السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحياتي للشيخ الدكتور عبد الرحمن الصالح.
الذي لفت انتباهي بداية أنّكم لم تأتوا لنا بدليل واحد يثبت ما ذكرتموه. فمن هم أتباع الحديث الذين تقصدهم، آلإمام مالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المديني، وابن معين، والبخاري، وأصحاب السنن وغيرهم ؟ أهؤلاء جانبوا الصواب حين اعتقدوا أنّ الحديث الصحيح مطابق للواقع، خلافاً للمتقدّمين الذي اعتقدوا –على حد قولكم- أنّ ما صحّ عن النبيّ عليه الصلاة والسلام هو خلاف الواقع، ومن هم هؤلاء المتقدّمين على أتباع الحديث المذكورين آنفاً ممن قالوا بأنّ السنة غير مطابقة للواقع.
الشيخ الأستاذ محمد يحيى شريف المحترم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
سأطرح على حضرتك ومعك القراء الفضلاء التصوّر الذي قد حلّ لي كثيرا من إشكالات العلم الشرعي التي نراها في الكتب فلا نلقى لها تعليلا، وهذا الفرض قد حلّ لي كثيرا من الإشكالات وإني لأرجو أن يحلّ لكلّ من تفكر فيه وتعقله وأعطاه حقه من التأمل أن يحل له كثيرا من مسائل الخلاف.
في تصوري الذي تبلور مع مرور الأيام فإن الإمام مالك ومعه فقهاء المئة الثانية ليسوا مقصودين مع أهل الحديث الذين بدأ مذهبهم في التكوّن ابتداءً من الشافعي ت 204 لأن الشافعي بحسب وعيي التاريخي هو أول من قرر أن إذا صحّ الحديث فقد وجب العمل به علمه من علمه وجهله من جهله، وانتصر لهذا القول وأشاعه.
فأهل الحديث بعد الشافعي ويدخل فيهم كل من ذكرتم
ما عدا الإمام مالك قد توهموا بحسن نية أمورا جعلت الناس ينحرفون بحسن نية - انحرافا بدأ طفيفا ثم أخذ يكبر مع مرور الأيام - عن مذهب أهل السنّة في المدينة والكوفة. ومن هذه الأمور ما قرره الشافعي في كتابه "جماع العلم" <أحسن طبعاته بتحقيق أحمد محمد شاكر وموجودة بنسخة مصورة على الشبكة> أن الحديث الصحيح المتصل السند يجب العمل به وهذه القاعدة أخذها منه أو وافقه عليها أهل الحديث الذين كان على رأسهم الحنابلة وفقهاء المحدثين فقد انحرف الفقه عن مدارس أهل السنة في المئة الثانية إلى تتبع الحديث ظنا من الناس أن الحديث الصحيح مطابق للواقع وظنا منهم أن الحديث الصحيح مطابق للسنّة.
فالتصوّر الذي تبلور لديّ أنا العبد الضعيف والذي جعلني مالكيّاً قحّا هو أن العلم الشرعي الأقرب إلى السنة هو ما تركه فقهاء الصحابة في المدينة وقد كان منهم بالمدينة كما قال ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" 132 رجلا وبالكوفة بحسب المصدر نفسه 52 رجلا.
ولنضرب على ذلك مثلا:
فالسنّة التي كان عليها النبي وأصحابه في الصلاة هي الصلاة مرسلي أيديهم غير واضعي أيمانهم على شمائلهم ألبتة وهكذا كان أحفاد الصحابة في المدينة يصلون مرسلي أيديهم قبل الركوع وبعده. والسبب أنّ السنّة لديهم ليس مجرد الحديث الصحيح كما أصبح الأمر عند الشافعي وأحمد وأهل الحديث ومن تأثر بهم، بل السنّة ما تكرر عليه العمل وما عليه فقهاء الصحابة وتلاميذهم.
وقد أشرت في تعليقك إلى الشيخ الألباني الذي يُعدّ من كبار أنصار تيار أهل الحديث في العصر الحديث وفي كتابه صفة صلاة النبي قال إن السنة هي وضع اليدين على الصدر في الصلاة واحتج بخبر أن إسحق بن راهوية صلّى بجماعة ووضع يديه على صدره. وهذا الذي قاله برغم أنه يخالف المعروف عند الفقهاء من مذهب إسحق أنه كان يضع يديه تحت السرّة، فإنه هو وإسحق نفسه يصلون خلاف السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وفقهاء الصحابة وأبناؤهم وأحفادهم في المدينة. فالذي نقله لنا ابن المنذر في كتابه العظيم <الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف> هو أن الصلاة بوضع الأيمان على الشمائل هي خلاف السنّة عند
عبدالله بن الزبير 75هـ.
وسعيد بن جبير ت 94هـ.
والحسن البصري ت 110.
والأوزاعي ت 157
والليث بن سعد ت 175
والإمام مالك ت 179.
وذكر ابن عبدالبرّ في <التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد> عشرة فقهاء من بينهم هؤلاء.
ورأى سعيد بن جبير رجلا يصلي واضعا يديه ففرق بينهما في الصلاة وجعله يصلي مرسِلا.
ويعلم كل عاقل أن الناس كانوا يصلون خلف عبدالله بن الزبير مرسلين وخلف الحسن البصري مرسلين وخلف الليث بن سعد كما كان الليث يصلي وخلف الأوزاعي كما كان هو يصلّي.
والسبب في كون هؤلاء الفقهاء وغيرهم يصلون مرسلين مع أن الحديث الصحيح قد ورد بالوضع هو أنهم كانوا متحررين من وهمين هما أن الحديث الصحيح يعني مطابقة الواقع أو أنه مطابق للسنّة.
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة وكان اليهود يضعون أيمانهم على شمائلهم وضع يمينه على شماله مثلما اتخذ بيت المقدس قبلة له تألفا لقلوبهم وقال "لو تابعني عشرة من يهود ما بقي يهودي إلا وأسلم". لكن كان آخر العهد من سنته صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود ومنها وضع الأيمان على الشمائل في الصلاة ولذلك نهى فيما رواه البخاري "عن الخصر في الصلاة وقال هو فعل يهود"
فالإمام مالك بن أنس لم يكن كالذين ذكرتهم يتبع مجرد الحديث الصحيح بل كان يتبع السنّة والسنة ما عليه عظم فقهاء الصحابة وأبناؤهم من أهل المدينة وفقهه ملخص من لفقهاء الثلاثة عشر والعشرة والسبعة الذين تجمع لديهم علم أهل المدينة وهو السنّة ومنها الصلاة مرسلي أيديهم كما كان آخر شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أهل الحديث منذ الشافعي فقاموا بحسن نية منهم بتتبع الأخبار الصحاح والعمل بها ولو لم يتوهموا أن الحديث الصحيح مطابق للسنة لما ذهبوا هذا المذهب.
فالسنّة الوجبة الاتباع هي:
1. ما أجمع عليه فقهاء المسلمين وعلماء الأمصار من فهوم لمداليل الأخبار ونصوص القرآن العظيم.
2. ثم ما أجمع عليه أهل المدينة لأن من كان من فقهاء الصحابة بالمدينة يفوق من كان فيما سواها.
3. ثم قول جمهور الفقهاء.
وأما متبعو الأخبار الصحاح فليس قولهم بشيء ولا مذهبهم من العلم في شيء إذا خالف السنّة.
والسنة ليست كما عرّفها المحدثون بل كما عرَفها الفقهاء.
ففقهاء المئة الثانية كانوا أقرب إلى السنّة من المحدّثين في المئة الثالثة. والسبب أنهم كانوا أولا أقرب زمانا مما كان عليه عمل الصحابة وثانيا أنهم لم يشع فيهم أن الخبر الصحيح يجب العمل به وإن خالف ما عليه الناس في المدينة. فقول سفيان لثوري "الحديثُ مضلّة إلا للفقهاء" ينبغي أن يولى الأهمية التي تليق به. <ونسبه عياض إلى ابن وهب>
وبرغم أن الإمام بن المنذر ت 318 كان متأثرا بالشافعي وسائر أهل الحديث إلا أنه قد جمع لنا كتبا عظيمة القيمة في أقوال الفقهاء في المئة الثانية ولا سيما أهل المدينة والكوفة فهما مدرستا أهل السنّة الرئيستان المتخلصتين من الوهمين الذين بسببهما انحرف الناس عما كان عليه السلف الصالح في المدينة والكوفة إلى سلف جديد لاحق هو أهل الحديث في المئة الثالثة.
لقد كنت أصلي حتى بلغت الأربعين واضعا يميني على شمالي كما ذكر النووي فوق السرّة قليلا ثم اتبعت "صفة صلاة النبي" حين كنت شابا فوضعت يديّ فوق الصدر تحت النهدين قليلا
ثم تبين لي أن السنّة هي ما كان عليه أحفاد الصحابة في المدينة وما تجلى في قول الحسن البصري والإمام مالك والليث والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار قبل الشافعي وأن الوضع خلاف السنّة قطعا وإن صحّ به الحديث لأن الحديث الذي صح به يجب حمله على ما كان عليه العهد إبان تألُّف قلوب اليهود في أول الهجرة وأن قول ابن شهاب (أعيا فقهاء الإسلام معرفة ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه) هو السبب في ترك الناس لكثير من السنن ظنّا منهم أنهم يتبعون الحديث الصحيح. وأنّ نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخصر في الصلاة هو النهي عن وضع الأيمان على الشمائل وهو نفسه الصلب الذي نهى عنه ابن عمر.
وإذا أردت دليلا مرئيا في تفسير حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري عن نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخصر في الصلاة وقال هو فعل يهود فتابع هذا الفيديو ليهوديّ يصلّي:
https://www.youtube.com/watch?v=0aHWASyMjwg
ملاحظة 1: لا يجوز تفسير الخصر/الاختصار/الخصْر على أنه حمل المخصرة (وهي العصا) ولا اختصار السور القصار ولا تخيّل صورة معينة من الخاصرة بل يفسّر مقصد النبيّ عليه السلام بقرينيتين لا يوجد لنا سواهما هو أولا صلاة أحفاد الصحابة مرسلين في المدينة واستمرار فقهاء الأمصار في المئة الثانية على هذه السنّة، وبما عليه اليهود في صلاتهم لأنّ الخبر ورد معللاً وهو أنه فعل يهود ويهود تضع الأيمان على الشمائل على الصدر.
ملاحظة2 : لا أفرض رأي الذي تبلور لديّ على الأخ الطيب محمد يحيى شريف ولا على سواه من القراء الفضلاء بل إني لا أتعصّب له أصلا وإني رغم اقتناعي بكل حرف سطرته لمستعدٌّ للتحول عنه إذا وُجِد مَن يُقنعني بخلاف ما ثبت لديّ من رجحان مذهب أهل المدينة وما أجمع عليه فقهاء الأمصار في المئة الثانية ثم ما كان عليه جمهورهم على من خالفهم من أهل الحديث في المئة الثالثة ثم أتباعهم إلى اليوم.
والله أعلم