عصر ابن مجاهد أول من سبع السبعة وتدوين القراءات

إنضم
24 مارس 2004
المشاركات
109
مستوى التفاعل
1
النقاط
16
عصر ابن مجاهد وتدوين القراءات.


اشتهرت القراءة في الأمصار اشتهاراً عظيماً، وصار كل إمام يقرئ بما سمع، وكل يقر قراءة صاحبه، على أساس أنه مشتمل بالإذن النبوي الكريم في الإقراء بالأحرف السبعة، ولكن ذلك النهج مضى كما هو مفترض باتجاه التوسع في الإقراء حتى أصبحت مدارسه ومناهجه لا تنضبط بإطار ناظم، وأصبح تصور الخطأ واللحن والشذوذ وارداً في هذه الحالة الجماعية.
لذلك فقد بدأ الأئمة في مطلع القرن الثالث بتحديد القراءة المقبولة من القراءة المردودة، ولا تحسب أن الأمر قبل ذلك كان على عواهنه، بل كانت الأئمة تميز بسلائقها المقبول من المردود من القراءات، وتعتمد لذلك اعتبارات كثيرة، منها منزلـة الإمـام المقرئ، والتـزامه بالعـربية فيمـا يقرئ فيـه، ومـوافقتـه للـرسـم، وغـيـر ذلك.
ثم اتفقت الأمة على شروط ثلاثة، أصبحت ضابطاً دقيقاً في قبول القراءات وردها، وهذه الشروط هي:
1 - أن توافق وجهاً من وجوه النحو فلا يكون فيها شذوذ عن القواعد التي أصلها النحاة لضبط كلام العرب.
2 - أن توافق رسم المصحف العثماني على الشكل الذي كتب في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك قبل النقط والشكل.
3 - أن يتواتر سندها متصلاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرويها جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه.
وكل قراءة لم تتحقق فيها الشروط السابقة كلها أو بعضها فقد اعتبرت قراءة شاذة تحرم القراءة بها ويحرم الاعتقاد أنها من القرآن(157).
وقد نظم ابن الجزري فيما بعد منهج المتقدمين في شروط القراءة المقبولة في الأبيات الآتية:
وكل ما وافق وجه النحوِ * وكان للرسم احتمالاً يحوي
وصح إسناداً هو القرآنُ * فهذه الثلاثة الأركانُ
وحيثما يختلُّ شرطِ أثبتِ * شذوذه لو أنه في السبعةِ(158)
وعقب جهود طويلة من البحث والتحقيق، وبالاستقراء والتتبع ضبط العلمــاء مـا تواتر من أسـانيد القراء، فإذا هي قراءات سبع، وهي التي اشتهر بخدمتهـا نافع وابن كثـير وأبـو عمـرو وابـن عامر وعاصـم وحمزة والكسائي، وهي التي سميت فيمـا بعد بالقراءات السبع المتواترة، وقد أتينـا على ترجمة هؤلاء الأئمة قبل قليل.
ويرجع هذا الحصر بالسبعة المذكورين إلى الإمام المقرئ أحمد بن موسى بن مجاهد المتوفى عام 324 هـ، وذلك في كتابه المشهور "السبعة في القراءات".
وقد ولد ابن مجاهد بسوق القطن في بغداد عام 245 هـ وظهر نبوغه مبكراً حيث حفظ القرآن الكريم، وأكثر القراءة على الشيوخ حتى عدَّ له ابن الجزري نحواً من مائة شيخ قرأ عليهم ختماً كاملة للقرآن الكريم وأجازوه بإقرائها للناس، وقرأ على بعض شيوخه عشرين ختمة، واجتمع عليه الطلاب من الأقطار، وصار يقرئ بالقراءات التي يثبت له تواترها.
وكان ابن مجاهد في الحقيقة إماماً مقصوداً في القراءة، ويمكن القول إنه مؤسس أول جامعة للقرآن الكريم وقراءاته في بغداد "وقد فاق في عصره سائر نظرائه من أهل صناعته مع اتساع علمه، وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وظهور نسكه"(159).
وقد نال ابن مجاهد ثقة سائر المشتغلين بالقراءات في عصره وبعد عصره وبحسبك منهم شهادة إمام هذا الفن والمرجع فيه ابن الجزري إذ قال:
"ولا أعلم أحداً من شيوخ القراءات أكثر تلاميذاً منه، ولا بلغنا ازدحام الطلبة على أحد كازدحامهم عليه، وقد حكى ابن الأخرم عنه أنه وصل إلى بغداد فرأى في حلقة ابن مجاهد نحواً من ثلاثمائة مصدّر"(160).
وقال علي بن محمد المقري: كان لابن مجاهد في حلقته ثمانية وأربعون خليفة يأخذون على الناس.
وقد رأى ابن مجاهد أن ترك الأمر على عواهنه يؤدي إلى اختلاط المسائل، ودخول السليم في السقيم، فلا بد إذن من التمييز بين من يصلح للإمامة، ويتوافر لديه الإسناد الثبت، وبين من يتلقى القراءة من غير أهلها، فيشوبها بالخطأ واللحن.
وهكذا فإنه يبين رأيه جلياً في مقدمة كتابه الشهير السبعة بقوله:
(فمن حملة القرآن من يعرب ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، ولا يعرف الإعراب ولا غيره، فذلك الحافظ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده فيضيع الإعراب لشدة تشابهه، وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة، لأنه لا يعتمد على علم العربية، ولا به بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه وسماعه وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره، ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقاً فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه، وجسر على لزومه والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ من نسي وضيع الإعراب، ودخلته الشبهة فيتوهم، فذلك يقلد القراءة ولا يحتج بنقله، ومن حملة القرآن من هو على مستوى يؤهله إلى معرفة إعراب القراءة ويبصره بمعانيها ولكنه لا يعرف القراءات ولا تاريخها مع جهله بمصادر الرواية، وقد يحمله ذلك على أن يقرأ بحرف يجوز لغة وإعراباً مع أنه لم يقرأ به أحد من السابقين، وهذا يوصله إلى أن يبتدع قراءة جديدة، ومنهم من يعرف قراءته، ويبصر المعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعاً)(161).
ولكن لماذا اختار ابن مجاهد هؤلاء السبعة تحديداً؟
في الحقيقة لم يكن ابن مجاهد يبحث عن قراءات سبع، ولا عن سبعة قراء حينما اتجه ببحثه هذا، غاية الأمر أنه كان يبحث عن المتواتر وصادف أنه لم يجتمع لديه من أسانيد التواتر بالشروط المعتبرة إلا سبعة، فضبطها وحررها ودوَّن أصولها وفرشها، والظاهر أنه صنف أولاً سبعة كتب، كل كتاب في قراءة، كلما ثبت عنده تواتر قراءة أفردها بكتاب، حتى إذا اكتمل لديه الاختيار صنف كتابه الشهير السبعة في القراءات.
ومنهج ابن مجاهد في كتابه أنه بدأ بذكر أسماء القراء السبعة وأصول كل واحد منهم واختياراته في شأن الهمزات والإمالات والإدغامات والياءات وغير ذلك من الأصول، ثم بدأ بذكر فرش الحروف فكان يسمي اختيار كل منهم من غير توجيه للفرش، وعلى ذلك فقد دون مواضع اختلافهم في القرآن الكريم باستقصاء كامل. وقد صار منهج ابن مجاهد إماماً للناس من بعده فاقتفى أثره كل الذين كتبوا من بعده في هذا الفن.
وأشهر الكتب التي نهجت نهجه:
التيسير في القراءات السبع: أبو عمرو الدَاني(162).
نظم التيسير المسمى حرز الأماني: للقاسم بن فيّره بن القاسم الشاطبي(163).
سراج القاري: لابن القاصح العذري(164).
ـ شروح الشاطبية الأخرى كالسخاوي والفاسي وأبي شامة وابن جبارة، والجعبري.
------------
(157) السبعة في القراءات لابن مجاهد. تحقيق د. شوقي ضيف ص 47، وهذه الشروط مستفيضة ولا يخلو من الإشارة إليها كتاب من كتب القراءات.
(158) نظم طيبة النشر لابن الجزري، بيت رقم 56.
(159) معرفة القراء الكبار جـ1 ص 217
(160) غاية النهاية لابن الجزري جـ1 ص 142
(161) مقدمة ابن مجاهد لكتابه السبعة في القراءات ص 45 - 46
(162)طبع في استانبول عام 1920 بتحقيق أوتوبرتزل من جمعية المستشرقين الألمان،
(163) طبع طبعات كثيرة، أجودها طبعة حققها وأخرجها محمد تميم الزعبي وصدرت عن مكتبة دار الهدى بالمدينة المنورة.
(164) طبع في مكتبة مصطفى البابي الحبي وأولاده بمصر.
أهمية الكتاب: صنف ابن مجاهد كتابه هذا في وقت كان يعتبر فيه (شيخ القراء) في عاصمة الخلافة الإسلامية (بغداد) ولا شك أنه كان لموقعه المميز هذا أكبر تأثير في رواج الكتاب وتداوله. ومن هنا تعلم سر انتشار الكتاب وشهرته في الآفاق. أما مناط تأثير الكتاب فيتمثل في أنه كرَّس الرأي القائل:
بأن القـراءات توقيفيـة لا يجوز فيها الاجتهاد وقطع الطريق على الذين يقولون بجواز الاجتهاد في القراءة وأنها تدور على اختيار الفصحاء وعلى رأسهم الزمخشري.‏


المرجع القراءات لمحمد حبش
 
عودة
أعلى