب (الفاروق) صحاح وحسان، وفيه باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنا من خلقه من الكتاب والسنة، فساق دلائل ذلك من الآيات والأحاديث...، إلى أن قال: وفي أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش، وعلمه وقدرته واستماعه ونظره ورحمته في كل مكان[SUP]([SUP][37][/SUP][/SUP]).
وقال الذهبي: تخرج به خلق كثير وفسر القرآن مدة وفضائله كثيرة؛ ورأيت أهل الاتحاد يعظمون كلامه في منازل السائرين، ويدعون أنه موافقهم ذائق لوجدهم ورامز لتصوفهم الفلسفي, وأنى يكون ذلك وهو من دعاة السنة وعصبة آثار السلف؟! ولا ريب أن في منازل السائرين أشياء من محط المحو والفناء وإنما مراده بذلك الفناء الغيبة عن شهود السوي ولم يرد عدم السوي في الخارج. وفي الجملة هذا الكتاب لون آخر غير الأنموذج الذي أصفق عليه صوفية التابعين ودرج عليه نساك المحدثين, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وله قصيدة في السنة[SUP]([SUP][38][/SUP][/SUP]).
وقال الذهبي:
قلت: خرج أبو إسماعيل خلقا كثيرا بهراة، وفسر القرآن زمانا، وفضائله كثيرة. وله في السوق كتاب منازل السائرين وهو كتاب نفيس في التصويف، ورأيت الاتحادية تعظم هذا الكتاب وتنتحله، وتزعم أنه على تصوفهم الفلسفي. وقد كان شيخنا ابن تيمية بعد تعظيمه لشيخ الإسلام يحط عليه ويرميه بالعظائم بسبب ما في هذا الكتاب. نسأل الله العفو.) وله قصيدة في السنة، وله كتاب في مناقب أحمد بن حنبل، وتصانيف أخر لا تحضرني[SUP]([SUP][39][/SUP][/SUP]).

كلام ابن رجب الحنبلي:
قال ابن رجب الحنبلي: وقد اعتنى بشرح كتابه «منازل السائرين» جماعة، وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود. فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمه قوم من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه الله من الاتحاد. وقد انتصر له شيخنا أبو عبد الله بن القيم في كتابه الذي شرح فيه (المنازل) وبين أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زور وباطل[SUP]([SUP][40][/SUP][/SUP]).
كلام ابن خلدون:
قال ابن خلدون في المقدمة: ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي، في كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة، مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة، حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان[SUP]([SUP][41][/SUP][/SUP]).
كلام ابن أبي العز الحنفي:
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية:
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول :
( ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد )
( توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد )
( توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد )
وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الإتحاد لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبينه فإن على الرسول البلاغ المبين فأين قال الرسول : هذا توحيد العامة وهذا توحيد الخاصة وهذا توحيد خاصة الخاصة ؟ أو ما يقرب من هذا المعنى ؟ أو أشار إلى هذه النقول والعقول حاضرة فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه و سلم وهذه سنة الرسول وهذا كلام خير القرون بعد الرسول وسادات العارفين من الأئمة هل جاء ذكر الفناء فيها وهذا التقسيم عن أحد منهم ؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو [ الخوارج بل] لغلو النصارى في دينهم وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه[SUP]([SUP][42][/SUP][/SUP]).
وقال أيضا: وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد، وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد[SUP]([SUP][43][/SUP][/SUP]).
كلام الملا علي القاري:
قال الملا علي القاري في كتابه «الرد على القائلين بوحدة الوجود»: ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري في محض التوحيد وصرف التفريد في كتابه منازل السائرين حيث قال
(ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد)
(توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد)
(توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد)
فليس فيه إلا أنه لا يعرف الله ما سواه وحاشاه أن يريد به الاتحاد ليتشبت به الاتحادي ويقسم بالله جهد أيمانه أنه معه وهذا دأب أهل الباطن أنهم يروجون مذهبهم بانتسابه إلى بعض أهل الحق عند الجهال ممن لا تمييز له بين الأقوال كالشيعة ينتسبون إلى الإمام جعفر الصادق وهو بريء منهم ومتنزه عنهم عند من يعرف مقامه ويتبين له مرامه حين يسمع كلامه وكالملحدين يتعلقون بأشعار العطار والحافظ ومير قاسم الأنوار وأمثالهم من أرباب الأسرار وكما أنا المبتدعة كلهم يستدلون على مدعائهم بالآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية[SUP]([SUP][44][/SUP][/SUP]).
قال صديق حسن خان: ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب : ( المقامات ) له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم[SUP]([SUP][45][/SUP][/SUP]).


([1])ينظر: (المستدرك على مجموع الفتاوى، جمعه محمد بن عبد الرحمن بن القاسم،1/229).

([2])ينظر: (الاستقامة لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم،1/104).

([3])ينظر: (مجموع الفتاوى الكبرى5/16).

([4])قال في كتابه ذم الكلام وأهله: وقد خرجت طرق هذا الحديث مستقصاة عنهم (يعني حديث الخوارج) في باب قتال الخوارج من كتاب (تكفير الجهمية) فاقتصرت على هذا المقدار منها في كتابي هذا.
ينظر: (ذم الكلام وأهله، للهروي، 3/264، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، تحقيق: عبد الله الأنصاري).

([5])ينظر: (مجموع الفتاوى14/354).

([6])ينظر: (درء تعارض العقل والنقل1/269).

([7])ينظر: (جامع الرسائل، لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، 2/110-111).

([8])ينظر: (جامع الرسائل،لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، 2/125)، (مجموع الفتاوى10/498).

([9])ينظر: (مجموع الفتاوى10/35).

([10])ينظر: (منهاج السنة النبوية في نقض الشيعة القدرية،5/341-342).

([11])ينظر: (مجموع الفتاوى5/125)، (5/230).

([12])ينظر: (مجموع الفتاوى5/485).

([13])ينظر: (مجموع الفتاوى8/313).

([14])ينظر: (مجموع الفتاوى8/318).

([15])ينظر: (مجموع الفتاوى8/339).

([16])ينظر: (مجموع الفتاوى8/346).

([17])ينظر: (مجموع الفتاوى8/346).

([18])ينظر: (مجموع الفتاوى10/487).

([19])ينظر: (مجموع الفتاوى13/213).

([20])ينظر: (مجموع الفتاوى13/228).

([21])ينظر: (مجموع الفتاوى14/12).

([22])ينظر: (مجموع الفتاوى14/358).

([23])ينظر: منهاج السنة النبوية، (5/342-346)

([24])ينظر: منهاج السنة النبوية، (5/342-343).

([25])ينظر: منهاج السنة النبوية، (5/344).

([26])ينظر: منهاج السنة النبوية، (5/344-345).

([27]) قال اللخمي في شرح منازل السائرين: ولقد خطر لي قوافي في المعنى إلا أنها في مقصودي أجلى وأولى وهي هذه:
ما وحد الواحد من واحد حقا فغاب الخلق عن ذكره
إلا بفضل من لدن واهب يعجز كل الخلق عن شكره
فكن فقيرا وقت إفضاله تنل جميل الخير من بره
ولا ترى نفسك فيما ترى يحجبك المنعم عن سره
ينظر: (شرح منازل السائرين لسديد الدين عبد المعطي اللخمي، ألف في أول القرن السابع الهجري، حققه وقدم له الأب س: دي لوجيبه دي بوركي الدومنكي. ، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، 1954، وهي ضمن مجموعة من شروح منازل السائرين سماه المحقق (أنصاريات)، السلسلة الأولى- الكتاب الثاني، ص:230). وهي جماعة من المستشرقين الفرنسيين تخصصوا في التراث الإسلامي وهم الآن في القاهرة في دير الآباء الدمنكان في العباسية أمام الجامعة العمالية، مدينة البعوث، بجوار مطبعة عيسى حلبي).

([28]) ينظر: (منهاج السنة5/342-346).

([29])ينظر: (منهاج السنة5/346-347).

([30])ينظر: (منهاج السنة النبوية342-388 مهم جدا).

([31])ينظر: (مجموع الفتاوى6/177-178).

([32])ينظر: (المستدرك على مجموع الفتاوى، جمعه محمد بن عبد الرحمن بن القاسم،1/65).

([33])ينظر: (مجموع الفتاوى10/35).

([34])ينظر: (سير أعلام النبلاء، 18/509).

([35])ينظر: (سير أعلام النبلاء، 18/510).

([36])ينظر: (سير أعلام النبلاء، 18/509).

([37])ينظر: (سير أعلام النبلاء، 18/514).

([38])ينظر: (سير أعلام النبلاء، 18/510).

([39])ينظر: (تاريخ الإسلام للذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري ط. دار الكتاب العربي،33/55-56).

([40])ينظر: (ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب،3/67).

([41])ينظر: (المقدمة لابن خلدون،3/1073-1074 تحقيق: على عبد الواحد موافي).

([42])ينظر: (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، تحقيق: الشيخ الألباني، ص:38).

([43])ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز، تحقيق: أحمد شاكر، ط.وزارة الشؤون الإسلامية،1418هـ. ص (313).

([44])ينظر: الرد على القائلين بوحدة الوجود، المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (ت 1014هـ)، المحقق: علي رضا بن عبد الله بن علي رضا، الناشر: دار المأمون للتراث – دمشق، الطبعة: الأولى، 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 1. ص (39).

([45])ينظر: (أبجد العلوم،2/160).
 
كلام المعاصرين في الكتاب
كلام الشيخ ابن جبرين:

قال الشيخ ابن جبرين في شرح العقيدة الطحاوية:
ذكر المؤلف تلك الأبيات التي أنشدها أبو إسماعيل الهروي في آخر كتابه الذي سماه منازل السائلين، والذي شرحه ابن القيم في كتابه الذي سماه: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وذكر هذه الأبيات في أول مدارج السالكين، وحرص على أن يحملها محملاً حسنا، ولكن فيها شيء من الإجمال، وفيها شيء من الإيهام؛ لأن ظاهرها أن الناس كلهم لم يوحدوا الله، ولا يقدر على توحيد الله إلا الله، فقوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد ظاهره أن كل الناس حتى الأنبياء لم يكونوا موحدين وإنما الله الذي وحد نفسه، ولكن حملوه على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف ذلك إلا بمعرفة من الله وتعريف منه، وحمله الاتحاديون على مذهبهم، واجتذبوا أبا إسماعيل رحمه الله إليهم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم، وكلامه في الحقيقة موهم ولكن عقيدته سليمة وله مؤلفات تدل على أنه من أهل السنة، بينها العلماء في ترجمته. وعلى كل حال فطريقة الرسل وأتباعهم والأئمة والعلماء هي معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، وذكره بما ورد وبما أمر به وبما بلغته رسله، وبذلك يكون الإنسان من العارفين ومن الموحدين، دون أن يحتاج إلى معرفة الاصطلاحات الصوفية والشطحات، وتلك الكلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان[SUP]([SUP][1][/SUP][/SUP]).
كلام الشيخ الراجحي:
قال الشيخ الراجحي في دروس في العقيدة: الفناء عن شهود السوى، والفناء الثاني: هو فناء عن شهود السوى، وهذه هي الدرجة المتوسطة بين ملاحدة وحدة الوجود وبين أهل الشريعة، وهي التي بنى عليها أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الصوفي الحنبلي كتابه (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، الذي شرحه العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فحقيقة هذا الفناء غيبة أحدهم عن سوى مشهوده. فمشهوده هو الله، فلا يشاهد إلا الله، ويغيب عما سواه، بل غيبته أيضاً عن شهوده نفسه، فيقول: أنا لا أشاهد إلا الله، ولا أنكر وجود المخلوقات، لكن أغيب عنها وأتناساها حتى لا تشوش علي، فأنا أوجه شهودي لله فقط، أما كوني أنظر إلى سماوات وأرضين وآدميين وحيوان ونبات فإنه يشوش علي، وأنا أريد أجمع همتي على الله، فلا أشهد إلا الله، وأغيب عما سواه، فيغيب بموجوده عن وجوده، ويغيب بمعبوده عن عبادته، ويغيب بمذكوره عن ذكره، فهو يغيب بالله عن المخلوقات فلا يراها، ويتناسى العبادة من أجل أنه لا يرى إلا المعبود فقط[SUP]([SUP][2][/SUP][/SUP]).
وقال الشيخ الراجحي في شرح الحموية: كتاب الفاروق هو كتاب في إثبات الصفات، وهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الصوفي الحنبلي وهو الذي صنف كتاب (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، وشرحه ابن القيم في كتاب مدارج السالكين وكتاب شيخ الإسلام الفاروق كتاب جيد في إثبات الأسماء والصفات، وفيه رد على المعطلة وأهل البدع ونفاة الصفات، حتى حصل بينهم مشادة، حتى أنهم أرادوا قتله، وسعوا به إلى السلطان. لكن لما جاء في باب السلوك عطل العبادة، وصار يتعلق بالفناء ويشير إليه، فكما أن أولئك عطلوا الخالق من الصفات، فهذا عطل الخالق من العبادة، فوافقهم من حيث لا يشعر، وافقهم في التعطيل، فالذين أنكروا الأسماء والصفات عطلوا الخالق من صفاته وهو لما جاء في باب السلوك عطل الخالق من العبادة واكتفى بالشهود والنظر إلى الله، وابن القيم يعتذر عنه كثيراً في مدارج السالكين، ويقول شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه[SUP]([SUP][3][/SUP][/SUP]).
كلام الشيخ يوسف الغفيص:
قال الشيخ يوسف الغفيص: أبو إسماعيل الأنصاري الهروي المعروف بشيخ الإسلام حنبلي متصوف، من أشد المائلين عن علم الكلام الذامين له، والمكفرين للجهمية، وله تصنيف في هذا مشهور، من كتبه الفاروق كما يشير المصنف هنا، كذلك كتاب ذم الكلام وهو كتاب فاضل، فيه آثار متواترة عن كبار أعيان الأئمة سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم في ذم العلم الكلامي. ولكنه -أعني: أبا إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله - ممن يزيدون في إثبات بعض الصفات تارة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع من منهاج السنة وغيره: وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم. ولهذا لما ذكر الهروي الأشعري في كتابه ذم الكلام قال: وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ. وهذه زيادة، وإنما أذكرها حتى ينتبه إليها طالب العلم، فإن أبا الحسن الأشعري قد أثني عليه فيما وافق فيه الحق كثير، حتى من علماء الحنابلة، ولم ينضبط عن أحد من أهل العلم، بل ولا حتى من أهل التاريخ والأخبار أن الأشعري لم يكن يصلي ولا يتوضأ. فينبغي لطالب العلم دائماً ألا يجعل من الحق طريقاً للاستطالة على الخلق -وهذا ليس من باب الوقوف على أخطاء الهروي فالرجل اجتهد، وربما بلغه هذا بإسناد ظنه صحيحاً فقاله، أو بلغه عن بعض من أهل العلم أو شيء من ذلك-.
ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع أنه حنبلي، وممن يثنون على أبي إسماعيل الأنصاري كثيراً، حتى إنه يصفه بشيخ الإسلام -وهو وصف مشهور له عند الحنابلة قبل شيخ الإسلام - إلا أنه تعقب الهروي كثيراً، ووهمه في قوله في الأشعري، بل قال: إن أبا الحسن الأشعري في بعض المسائل أقرب إلى السلف والأئمة من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي ولا سيما في مسألة تعليل الأفعال، فإن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي يميل إلى الجبر ولا يميل إلى تعليل الأفعال، على طريقة بعض المتصوفة، والأشعري يقرر قريباً من هذا المذهب بالطريقة الكلامية، فهذا الأشعري يقررها تقريراً كلامياً، والهروي يقررها تقريراً صوفياً، والنتيجة في الجملة واحدة، لكن شيخ الإسلام يقول: وأبو الحسن الأشعري في هذا المقام أقرب إلى قول السلف من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي.
فالمقصود: أن الهروي نفسه له بعض المسائل التي غلط فيها، بل غلطه فيها أشد من غلط أبي الحسن الأشعري، وإن كان قول الأشعري في الصفات لا شك أنه دون قول أبي إسماعيل الأنصاري، فإن قول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي فاضل في الجملة، وإن كان أحياناً قد يزيد، لكنه على كل حال أفضل من قول أبي الحسن الذي عرف عنه عدم إثبات الصفات الفعلية بطريقة محققة. كذلك عنده تصوف، وقد غلط في بعض المسائل غلطاً شديداً، وقد وقع هذا في كتابه منازل السائرين، وإن كان ابن القيم رحمه الله يعتذر له كثيراً، لكن عند أغلاط محققة، حتى إن ابن القيم قد صرح بأن في الكتاب بعض الأغلاط المتحققة.
فالقصد: أن له بعض الغلط وبعض الصواب، فما كان من صوابه فإنه يقبل، وما كان من خطأه فهو اجتهاد، والله يغفر له[SUP]([SUP][4][/SUP][/SUP]).
وقال الشيخ يوسف الغفيص: ولهذا فإن الطريقة التي اعتمد عليها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي ومن يدور في فلكه من المتأخرين في تكفير الأشعرية هي طريقة مبالغ فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي مبالغ في ذم الجهمية وتكفيرهم) فإذا كان هذا الحكم في قوله عن الجهمية فمن باب أولى قوله في الأشعرية، مع أن الهروي نفسه -مع أن له كثيراً الفضائل- عنده بدع لو أخذ بها على منهجه لربما لزمه حكم يقارب الحكم الذي ألزم به الأشعرية[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP]).
وقال أيضا: فباب الاستطالة هو باب من أحوال النفس والإرادات، وليس معتبراً بالعقائد، فحينما يكون الرجل سنياً أو سلفياً فليس بالضرورة أن كلامه عن الآخرين يكون على طريقة الصواب والجزم، بل قد يقع منه غلط في النقل، ومن ذلك -كما أسلفت- ما وقع من بعض الحنابلة أو غيرهم، ومن ذلك أيضاً ما يذكره كثيراً أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فإنه سني في الجملة ولا سيما في باب الأسماء والصفات، ولكنه إذا ذكر أقوال المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات زاد عليها زيادة كثيرة، ورماهم بكثير من اللوازم إلى حد الزندقة، كما صنع مع مخالفيه من الأشعرية، وإن كانت الاستطالة عند مخالفي أهل السنة أكثر منها فيهم، وهذا -كما أسلفت- في متأخري المنتسبين إلى السنة والحديث، وليس في أئمة السلف[SUP]([SUP][6][/SUP][/SUP]).
قال الشيخ يوسف الغفيص في شرح الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام:
ومنهم المبالغ في تقرير السنة الزائد على كلام السلف إلى قدر من الغلو، كما هي طريقة أبي إسماعيل الأنصاري الهروي في مسائل التكفير؛ فإنه يبالغ في مسائل التكفير ويزيد فيها بما لم يعرف عن السلف والأئمة كأحمد وغيره.
قال الشيخ يوسف الغفيص:
المسألة الأولى: أن بعض الناقلين لأقوال السلف زادوا عليها في الذم، كنقل أبي إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله في كتابه: ذم الكلام، فإنه زاد في بعض كلام السلف، أو في النقل عنهم، وهو لم يزد عليهم كذبا ولكنه زاد عليهم تفسيرا. وهذا يبين أن بعض المتأخرين المنتصرين لمذهب أهل السنة، ممن لم يحقق طريقة الأئمة في هذا الباب، يزيدون بفهمهم لمذهب السلف في ذم المخالفين، وقد نص ابن تيمية رحمه الله على أن أبا إسماعيل قد زاد في ذم المخالفين من الجهمية وغيرهم وتكفيرهم.
ينظر: شرح الإيمان لأبي عبيد، للشيخ يوسف الغفيص.
وقال الشيخ يوسف الغفيص: الثالث: فناء عن إرادة السوى، وهذا مقام توجد فيه مخالفة.
ويستعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتابه (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) شيئاً من الغناء عن شهود السوى؛ فـ أبو إسماعيل المعروف بشيخ الإسلام الهروي الحنبلي صاحب المنازل، وهو ذو مقام فاضل في الصفات، لكنه صوفي مغرق في التصوف، وعنده أصول أخرى من الأخطاء.
والإمام ابن القيم رحمه الله لمَّا شرح المنازل اعتذر كثيراً لـ أبي إسماعيل، وهذا الاعتذار الذي سلكه ابن القيم في مدارج السالكين كأنَّ بعضه ليس مناسباً، وينبغي أن يكون الحق أغلى وأعلى من قدر أبي إسماعيل الأنصاري أو غيره. ولا شك أن الهروي رحمه الله كان من المجاهدين الصادقين في علمهم وفي ديانتهم، هذا فيما يتعلق بحكمه العام، وأما مآله فهو إلى الله، ولكنه ممن يُرجى له الخير الكثير، فإنه إمام وعالم وناصر للسنة في مقامات وصاحب ديانة.
ومقام التقريرات التي غلط فيها في كتابه صرفها ابن القيم رحمه الله -أو صرف كثيراً منها- إلى معاني تُناسب أهل السنة. وهذا ليس من المناسب، بل كان الأنسب أن يُقال: إن الهروي أخطأ في هذا الكلام، فإنَّ المتكلم إذا تكلم بكلام على مرادٍ ما، وهذا الكلام من جهة حروف اللغة يمكن أن يحمل على مرادٍ آخر، فلا يحقُّ لمن نظر هذا الكلام أن يحمله على معنىً ممكن ومؤلِّفه وصانعه والمتكلِّم به قد أراد به مراداً آخر، بل يجب أن يقال: إنه غلط. كما أن التلمساني -وهو المسمى بـ العفيف - قد تكلَّف في حمل كلام أبي إسماعيل على مراد غلاة الصوفية، فـ ابن القيم أبعده عن مرادات ضلاَّل الصوفية، والتلمساني أرجع كلام الهروي إلى مرادات الغلاة من الصوفية، وكان ينبغي أن يُوقف عند كلام الهروي على مراده، ويبيَّن أن مراده غلط، ولا سيما أنه استخدم ألفاظ الصوفية التي لا تحتمل التأويل ولا الاعتذار، خاصة أنه استخدم فصيح اللغة الذي فيه قدر من السعة في التعبير. فما حصل في كتاب المدارج ينبغي أن يُتفطَّن له، ومن أخطاء الهروي كذلك أنه بالغ في تقرير بعض مقامات العبودية، وفي قصر النفس عليها.
وهذا التنبيه لا يُقصد منه التعليق على حال الإمام ابن القيم رحمه الله، لكن يُقصد منه أن كتاب المدارج -وهو كتاب في السلوك والتربية- كتاب شديد، أي: أنه لا يستطيع أن يقيم عليه حالاً شخص عنده تفرُّد أو عنده مقاربة لأحوال الصوفية وتفرُّداتهم.
بمعنى: أن من أراد أن يُطبِّق كتاب المدارج كتربية عامة للمسلمين، فإنه يجد أن تطبيقه عزيز جداً؛ لأن فيه تعلقاً بأحوال لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يذكرها للأمة، لأنها نوع من الإهلاك للنفس، فإن النفس كما ذكر الله شأنها في القرآن خُلقت على حالين: الخير والشر، والله سبحانه وتعالى ألهم هذه النفس فجورها وتقواها، ففيها قدر واسعٌ من الشر والقبول له، وفيها قدر واسعٌ من الخير والقبول له.
فالتدقيق في أحوال النفس من جنس التدقيق الذي كان عليه الحارث بن أسد المحاسبي قد يؤتي نتيجة فاضلة لبعض الخاصة، لكن العامة لا يستطيعونه، ولا سيما أن أهل السنة ليس عندهم طريقة للخاصة وطريقة للعامة، والهروي وجّه رسالته هذه للخاصة، فهو لم يوجهها لخاصة الخاصة، ولم يوجهها للعامة، لكن قصد بها الخاصة، وهم أصحابه من الصوفية، من ذوي الصُحبة العامة[SUP]([SUP][7][/SUP][/SUP]).
وقال أيضا: وسبق أن ذكرت لذلك مثلاً وهو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فهو إمام فاضل من العباد النساك الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، وهو من المنتصرين للسنة والجماعة، وقوله في الصفات محقق، وهو من أظهر من رد على الجهمية وحقق إثبات الأسماء والصفات، لكنه متصوف، بل شديد الغلط في التصوف، كذلك عنده بدع في مسألة القدر وغيرها، وعنده فيما يختص بمقامنا هذا: أنه يبالغ في التعنيف على المخالف، ويكفر الأعيان، ويكفر الأشاعرة بالجملة، والشيعة أحياناً بالجملة
إلخ. وهذه الطرق لم تكن مطردة عند السلف[SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP]).
وقال الشيخ يوسف الغفيص في كلامه على صوفية الحقائق: فمثلاً: إذا استعمل أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي كلمة (الجمع) فإنه لا يصلح أن تفسر بالتفسير الذي يفسره التلمساني؛ فإنه لما صنف منازل السائرين -وهي رسالة له في التصوف- وذكر فيها الأحوال وما إلى ذلك، شرح هذه الرسالة العفيف التلمساني، والعفيف التلمساني هو من متفلسفة الصوفية، بل يقول ابن تيمية: "ليس فيهم من هو أجلد منه في هذا الباب"، بل يجعل تمسكه بفلسفة الصوفية أكثر من تمسك ابن عربي بها، لكن ابن عربي كان أشهر عند العامة.
فالمقصود: أن التلمساني لما فسر كلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، فسره تفسيراً غالياً مقارباً لطريقة متفلسفة الصوفية، لكن لما جاء من ليس صوفياً في المفهوم بالكلمة وهو ابن القيم رحمه الله، فشرح رسالة الهروي في كتابه مدارج السالكين، تباعد عن كثير من مقاصد الصوفية، ليس المتفلسفة بل حتى من دون المتفلسفة، بل حاول أن يقرب مقاصد الهروي بمراميزه وجمله وحروفه إلى المعنى المعروف عند أئمة السنة والجماعة المتقدمين.
وهذا يدلك على أن تفسير كلام الصوفية ينبغي أن يكون بعلم وعدل، فلا ينقص عن قدره الذي كتبوا عليه حتى لا يخدع العامة بإنقاص، ولا يزاد في العدوان فيفسر الكلام تفسيراً غالياً من قائل لم يكن على هذه الدرجة.
إذاً: هذه صوفية الحقائق، وهم المشتغلون بنظم التصوف وتفسيره، ثم هم درجات شتى[SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP]).
قال الشيخ يوسف الغفيص في شرح العقيدة الطحاوية:
ويقع نوع من ذلك في كلام من دونهم من الصوفية الذين عندهم قدر من الانحراف عن جادة السلف في باب السلوك والأحوال، كحال أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي ، صاحب كتاب (ذم الكلام) وكتاب (منازل السائرين)، فهو في منازله يسقط بعض مقامات الشرع بمقام القدر، فلم يحقق هذا الأصل، بل غلط فيه غلطا شديدا. بل إنه قال كلاما ظاهره الموافقة لمذهب وحدة الوجود حيث قال:
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
لكن الهروي رحمه الله لا شك أنه بريء من مذهب ابن عربي و التلمساني وأمثالهم من الصوفية المتفلسفة القائلين بوحدة الوجود، وإن كان قد يستعمل بعض حروفهم، بل هو فاضل في إثبات صفات الله سبحانه، وله رد على الجهمية، وتقرير حسن للصفات، وإن كان يزيد ويبالغ في إثبات الصفات. كما أن منهجه في التكفير ليس معتبرا على جادة السلف، ولما تكلم عن الأشاعرة قال عن أبي الحسن الأشعري في كتابه (ذم الكلام):
(وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري ، لا يصلي ولا يتوضأ، وأخبرني فلان -ثم ساق سندا عنده- أنه مات متحيرا).
وهذا ليس كذلك، بل الأشعري يعرف بكثير من الخير والإيمان، كما قال شيخ الإسلام عنه: (وقد استفاض في المسلمين ما له من الديانة والقصد إلى السنة).
وقال عن عبد الله بن سعيد بن كلاب : (وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه).
والقصد أن الهروي شديد في هذا الباب، حتى قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): (إن أبا إسماعيل الأنصاري من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم). كما أن للهروي أغلاطا شديدة في القدر، بل قال شيخ الإسلام : (إن قول أبي الحسن الأشعري في القدر خير من قول أبي إسماعيل الأنصاري ). وعليه فإن أخص من نازع في مقام الجمع بين الشرع والقدر هم: الصوفية الذين أسقطوا بعض مقامات الشرع، بما هو من القدر، وأصل إسقاط مقام الشرع بالقدر هو مذهب المشركين.
كلام الشيخ سفر الحوالي:
قال الشيخ سفر الحوالي: والذين يسمونهم الخاصة هم الذين يوحدون الله بتوحيد الحقيقة. كما سبق. حيث يقولون: إن غاية التوحيد هو إثبات الربوبية، ثم أن يترقى الواحد منهم في التوحيد حتى يرى من قوة توحيده أن الله تعالى هو الفاعل لكل شيء، وأنه لا فعل لأحد معه على الإطلاق في هذا الكون، هذا هو غاية التوحيد عندهم.
وتوحيد خاصة الخاصة: هو الحلول والاتحاد وهو أن لا يبقى ذات معبودة وذات عابدة، وإنما تصبح الذاتان ذاتا واحدة -والعياذ بالله- وهذا هو الفناء وهو غاية السالكين كما يسمونه؛ لأن الطريق عندهم كالتالي: يبدء المرء مريدا، وهذا المريد يتعلم، ثم السالك يمشي في المقامات، ثم الواصل وهو الذي قد وصل وانتهى وفني وسقطت عنه التكاليف، فهذا يسمى الواصل.
وعندما يبتدئ الإنسان عندهم يقولون له: على المريد أولا: أن يلتزم بأحكام الشريعة، ويجب عليه أن يصلي وأن يصوم لأنه أولا: لن يألف توحيد خاصة الخاصة لأن قلبه لم يتعود بعد عليه.
ثانيا: حتى لا ينكر عليه العامة، إذ لو أنكروا عليه العامة في أول الطريق لهرب منهم، ولم يمش في الطريق، ففي أول الطريق يعمل بالأحكام الظاهرة، التي هي الشريعة الظاهرة من إقامة الصلاة ونحو ذلك كما يعمل الناس وهذا هو توحيد العامة عندهم، ولكنه يترقى بالأفكار التي يعطونه وكل طريقة تعطيه كما تشاء، حتى يصبح من أهل الحقيقة فإذا أصبح من أهل الحقيقة فإن التكاليف تتحول عنده من تكاليف صلاة وصيام ونحو ذلك، إلى أذكار وأوراد وعبادات يملونها هم عليه، ثم يترقى حتى يصبح من أهل الفناء ومن أهل الشهود، وهؤلاء هم أهل وحدة الوجود -والعياذ بالله- فيرى نفسه أنه هو الخالق والمخلوق عياذا بالله فلا يبقى هناك ذاتان منفصلتان، وإنما ذات واحدة، وهذا من أعظم أنواع الكفر، وأبو حامد الغزالي -غفر الله له- قد رجع عن هذا في آخر حياته، وندم على ما فرط منه، لكن نقول: إن أبا حامد عندما ذكر هذه الأشياء ذكرها كمصدر من مصادر الحقيقة ومصادر المعرفة، ولم يكن مستيقنا من لوازم هذا القول وما ينبني عليه، لأنه يقول كما ذكر في الإحياء : كيف يترقى الإنسان لينتقل من كونه من أصحاب توحيد العامة [من أصحاب الشريعة] إلى أن يكون من أصحاب الحقيقة، يقول: إما أن يذهب إلى جبل أو إلى مغارة يختبئ فيها ويذكر الله حتى يأتيه الكشف، فإن لم يستطع فليأخذ كساء أسودا غليظا ويلفه على رأسه، وبهذا يكون قد اختلى ويظل يردد ويقول: الله الله الله وغيرها من الأذكار حتى يأتي الكشف، فمثل هذا الكلام من الإمام أبي حامد الغزالي والهروي شيء غريب جدا لكن نحسن الظن بهم لأنهم لم يكونوا يدركون ماذا سيترتب على هذا الكلام، فإنه كان سببا لأن يأتي بعدهم الملاحدة الذين كشفوا القناع وصرحوا بذلك، وقد كان قبلهم من صرح بذلك، ولكن أكثر المتأخرين يعتمدون على كتاب الهروي منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في كتابه مدارج السالكين ، وكتاب أبي حامد الغزالي إحياء علوم الدين وكذلك المنقذ من الضلال ، وكذلك الرسائل الأخرى التي جمعت وطبعت وفيها من هذا الكلام.
الرد عليهم: ونرد على هؤلاء جميعا وهذا هو الذي يهمنا بأن أكمل الناس توحيدا هم الخليلان كما قال الإمام مالك : محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام هما أكمل الناس توحيدا، فليس هناك رقي ولا ترقي في التوحيد بحيث يكون الإنسان أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم أو إبراهيم عليه السلام، ومع ذلك: فإن دين الخليل ودين محمد صلى الله عليه وسلم هو إفراد الله بالعبادة، أي توحيد الألوهية وهو عبادته تعالى إلى أن يأتي الموت كما قال تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر:99] أي: لا تنفك عن عبادته تعالى إلى أن يدركك الموت، فما دمت عبدا حيا فوصف العبودية لا ينفك عنك مطلقا ، أما ما يقال من الحقيقة والفناء أو من الشهود، فهذه مصطلحات بدعية شركية لم يعرفها الخليلان ولم يعرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ولم يعرفها أولوا العزم من الرسل، وإنما هذه بدع وضلالات ابتدعها هؤلاء القوم وأدخلوها في دين الإسلام، فهل كان فيما حققوه أنهم جعلوا التوحيد ثلاثة أقسام، توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، ثم توحيد خاصة الخاصة؟ بل وإنما كانت الدعوة إلى عبادة الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله أمام أصحابه، وكان أصحابه يقتدون به في عبادته، وهكذا كان الأنبياء من قبل ولم يكن أحد منهم أبدا على هذا التوحيد الذي هو مجرد ذكر أو ترانيم، توصل صاحبها إلى ما يسمى بالفناء المزعوم.
قال الشيخ سفر الحوالي في شرح أبيات الإمام الهروي والرد عليها: ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية ، وهو درب خطر، يفضي إلى الاتحاد . انظر إلى ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إليه؟! هذه النقول والعقول حاضرة.
إن القول بقسمة التوحيد إلى ثلاثة أقسام يفضي إلى القول بالحلول والاتحاد وقد ذكر المصنف على ذلك مثالا: فالأبيات التي ذكرها الهروي في كتابه منازل السائرين يقول:
ما وحد الواحد من واحد
الواحد هو الله سبحانه وتعالى، أي: [لم يوحده أحد].
إذ كل من وحده جاحد
فيحكم بأن كل من وحد الله فهو جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
يقول: إن توحيد من ينطق عن نعته أي: كل من تكلم في التوحيد وفي صفات التوحيد من الناس فإن هذا التوحيد عارية أبطلها الواحد الذي هو الله سبحانه وتعالى فلا حقيقة لتوحيد هؤلاء القوم.
توحيده إياه توحيده
"توحيده" الأولى مبتدأ، و"توحيده" الثانية خبر، فتوحيد الله لنفسه هو التوحيد [توحيده إياه توحيده] حقيقة توحيده هو ما وحد به نفسه لا ما وحده غيره.
ونعت من ينعته لاحد أي أن وصف غير الله له سبحانه وتعالى إلحاد، ونستطيع أن نرد على هذه الأبيات كما رد عليها ابن القيم في المدارج وهو قول الله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو [آل عمران:18] ثم قال بعد ذلك:
والملائكة وأولو العلم فأثبت الله سبحانه وتعالى أن الملائكة وأن أولى العلم وحدوه أي شهدوا له بالوحدانية فمن يقول: إنه لم يوحد الله أحد، وأن من وحده أو نعته فإنه ملحد جاحد، فهو مكذب لهذه الآية، فإن الله سبحانه وتعالى قد بين أن عباده يوحدونه، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: "إن الأرض والسماء نفسها هذه هي التي تسبح الله وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [الإسراء:44] فهي نفسها توحد الله وتعبده فهذا نقض لهذا الكلام الذي ذكر فيه أن لا شيء يوحد الله لا الأنبياء، ولا العباد الصالحون، ولا مخلوقات الله التي تسبح الله سبحانه وتعالى وحده والآيتان دليل على بطلان هذا القول، والذي أوقع الهروي في هذا هو الغلو في فهم التوحيد، حتى ظن أن حقيقة التوحيد -الذي في ذهنه- أمر خفي عميق بعيد لا يدركه أحد، ومن هذا المنطلق -منطلق الغلو مع الابتعاد عن نصوص الكتاب والسنة- وقع فيما وقع فيه أهل الكتاب لقوله بهذا القول الذي تبطله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة.
وجاء أهل الحلول والاتحاد ، وتعلقوا بهذه الأبيات وقالوا: إن الهروي كان من أهل الحلول والاتحاد، لأنه يقول: إن الله لم يوحده أحد غيره، فهو الذي وحد نفسه إذا كل البشر لا يوحدون الله، والذي يعرف حقيقة التوحيد -كما قالوا- هو من يؤمن بوحدة الوجود، أي: من يؤمن بالحلول والاتحاد، فهذا الكلام دليل لهم.
يقول المصنف: [وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد] نعم الهروي إنما أراد الغلو في مفهوم التوحيد ولم يرد حقيقة الاتحاد؛ لكنه لما جاء بهذا الكلام الباطل الذي أبطله القرآن وأبطلته السنة جاء الاتحادي فنسبه إليه وادعاه، ولا يهمنا أن يكون الهروي أراد هذا أو لم يرده وإن كان الظاهر من سيرة الرجل أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان من المثبتين لصفات الله تعالى، وإنما المأخذ عليه هو أنه مشى على منهج الصوفية ، وأخذ اصطلاحاتهم في المقامات والأحوال والمنازل والإشارات، لكن لا يهمنا ذلك بقدر ما يهمنا أن هذه المعاني باطلة، وأن التوحيد الحقيقي الذي هو توحيد الله سبحانه وتعالى قد قام به الأنبياء أكبر قيام ومنهم الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وعلى أنبيائه أجمعين، وقام به أصحابه صلى الله عليه وسلم وأننا يجب علينا أن نبتعد عن الغلو في الدين، حتى ولو كان غلوا في التوحيد فلا نعمل ولا نقول إلا بما ثبت في القرآن أو في السنة.
أما أن نقول: إنه لم يوحده أحد، وأن كل من نعته أو وصفه فإنه ملحد، فهذا غلو فاحش باطل، وهذا هو الفرق بين اعتراف المؤمن بالتقصير، وأنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يعبده حق عبادته ولم يتقه حق تقاته، وبين من يقول: إنه لم يوحده ولن يوحده أحد مطلقا وإنما توحيده إلحاد.
وقال الشيخ سفر الحوالي: وأما هذا الهروي صاحب منازل السائرين فإنه قد وقع -عفا الله عنه- فيما وقع فيه الصوفية من الحديث عن الفناء، حيث قالوا: إن حقيقية الفناء وحقيقة التوحيد، هو توحيد الربوبية: أن تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وأنه لا فاعل إلا الله. وسيأتي تفصيل هذا قريبا، كما سيأتي ذكر الأبيات التي ذكرها المصنف رحمه الله عن الهروي نفسه، وهي أبيات مردودة في موضوع التوحيد، وهذا الكلام الذي ذكره الهروي نقله صاحب حلية الأولياء عن الجنيد ، وهو من كلام الصوفية حيث يعتقدون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد فمن وصل عندهم إلى توحيد خاصة الخاصة فهو الذي يصل إلى اعتقاد أنه لا فاعل إلا الله، وأن كل ما في الكون إنما يتحرك بإذن الله سبحانه وتعالى، وأن الله هو الذي حركه، أي: حقيقة الفعل هذه منسوبة إلى الله فلا ترى لغير الله فعلا ولا حركة ولا إرادة فهذا هو غاية التوحيد عندهم، أما ما دمت تثبت فعلين، فأنت لا تزال في توحيد أقل، أو في الشرك كما قال ذلك ابن سينا حيث قال: القرآن كله شرك، والعياذ بالله، وهذا كلام الفلاسفة ، وأخذه الصوفية في الأصل أخذوا عن الفلاسفة ، من اليونان والهنود، لكن فلسفة هؤلاء فلسفة روحانية، وأولئك فلسفة عقلانية.
والشاهد أن دعاوى المتكلمين والنظار، ودعاوى الصوفية وأمثالهم، أن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وهذا مردود عليهم؛ لأن التوحيد الحقيقي هو توحيد الألوهية، فهو الذي أمر الناس أن يتدرجوا فيه حتى يعرفوه حق معرفته، ويقوموا به حق قيامه، وكما سبق أن بينا أنه ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود، وليسوا جميعا يقولون: إن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وإنما الناس دائما درجات ومراتب في البدعة، أو في الضلالة، أو في الشرك، أو الكفر، فهم درجات ومراتب، والكلام على المنهج العام يختلف عن الكلام في الأعيان والأشخاص.
فالأشخاص فيهم من يأخذ بذلك المنهج كله، وفيهم من يأخذ منه ببعضه، وفيهم من ينتسب إليه بالاسم ويدعيه وهو لا يعرفه ولا يأخذ منه بشيء، فالشاهد هو هذا.


([1])ينظر: شرح الطحاوية لابن جبرين، شريط رقم (7).

([2])ينظر: دروس في العقيدة، للشيخ الراجحي، شريط رقم (6).

([3])ينظر: شرح الحموية للراجحي، شريط رقم (6).

([4])ينظر: شرح الحموية، دروس صوتية للشيخ يوسف الغفيص، رقم الشريط (13).

([5])ينظر: شرح الواسطية، للشيخ يوسف الغفيص، الشريط رقم (3).

([6])ينظر: شرح الواسطية، للشيخ يوسف الغفيص، الشريط رقم (4).

([7])ينظر: شرح الواسطية، للشيخ يوسف الغفيص، الشريط رقم (8).

([8])ينظر: شرح حديث الافتراق للشيخ الغفيص، الشريط رقم (9).

([9])ينظر: شرح الوصية الكبرى، للشيخ يوسف الغفيص شريط رقم (3).
 
عودة
أعلى