مقتطفات من كتاب قصة الخلق ..

إنضم
18 أكتوبر 2016
المشاركات
302
مستوى التفاعل
8
النقاط
18
الإقامة
مصر
في البدء .. كان الله ولم يكن شيئا غيره ..
= ثم خلق الخلق ليعرف ويعبد .. واتخذ الله تعالى لنفسه جندا فخلق الملائكة لا يعلم عددهم إلا هو , وخير تعالى خلقه أن يعبدونه اختيارا أو أن يعبدونه إلزاما منقادين مجبولين على ذلك دون أن يكون الأمر إليهم , وسمى الله الأمر الأول ( الأمانة ) وعرضها على مخلوقاته جميعا فأبت كلها أن تقبلها , واختارت أن تعبده إلزاما , مجبولة على ذلك , وقبل الانسان الأمانة .. إن شاء يؤمن وإن شاء يكفر .. على أن يجازى بعد ذلك بفعله , يقول الله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا ) الأحزاب 72
= ولعظم هذا الاختيار , ولفداحة الأمر , ولخطورة العاقبة , ولأن الانسان اختار الأصعب والأشق عليه , والأحب إلى الله تعالى , فقد سخر تعالى له كل مخلوقاته التي لم تحمل الأمانة , وسخرها للانسان الذي حملها , ومنحه الله ما لم يمنحه لغيره وميزه عن غيره وفضله تفضيلا .
= ورغم صغر خلق الانسان بالنسبة لغيره من المخلوقات إلا أن الله أولاه من عطاياه ومن فضله , وبل وسخر له تعالى كل مخلوقاته سواء في السماوات أو في الأرض من الملائكة الكرام إلى البهائم والأنعام , وما بينهما من الموجودات .
= ولتسهيل المهمة على الانسان أرسل إليه رسلا من جنسه , وأنزل إليه كتبا عرفه فيها كل شيء , إلا ما استثناه تعالى ليخص به نفسه , واعتبره غيبا , وهي من صميم ابتلائه وامتحانه .
= وطلب تعالى منه ألا يشغل نفسه بها ولا يجهد عقله في تعريف كنهها , وان يتفرغ للمهمة التي اختارها بنفسه وارتضاها له ربه وخالقه , وهي أشرف مهمة وأجمل مهمة , وأخطر مهمة .. وأن يعبد الله خالقه , ومربيه , ومفضله ومميزه , يعبده ولا يشرك به شيئا .
= ووعده تعالى إن فعل ذلك بجنات ذكر له بعضا مما فيها من النعم والمتع التي تنتظره .. أما العطية الكبرى والجائزة المستحقة فقد جعلها الله له مفاجأة .. ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) السجدة 17 .
= ولخطورة الأمر , وفداحة الخطب يسر الله على الانسانية الأمر , بارسال الرسل وانزال الكتب , التي عرفهم فيها بنفسه تعريفا لا يقبل الشك والريبة وعرفهم بغيرهم من المخلوقات تعريفا دقيقا مفصلا , لا لبس فيه ولا غموض , وضمن لهم الرزق , وزيادة في طمأنتهم فإنه وعدهم بأن رزقه سيجري عليهم آمنوا أو كفروا , أطاعوا أو عصوا , ولمزيد من الطمأنينة جعل رزقهم وما وعدهم به , في السماء وليس في يد بعضهم البعض .
... يتبع إن شاء الله تعالى
 
(2)

= ولمزيد من التيسير والسهولة في أداء الأمانة والقيام بالمهمة المختارة وعدهم بأن يغفر لهم ذنوبهم , ويكفر عنهم سيئاتهم , ويمحو ما سجل من خطاياهم إذا هم طلبوا منه ذلك واستغفروه .
ثم منحة ومنة كبرى منه وهو الأكرم , وعدهم بأن يتجاوز عنهم مهما بلغت ذنوبهم وإن كانت مثل زبد البحر , أو بلغت عنان السماء , وبل ولو جاءوا بقراب الأرض خطايا , لتجاوز عنهم وعفا , شريطة ألا يشركوا به شيئا , لأن ذلك حقا له تعالى ( ألا يشرك به ) فهو وحده الخالق والرازق والمعطي والمانع والضار والنافع , فكيف يعطي الولاء لغير مستحق ؟
أصعب هذا بعد كل ذلك ؟
هل تبقى حجة لمن يخالف ؟ هل يبقى عذر بعد كل هذه التسهيلات والتيسيرات ؟ لقد وصل الأمر حدا من الكرم من الله تعالى ان من فعل الذنوب والخطايا وأي ما كان نوعها وخطرها , وعددها , أنه تعالى يبدلها له , ترى بماذا . بحسنات !
أمر عجيب , ولكنه كرم الله تعالى , تأتي ذنوب وخطايا .. مهما بلغت .. فتتحول وتستبدل وكأنها جميعا كانت أعمال صالحة ؟ نعم .. وما شرط ذلك ؟ فقط طلب واحد بالاضافة لعدم الشرك , أن يتوب ويعمل صالحا .
إذن فمن يوبق نفسه في النار بعد ذلك , فقد ظلم نفسه ظلما كبيرا , ورغم أن الامتحان لا زال فيه بعض الوقت ولم يأت الأجل المسمى , إلا أن بوادر النتيجة قد ظهرت , هذا فضلا عن علم الله المسبق فقد ظهر أن أكثر الناس رغم كل ذلك ورغم الجهد الهائل المبذول من الرسل لم يؤمنوا , وظلموا انفسهم , وخانوا الأمانة .
إنه لأمر غريب , وعجيب , أمر الانسان , لقد راح يتعرف على كل المخلوقات وترك الخالق , ولم يكن هذا مطلوبا منه , لم يكن مطلوبا منه أكثر من النظر للاعتبار وللتعرف على الصانع لا المصنوع , الخالق لا المخلوق , الرب لا المربوب .
فتجد الانسان يفني عمره لدراسة حشرة , ولا يفكر في خالقها , يفني عمره في معرفة الذرة , ولا يتعرف على موجدها .
يتبع إن شاء الله تعالى ..​
 
(3)
= هكذا وصل الحال بالانسان .. انشغل بالأشياء التي خلقت له , وترك ما خلق هو له , بل إن الأمر بلغ حدا أن الانسان توغل في الضلال والجحود بأن نسب الفعل للمفعول , وجحد الفاعل وراح ينسب كل أمر ليس للآمر بل للمأمور , وتوصل الانسان إلى اكتشافاته العظمى , ما هي ؟ أن الله لم يرسل رياحا , ولم ينزل مطرا , ولم ينبت زرعا , ولم يفتق أرضا وإنما جاء كل ذلك مصادفة , ولم يبن سماء ولم يوجد أرضا ولم يخلق شمسا ولا قمرا ولا نجوما وإنما كل هذه جاء نتيجة اصطدامات وانفجارات , وكأن الكون كله بدأ بالدمار , وكأن الله تعالى لم يبدأه بالحكمة والعمار .
واكتشف الانسان ان الزلازل والبراكين والسيول والعواصف والأعاصير ليست آيات ربانية , فعلها الله تعالى , بل إنها ظواهر طبيعية أتت بها الطبيعة .
وقسم الانسان ميراث السماوات والأرض بين المخلوقات , فبعضها للطبيعة هي صاحبته , والآخر للمكتشفين وهم أولى به , والحسرة كل الحسرة ان اكثر الناس على هذا الأمر وعلى هذه العقيدة , والقلة القليلة هم الذين ادوا المانة , ولم يجحدوا حق الله تعالى , ولم يكفروا بنعمته , ولم تصرفهم المخلوقات عن الخالق , فقد عرفوا الله , ليس من مخلوقاته بل منه تعالى , فكمال الايمان أن تتعرف على المخلوقات من الخالق , لا أن تتعرف على الخالق من المخلوقات , وليت الجاحدين فعلوا حتى الثانية .
وأعجب واغرب ما كان من الانسان , انه اتخذ من الأشياء التي سخرت له والتي هو أرقى منها مرتبة من شمس وقمر ونجوم ودواب , اتخذها آلهة عبدها من دون الله ! أليس هذا غريبا من الانسان , أليس يستحق ما توعده الله به دون ظلم له ؟
كان هذا هو حال الانسان عموما , أما المؤمنين بالله فقد وصل كثير منهم الان إلى ما هو أدهى وأمر .. فقد أصبح إيمانهم مزيج من الشرك والايمان , إيمان مهجن وعقيدة مختلطة , كما قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) يوسف 106
يتبع إن شاء الله تعالى ..
 
( 4 )
عصر الإلحاد :
= بدأ منذ القرن السابع عشر الميلادي يبدو الضجر والضيق لمباديء الفلسفة التي كانت هي مزيج من الاستنباط العقلي , والاستنتاج الحسي , لظواهر الكون بتفسيرها ووضع قوانين لها , واستعان الفلاسفة في تحليلهم هذا للموروث من علوم الوحي لكن ليس باعتبارها وحيا , بل باعتبارها فروضا علمية لا أكثر , تقبل الأخذ والرد والتعديل والتحوير , ولكنهم على أي حال لم يتناقضوا تماما فيما استبطوه من أعمال الفكر , مع الكتب المقدسة , بحالتها الموجودة آنذاك .
= واطلق جاليليو الشرارة الأولى للمعركة مع الفلاسفة .. ليؤسس المذهب الجديد للتجريبيين ..
= وبدأت معركة بين الفلاسفة وخاصة أتباع أرسطو معلمهم الأكبر , وبين التجريبيين الذين أرادوا إحلال طريقة التفكير التجريبي المعملي محل التفكير المبنى على الاستنباط العقلي .
= ولم تدخل الكنيسة في هذه المعركة , فهي ليست ضد العلم , ولا هي حامية حمى الفلسفة , غير انها دخلت اضطرارا عندما أظهر التجريبيون أراءا تتعارض مع الدين , ولا يمكن ان يعتبر ما يعارض الدين علما بأي شكل من الأشكال , لأن الدين هو العلم , وهنا تدخلت الكنيسة بالموعظة الحسنة تنبه على مخالفة التجريبيين للكتب المقدسة , غير ان الآخرين لم يتعظوا ولم ينتهوا بل تمادوا في موقفهم , وقد عبر ( يوهانس كبلر ) عن موقف زملائه بتعليقه الشهير : ( إن الكتاب المقدس ليس كتابا في علم الضوء ولا علم الفلك ) , وهنا ظهرت الكنيسة كجبهة أقوى من الفلاسفة ولكن للدفاع عن الدين , الذي لا يعارض أبدا علم الضوء او أي علم , ولكن يعارض تكذيب آيات الله تعالى .
= وكان هذا بداية الخلاف بين ما يقوله رجال الدين ورجال العلم في أوربا , وهنا يبدو للمشاهدين من بعيد ان الكنيسة ضد العلم والحقيقة كانت عكس ذلك , وقد هب رجال الكنيسة للدفاع عن آية واحدة خالفها التجريبيون تقول بحركة الشمس حول الأرض , بينما التجريبيون يقولون بعكس ذلك , جاءت هذه الآية على لسان ( يوشع بن نون ) في سفر ( يوشع ) الاصحاح العاشر الآية رقم 13 من العهد القديم ...
= والقاريء للتاريخ لا يجد أن الكنيسة قد اعترضت على أي علم من العلوم المادية , ولكنها وقفت وبشدة لكفر من كفر وأشاع كفره في العلوم الكونية , والحق أن الكنيسة تصدت بشدة لكل زندقة في الأمور الكونية حتى انها حكمت على ( جردانو برونو ) بالاعدام حرقا لقوله بأن الفضاء لا نهائي .
يتبع إن شاء الله تعالى ..​
 
( 5 )
= لا شك أن وراء هذا التغيير في مفاهيم البشر تجاه الكون وعلومه خطة ابليسية . ورغم ان الخطة معادة ومكررة إلا أنها نجحت تماما كما نجحت مع أبي البشر وزوجه في تعريتهما وإنزالهما إلى الأرض وإخراجهما من الجنة , فهو الثأر القديم والعداء المبين بينه وبيننا , فصمم عليه اللعنة وأقسم على أن يغوي البشر , ووضع خطته , ولأنها نجحت مرة فإنه لا يني في تكرارها لتغيير خلق الله من حال إلى حال .
= وأكبر وأخطر تغيير يظفر به إبليس أن يحول البشر من الاتباع إلى الابتداع ولأنه لعنه الله علم أن القرءان محفوظ من التحريف , فقد عمل ألا يضيع جهده في هذا الأمر وأن يتركه على ما أنزل الله , ولكنه يعمل جاهدا على ألا يتبع , ويفتن بني آدم علاوة على تركهم تطبيق آيات الله إلى المخالفة والعمل بنقيض الآيات .. يقول تعالى ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) سبأ 20 ـ وكجزء من الخطة الابليسية يغير إبليس الأسماء المحرمة والمنفرة إلى أخرى خادعة مقبولة , تماما كما استبدل اسم الشجرة المحرمة باسم ( شجرة الخلد ) طه 120 , ونجحت الخديعة في إغواء آدم فكررت هنا , وسمى هذا العصر الذي شهد اكبر عملية انسلاخ من الدين في العصر الحديث وسماه ( عصر النهضة ) والحقيقة أنه كان عصر السقوط والانتكاس .
 
( 6 )
.. أبطال عصر الالحاد..
= لقد سموا هذا العصر الذي انسلخ فيه العلم عن الدين وكأن أحدهما نقيضا للآخر ( عصر النهضة ) وكذلك سموا الملاحدة الذين أحدثوا هذا الانقلاب بالرواد وأسبغت عليهم أسماء وصفات الأبطال والعظماء وقد شارك بعضنا في هذا العمل الأخير , ووصفوا جاليليو بالرائد ونيوتن بالعظيم وأينشتاين بالعبقري , بينما كان هؤلاء هم طلائع جيش إبليس الذين نجحوا في تغيير القوانين الإلهية بقوانين الطبيعة .
= سنطوف مع أبطال عصر النهضة , الذين خلدتهم مدارسنا وجامعاتنا وكتبنا ونقرأ مقتطفات من أقوالهم التي عبروا فيها دون خجل أو مواربة أنهم معاول لهدم الدين الذي أنزله الله لعباده , وجاءوا بدين جديد أسموه زورا ( العلم ) و ( العلمانية ) .
= ولنبدأ بالعبقرية الفذة أينشتاين الذي قال مدافعا عن جاليليو في حربه ضد رجال الكنيسة : ( لقد منحت جاليليو موهبته الخارقة القدرة على الحوار الواعي مع مثقفي عصره فاستطاع التغلب على ذلك الفكر المبني على الخرافات التي تعتبر الإنسان مركز الأشياء في هذا الكون ) .
وقال أيضا : ( وربما نستطيع القول : بأن التخلف الناتج عن سيطرة التقاليد الجامدة التي انتشرت في العصور المظلمة كانت قد خفت وطئته في القرن السابع عشر , وأن البقية الباقية من التقاليد الثقافية الموروثة لم يكن لها القدرة على الصمود إلى الأبد إزاء التقدم الحضاري , سواء ظهر جاليليو ام لم يظهر ) .
هذه الكلمات نقرأها لأينشتاين مع الوضع في الاعتبار أنه كان حذرا من إثارة رجال الكنيسة عليه.
= ( والتير ) تجريبي آخر من رواد عصر النهضة قال ليقطع الصلة تماما بين الكون وخالقه : ( إن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها , ثم تنقطع صلته بها ) .
وجاء زميله ( هيوم ) بجرأة أكثر ليتخلص من هذا الإله الميت على حد قوله : ( لقد رأينا الساعات وهي تصنع في المصانع لكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا ؟ ) .
أما ( هكسلي ) فقد قال : ( إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة ) . وأضاف ( فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر , فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء ) .
ولمزيد من الافصاح عن المنهج الابليسي لهدم الدين يقول ( هكسلي ) : ( لقد خلق العقل الانساني الدين واتم خلقه , في حالة جهل الانسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية , فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الانسان وبيئته , إن هذه البيئة قد فات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل , اما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين ) ويضيف : ( لقد انتهت العقيدة الالهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهي لا تستطيع أن تقبل الآن أي تطورات , لقد أخترع الانسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين , جاء بالسحر , ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية , حتى اخترع فكرة الإله الواحد , وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته , ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءا مفيدا من حضارتنا غير أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها , ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور ) .
ويقول ( إنجلز ) : ( إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية ) .
ويقول أستاذ أمريكي في طب الأعضاء : ( لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ ) .
يقول الدكتور ( تامس ديود باركس ) : ( لقد أجمع علماء هذا العصر على صدق نظرية "النشوء والارتقاء" وقد بدأت هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة , فكل مشكلة تحتاج ( إلها ) في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد ) .
أرأيتم هذه النظرية المسماه بالعلمية ما هو دورها ؟
( آرثر كيث ) يقول : ( إن نظرية النشوء والارتقاء, غير ثابتة علميا , ولا سبيل إلى اثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو ( الإيمان بالخالق الخاص المباشر ) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه ) .
يقول : ( برتراند راسل ) : ( والانسان وليد عوامل ليست بذات هدف , إن بدأه ونشوءه وامانيه ومخاوفه وحبه وعقائده كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفاقي في نظام الذرة , والقبر ينهي حياة الانسان ولا تستطيع أي قوة إحياءه مرة أخرى , إن هذه المجهودات الطويلة , والتضحيات والأفكار الجميلة , والبطولات العبقرية كلها سوف تدفن إلى الأبد مع فناء النظام الشمسي ) .
هؤلاء بعضهم , وهذه بعضا من أقوالهم , ونهضتهم , التي راح علماؤنا يلهجون بذكرهم ويسبحون بحمدهم , ويقدسونهم تقديسا , وتدرس أقوالهم وعلومهم كبديل ــ كما قالوا هم ــ عن الدين .
وما قلناه وذكرناه من أقوالهم غيض من فيض , وإلا فإنه لم يشذ من رجال عصر النهضة إلا النذر القليل , وهذا القليل كان أغلبهم , منتهى إيمانه أن يعترف ـ بالكاد ـ بوجود خالق للكون وكفى , وهو إيمان لا يرقى في أحسن أحواله عن إيمان أبي جهل , وأبي لهب , فقد كانا يؤمنان بوجود الله وبأكثر من ذلك فلم يعتبرا من المؤمنين طبقا للقواعد الاسلامية .
وللأسف لم يخل علم من العلوم سواء الانسانية أو المادية إلا وظهرت فيه نهضة على مثال ما ذكرنا , وقد كان أكبر علم حظى بنهضة فائقةهو علم الفلك يقول كبيرهم ( جيمس جينز ) معبرا عن مدى العلم الذي وصلوا إليه : ( لا غرابة إذا كانت أرضنا قد جاءت صدفة نتيجة بعض الحوادث , وإذا بقى كوننا على حالته الراهنة لمدة طويلة مماثلة ( لمدة حدوثه صدفة ) فلا نستبعد حدوث أي شيء يمكننا قياسه على الأرض ) .
 
( 7 )
الدين والعلم
= ( الدين يتعارض مع العلم ) فرية افتراها الملحدون من التجريبيين وهم يشكلون غالبية علماء العصر , ولأنه لا يمكن الجمع بين الاثنين في منطقهم , فقد اختاروا العلم وفضلوه على الدين وأعلنوا صراحة وبذلك ظهر المذهب الجديد ( العلمانية ) .
والمؤمنون بالله يوقنون بأن الدين لا يمكن ان يتعارض مع العلم ويوقنون بأن العلم ( الصحيح ) لا يمكن أن يتعارض مع الدين , وأعتقد أن هذا هو الايمان الحقيقي , ولو تعارض علم مع الدين أو العكس فالمؤمن يختار الدين والملحد سيختار العلم , ليس حبا في العلم , ولكن حبا في الكفر .
وإنني كواحد من المؤمنين بالتوراة والانجيل والقرءان جميعا , لدي هذا اليقين أن هذه الكتب الثلاثة لا تتعارض أبدا مع العلم , وأن أي نظرية سليمة تثبت ستكون دون شك متوافقة مع هذه الكتب .
هناك فرق بين العلم والنظريات
العلم هو ما علم بالفعل وثبت بطرق الاثبات , ولم يعد سبيل إلى نقضه في أي وقت أو بأي وسيلة , وطرق الاثبات عديدة منها الحواس ومنها العقل ومنها التجربة ومنها الوحي .
المهم في هذه الطرق كلها : الصدق , وأعلى هذه الطرق مرتبة هو الوحي .
فالأمور التي نسميها علما وثبتت بطريق الاثبات من المستحيل أن تتعارض مع الدين , أما الأمور التي نسميها نظريات فإنها قد لا تكون علما ثابتا وإنما مجرد وجهات نظر , وقد تختلف معا في أمر واحد , ولا غضاضة بل لابد أن يحدث ذلك , لأن عمر الانسان قصير , وقدراته محدودة , والناس فيما بينها فضلا عن اختلاف القدرات مختلفة الأهواء , فما أراه جميلا قد تراه انت غير ذلك , وما تراه انت مفيدا قد أراه انا غير ذلك .. وهكذا .
أما الحواس فقد تخدع , وجميع طرق الاثبات ما عدا الوحي تعتمد على الحواس , فقد أقسم لك إنني شاهدت ماءا في مكان ما وتكتشف انت أنه سرابا وتقسم انت أنك شاهدت فلانا ثم لا يكون هو , وتقاطع فلانا لأنه مر أمامك وعينه في عينك ولم يبادلك التحية بينما هو يقسم أنه لم يرك وهو صادق رغم ان عينه فعلا وقعت عليك , لشرود ذهنه مثلا أو ضعف بصره .. أو غير ذلك .
حتى الدراسات التي يجريها الباحثون والاستطلاعات والاستفتاءات كل ذلك قد يخلص الباحثون فيها إلى نتيجة خاطئة غير سليمة رغم أنها أجريت على آلاف من الناس .
إذن فلو تعارض رأي إنسان او وجهة نظره مع الدين فلا نكفر بالدين , ولكن نكفر بالنظرية أو الرأي أو التجربة أو المشاهدة لأن كل ذلك قد يكون فيه كذب أو خداع , ولا نسميه أبدا علما لأنه يتعارض مع الدين , أما الوحي فإنه صادق .
والدين هو العلم هذا بالنسبة للمؤمنين لأن الله تعالى هو الخالق وهو العليم , فإن ورد شيء عن طريق الوحي فهو العلم , حتى لو تعارض هذا مع بعض النظريات , لأن الأخيرة مجرد نظريات اعتمدت على الحواس التي تخدع , والناس التي قد تكذب أو تجامل أو تخالف .
فهل يمكن ان يكون هناك تعارض بين العلم والدين لو ثبت عن طريق الوحي أن الأرض ليست جزءا من الشمس؟
ليس هناك تعارض , لأن العلم والحواس والتجربة والعقل لم يثبتوا أن الأرض جزء من الشمس ولم ير احد من القائلين بهذه النظرية الأرض وهي تتكون .
ولو قال الوحي بان الأرض ثابتة لا تدور فلا تعارض مع العلم لأنه لم يثبت بأي طريق من طرق الإثبات انها تدور بل إن الحواس ترى الشمس هي التي تدور , ولم ير أحد الأرض وهي تدور فيخبرنا الخبر ... وهكذا ... ولا يخفى على احد أن ما نشاهده من دوران الكرة الأرضية في التليفزيون او وسائل العرض المختلفة ما هو إلا من صنع الانسان ذاته باستخدام أجهزة تقنية حديثة كالكمبيوتر وغيره , فالايمان يقتضي إذن أن أعتبر ما يتعارض مع الدين ليس علما , اما ان أكفر بالدين فهذا ليس حبا في العلم بل حبا في الكفر .
 
( 8 )
= وهذا ( ميريت ستانلي كونجدن ) عالم طبيعي وفيلسوف يعترف ويقول : ( إن العلوم حقائق مختبرة , ولكنها مع ذلك تتأثر بالخيال الانساني وبأوهام الانسان ومدى بعده عن الدقة في الملاحظة وعدم الدقة في أوصافه واستنتاجاته ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود , فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ وهي تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات كذلك , وليس باليقين , ونتائج العلوم بذلك تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات , ونتائجها اجتهادية , وقابلة للتعديل بالاضافة والحذف وليست نهائية .
وإننا لنرى ان العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن , ويترك الباب مفتوحا لما يستجد من التعديلات .
إن العلوم تبدأ بقضايا أو بديهيات مسلم بصحتها برغم انها لا تستند على حقيقة فيزيائية ملموسة , وعلى ذلك فإن العلوم تقوم على أساس فلسفي , والخبرة الشخصية في العلوم هي المحك النهائي والملاذ الأخير الذي تختبر به جميع الحقائق في العلوم كما في الفلسفة والدين .
وبرغم انه لابد أن تكون الحقائق والنظريات التي يصل إليها رجال العلوم قابلة للاختبار والتحقيق على أيدي غيرهم من العلماء فإن ادراكنا الشخصي للظواهر الطبيعية يعتبر أمرا نسبيا ويتوقف على ظروف خاصة بنا )
= كما يعترف الدكتور ( بول كلارنس ايد ) كذلك بأن الحواس والتجارب والوسائل التي يتبعونها في معاملهم لا توصلهم إلى الحقيقة التي يفتقدها الانسان فيقول ( وقد أدرك رجال العلوم أن وسائلهم وإن كانت تستطيع أن تبين لنا بشيء من الدقة والتفصيل كيف تحدث الأشياء فإنها لا تزال عاجزة كل العجز عن ان تبين لنا لماذا تحدث الأشياء ) ويضيف ( إن العلم والعقل الانساني وحدهما لن يستطيعا ان يفسرا لنا : لماذا وجدت الذرات والنجوم والكواكب والحياة والانسان بما أوتي من قدرة رائعة , وبرغم ان العلوم تستطيع أن تقدم لنا نظريات قيمة عن السديم ومولد المجرات والنجوم والذرات وغيرها من العوالم الأخرى فإنها لا تستطيع أن تبين لنا مصدر المادة والطاقة التي استخدمت في بناء هذا الكون , أو لماذا اتخذ الكون صورته الحالية ونظامه الحالي ) .
هذان اعترافان من قطبين من أقطاب العلوم التجريبية يشهدان بأن وسائلهم لا توصل إلى الحقيقة , وعلى ذلك فيظل الانسان في حاجة إلى الوحي ليعلم , ومفتقرا إلى الله ليعرف .

غير أن علماء الأرض الآن .. إلا من رحم ربك ـ استغنوا بعلومهم ووسائلهم ولم يعودوا بحاجة إلى الله ,كبرا وعلوا , رغم أن هؤلاء قد رأوا بأنفسهم آيات الله , ولابد انهم تيقنوا من قدرته تعالى ومن انه الحق , يقول الله تعالى ( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) فصلت 53 .
( إيرفنج وليام توبلوتش ) دكتوراه في العلوم الطبيعية يكشف لنا عن نفسية بعض زملائه وشعورهم تجاه الدين فيقول : ( يميل بعض المشتغلين بالعلوم ـ في ظل ثقتهم الكبيرة .. إلى الاعتقاد بأن العلوم قادرة على حل جميع المشكلات , فالحياة من وجهة نظرهم ليست إلا مجموعة من القوانين الطبيعية والكيماوية التي تعمل في مجال معين , وقد أخذ هؤلاء يفسرون الظواهر الحيوية المختلفة الواحدة تلو الأخرى , تفسيرات تقوم على إدراك السبب والنتيجة , والوجود من وجهة نظرهم لا تستهدف غاية وسوف ينتهي الأمر بعالمنا إلى الزوال عندما ينضب معين الطاقة الشمسية , وتصير جميع الأجسام هامدة باردة , تبعا لقوانين الديناميكا الحرارية ) .
 
( 9 )
= والرجل لم يكذب فيما قال , وقد أوردنا أقوالا لمثل هؤلاء تبين ما في نفوسهم ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) آل عمران : 118
وانظروا إلى ما وصل إليه أحدهم من التطرف , يقول برتراند راسل ( ليس وراء نشأة الانسان غاية أو تدبير , إن نشأته وحياته وآماله ومخاوفه وعواطفه وعقائده , ليست إلا نتيجة لاجتماع ذرات جسمه عن طريق المصادفة ولا تستطيع حماسته أو بطولته او فكره أو شعوره أن تحول بينه وبين الموت , وجميع ما قام به الانسان عبر الأجيال من اعمال فذة , وما اتصف به من ذكاء وإخلاص مصيره الفناء المرتبط بنهاية المجموعة الشمسية ولابد ان يدفن جميع ما حققه الانسان من نصر وما بناه من صروح المدنية تحت أنقاض هذا الكون , إن هذه الأمور جميعا حقائق لا تقوى فلسفة من الفلسفات على إنكارها ) .
إن ( برتراند ) صاحب هذه النظرية وغيرها من النظريات ليلقى إحتراما ومكانة بين علماء المسلمين تفوق ما يلقاه كثير من الأنبياء والمرسلين .
= هذا هو حال كثير أو أغلب علماء هذه العصر من التجريبيين , اغتروا بما معهم من وسائل وما وصلوا إليه من علوم , وهي في النهاية ومن وجهة نظرالاسلام ( كسراب بقيعة ) النور 39 , وهي كذلك فعلا حتى عند النابهين من هؤلاء التجريبيين
يقول ( إيرفنج وليام ) : ( إن العلوم مهتمة بتحسين نظرياتها , وهي تحاول أن تكشف عن كنه الحقيقة ولكنها , كلما اقتربت من هذين الهدفين زاد بعدها عنهما , إن فكرتنا عن هذا الكون قائمة على أساس حواسنا القاصرة وعلى استخدام ما لدينا من الأدوات غير الدقيقة نسبيا ) .
= ثم قلة منهم هي التي شهدت بوجود الله , ولكن هذه القلة استنكفت ان تقيد نفسها بدين أو نحلة , ومن أمثال هؤلاء ( أينشتاين ) الذي ذكرنا كلمته التي يعتبر فيها أن مجرد الشعور الديني دون التقيد بنحلة أو ملة غاية العبقرية وهو يدعو لأن يقوم العلم والفن بإحياء هذا الشعور على الدوام عبر الأجيال .
يقول ( جورج هربرت بلونت ) كبير المهندسين بجامعة كاليفورنيا وأستاذ الفيزياء التطبيقية ( مجرد الاقتناع بوجود الله , لا يجعل الانسان مؤمنا , فبعض الناس يخشون من القيود التي يفرضها الاعتراف بوجود الله على حريتهم , وليس هذا الخوف قائما على أساس فإننا نشاهد ان كثيرا من المذاهب المسيحية حتى تلك التي تعتبر مذاهب عظمى تفرض نوعا من الديكتاتورية على العقول , ولاشك ان هذه الديكتاتورية الفكرية إنما هي من صنع الانسان , وليست بالأمر اللازم في الدين , فالانجيل مثلا يسمح بالحرية الفكرية حينما يقول ( قال الرب : أقبل علينا ودعنا نفكر معا ) ثم يقول مختتما " وأعتقد أنني قد آمنت بالله بهذه الطريقة " ) .
وإنني اعتقد ان هذا هو إيمان معظم علماء العصر الذين يدينون بالعلمانية والذين تدرس أقوالهم ونظرياتهم في مدارس وجامعات المؤمنين بالكتب المقدسة .
 
( 10 )
القرءان والعلم
= المؤمنون بالقرءان , يعلمون جيدا أن القرءان يحض على العلم , ويحث على التعليم ولا خوف من العلماء لأنهم كما قال الله: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) فاطر : 28 , أي أن اكثر الناس خشية لله وتوقيرا له هم العلماء وفي الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن العالم أشد على الشيطان من ألف عابد ) .
إن أول آية واول كلمة وردت في القرءان ـ الرسالة الأخيرة للبشر ـ الأمر بالتعليم , قال تعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان ما لم يعلم ) العلق , بل الآية رقم 9 من سورة الزمر لم تسو بين المؤمنين في المكانة بل فرقت بينهم , يقول تعالى ( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الألباب ) الزمر " 9 , ( يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) المجادلة : 11 , وأخبر الله تعالى المؤمنين بانه أنعم على آدم أبي البشر بالعلم قبل أن ينزل إلى الأرض ( وعلم آدم السماء كلها ) البقرة : 31 , هكذا فعل تعالى مع أول الأنبياء وإما آخر الأنبياء فقد أوحى إليه ( وقل رب زدني علما ) طه : 114 , ولم يوح إليه أن يطلب الزيادة في شيء إلا العلم , ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) وقال ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) , والآيات القرءانية والأحاديث النبوية التي توصي وترغب في العلم وتعلي مكانة العلماء أكثر من أن تحصي , فكيف يقال بعد ذلك أن الدين يتناقض مع العلم ؟
= الحق أن الذي أتي به العلمانيون والتجريبيون لا يسمى علما , لأنه لا يعد علما , وأقولها وأعلنها لكل أهل الأرض : أن كل علوم العصر منذ بداية عصر النهضة إلى الآن باطلة , ولا تمت للحقيقة بصلة , أعني بذلك العلوم الكونية , أما غيرها من العلوم فإني أشهد لهم بها , ولم لا أشهد وقد شهد الله لهم بذلك حيث قال تعالى ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون ) الروم : 7 , فهم علماء في الماديات المتعلقة بالحياة الدنيا ومتعتها ووسائل عمرانها وزخارفها , فهم عالمون في الهندسة والرياضة والمواصلات والاتصالات والكيمياء والكهربائيات والأدوات المنزلية ! , وعموما كل ما هو متعلق بشئون دنياهم ووسائل تمتعهم بها ورغم ذلك فهم لا يعدون من العالمين فقد وصفهم الله تعالى بأنهم ( غافلون )
أكرر : كل علوم أهل الغرب أو الشرق المتعلقة بالكونيات : باطلة .
لذلك فإنني اتباعا لأمر الله وآياته أطلق لفظ العالم على علماء الدين , أما أهل المعامل والتجارب فأسميهم ( التجريبيون ) , فالأولون أتباع الوحي الإلهي والآخرون أتباع التجارب المعملية , ثم هناك أهل التفكير العقلي وهم ( الفلاسفة ) .
وعلى الرغم من كل ما أوتي هؤلاء من وسائل وتقدم في الآلات والأجهزة وعلى ما عندهم من كم هائل من المعرفة على ما فيها من الغث والسمين , والنافع والضار , فإنهم لا يقدرون على تخطئة الكتب المقدسة أو يثبتون تناقضها مع الدين , لأن العلم الثابت لا يتناقض البتة مع الدين , إنما التناقض بينه وبين نظرياتهم الكونية الخاطئة.
يؤيدني في ذلك عالم الرياضيات والفيزياء ( ايرل تشستر ريكسي ) بقوله : ( إنني أجد بوصفي من المشتغلين بالعلوم أن النتائج التي وصلت إليها بدراستي العلمية عن الكون وعن الله تتفق كل الاتفاق مع الكتب المقدسة التي أومن بها وأعتقد في صدق ما جاءت به عن نشأة الكون وتوجيه الله له وقد يرجع ما نشاهده أحيانا من التعارض بين ما توصلت إليه العلوم وبين ما جاء في هذه الكتب المقدسة إلى نقص في معلوماتنا ) , ( والنظريات الحديثة التي تفسر نشأة الكون والسيطرة عليه بصورة تخالف ما جاء في الكتب السماوية , تعجز عن تفسير جميع الحقائق وتزج بنفسها في ظلمات اللبس والغموض , وإنني شخصيا أومن بوجود الله وأعتقد في سيطرته على هذا الكون ) .
= حقا إن النظريات الحديثة التي تفسر الكون والسيطرة عليه تخالف ما جاء في الكتب السماوية , وكنت اود لو درس المنصفون من أتباع عيسى روح الله أو موسى كليم الله , القراءن الكريم , نعم وددت لو درسوه دراسة الرسالات العلمية الي يناقشونها فلو كان ذلك قد تم لما كانت النظريات الحديثة بهذه المخالفة الصارخة للدين , ذلك أن نص الإنجيل ونص التوراة الموجودين الآن بأيدي الناس ليس فيهما هذه الاستفاضة التي في القرءان من علوم ومعارف هذا العصر .
كذلك لا يشك منصف أن بعض آيات الكتابين لحقهما تأليف وتحريف , ليس من أبناء هذا العصر , ولكن منذ قرون عديدة , قرون قريبة من نشأة الكتابين .
اما القرءان فهو الكتاب الوحيد الذي لا يحتوي على حرف من كلام البشر , وليس ذلك بسبب حرص المسلمين على سلامة نصه , لا .. لا .. فلو ترك الأمر لهم , لربما لحقه تحريف وتأليف أضعاف الموجود الآن بالعهدين القديم والجديد , هذا إن بقيت منه آيات على هيئتها التي أنزلت بها من عند الله , ولكن رحمة الله سبقت , وعنايته حفظت , قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر : 9 .
كنت أود ان يفعل علماء الغرب ذلك , وان يدرسوا القرءان دراسة جادة , ولو فعلوا ذلك لغيروا من العلوم والمعارف الموجودة الان , أما لو كان للإسلام علماء لقاموا هم بذلك .. ولكن أين هم الان ؟
إن ببلاد الاسلام كثيرا من الأسماء التي تسمى بالعلماء , وهناك مئات الآلاف في ربوع الأرض يحفظون القرءان عن ظهر قلب , بينما في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم عدد من يحفظون القرءان أربعة , ليس أربعة آلاف بل أربعة رجال فقط , ومع ذلك كان كل الرجال والنساء في عهده علماء .
اما الآن فهذه الآلاف التي تحفظ القرءان لا يطلق عليهم علماء , وإلا لكان لدى المسلمين مئات الآلاف من العلماء , ولما أصبح حالهم هذا الحال , حفظة القرءان الآن يتبعون برتراند رسل وهيكسلي وجيمس جينز وجاليليو ونيوتن وأينشتاين , فما فائدة القرءان الذي معهم ؟
لقد أخبر الله تعالى بأن هذا القرءان نور ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) التغابن : 8 , وأخبر تعالى بأن الذين كذبوا به في الظلمات , وأخبرنا تعالى بأنه جازى الذين كفروا بهذا النور بأنه ( ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) البقرة : 17 .
أليس هذا كلام الله ؟ أليست هذه آيات الله ؟ هل يعقل أن الذين يحملون النور يسيرون وراء الذين تركهم الله في ظلمات لا يبصرون ؟ هل يعقل هذا ؟
أوليس هذا هو الذي يحدث من كل من نطلق عليهم علماء , سواء أكانوا في الكيمياء أو الطبيعة أو الفلك أو الرياضيات أو الزراعة أو الجغرافيا أو الفلسفة أو المنطق أو القانون أو التاريخ أو العلوم الشرعية الاسلامية , هل هناك علم من هذه العلوم أو غيرها لا يتبع الرؤوس فيها والأساتذة نظريات علماء الغرب ؟ .. كيف يسير حاملو النور خلف الذين لا يبصرون . إنه لأمر عجاب !!
 
( 11 )
تلفيق لا توفيق
= إن علماء المسلمين حرصا منهم على الدين , راحوا ينشرون ويدرسون مباديء ( إسحاق نيوتن ) في الجاذبية , ونظرية ( تشارلز دارون ) في النشوء والارتقاء , و ( ألبرت أينشتاين ) في قانونه للنسبية , وهذه كلها ما وضعت إلا لمعارضة الدين , وقد أقنع هؤلاء وغيرهم أهل الأرض أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة , تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية وكل شيء في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه ( قانون الطبيعة ) وإن الكون لا يحتاج لقيامه بهذه القوانين لإله يحكمه ويحركه .
وقد شهدوا هم بذلك واعترفوا فقال ( تاس ديو دباركس ) : ( لقد اجمع علماء هذا العصر على نظرية النشوء والارتقاء وقد بدات هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة , فكل مشكلة تحتاج إلى ( إلها ) في تفسيرها توضع مكانه ـ أي مكان الإله ـ هذه النظرية بغير تردد ).
بينما يقول ( آرثر كيث ) ليكشف سر هذا الإجماع أيضا : ( إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا , ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان ونحن لا نؤمن بها , إلا أن الخيار الوحيد بعد ذلك هو ( الإيمان بالخالق الخاص المباشر ) وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه ) .
كيف إذن نقول بأن هذه النظريات متوافقة مع الكتب المقدسة وهي كلها لم توضع إلا لنقض الدين ؟
في شجاعة يعترف العالم المسلم ( وحيد الدين خان ) ويقول في كتاب ( الاسلام يتحدى ) أنه وقع في هذا الخطأ عندما كان يحاضر في إحدى الجامعات باستعراض نظرية علمية أراد إثبات توافق الدين معها وأشار إلى مقال لفرويد فقال : ( فوقف أستاذ لعلم النفس , أثناء فترة الأسئلة وقال : لقد أشرتم إلى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية , على حين يعارض فرويد معارضة كاملة تلك النظرية التي تمثلونها ) .
إن هذا النهج سلكه علماء المسلمين الآن , يستدلون على أمور دينية بأقوال لرجال تجريبيين , بينما هؤلاء يعارضون الدين بالكلية , بل إن ما قالوا به كان بديلا عن الدين كما رأينا .
ولم يترك علماؤنا نظرية من النظريات إلا أتوا بها وعرضوها كثبت علمي ثم جاءوا بآيات ما , على أنها سبق ديني , وهكذا توفقت جميع النظريات , ما ثبت منها وما لم يثبت مع قرآنهم .
أليست كارثة ان نقرأ ما يقوله بعض علماؤنا الأفاضل : إن العلم أثبت ان الشمس ستكف عن إرسال أشعتها بعد 50 بليون سنة وأن الأرض ستكف عن الدوران عند ذلك , ويقولون : وهكذا أثبت العلم الحديث ان هذا الكون سينتهي وهو ما أخبر عنه القرءان منذ اكثر من ألف وأربعمائة سنة !!
= والغريب أننا لم نسمع أن احدهم مرة واحدة استخرج من القرءان حقيقة علمية يجهلها الناس ثم يثبتها العلم بعد ذلك , بل إنهم يقفون بالمرصاد لأي نظرية تقال ويستخرجون لها بعد ذلك ما يثبتها ويؤيدها من القرءان .
ويحلل ( وحيد الدين خان ) ما يقوم به علماؤنا فيقول : ( هناك من علمائنا من يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين. ولكنهم ، لشدة تأثرهم بالفكر الحديث ، يرون ان كل ما توصل اليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على اثبات ان هذه النظريات ، التي سلم بها علماء الغرب ، هي نفس ما ورد في القرآن الكريم ، وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة في التطبيق والتوفيق بين الاسلام وغيره ، هي نفس الطريقة التي تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. واية نظرية تقدم على هذا النحو، يمكنها ان تكون تابعة ، ولكنها لا يمكن ان تكون رائدة ! ولو خيل إلى أحدنا انه يستطيع ان يغير مجال الفكر في العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ، ليشرق على البشرية نور الحق ، فهو هائم ولا شك في عالم خيالي ، لا يمت إلى الحقائق بسبب.. فان تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق، بل عن طريق الثورة الفكرية ) .
وسنرى في طيات هذا الكتاب العجب العجاب لمحاولات التوفيق بين نظريات هذا العصر والقرءان .
 
( 12 )
الكتب المقدسة والمعطيات العلمية :
= ليس معنى قولنا بتناقض النظريات المعاصرة مع الكتب المقدسة أن هذه الكتب لا تحتوي على علوم ومعارف كونية , بل الأمر عكس ذلك تماما فكل ما في السماوات والأرض مذكور في الكتب من بداية الخلق حتى نهايته , بل فيها علم عما فوق السماوات حتى العرش وما تحت الأرض حتى أسفل سافلين .
وقد عاتبت علماء الغرب من المؤمنين أنهم لم يتناولوا بالدراسة الكتاب الأخير الذي أنزله الله على محمد , ولو كانوا فعلوا ذلك لتغيرت نظريات كثيرة من المعروضة علينا الآن , وقد قام واحد فقط من هؤلاء العلماء , ليس فقط بدراسة القرءان , بل وأيضا بمقارنته مع الكتب المقدسة الأولى , ثم بمقارنتهم جميعا مع المعطيات العلمية الحديثة , وسأورد خلاصة ما توصل إليه هذا العالم ليس لاتفاقي الكامل معه , بل لانفراده وريادته لهذا النهج الذي كان ينبغي أن يفعله من يريد العلم والوصول إلى الحقائق .
لماذا لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم :
= إنني لا اجد سببا لعدم الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله لتبليغ الرسالة الأخيرة والخاتمة للبشر , لماذا لم يصدقوه مع ان الرجل لم يدع لنفسه شيئا , لم يدع إلا لعبادة الله , نفس الدعوة التي دعا بها المسيح عليه السلام ونفس الدعوة التي دعا بها موسى عليه السلام , نفس الدعوة التي دعا بها زملاؤه وإخوانه من الأنبياء والرسل ؟
لماذا يكذب وهو يدعو إلى مكارم الأخلاق , والصدق , والأمانة , وفعل الخيرات والحب والتسامح , والعفو , والصفح , وإتقان العمل , وإكرام الضيف , والاحسان إلى اليتيم والأرملة وابن السبيل , وصلة الرحم , وهي نفس المباديء التي دعا إليها السابقون من الأنبياء .
لا أدري .. ما السر في تكذيبه ؟ وهو أول المؤمنين بعيسى المسيح نبيا ورسولا , وبموسى الكليم نبيا ورسولا , وهو أول المؤمنين بالانجيل والتوراة , وهو أكثر المعظمين لقدر أم المسيح ( مريم ابنت عمران ) : ولم يقل في أمه ( آمنة بنت وهب ) ما قاله في أم المسيح , وذكر أن الله تعالى أوحى إليه في مريم وليس في آمنة : ( يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) .
لست ادري .. لم يكذب هذا الرسول الذي يبلغ الناس أن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر البغي , وجاء بقول الله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ) النحل : 90 , هل يكذب من دعا إلى ذلك ؟
لماذا لا يقرءون رسالته ويناقشونها , ويفعلون معها كما يفعلون مع الرسائل العلمية فيولونها اهتماما في البحث والدراسة , بحياد تام , وبالرغبة في الوصول إلى الحق , وما من شك في انهم لن يجدوا في هذه الرسالة مطعنا , لم لا يقرءون الرسالة الأخيرة من الله إليهم ؟ نعم هي إليهم لأنها رسالة للعالمين وليس لسكان الجزيرة العربية وحدهم وهم مخاطبون فيها , ومكلفون بها وسيسألون عنها مثلهم مثل العرب سواء بسواء , والله تعالى لم يعتبر الذين آمنوا به وبكل الكتب وبكل الرسل ولم يؤمنوا بمحمد رسولا مؤمنين , فلا بد من الايمان به والايمان بالكتاب الذي نزل إليه ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) التغابن : 8 .
 
( 13 )
( موريس بوكاي ) عالم فرنسي شهير , قال في مقدمة كتابه القيم : ( دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ) : ( لقد كانت مقابلة النصوص للكتب المقدسة أمرا لازما لصحة النص المقدس , ولكن تطور العلم كشف للمفكرين عن وجود نقاط خلاف بين الاثنين وبهذه الطريقة خلق ذلك الوضع الخطير الذي جعل اليوم مفسري التوراة والانجيل , يناصبون العلماء العداء إذ لا يمكن في الحقيقة أن نقبل بان رسالة إلهية منزلة تنص على واقع غير صحيح بالمرة ) .
أما عن الاسلام كرسالة فيقول بوكاي : ( إن الاسلام قد اعتبر دائما , أن هنالك اتفاقا بين معطيات الكتاب المقدس والواقع العلمي , وإن دراسة نص القرءان في العصر الحديث لم تكشف عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا , فالقرءان يثير وقائع ذات صفة علمية , وهي وقائع كثيرة جدا , خلافا لقلتها في التوراة , إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جدا لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرءان , وانه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرءان العلمية مع وجهة النظر العلمية , وتلك هي النتيجة الأساسية التي تخرج بها دراستنا ) .
ويقول أيضا ( إن الدراسة التي نقدمها الآن تختص بما تنبئنا به الكتب المقدسة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية الكثيرة ولابد من الملاحظة أن الوحي القرءاني غني جدا في تعدد هذه المواضع وذلك على خلاف ندرتها في العهدين القديم والحديث ) .
ثم يذكر ما توصل إليه من دراسته قائلا : ( لقد قمت أولا بدراسة القرءان الكريم وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة , باحثا عن درجة اتفاق نص القرءان ومعطيات العلم الحديث , وكنت أعرف قبل هذه الدراسة أن القرءان الكريم يذكر أنواعا كثيرة من الظواهر الطبيعية لكن معرفتي كانت وجيزة ) .
وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن احقق قائمة ادركت بعد الانتهاء منها أن القرءان لا يحتوي على أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث .
وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والانجيل , اما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب أبعد من الكتاب الأول أي سفر التكوين , فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين اكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا , وأما بالنسبة للأناجيل فما نكاد أن نفتح الصفحة الأولى منها حتى نجد أنفسنا دفعة واحدة في مواجهة مشكلة خطيرة ونعني بها شجرة أنساب المسيح , ذلك أن نص إنجيل ( متى ) يناقض بشكل جلي إنجيل ( لوقا ) , وإن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الانسان على الأرض .
غير أن وجود هذه الأمور المتناقضة وتلك التي لا يحتملها التصديق , وتلك الأخرى التي لا تتفق مع العلم , لا يبدو لي انها تستطيع ان تضعف الإيمان بالله ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر ) .
ثم وصل ( بوكاي ) إلى القرءان , وبعد دراسته الدراسة المستفيضة التي بلغت به إلى أن يتعلم اللغة العربية حتى يفهم النص القرءاني من مصدره دون الاعتماد على الترجمات حتى انه سافر إلى مهبط الوحي ليتحرى الدقة في المعلومات فقال : ( الواقع أننا إذا استثنينا اليوم بعض الحالات النادرة نجد أن غالبية العلماء وقد تشربوا النظريات المادية لا يكنون في غالب الأحيان إلا عدم الاكتراث أو الاحتقار للمسائل الدينية , وكثيرا ما يعتبرونها مؤسسة على أساطير , وزيادة على ذلك فإننا عندما نتحدث في بلادنا الغربية عن العلم والدين نغفل ضم الاسلام إلى اليهودية والمسيحية , فالأحكام غير الصحيحة والمؤسسة على مفاهيم مغلوطة والتي صدرت ضد الاسلام هي من الكثرة بحيث يصعب جدا على المرء أن يكون فكرة سليمة عما عليه الاسلام في الواقع ) .
ثم خلص بوكاي من دراسته للقرءان ومقارنته مع المفاهيم العلمية الحديثة إلى أن قال : ( وتناولت القرءان منتبها بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية , لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي لا يمكن ان تدرك إلا في النص الأصلي , أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات والتي لم يكن ممكنا لأي إنسان في عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون عنها ادني فكرة ) .
....
ومع تقديري الشديد لإجراء الأستاذ بوكاي لهذه المقارنة الفريدة وما توصل إليه من نتائج فإنني لا اوافقه على التسليم بأن القرءان متفق تماما مع المعطيات العلمية الحديثة , ولا أن التوراة والإنجيل مختلفة تماما معها , فيما هو متعلق بالعلوم الكونية وسنرى ما يؤيد ذلك , وبالطبع ليس الخطأ في القرءان أو التوراة أو الانجيل بل ...
في العلوم الحديثة .
 
( 14 )
.. بدء الخلق ..
ففي البدء كان الله ..
ولم يكن شيء قبله ..
ولم يكن شيء معه ..
ولم يكن شيء غيره ..
وكان عرشه على الماء ..
وكتب في الذكر كل شيء ..
وخلق السموات والأرض .
روى البخاري عن عمران ابن الحصين رضي الله عنهما قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب , فأتاه ناس من بني تميم فقال : ( اقبلوا البشرى يا بني تميم "قالوا : بشرتنا فأعطنا ( مرتين ) . ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم " قالوا : قد قبلنا يا رسول الله . قالوا : جئنا نسألك عن هذا الأمر . قال " كان الله ولم يكن شيء غيره , وكان عرشه على الماء , وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين . فانطلقت فإذا هي يقطع من دونها السراب . فوالله لوددت أني كنت تركتها .
يروي البخاري , وهو أوثق جامع لأحاديث الرسول الصحيحة , هذا الحديث الذي مع عمران بن الحصين أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه دخل عليه ذات يوم بعدما ربط ناقته امام الباب , وبينما هو جالس إذ جاء ناس من بني تميم عندما بدأ رسول الله يحدث الحاضرين عن بدء الخلق والعرش فقال لوفد بني تميم " اقبلوا البشرى " أي اقبلوا مني ما يقتضي لو عملتم به ان تنالوا الجنة . ويبدو ان الوفد لم يبد اهتماما بهذا الأمر , على الرغم من جلالته , مما غير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفا عليهم لإيثارهم الدنيا فلما جاء اهل اليمن , قال لهم مثل قوله لوفد بني تميم ,فقبلوا البشرى واظهروا اهتمامهم بالأمر , بل إنهم صرحوا له أنهم جاءوا من بلادهم ليتعلموا العلم وخاصة السؤال عن أمر الخلق والعرش الذي توافق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث فيه . فقالوا : قد قبلنا وقد جئناك نسألك عن هذا الأمر , أي الذي تتحدث فيه الآن . فقال صلى الله عليه وسلم : " كان الله ولم يكن شيء غيره , وكان عرشه على الماء , وكتب في الذكر كل شيء , وخلق السموات والأرض " عند هذا الحد سمع عمران بن حصين ـ راوي الحديث ـ مناديا ينادي من الخارج : ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلق عمران ليدرك ناقته التي تفلتت وشردت بعيدا كبعد السراب لمن يراه . ولما عاد عمران مرة أخرى إلى مجلسه , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتهى من حديثه فندم عمران على قيامه وقال : فوالله لوددت أني كنت تركتها . أي ذهبت ولم أقم . تأسفا على ما فاته من العلم في هذا الأمر الذي في سبيله قدم من بلادهم إلى المدينة ليسألوا عن بدء الخلق , والعرش , ما شابه ذلك .
إلى هذا الحد بلغ الحرص بهؤلاء ان يقطع قوم شهرا ذهابا ومثله إيابا من اليمن إلى المدينة ليسألوا في هذا الأمر . وإلى أن يتمنى الرجل ان يفقد ناقته وهي من كرائم اموالهم في مقابل ألا يفوته هذا الباب من العلم .
وقد تكرر شرح هذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكثر من مرة , لتشوق الناس إلى معرفته ولأداء المهمة المنيطة به . وقد بلغ من عظم الأمر , ولرغبة الناس في المعرفة أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم يوما كاملا لا يقطعه إلا الصلاة فحدثهم عن كل شيء متعلق بأمور الخلق .
روى مسلم واحمد عن أبي زيد النصاري قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم صعد على المنبر فخطبنا حتى حضرت صلاة الظهر , قم نزل فصلى صلاة الظهر , ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت صلاة العصر , ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس , فحدثنا بما كان وما هو كائن , فأعلمنا احفظنا ) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل اهل الجنة , وأهل النار منازلهم , حفظ ذلك من حفظ ونسيه من نسيه ) رواه البخاري .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : ( توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علما ) رواه البخاري .
إن هذه الآثار تخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بكل شيء في الكون منذ بدء الخلق حتى دخول الجنة أو دخول النار , واستفاضة الأحاديث تدلنا على ان هذا الإخبار تم في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة , منها مرة خطبهم يوما كاملا فحدثهم عن كل شيء , ونقل الصحابة للتابعين ما حفظوه , ونقلوه جيلا بعد جيل , وأثبتوا ما علموه في الكتب والمصنفات , وهذه الأحاديث ما هي إلا شرحا وتبيانا لآيات القرءان الكريم , وأصبح لدى المسلمين ذخيرة كبيرة من العلوم والمعارف عن الكون وما فيه , فلماذا نستورد علوم الكون من الكافرين ؟
إن نظرة في بضع ورقات من أي كتاب لعالم من علماء الاسلام في قرونه الأولى تعطي علما لا يبلغ بكل رحلات الفضاء .
 
( 15 )
= ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق , ثم الله ينشيء النشأة الآخرة , إن الله على كل شيء قدير ) العنكبوت : 20
إنه تعالى أمر فقط بالسير في الأرض فلا يكون البحث في الفضاء .. لأنه ( فضاء )
ثم : هل كان غير المؤمنين الذين ساروا في الأرض وسبحوا في السماء يبحثون عن هذه الأمور : المبدأ والميعاد وأن الله على كل شيء قدير ؟ لنرى :
لقد اتيحت للبشرية بعد عصر النهضة وسائل وأدوات لم تكن في متناول من كان قبلهم .. هذه الوسائل اختصرت المسافات , ووفرت الجهد , وقربت البعيد , وأظهرت المخفي , وأخرجت الخبأ , وأصبح السير في الأرض يستغرق دقائق أو ساعات بعد أن كان يتم في أشهر وسنوات , ووصل الأمر إلى أن أصبحت الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها بين أيديهم ونصب أعينهم .
فهل استفادوا بذلك للبحث في (كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة , إن الله على كل شيء قدير)
الدكتور ( إدوارد لوثر كيسيل ) عالم الحياء يقول عن الهدف من سيرهم في الأرض : ( وطبيعي أن البحوث العلمية لم يكن يقصد منها إثبات وجود الخالق , فغاية العلوم هي البحث عن خبايا الطبيعة واستغلال قواها , وهي لا تدخل في البحث عن مشكلة النشأة الأولى فهذه من المشكلات الفلسفية )
السير ( جيمس جينز ) الفلكي الأشهر والطبيعي الأكبر يقول بعد سيره الطويل في الأرض .. بل وفي السماء:(إن هذا الوجود ( الكون ) ليس له وجود فعلي , بل هو مجرد صورة في أذهاننا وأننا نعيش في عالم من الأوهام ) .
أما ( يوري جاجارين ) أول من سبح في الفضاء فقد قال بعد أول تجربة قام بها في الخروج من الأرض والصعود في الفضاء قال عندما نزل إلى الأرض : ( صعدت لأبحث عن الله فلم أجده ) .
إذن فقد كذب هؤلاء بالوحي , ورفضوا أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق وكيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده , فكيف يكون لديهم علم بالأرض أو السماء ومن أين ؟ وقد حكم الله عليهم بأن يكونوا في الظلمات ,وأخبرنا بأنهم ( لا يعقلون , ولا يعلمون , ولا يفقهون , ولا يبصرون ) وأنهم ( غافلون ) .
ليس أمامنا إذن غير مصدر واحد وهو الله , خالق كل شيء , وهو أصدق القائلين , وهو الذي بين لنا كل شيء , وهو الذي فصل لنا كل شيء , أما ما وصل إليه هؤلاء من علوم ونظريات كونية فهي لا تلزم المؤمنين في شيء , فهي كما قال ( إيرل تشستر ريكسي ) بأمانة : ( النظريات الحديثة التي تفسر نشاة الكون والسيطرة عليه بصورة تخالف ما جاء في الكتب السماوية , تعجز عن تفسير جميع الحقائق وتزج بنفسها في ظلمات اللبس والغموض , وإنني شخصيا أؤمن بوجود الله وأعتقد في سيطرته على هذا الكون )
إن هذه النظريات (التي تفسر نشأة الكون والسيطرة عليه بصورة تخالف ما جاء بالكتب السماوية) تبناها العلماء بشدة وأخذوها بقوة , سواء منهم العلماء التجريبيون أم علماء الشرع , والغريب أن نجد علماء الغرب التجريبيين يعتبرون ما توصلوا إليه ( نظريات ) أي وجهات نظرهم في الأمر , أما علماؤنا (علماء الإعجاز العلمي ) فعندما يعرضون هذه النظريات فإنما يفعلون ذلك على أساس انها حقائق علمية مثبتة تم التوصل إليها .
غيب السماوات والأرض :
دائما ما ينظر الناس إلى السماء ـ إذا نظروا إليها ـ على أساس أنها المجهول واللانهاية والتيه , والغموض والأسرار , والابهام , وكل ما يمكن ان يقال من قاموس اللغة في هذا الشأن , وهذه ليست نظرة إيمانية , بل إنها نظرة تشككية , نظرة من لا يلتزم بدين ولا يتبع آيات .
إن المؤمن له نظرة غير هذه , نظرة الموصول بالله , خالق السموات والأرض , المرتبط بالوحي والتابع للأنبياء والرسل اللذين رأوا ملكوت الله إما رأي العين , وإما بإخبار الله لهم , والثانية لا تقل صدقا عن الأولى .
ولقد أنفق في سبيل استكناه ما سموه بالغموض بلايين الجنيهات , مما كان يكفي لاشباع قارة جائعة لعدة اعوام .. ولأن الله تعالى قضى عليهم بالجهل فإنهم لم يعلموا ولن يعلموا شيئا , قال تعالى ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق , وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا , وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا , ذلك بأنهم كذبوا يآياتنا وكانوا عنه غافلين ) الأعراف : 146
وليجب على هذا السؤال أي واحد من علماء الفلك : ماذا تعلمتم من رحلات الفضاء وما نتيجة كل أبحاثكم عن الكون ؟
إنني على يقين أنهم لم يصلوا إلى شيء ولن يصلوا .
يقول كبيرهم السير (جيمس جينز) في كتابه (النجوم ومسالكها) عما وصلوا إليه : (أبعد ما توصل إليه العلم الفلكي الحديث (وانتبهوا أيها السادة إلى هذا التلخيص الهام لأبعد ما توصلوا إليه) :
1 ـ الأرض ليست إلا فردا من أفراد المجموعة الشمسية .
2 ـ الأسرة الشمسية ليست إلا فردا من أفراد المجموعة المجرية .
3 ـ المجموعة المجرية ليست إلا فردا من أفراد المدن النجمية التي في الفضاء .
ثم يضيف الرجل (وإن كان وراء ذلك شيء فلا يمكن أن يكون سوى أكوان أخرى كاملة لا تفاعل بينها وبين كوننا) ...
أخيرا يقول هذا التجريبي , يأسا مما وصلوا إليه من التيه والضياع (امامكم عرض كبير من النظريات المختلفة لتختاروا منها ما تشاءون , ولكني شخصيا لا أضع ثقتي في أي منها) .
وهذا الفلكي الأشهر (أدوين هابل) يقول : (وهكذا انتهى استكشاف الفضاء إلى موقف الحيرة والالتباس , فكلما ازداد تقدمنا إلى أعماق الفضاء تضاءلت معلوماتنا فتلاشت سريعا) .
آمنت بالله , وصدق الله , أرأيتم ما يقوله كبراؤهم عما توصلوا إليه ؟ وماذا يقول كبراؤنا من اتباعهم ؟ انهم وصلوا إلى الحقائق العلمية , والقول الفصل , إن أي كلام يقوله أي واحد من التجريبيين الغربيين حتى ولو كان فرضا أو لغوا أو كلمة هو قائلها , يعتبرها كبراؤنا حقيقة علمية , وإثبات علمي .
هل يعقل ان (هابل) هذا و (جينز) تدرس أقوالهما ونظرياتهما التي يعتبرونها هم : (لا شيء) و (أنهم كانوا في حيرة والتباس) على طلاب العلم في مدارسنا وجامعاتنا ؟
ولم يكلف الله الانسان بالتعب والنصب للبحث في الكون , وان يلقي بنفسه في التهلكة , وقد قدم له كل ما يحتاج إليه , وكشف له تفصيلا كيف بدء الخلق , وبين له آياته في السماء والأرض , ويكفي الانسان ليطلع على آيات ربه ان يقرأ آياته المكتوبة , وأن ينظر في آياته المبثوثة في كل مكان حوله , مجرد النظر , دون تعب ودون كلفة وغرم .. فالأمر لا يحتاج أكثر من ذلك .
 
( 16 )
أيــــام الخلق
= تنص الكتب السماوية صراحة على أن الخلق تم في ستة أيام , لكن النظريات المعاصرة تخالف ذلك مخالفة فجة , حيث يقدرون أن الكون تكون ـــ وليس خلق ـــ في بلايين السنين , وما يدفعهم لهذا التقدير , أن هذا الكون تكون من تلقاء نفسه وليس بفعل قوي , قادر , آمر , عالم , حكيم , فكان لابد لكي يصل الكون إلى هذه الحالة التي هو عليها الآن أن يمر بعدة مراحل تستغرق بلايين السنين .
( احمد ابن تيمية ) و ( مصطفى إبراهيم فهمي ) نموذجان عربيان , الأول منحه علماء عصره لقب ( شيخ الاسلام ) , والثاني منحه علماء عصره لقب ( دكتور ) , يقول ابن تيمية معبرا عن الحقيقة الاسلامية : ( وأهل الملل متفقون على ان الله خلق السموات والأرض في ستة أيام , وخلق ذلك من مادة كانت موجودة قبل هذه السموات والأرض وهي الدخان , كما قال تعالى ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين ) وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجودا , كما جاءت بذلك الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين وكما دل اهل الكتاب , وتلك الأيام لم تكن مقدرة بمقدار حركة هذه الشمس وهذا الفلك فإن هذا مما خلق في تلك الأيام , بل تلك مقدرة بحركة أخرى )
اما دكتور ( مصطفى إبراهيم فهمي ) فيقول معبرا عن النظريات المعاصرة : ( إن كوكبنا بدأ بالانفجار العظيم , الذي حدث منذ ما يقرب من عشرة بلايين سنة ولم تتكون المجموعة الشمسية إلا منذ خمسة بلايين سنة ولم يبدأ ظهور الحياة إلا بعد مرور بليون سنة أخرى وتزيد . ثم حدث تطور بيولوجي بطيء من الكائنات البسيطة الأولى وحيدة الخلية ولم تظهر الكائنات المركبة متعددة الخلايا إلا منذ ست مائة مليون سنة وأخيرا منذ فترة تحسب بالآلاف لا غير ظهر الانسان العاقل )
وعلى قول الدكتور فالأرض لم تخلق كما قال الله وأخبر رسوله وأجمع علماء الأمم واتفق أهل الملل في ستة أيام , واختص الأرض منها أربعة أيام فقط بل تكونت الأرض خلال عشر بلايين سنة . فمن نصدق ؟؟
إنني أصدق الله .. وأصدق رسوله .. وأصدق التوراة والانجيل والقرءان , أما علماء الأرض الآن جميعا فهم يصدقون ما يقوله الدكتور مصطفى لا لشيء إلا لأنها نظرة الأسياد والكبراء الغربيين للكون , وهذه النظرية هي المعتمدة علميا والتي تدرس لطلاب العلم .
أما ( موريس بوكاي ) وهو عالم مؤمن فقد حاول أن يوفق بين ما يقوله الله وبين ما يقوله التجريبيون , وقال بان كلمة الأيام التي ذكرها القرءان لا تعني اليوم المعروف لنا وإنما تعني مراحل , وخطّأ الأستاذ كلمات التوراة التي تنص صراحة أنها أيام كأيامنا .
وللمرة الثانية أقول بأن الأستاذ بوكاي هو الذي أخطأ الفهم , ولم تخطيء التوراة في هذا الأمر , كما أن القرءان لم يقصد بكلمة ( أيام ) انها مراحل , ولا نجد مبررا لأن نستبدل كلمة مراحل بكلمة أيام , وكأن هذه الكلمة كانت غائبة عن علم الله عز وجلعز وجل شأنه , إن القرءان استخدم كلمة الأطوار في خلق الانسان لأن الأمر كان كذلك , ولم يستخدمها لخلق السموات والأرض لأنها لم تكن كذلك , قال ( موريس بوكاي ) : ( يقول القرءان ضمنا بفترات زمنية طويلة رقمها بالعدد ستة ولا شك أن العلم الحديث لم يسمح للناس بتقرير أن عدد المراحل المختلفة للعمليات المعقدة التي أدت إلى تشكيل العالم هو ستة مراحل , ولكنه أثبت بشكل قاطع أنها فترات زمنية طويلة جدا , تتضائل إلى جانبها الأيام كما نفهمها وتصبح شيئا تافها ) .
إذن فبوكاي يرى أن الأيام هنا لا تعني اليوم الذي نعرفه , ولا حتى اليوم الذي قال عنه البعض أنه بألف سنة , لأن التجريبيين قالوا فيها ان الفترة كانت بلايين السنين , والمشكلة أيضا ان العلم الحديث لم يقل بأنها حتى ستة مراحل , بل قال بلايين السنين .
 
( 17 )​
الشيطـــان
أشهر مخلوقات الله على الاطلاق , وكان من أعبد عباد الله , ولكنه لم يكن مخلصا في عبادته , فسقط في أول ابتلاء , وبدا ما كان يضمره في نفسه من الكبر والاستعلاء , وحب النفس إلى درجة الأنانية , وحب الشهرة ولو بأي ثمن , حتى أنه فرط في مكانة سامية بين الملائكة , وجنة عالية عند ربه حبا في الشهرة والاستعلاء .
وقد أوصلته عبادته لأن يسكن مع الملأ الأعلى في السموات رغم أنه مخلوق أرضي , وأن يعيش مع الملائكة رغم أنه من الجن , إلا أنه لم يقنع بما وصل إليه , إذ وجد نفسه رغم فضيلة المكان والسكان ليس له مكانة متميزة عن غيره , وأنه أصبح واحد في بلايين من الملائكة .
وكان الله يعلم ما يدور في نفسه ومع ذلك رقاه , وعلاه , حتى يكون السقوط مريعا , وأيضا لحكمة يريدها عز وجل , وهي أن يجعل منه فتنة وابتلاء للمخلوقات التي هيأ لها أرضه وهم البشر .
ونال الشيطان ما أراد وأصبح الأشهر في المخلوقات حتى فاقت شهرته شهرة الملائكة جميعا , والأنبياء قاطبة , وليس من مخلوق في أي مكان وفي أي زمان إلا ويعرف الشيطان , بل أنه عبد من دون الله , وظهر كثير من خلق الله على الأرض لا يعرفون الله ولكنهم يعرفون الشيطان .
هل أفلح الشيطان بذلك ؟ بالطبع خسر خسرانا مبينا , وكما قال الكتاب المقدس ( ما الفائدة لو كسبت العالم كله , وخسرت نفسك ؟ ) .
ولقد أهلك ابليس نفسه عندما عصى ربه عن سبق إصرار , عامدا متعمدا وذلك عندما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم فكان كما قال تعالى ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون , إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ) لم تكن خطيئة إبليس سهوا أو خطأ في الفهم أو عن غير قصد وإنما كان كما قال الله تعالى كفرا واستكبارا , وأعطاه الله الفرصة ليراجع نفسه , ويندم على ما فعل ويستغفره فيغفر له , ولكن إبليس لم يفعل , فاستحق ما وعده الله به , لعنه وطرده من جواره , واخرجه من بين الملائكة وأنزله إلى أسفل سافلين .
وعلم إبليس بهذا المصير , وأن مصيره النار حتما ولابد داخلها .. فعمد إلى آدم وبنيه وراح يتفنن كيف يغويهم , ونجح إلى حد كبير , بل نجح نجاحا عظيما : قال تعالى في سورة سبأ (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين , وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ) .
الخطيئة الكبري
إنها أول الخطايا , وأعظمها على الاطلاق , لم يعصى الله أحد مثل ما عصى إبليس , إن الكافرين والملحدين والمشركين في تاريخ الكون لم يروا الله ولم يسمعوه , وإنما أرسل الله إليهم رسلا من جنسهم , اما إبليس فالأمر يختلف , إننا نرى ونسمع حوارا مباشرا , إن الأمر جد مختلف , لن يتكرر هذا المشهد أبدا , ذلك الذي كان في الملأ الأعلى .
ولنرى ذلك المشهد , فالله جلت قدرته يصفه لنا كأننا نراه رأي العين : ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين , فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين , فسجد الملائكة كلهم أجمعون , إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين ) سورة ( ص )
إن الملائكة فور سماعها للأمر خرت ساجدة , الملائكة كلهم اجمعون , دون استثناء سجدت , وعندما رفعت من السجود رأت إبليس واقفا وحده بين جموع الملائكة التي لا يعلم عددها إلا الله , كان يقف وحده .
إنني كلما تخيلت هذا الأمر وجدتني لا أستطيع استجماع ملامح هذا المشهد الرهيب , لا أستطيع مجرد تخيل ان كل من في الملأ الأعلى ساجد بعدما أمر الله وإبليس وحده يقف شامخا امام الجبار منتصبا وقد هوى الجميع امامه وحوله سجودا لأمر الله , كيف احتمل إبليس هذا المشهد المهول .
لم تتصور الملائكة أن إبليس امتنع عن السجود , وظنوا أنه لم يسمع أو أنهم تعجلوا في السجود أو أي تبرير آخر لموقف إبليس هذا , ولم يخطر على بالهم انه يرفض السجود , وسجدوا مرة أخرى ليعطوا لإبليس الفرصة لأن يسجد , ورفعوا مرة أخرى من السجود فوجدوا إبليس لا يزال واقفا غير عابيء بالأمر , فعلموا حجم الكارثة , فنحن إحياءا لهذه الذكرى نسجد مرتين في كل ركعة كما فعلت الملائكة .
ورغم أن الموقف لا يحتاج إلى دليل على أن إبليس عصى ربه , ورغم اننا لا يمكن ان نلتمس لإبليس العذر في ما فعل , ورغم ان الأمر واضح تمام الوضوح , إلا أن الأمر متعلق بالرحمن الرحيم , بالغفور الودود , ذو العرش المجيد , متعلق باللطيف , بالصبور , بالحليم , بالكريم , بالعظيم ..
ويعلم الله تعالى ما في نفس إبليس لماذا لم يسجد , يعلم الله ذلك تماما إلا ان المربي العظيم يعلم عباده درسا من انفع الدروس وهو : ألا نتعجل في الحكم دون ان نلتمس العذر , وان نعطي فرصة للمخطيء ليدافع عن نفسه .
أننا نكاد نرى هذا المشهد بأعيننا ونسمعه بآذاننا وندركه بقلوبنا والحليم يتكلم فيقول :
( قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين ) الحجر
( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) الأعراف
( قال يا إبليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ) ص
إن الله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر , ويكره لهم أن يتعذبوا لأن عذابه أليم شديد , وهو تعالى يفعل كل ما من شأنه أن يعيد عباده إلى الصواب بارادتهم وإلى ما يرفع عنهم مقته وغضبه , حتى إذا ما بدا منهم ألا سبيل إلى الرجوع كان أخذه ( إن أخذه أليم شديد ) هود ...
وعلى رغم هذا الموقف الذي تم في الملأ الأعلى وفصله لنا الله تفصيلا والذي بدا منه كم الحقد والغيرة والحسد والضغينة التي يحملها إبليس لآدم وذريته , وعلى الرغم من تحديه السافر لبني آدم واستعراضه لسيناريوهات الحرب معهم , وتعريفهم بالجهات التي سيأتيهم منها (القعود على صراط الله المستقيم والاتيان من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) , والطرق والوسائل التي سيستخدمها معهم ( الاغواء والعري والاستفزاز والمشاركة في الأموال والأولاد ) , وعلى رغم التحذير الصريح من الله
تعالى الذي حذرنا فيه من إبليس قائلا ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) الأعراف , وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن معظم بني آدم سيقعون تحت إغوائه وفتنته , لذلك يقول الله تعالى وقد جاء بنو آدم يوم القيامة واستوجب معظمهم النار ( ألم اعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين , وان اعبدوني هذا صراط مستقيم , ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون , هذه جهنم التي كنتم توعدون , اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ) سورة ( يس ) .
 
( 18 )​
إبـليــس ..
لقد اتبعت معظم البشرية إبليس عليه اللعنة في مخالفة الله , وتتحسر عندما تجد النبي يبعث في آلاف مؤلفة من الناس فلا يتبعه إلا قليل .
لقد أرسل نوح إلى أهل الأرض بعدما خالفوا الرحمن واتبعوا الشيطان , ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الإيمان بالله , وعندما تنتهي مهمة نوح مع قومه ويأمره الله بأن يركب الفلك مع المؤمنين به , يعتصرك الأسى وانت تقرأ قوله تعالى ( وما آمن معه إلا قليل ) هود
وتتعجب عندما تعلم حصيلة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في دعوته لقومه كم آمن به في المرحلة الأولى من دعوته ( في بابل ) ( فآمن له لوط ) العنكبوت .
وإذا ذهبت إلى قرى لوط السبعة لتبحث فيها عن المسلمين فلا تجد أحدا على الاطلاق إلا بيت لوط ولم يكتمل عدده لكفر امرأته ( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) الذاريات .
وقرية أرسل الله فيها ثلاثة من المرسلين فلم تكن الحصيلة إلا رجلا واحدا قتله قومه لاتباعه المرسلين , فانتقم الله منهم أجمعين وجعل الله هذا الرجل من المكرمين , وهكذا الحال في كل الأمم , مع كل المرسلين , باستثناء موسى عليه السلام , الذي اتبعه عدد لا بأس به , ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل رحمة للعالمين وكان من اكثر الأنبياء اتباعا .
واستحق إبليس عليه اللعنة غضب الله وقال تعالى له : ( قال فالحق والحق أقول , لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) سورة (ص) , اعتمد إبليس في تلبيسه على الناس بمخالفة الله بتحريضهم على تحريف كلماته المنزلة فحرفوها , حتى نزل القرءان وتكفل الله تعالى بحفظ هذا الكتاب من التحريف وعلم إبليس أنه لا سبيل لتحريف كلمات الله هذه فحول نشاطه إلى تحريف معانيها .
ولأن أهداف إبليس كبيرة وبعيدة العمق , فهو لا يعجل وإن كان يحث الناس على العجلة , فهو يضع خطته ويرسم اهدافه , وينفذها بخطوات , خطوة , خطوة , المهم ان يصل في النهاية بالناس إلى مخالفة الله تعالى , مخالفة قوله وأوامره ,وفطرته , وبذلك استطاع عليه اللعنة ان يقلب أفكار الناس , وأحوالهم , وفطرتهم رأسا على عقب .
فهل يتصور عقل سويّ أن سبع قرى بكامل اهلها تقلب فطرتها فيشتهي الرجال بعضهم بعضا ويزهدون في النساء ؟ لقد تم ذلك في قوم لوط .
وهل يتصور عقل سويّ أن أمة بأسرها يقلب حالهم فيعتبرون خير الكسب وأفضل العيش أن يسرق بعضهم بعضا ويغش بعضهم بعضا ؟ لقد حدث ذلك مع قوم نبي الله شعيب .
وهل يتصور عقل سويّ أن امة بأسرها ينقلب فكرها فتظن الخير والنفع في حجارة يعلمون انها لا تنطق ولا تسمع ؟ لقد كان ذلك في قوم إبراهيم .
وهل يتصور عقل سويّ أن أمة أكرمها الله , تعبد عجلا صنعته بأيديها وعملته بنفسها ؟ لقد فعل ذلك بنو إسرائيل بعد أن أنجاهم الله من فرعون وجنوده ورؤيتهم آيات الله في ذلك .
ولو رحنا نحصي عجائب البشر في انتكاس فطرتها ومخالفتها ليس فقط لأوامر الله بل لأبسط قواعد العقل والفطرة , فلن ننتهي .
ولعل من أكبر الأمور عجبا وأعظمها غرابة أن يستطيع إبليس إقناع أكثر البشر الآن على مدار قرن من الزمان بأن هذه الشمس التي يرونها بأعينهم تدور حولهم , والتي ظلت البشرية منذ فجر التاريخ وما قبل التاريخ , أي منذ وجود الانسان على الأرض وهم متفقون جميعا على أن الشمس تدور حولهم , وعلى رغم قول الله في كتبه كلها أن الشمس تجري وتطلع وتغرب , وعلى الرغم من بعث مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ورسول إلى البشر , لم يقل واحد منهم بغير ذلك , إلا أن إبليس نجح نجاحا منقطع النظير أن يقلب كل ذلك ويقلب فطرة كل سكان الأرض ويكذبوا أعينهم ويخالفوا ربهم ورسلهم وأسلافهم ممن عاش قبلهم على الأرض فيقولون ان الشمس هي مركز عالمهم , وأن الأرض التي يقفون عليها ويعيشون فيها هي التي تدور بهم وبمدنهم وقراهم حول الشمس , وكذلك كل الكواكب الدراري تدور حول الشمس التي سموها (أم) في آخر الزمن .
هل يتصور عقل سويّ ان ذلك يكون ؟ وممن ؟ من الجيل الذي زعم صعودا إلى فضاء ومشيا على القمر , وجعل الأرض مثل الكرة بين يديه , الجيل الذي ظهرت فيه أعظم المخترعات وأخطر الاكتشافات , الجيل الذي فيه ملايين المؤمنين بالقرءان الذي يقول ( الأرض قرار ) ويقول ( والشمس تجري ) وفيهم ملايين المؤمنين بالكتب المقدسة الثابت فيها أن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها , وفيهم رجال الفكر والفن والأدب والسياسة , يضحك إبليس على كل هؤلاء ويستغفلهم ويقلبهم رأسا على عقب كما قلب فطرة قوم لوط وقوم شعيب وقوم إبراهيم .. وغيرهم وغيرهم .
ورب قائل يقول إن مخترعاتهم ومكتشفاتهم هي التي أدت إلى هذا الانقلاب كاكتشاف من الاكتشافات .
نقول : إن إبليس نجح أن يقنع البشر بذلك قبل هذه الاختراعات والاكتشافات حتى يكون هو صاحب الفضل في هذا التحويل وانه وحده عليه اللعنة الذي قلبهم على رؤوسهم .
ام ترى : هل كانت البشرية كلها والحضارات كلها هي التي كانت على ضلال وهذا الجيل فقط في هذا القرن , هو الذي عرف الحقيقة التي عميت على الأسلاف ؟ كما يقول (عباس محمود العقاد) : (وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة وهي أظهر ما تراه العيون , وتحسه الأبدان , ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الأحلام والألغاز , ولم يخطر لأحد ان ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام , ولعلها لا تزال ) .
إنه لأمر غريب حقا , بل لعله من أغرب الأمور التي حدثت في حياة البشر , أن يعيش الناس ومعهم أنبياؤهم في ظلام طوال تاريخهم على الأرض , وقد ظهر فيهم فلاسفة ومفكرون أثروا في عقول الناس أحقابا .
ثم كيف يترك الإله عبيده في ظلام وضلال من هذا الأمر طول هذا الوقت ؟ لماذا لم يتطوع أحد الأنبياء المائة وأربعة وعشرين ألفا وينبهوا أممهم لهذا الضلال وهم الذين حدثوهم عن كل كبيرة وصغيرة ؟ وكل حق وحقيقة مهما كان عجيبا وغريبا ؟
أم ترى أن الأنبياء والمرسلين انفسهم كانوا يجهلون هذا الذي علمه كوبرنيقوس وجاليليو ؟
رباه .. إنه لأمر محير .. هل كان جاليليو الذي كان عدد النسوة اللائي كان ينام معهن أكثر من عدد الرجال الذين عرفهم , أعلم بالكون من محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أطهر من ماء السماء ؟ هل جاليليو الذي لم يتزوج وعاش حياته بين المومسات أعلم من عيسى روح الله ابن الطاهرة البتول ؟ هل كان جاليليو الذي أنجب أولاده جميعا من الحرام أعلم من موسى كليم الله , المخلص الرسول ؟ رباه .. أين الحق ؟ أين الحقيقة ؟ .
لكن ما ضرني إذ لم أعرف الحقيقة ؟ ما ضرني لو كانت الشمس هي التي تجري حول الأرض أو أن الأرض هي التي تفعل ؟ هل سيغير هذا من الأمر شيء ؟ هل سيؤثر ذلك علي في شيء ؟ ألست مستفادا بالشمس على أي حال ؟
لا .. لا .. الأمر أكبر من استفادتي للشمس .. وأكبر من مجرد علمي أو جهلي بحقيقة أمرها , الأمر أخطر .. إنه جد خطير , إذ لو كانت الشمس هي التي تجري والأرض ثابتة فإن ذلك يعني استنتاجا خطيرا , أن الأرض كلها ليس عليها رجل رشيد , ولكن هل هذا معقول ؟
ولو كانت الأخرى لكان الأمر أخطر وأفدح , إنه استنتاج لا يمكنني كمؤمن بالله وكتبه ورسله أن أتصوره .
ألا من حل وسط ؟
ولكن أي وسط بين أمرين ليس في الوجود كله أبين منهما , سكان الأرض الآن يقولون بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس .. هكذا ثبت لهم الأمر أخيرا .. وسكان الأرض من آدم حتى قبل قرن كانوا يقولون بان الأرض ثابتة وأن الشمس تجري حولها , وقد أخبرت بذلك كل الحضارات دون استثناء , وقد أيدهم في ذلك كل الأنبياء دون استثناء , وايدهم جميعا الله في جميع الرسالات من صحف إبراهيم وموسى إلى قرءان محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين .
 
( 19 )​
قصة إبليس مع الشمس ..
إن مقولة دوران الأرض حول نفسها , وحول الشمس , ومركزية الشمس للكون ثم التعديل إلى مركزيتها لمجموعة الكواكب , لها مع إبليس قصة , بل إن الشمس ذاتها لها مع إبليس قصة طويلة .
لقد استطاع إبليس بكل وسائله غير المشروعة , أن يخرج البشرية كلها متمثلة في (آدم) من الجنة ويهبط بها إلى الأرض بغوايته ( وعصى آدم ربه فغوى ) طه : 121 .
ونجح إبليس أن يقنع آدم وزوجته حواء بأن يأتيا النهي الوحيد لهما وأن يأكلا من الشجرة الوحيدة المحرمة من دون كل شجر الجنة , ولم يترك إبليس في سبيل ذلك وسيلة إلا فعلها فوسوس , وقال , وخدع , وغش , وحنث في قسمه , وفي النهاية .. نجح .
وكان رمز نجاح إبليس أن تعرى آدم وزوجه وكشفت عورتهما , ولولا توبتهما السريعة والصادقة لخسرا خسرانا مبينا .
وقصة إبليس مع الشمس من أكبر قصصه , فرغم أنها أعبد خلق الله لله , وأطوع خلق الله لله , وأنفع خلق الله لخلق الله , فقد نجح إبليس أن يعبد معظم الناس الشمس , هذه المسخّرة لهم , المذللة لمنفعتهم , الدائبة لخدمتهم , استطاع إبليس ان يقنع الناس باتخاذها إلها يعبد من دون الله .
المطالع لتاريخ البشر يجد ان الشمس احتلت المركز الأول بين الآلهة التي عبدت من دون الله , ولم ينل معبودا ما نالته الشمس من عبودية من البشر .
لذلك ليس غريبا ان يجعلها الله اول واكبر علامة على مجيء يوم القيامة بطلوعها يوما بين يدي الساعة من مغربها , وليس عجيبا ان يكورها الله تعالى يوم القيامة ويلقي بها في النار , وقد كانت من اعظم العباد لله , وليس ذلك تعذيبا لها , فهي ستكون في النار مثلها مثل خزنة النار من الملائكة , ولكن ليراها البلايين الذين اطاعوا الشيطان وعبدوها انها معهم في النار ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون , لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون ) الأنبياء .
إن أمما بأسرها بحكامها ومحكوميها , بعلمائها وعوامها , بحكمائها وسفهائها , برجالها ونسائها , أغواهم الشيطان فعبدوا الشمس التي هي خادمة لهم ومسخرة .
هذه أمة من أسعد الأمم , وحضارة من أكبر الحضارات يغويها الشيطان بالشمس وقص الله علينا في سورة ( النمل ) خبرها فقال تعالى حاكيا عن هدهد سليمان عليه السلام : ( فمكث غير بعيد فقال احطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين , إني وجدت أمرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم , وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون , ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون , الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم )
القدماء المصريون وصلوا إلى حضارة خلدها التاريخ , ورغم ان الله تعالى دمرها فقد أبقى بعض أطلالها لتشهد لهم بما أتوا , وبقدرة الله عليهم , رغم ذلك يقول تعالى ( ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ) الأعراف : 137 , فإذا كانت هذه الآثار العظيمة الموجودة حتى الآن هي جزء لا يذكر مما دمره الله لهم فكم تكون صناعتهم وحضارتهم وعظمتهم , غرر بهم الشيطان وعبدهم للشمس , فكانت اعظم آلهتهم وأول معبوداتهم , فبنوا لها المعابد , وسموا باسمها المدن , واتخذ كثير من الأسر الفرعونية قرص الشمس رمزا لهم , وتاجا على رؤوس ملوكهم , وكانت على المدى الطويل الإله الرئيسي بين الآلهة .
وكانت الشمس في أجزاء متعددة من بلاد الشرق موضوعا بارزا للعبادة ففي بلاد ( إليريا ) ( منطقة قديمة كانت على ساحل البلقان ) وجد تراث قديم لعبادة الشمس .
وفي سوريا كانت المدينة التي نسميها مدينة ( بعلبك ) معروفة عند اليونان باسم ( هليوبوليس ) أو مدينة الشمس , وكذلك في بلاد ما بين النهرين حيث انتشرت عبادة الكواكب , اما في فارس فقد كانت الشمس أحد الضباط الأساسين لأهورا مزدا في صراعه في الظلام , وكان ل ( سول ) إله الشمس عبادة قديمة في روما ومع تحرك مركز الجاذبية للإمبراطورية الرومانية تجاه الشرق أن تزداد عبادة الشمس قوة , ولقد كانت قوية بالفعل في الدعاية للامبراطورية فكان بيت نيرون الذهبي مسكنا ملائما للشمس المجسدة , كما أضفى انطونيوس , الامبراطور الروماني على الشمس احتراما خاصا , ولقد أصبحت عبادة الشمس مهيمنة في عهد أسرة سيفروس فكان إله الشمس يصور مع لحية سيفروس ( من أباطرة الرومان ) المتميزة , واتخذ الامبراطور لقب ( الذي لا يقهر ) وكان هو اللقب الخاص بالشمس , وكان ذلك تطورا طبيعيا , فالشمس كانت رمزا توحيديا ونقطة تجمع للامبراطورية بأسرها .
وفي عام 274 م نصب أورليان إله الشمس إلها أعظما للامبراطورية الرومانية , وقال أرنست رينان ( إمبراطور روماني ) لو أن المسيحية انهارت لسادت في العالم عبادة الشمس .
وقد كانت مسيحية الامبراطور قسطنطين مسيحية مبهمة غامضة فأسرته كانت تدين بالولاء التقليدي لإله الشمس .
ونظرا للدور الذي لعبه الشيطان مع البشر باستغلال الشمس , فقد كان للشمس دور بارز وشأن آخر في الاسلام , فقد اعيد للشمس وضعها الصحيح ووضعت في مكانها الطبيعي , ونفى عنها ما ليس لها , وأثبت لها ما خلقت له , فهي في العقيدة الاسلامية جرم من اجرام السماء تعمل في خدمة الانسان فهي مسخّرة له , تدور حول الأرض دائبة , طائعة لربها ومسخرها , ليس لها من أمرها شيئا , إنما امرها لله .
وبعد أن كانت الشمس قبل ظهور الاسلام أشهر الآلهة , وأول معبود , فقد أصبحت أكبر رمز للعبادة , والعلامة الرئيسية لعبادات المسلمين الكبرى لله الواحد الأحد , فبها تتحدد مواقيت الصلوات الخمس وبها ينتهي الصوم , وبغروبها تجب زكاة الفطر , والوقوف بعرفة في الحج , وبطلوعها يتحدد مواقيت صلاة العيدين , حتى عندما تكسف تشرع صلاة الكسوف , وهي كلها عبادات تؤدى لله سبحانه وليس لها , ثم بطلوع الشمس من مغربها إيذانا بانتهاء عمر أمة الاسلام
وعند ذلك تنتظر الأرض ومن فيها والسماء ومن عليها قيام الساعة .
هكذا جعلت أمة الاسلام الشمس دليلا على عبادة الله على غير كل الأمم , يقول تعالى ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) الاسراء : 7 , ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع لشمس وقبل غروبها ) طه : 130 .
وغلقا لباب الفتنة وسدا للذرائع نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حال شروق الشمس أو غروبها , لعدم التشبه بعبادها .
وهكذا أعيد الوضع الطبيعي والصحيح للشمس , أنها عابدة لا معبودة , وانها مسخرة لخدمة اهل الأرض .
وبالطبع لا يرضي هذا إبليس فبدا يعمل مرة أخرى لتغيير الوضع , ولأن قصته مع الشمس , لا تنتهي إلا بنهاية الشمس , فهو عليه اللعنة اتخذ لنفسه عرشا , وجعله تحت الشمس مباشرة , ليرضي غروره متوهما ان الشمس تسجد له عندما تسجد لله , وانها تطلع من عنده عندما تطلع من مستقرها .
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ان الشمس تطلع بين قرني الشيطان ) والمؤكد انه لا علاقة للشمس بالشيطان , ولا شان لها به , لكنه هو الذي جعل عرشه تحت مستقرها , ثم هو ينتصب بقرنيه كلما وصلت الشمس إلى هذا المستقر ليبدو انها تشرق أو تغرب من بين قرنيه .
وقد عمل عليه اللعنة بصبر وتؤدة على ان يغير الناس نظرتهم إلى الشمس وخاصة المسلمين الذين أنهوا عبادة الشمس بين الناس , وظلت بعقيدتهم التي نشروها تدور مسخرة حول الأرض لعدة قرون , كأن إبليس يقول للبشرية : تكفيكم هذه القرون من تعبيد الشمس لله , ولتعد للشمس قداستها .
 
( 20 )​
كذب المنجمون ولو صدقوا
وجاء كوبرنيقوس : ( 1473 ـ 1543 )
وطبقا لخطة محددة من إبليس بدأ بتنفيذ خطواتها خطوة خطوة , واوحى إلى كوبرنيقوس بالفكرة , وذلك لتغيير الأوضاع القائمة , لا لشيء اكثر من مخالفة الله , وبتغيير وضع الشمس التي طال استقرارها أكثر مما ينبغي .
ووضع كوبرنيقوس ما أوحاه إليه الشيطان في كتاب سماه ( حركات الأجرام السماوية ) قال فيه : ( في هذا المعبد الكبير , من ذا الذي يستطيع أن يضع تلك الشعلة المضيئة في مكان آخر سوى المركز , حيث تضيء كل الأشياء في وقت واحد . فهذه الشمس هي نور العالم , بل هي روحه بل هي التي تتحكم فيه وهي جالسة على عرشها القدسي , ترشد أسرة الكواكب إلى طريقها ) .
كانت هذه أيها السادة الآية الشيطانية الأولى في كتاب كوبرنيقوس الذي كان السبب في الإنقلاب الكبير , فلم يكن الأمر بأدلة او بإكتشاف خطأ البشرية القديم , بل كانت البداية ملحدة , كافرة , أن الشمس من فوق عرشها القدسي تنير وترشد وتتحكم في العالم , وهذه صفات الربوبية والألوهية , تعطى للشمس لكي تعبد من جديد من دون الله , ثم جاء كوبرنيقوس بأدلة بعد ذلك ( مسروقة ) ليثبت بها ألوهية الشمس , والحقيقة أن هذه الأدلة التي سرقها كوبرنيقوس كانت تثبت عبودية الشمس وحركتها وتسخيرها ,ولكنه بالغش والخداع استبدل الألفاظ بغيرها على الوضع الذي سنراه .
يقول ( احمد سعيد الدمرداش ) في عرضه لكتاب ( حركات الأجرام السماوية ) لكوبرنيقوس : ( لأول وهلة عند قراءة كتاب كوبرنيقوس الذي يتألف من ستة أجزاء لا يستطيع المرء أن يفرق بينه وبين كتاب المجسطي للخوجه نصر الدين الطوسي , نفس الترتيب ونفس جداول القسي واوتارها وجداول القسي وجيوبها , فقط غير كوبرنيقوس موضع الشمس بموضع الأرض ) .
ثم يضيف ( الدمرداش ) : ( اما في جداول حركات أوساط القمر وجداول الاختلافات الجزئية , وجداول اختلافات مناظر النيرين في دائرة الارتفاع , وجداول الاجتماعات والاستقبالات , فتكاد تكون نقلا , ذلك لأن كوبرنيقوس لا يعقل أن يقوم بكل الأرصاد التي أخذت من الذهن البشري آلافا من السنين قبله , فهو اكتفى بذكرها بعد إدخالها في إطار نظامه الجديد ) .
وهذا هو الكتاب الذي استبدلت كلماته بكلمات الله , كتاب مسروق , كل ما فيه هو تماما ما في كتاب تحرير المجسطي للخوجة نصر الدين الطوسي , ولم يات فيه كوبرنيقوس بجديد كل ما فعله أنه استبدل كلمة الأرض بكلمة الشمس والعكس , وانقلب نظام الكون بهذا الأسلوب .
والحقيقة أن فكرة دوران الأرض لم يكن كوبرنيقوس هو مفكرها ومبتدعها إنما قال بها قبله الفيلسوف الإغريقي فيثاغورث ـ الذي ظهر قبل ميلاد المسيح ـ ولم تحظ مقولته بقبول أو اهتمام ولم يلتفت لها أحد , ولم تخرج من الورق الذي كتبت فيه , والتي وقعت في يد كوبرنيقوس فأخذ الفكرة ووجدها مناسبة لحل بعض معضلات أراء بطليموس في تفسيره لحركة الأجرام السماوية , وقد وجد بها كوبرنيقوس تعقيدا , لأن الدوران الذي فسر به حركة الكواكب كان يعتمد على دوران كل كوكب حول نقطة معينة , هذه النقطة تدور بدورها حول الأرض وسمى بطليموس هذا الفلك الذي يدور فيه حول مركز وهمي أنه فلك التدوير بموجبه يكون الكوكب السيار الدائر حول الأرض مقتربا من الأرض حينا ومبتعدا حينا آخر , أثناء دورانه , على أن الفرق بين البعد والقرب ليس كبيرا , وهذا تفسير خاص ببطليموس كتفسيرات غيره التي لا تعتمد على دين ولا على علم حقيقي لأنهم جميعا لم يشهدوا خلق السموات والأرض .
ورغم ان هذا التفسير لم يرق لكوبرنيقوس إلا انه جاء بتفسير أعقد , أخذ الفكرة فيه من فيثاغورث الذي قال فيها قولا فلسفيا , غير أن كوبرنيقوس حوره على اساس تجريبي رياضي حيث قد بدأ في أوروبا آنذاك ظهور علامات الاتجاه التجريبي الذي كان ولادته على يد جاليليو الذي يعتبرونه رائدا لهذا المذهب , وهو مذهب ينبذ النظريات الفلسفية التي تعتمد على مجرد الفكر والتأمل والاعتماد على التجربة والمشاهدة مع تنحية فكرة ( الإله ) جانبا , ليتحركوا في تجاربهم دون قيد من دين أو فلسفة .
بنى كوبرنيقوس نظريته على الأسس التالية :
  1. لا توجد مراكز لجميع الدوائر والكرات السماوية .
  2. مركز الأرض ليس مركز الكون بل هو مركز الثقل لها فقط .
  3. أن الشمس هي مركز الكون وجميع الكرات تدور حولها .
  4. بعد الأرض عن الشمس يعتبر ضئيلا بالنسبة لارتفاع كرة النجوم الثوابت .
  5. للأرض حركة دورانية حول نفسها كل يوم وما يشاهد من حركات النجوم نتيجة لحركة الأرض .
  6. للأرض حركة أخرى سنوية حول الشمس .
  7. للأرض حركة ترنحية ( مثل حركة النحلة التي يلعب بها الأطفال ) فإنها تترنح عند دورانها .
  8. تدور الأرض في دائرة ليست الشمس في مركزها , بل مركزها نقطة أخرى هذه الأخيرة تدور حول الشمس .
ووقع كوبرنيقوس في تعقيد أشد مما أخذه هو على تفسير بطليموس السكندري لحركات الكرات السماوية , وتعرض لنقد عنيف نتيجة التناقض الكبير في تفسيره ونظريته .
وشعر كوبرنيقوس بخطورة ذلك التحول الفكري , وتصادمه مع المحسوس , وتناقضه مع الدين ومعتقدات الناس جميعا فاستشهد بإحدى قصائد شاعر الرومان ( فرجيل ) الذي يقول :
" إننا نبحر في الميناء
نرى البلاد والمدائن تتحرك إلى الوراء
هذه حواسنا التي تخدعنا كل يوم
فما نراه متحركا هو في الحقيقة ساكن
والنجوم نشاهدها كل يوم تتحرك , وهي ليست كذلك
إن الأرض التي نقف عليها هي التي تتحرك " .
وعلى هذا فقد انكر كوبرنيقوس كل الظواهر المرئية واعتبرها نتيجة لدوران الأرض أي أنه في مقابل إثبات بطليموس لحركات غير مرئية للأجرام السماوية حيث أنها تدور حول نقطة معينة ثم وهي تدور حول الأرض . فهكذا قال بطليموس وأرسطو . فيأتي كوبرنيقوس ليلغي هذه الحركة غير المرئية , ويقابلها أيضا بإلغاء الحركة المرئية الظاهرة ويقول بتفسير حركاتها بدوران الأرض حول نفسها بينما هي ثابتة .
هذه هي نظرية كوبرنيقوس , لأن بطليموس أثبت للكواكب حركة غير مرئية فيلغي هو ليس الحركة غير المرئية بل الحركة المرئية أيضا , ثم تكون أدلته من كتاب نصر الدين الطوسي , بل الكتاب ذاته بعد ان يستبدل مواضع الشمس بالأرض ينسب الكتاب إلى نفسه , ولم يفطن أحد لهذه السرقة إلا في أيامنا هذه .
وقوبلت نظرية كوبرنيقوس بانتقادات شديدة منها : ان الحركة السريعة التي أثبتها للأرض حول نفسها وحركتها حول الشمس كفيلة بان تقذف جميع الأجسام الموجودة عليها إلى الخارج فلا يبقى على الأرض شيء .
وكان رده على هذا النقض بان أرسطو أيضا يقول بان النجوم الثوابت معلقة كالقناديل في كرة شفافة هي الفلك الأخير رغم انها أسرع دورانا من أي كرة فإن النجوم لا تتناثر في الفضاء , هذا هو رده , فكما ان النجوم لا تتناثر من فلكها المسرع فكذلك الأشياء التي على الأرض .
كما اعترضوا على نظريته بأننا إذا أطلقنا قذيفة عمودية فوق الأرض فإنها بعد مدة ستسقط في مكانها ولو كانت الأرض تتحرك وتدور فلن تسقط القذيفة في مكانها , ورد كوبرنيقوس بقوله : إن الجسم المقذوف يأخذ حركتين , حركة لمركز الأرض بطبيعته وحركة دورانية حول الأرض وهذه الثانية لا نراها .
يقول ( الدمرداش ) : ( قام كوبرنيقوس بالرد على الاعتراضات بنمط هجين , تصورات أرسطاطاليسية مع أفكار غريبة , وفي الواقع إن نظرية مركزية الشمس للكون التي نادى بها كوبرنيقوس في متنه الكبير , قد خلقت ناقصة التكوين واحتاج الأمر إلى سنين اخرى ليظهر عباقرة امثال جاليليو ونيوتن يقومون بتدعيمها فيزيقيا ورياضيا ) .
لقد كتب كوبرنيقوس متنه هذا ليس على أساس ان ما توصل إليه فيه هو الحق , بل إنه كان مفترضا لما يقول , ويقال أنه لعدم قناعته الكاملة بنظريته ونقص الأدلة العلمية , ولخشية السخط العام , فإنه لم ينشر نظريته حتى توفي , فقام ( رثيكوس ) احد تلامذته بنشر الكتاب بعد ثلاثة عشر عاما من تأليفه وذكر في مقدمته أنه يعرض النظرية ليست على أساس ثبت علمي بل كافتراض قابل للعكس , لهذا ظلت نظرية كوبرنيقوس قرنا من الزمان لا يرد عليها نظرا لتهافتها وللقناعة التامة من جماهير الناس بعكس ما يقول كوبرنيقوس , لذلك لم يحدث صدام بين كوبرنيقوس والكنيسة , وقد كانت أراء كوبرنيقوس معلومة للكنيسة ولأوساط العلماء والتجريبيين والفلاسفة , قبل أن ينشرها في كتاب , لأنه نشرها قبل ذلك في مقالات , وذكرها في محاضرات , إذ أن الكنيسة رأت ان ما يعرضه ( مجرد إفتراضات لا تؤثر في الحقيقة او واقع الأمر شيئا , بل كان مفكرو عصره يتندرون على آرائه كلما ذكرت , يقول : ( مارتن لوثر ) : ( أرى الناس يصغون إلى منجم جديد يبذل جهده في البرهنة على أن الأرض هي التي تتحرك لا السماء وما فيها من أفلاك وكيف يريد هذا المعتوه أن يقلب أساس علم الفلك , والكتاب المقدس يخبرنا بان يوشع أمر الشمس بالوقوف لا الأرض ) .
ويؤيد ( كالفن ) ذلك القول بقوله بعد الاشارة إلى أحد نصوص التوراة : ( إن الأرض ثابتة بحيث لا يمكن تحريكها , ومن ذا الذي يتجاسر بان يضع رغبة كوبرنيقوس فوق إرادة القدرة الالهية ) .
وإن لم تكن الكنيسة قد تدخلت , فقد انتقد المفكرون كوبرنيقوس ذاته بشدة وذلك لأنه قال ما يعارض الدين بهذه النظرية التي ليست فقط تفترض دوران الأرض وثبات الشمس , بل بإلغاء فكرة العلة الإنسانية لنظام الكون وهي مبدأ أساسي في الدين , كذلك تلغي نظريته فكرة وجود محرك لهذه الكرات السماوية , بل إنها تتحرك بإرادتها وبتأثير الشمس وليس أمرا آخر , وجاء نيوتن وأكد ذلك بنظرية الجاذبية التي ألغت فكرة الإله بالمرة .
إن كتاب كوبرنيقوس عن الحركات للكرات السماوية , وكتاب جليليو " الحوار " الذي أيد فيه هذه النظرية وحاول إثباتها , اتمنى ان يقرأهما علماء المسلمين ليروا كيف أن هذين الكتابين الذين احدثا الانقلاب الكوني كما نرى كانا أساسا لمعارضة فكرة الدين وإلغاء كل المباديء الدينية , ذلك الذي أثار حفيظة رجال الكنيسة , وليروا كم كانت ضربتهم هم للدين قاصمة لتأييدهم أفكار هذين الرجلين , واتهامهم لرجال الكنيسة بالجمود والتسلط .
 
( 21 )​
رائد عصر الإلحاد : جاليليو جاليليه
لقد كان من الممكن أن تدفن أفكار كوبرنيقوس في طي النسيان حيث مر قرابة قرن من الزمان ولم يتغير في الكون شيء , ولم يكن ثم جديد عن الشمس والقمر , لولا أن سخر إبليس جنديا جديدا من جنوده الذي كان أجدل من كوبرنيقوس , إنه جاليليو جاليليه الذي ولد في 15 فبراير عام 1564 في مدينة ( بيزا ) الشهيرة ببرجها المائل , وتلقى علومه بجامعتها وعين مدرسا للرياضيات بتلك الجامعة .
ثم بدأ اهتمام جاليليو بعلم الفلك وقرأ كتابات كوبرنيقوس واقتنع بها وراح يناصرها في محاضراته وكتاباته , وكان اكثر ما جذب جاليليو لأفكار كوبرنيقوس معارضتها لمباديء الدين الأساسية .
وبدأ جاليليو أولا بابراز عدم تنافر التعاليم الكوبرنيقية مع تعاليم الكنيسة , ثم بعد ذلك طالب جاليليو رجال الكنيسة بعدم تدخلهم في الأمور العلمية وتركهم يقولون ما يقولون حتى لا تبدو الكنيسة في موقف العاجز في المستقبل .
وعلى الجانب الآخر بدأ جاليليو يدعو لتعاليم كوبرنيقوس , جرأة منه ومن علماء عصره في تناول قضايا تمس صميم الدين , فحرمت بعض الكتب العلمية وهي ليست بالطبع علمية بالمعنى الصحيح للعلم , بل كانت في الحقيقة كتب كفرية , ووجهت الكنيسة تحذيرا إلى جاليليو للكف عن مناصرة الأراء الكوبرنيقية .
وفي عام 1632 أنهى جاليليو كتابه وطبع ( الحوار ) وهو الكتاب الذي غير نظام الكون رأسا على عقب رغم أنه لم يأت بأدلة جديدة على ادلة كوبرنيقوس غير أنه عمل على الرد على جميع الانتقادات التي وجهت للنظرية , هذا فضلا عن احتواء الكتاب لأراء تنطوي على كفر صريح بالدين وتكذيب لأمور الغيب من الجنة والنار والعرش والملائكة وغيرها ولولا خشيته من رجال الكنيسة لأنكر وجود الله , غير أنه وإن كان قد أثبت للكون إلها فقد كان إلها كالعدم فقد سلبه جميع خصائص الألوهية والربوبية ليصبح إلها خاصا بعلماء عصر النهضة شبيها بعض الشيء بإله أبي جهل وأبي لهب إلا ان الأخيرين على كفرهما أكثر إيمانا من جاليليو وأتباعه .
وإزاء هذا الموقف من جاليليو فقد حذرت الكنيسة بيع الكتاب بعدما احتال جاليليو على طبعه , وإذ لم يمتثل جاليليو بقرار الحظر , تم تشكيل محاكمة لمحاسبته بسبب ذلك .
وخلال أربع جلسات للمحكمة تراجع جاليليو عن آرائه وتنصل من كتابه وتبرأ من كوبرنيقوس وأشيع الآن كذبا أن جاليليو ظل يصرخ في الجلسات وفي محبسه بمقولة , أراد علماء اليوم ان يصنعوا بها من جاليليو بطلا أسطوريا .
وإن كان في الحقيقة قد أصبح كذلك دون حاجة لأي كلام إذ أشيع انه كان يردد هذه العبارة حتى صارت مثلا ( ومع ذلك فالأرض تدور ) , بل إن الذي يعلمه المطلعون والباحثون ان جاليليو تبرأ راكعا من كل ما قال , وقال : ( إنني لم اتمسك بالآراء الكوبرنيقية , كما انني لم أتمسك بها منذ أن صدر لي الأمر بالكف عنها وعلى كل حال , فإنني أؤيدكم فلتفعلوا إذن ما ترونه ) .
ومثلما فعل كوبرنيقوس بكتابه ( حركات الكرات السماوية ) وقال فيه : إن هذه الكرات لا يحركها محرك من خارجها بل تتحرك بإرادتها وبتوجيه من الشمس , وكانت هذه هي البذرة لإلغاء وجود الله , ذلك الذي لم يصل إليه كفار العرب عندما قال عنهم الله في سورة العنكبوت الآية 61 ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنا يؤفكون ) فقد فعل ذلك أيضا جاليليو بكتابه الحوار الذي جاء ليقضي على اهم المباديء التي قام عليها الدين ويجتثها من الجذور , حتى قال البابا ( أوروبان الثامن ) ( لقد كان جاليليو باعثا لأكبر فضيحة للمسيحية ) .
نعم إلى هذا الحد تشبع جاليليو بالأفكار الإبليسية والتعاليم الكوبرنيقية ووجه سهاما مسمومة إلى المباديء الأساسية للدين , وأصاب جاليليو الغرض وانتشر اسمه ليس فقط في أوروبا بل في كل القارات , وليس فقط في المسيحيين بل وفي المسلمين واليهود على السواء .
جاء بمقدمة الحوار , وقد كتبت له مقدمات إحداها لأينشتاين : لقد كان مبدأ جاليليو هو تعديل لما روجت له الكنيسة من احكام علمية منها :
  1. أن الأرض تشكل شيئا دنيئا ممتلئا بالرذيلة بينما السماء هي دار الفضيلة ومن ثم فإن الأرض تختلف عن السماء في الجوهر والمرتبة .
  2. أن كل ما في السماء من كواكب ونجوم قد خلقت لعلة الأرض ومن أجل إنارتها وإسعادها , ومن ثم فيتحتم أن تكون الأرض في المركز من السماء وأن كل الأجرام السماوية تدور في أفلاكها حول هذه الأرض .
  3. أن فوق أرضنا هذه سبع سماوات بعضها فوق بعض , طبقة فوق طبقة ثابتة حول الأرض .
  4. أن الأرض خلقت لعلة الانسان وجعل ما في الكون لعلته وخدمته .
هذه أيها السادة المباديء التي كانت تروج لها الكنيسة والتي من أجلها كما يقول واضعو مقدمات الكتاب ألف جاليليو كتابه , وهو فعلا ما يفهم من الكتاب الذي وضعه جاليليو في ثلاثة أجزاء ليبطل بالدليل ما تروج له الكنيسة من تعاليم. ورغم ان جاليليو بكتابه هذا هو الذي أيقظ الفتنة النائمة القائلة بدوران الأرض وثبات الشمس ومركزيتها للكون , فإنه لم يات بدليل على ذلك سوى دليل واحد لا غير في كل أجزاء كتابه الثلاثة وفيها أكثر من ألف صفحة , وباقي الكتاب دحض لتعاليم الكنيسة التي ذكرناها بكم هائل من الفلسفة , والسفسطة والجدل العقيم , الذي لا يمكن بأي حال ان يقنع سوى الكاره للدين , المنكر لوجود إله لهذا الكون .
والآن تعالوا لنرى دفوع جاليليو التي أوردها في كتابه الذي غير به الأحوال :
اما عن الدفع الأول :
فقد عمل جاليليو على إثبات أن الأرض متحركة مثلها مثل الأجسام السماوية الأخرى , وهي تمتلك صفاتها , وجوهر الأرض لا يختلف عن جوهر هذه الأجسام , بل إنها تتفاعل معها وتؤثر فيها كتأثير الند للند , وهي في سلسلة من الكواكب تدور حول الشمس ليست هي اول أو آخر أفرادها , فإن كان الحال هكذا فلم التطلع إلى السماء باعتبار ان فيها الدار الأسنى والتي تسكنها الملائكة وتستقر فيها الأرواح الخيرة بعد تركها تلك الأجسام المتعفنة , وإن كان الحال كذلك فلم تكون الجنة في السماء , أو النار في كوكب كذا وكذا .
هذا هو الدفع الأول الذي دفعه جاليليو وأراد إثبات أن الأرض لا تختلف عن غيرها من الأجرام السماوية وهي لذلك تدور مثلها , وأنه ليس هناك شيء اسمه أدني وآخر أسمى , وليس في السماء ملائكة , ولا أرواح المؤمنين , ولا جنة ثم ولا نار , فالكون كله ليس إلا أعداد هائلة من الأجرام السماوية السابحة في الفضاء الذي ليس له نهاية , استغرق الرد على هذا الدفع الجزء الأول من كتاب جاليليو ( الحوار ) .
أما الدفع الثاني :
تمثل في القول بأن الكون يحتوي على عدد لا نهائي من النجوم التي تحيطها الكواكب , تختلف في أبعادها عن مركزها , كاختلاف أبعاد كواكب المجموعة الشمسية عن مركزها وهو الشمس , ومن ثم فإن احتمال توفير ظروف جوية مماثلة لتلك السائدة فوق الأرض , أو باختصار احتمال وجود عدد لا نهائي من الأراضي في هذا الكون يظل قائما ما قامت الأرض , وما وجدت مجموعتنا الشمسية نفسها , إذن فالأرض ليست مركزا لمجموعتنا الشمسية , أو لكوننا الصغير , ولا هي مركز للأكوان الصغيرة الأخرى , كما أن احتمال وجود حياة فوق ملايين الأراضي المحتملة فوق هذا الكون تنفي أن يكون الكون كله قد خلق لعلة الانسان الأرضي , أو هي على الأقل , لم تحسم بعد من الناحية العلمية , هذا ما قاله ليثبت عدم اهمية الأرض وأن غيرها في الفضاء ملايين , ومن عند جاليليو بدأت تظهر هذه الأرقام الضخمة التي تسمى بالأرقام الفلكية , وحتى الآن وبعد غزو الانسان للفضاء , وبعد تعمقهم بأجهزتهم إلى عمق 6000 بليون سنة ضوئية كما يزعمون لم يكتشفوا أرضا ثانية .. كأرضنا .
أما الدفع الثالث :
ردا على قول الكنيسة " إن فوق أرضنا سبع سماوات بعضها فوق بعض " فقد دفع جاليليو بقوله "إن الكون إنما هو فراغ شاسع مليء بالمجموعات الشمسية المتناثرة تتحد فيها الظواهر وفقا للوضع النسبي بين الأجسام الكونية المختلفة وهو لذلك لا يحتوي على فوق مطلق ولا على تحت مطلق "
وعلق الدكتور ( على حلمي موسى ) الذي وضع مقدمة الترجمة العربية على مقولة جاليليو : " إن الكون إنما هو فراغ شاسع " فقال : " لم يشأ جاليليو بالقول بلا نهاية الكون التي أدت بالكنيسة إلى الحكم على الفيلسوف ( جيردانو برونو ) بالموت حرقا في 17/2/1600 , وإن هذا ما يفهم ضمنا من الحوار " .
وهذا القول وغيره في حواره فهمت منه الكنيسة اعتقاد جاليليو بلا نهاية هذا الفضاء وأنه لا توجد فوق الأرض أي سماوات وكان ذلك من أسباب محاكمته .
أما الدفع الرابع :
ردا على قول الكنيسة " بأن الأرض خلقت لعلة الانسان وجعل ما في الكون لعلته وخدمته " قال جاليليو "إن احتمال وجود حياة فوق ملايين الأراضي المحتملة في هذا الكون , تنفي ان الكون كله قد خلق لعلة الانسان الأرضي" .
..............................................
هذه هي دفوع جاليليو على تعاليم الكنيسة , أما دليله الوحيد في كتابه عن دوران الأرض فقد كان ظاهرة "المد والجزر" أي أن حركة الأرض هي التي تسبب المد والجزر فقال : "إنني أكرر وأركز على انه لا توجد حتى الآن إمكانية أخرى لتعليل حركات المياه في البحر المتوسط التي نستطيع مشاهدتها فعلا , إذا كانت الأحواض المحتوية على مياهه غير متحركة" .
هذا الدليل على حركة الأرض لحركة المياه في البحار , أبطله كل علماء الأرض عندما قالوا بأن المد والجزر إنما هو من تأثير جاذبية القمر , وبذلك لم يعد في كتاب الحوار لجاليليو ما يدعو لأن يغير نظام الكون .
في مقدمة الترجمة الألمانية لكتاب الحوار لجاليليو يقول "إميل شتراوس" مخبرا عن تعاليم جاليليو وموقف الكنيسة منها : "لقد علمت الفلسفة الجديدة الناس أن الأرض نجم ككل النجوم , وأن النجوم أراض مثل أرضنا , لقد تكتلت المدارس المسيطرة آنذاك ضد هذه المعلومة , كما ان هذه الجملة كانت أساسا هي الفكرة التي هبت الكنيسة للدفاع ضدها , فحتى ذلك الحين اعتبر الناس الأجسام السماوية خالدة لا تتغير إلى الأبد , بل إنها أشياء سامية رفيعة لا ينبغي مقارنتها بحسالة هذا الكون القذر , وهي الأرض , فمع ان الانسان لم يعد يعتقد في انها مسكونة بالآلهة ـ كما كان يعتقد الإغريق والرومان ـ إلا أنه اعتقد انها مليئة بالأنوار الملائكية , وبرغم من ذلك فقد رأي أيضا انها خلقت جميعها من أجل خدمة هذه الأرض .
لقد كان تحرير العقول من هذه الأراء الدينية التي تضع اهمية كبرى للإنسان في الكون , وتعليمها أن الأجسام السماوية ـ وإن لم تكن مطابقة تماما للأرض إلا أنها يمكن مقارنتها بها , يمثل الخطوة الأولى تجاه المعرفة الخطرة ـ ولقد تحسست ذلك القوة المحافظة بغريزتها ـ التي تقول بان الانسان لم يخلق لعلة أشباح معينة , وانه ليس ثمة أشباح قد خلقت لعلته وانه عليه ان يمسك بزمام امره ويوجه خط سيره في الحياة حسبما تهيء له طبيعته " .
تلك هي تعاليم الكنيسة ـ عن الكون وخالقه ـ وهي تتفق في مجملها مع تعاليم الاسلام , وأن دفوع جاليليو كلها تحمل كفرا بواحا , لا يقل عن كفر فرعون وهامان .
 
( 22 )​
فتعاليم الاسلام تقول :
إن الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها بل إن كل ما في السماء يدور حول الأرض وأن كل هذه الأجرام مسخرة فعلا لأهل الأرض , وأن هذه الأرض ليس لها مثيل في هذا الكون , وأن فوقها سبع سماوات بعضها فوق بعض , وأن الجنة في السماء , وأن الملائكة تسكن السماوات وهي أجسام نورانية , وليست أشباحا , وأنها أيضا مسخرة لخدمة الانسان , وأن مستقر أرواح المؤمنين في السماء , وأن الأرض حقا ممتلئة بالرذيلة , والسماء هي دار الفضيلة لأن السماء تسكنها الملائكة التي لا تعصي الله طرفة عين , والأرض يسكنها الانس والجن وقد أفسدوا فيها وسفكوا الدماء , حتى قال تعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) الروم : 41 , ورغم ذلك فإن الانسان هو علة هذا الكون لقوله تعالى : ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) هود : 7 , أي أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في المدة التي ذكرها لابتلاء الانسان واختباره , وقال تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) الجاثية : 13 .
هذه هي التعاليم التي كان رجال الكنيسة يروجون لها , وهي التي نقم عليها جاليليو والملحدون معه , وقد قام رجال الكنيسة بصدهم آنذاك , ثم كان الفضل لنشر تعاليم جاليليو وإحيائها بعد وئدها يرجع إلى الذين عظموا جاليليو , وكل من جاء بعده الذين لم ينطقوا إلا كفرا .
ووجد من العلماء الآن من تحامل على رجال الكنيسة بدعوى محاربتهم للعلم ونظروا لجاليليو وأمثاله على أنهم رواده , وهذا واحد من أرجح علماء المسلمين عقلا وأوسعهم إطلاعا وأكثرهم حرصا وأعفهم لسانا وأرقهم فؤادا في هذا العصر , يقول في كتاب من أفضل ما أنتجه الفكر المعاصر هو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" , إنه عالم الهند الأشهر أبو الحسن الندوي "رحمه الله" يقول عن هؤلاء وأولئك : تحت عنوان : ( اضطهاد الكنيسة للعلم ) : "كان من اعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا ومن اكبر جناياتهم على انفسهم وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية , ومسلمات عصرية عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر , ولعلهم فعلوا ذلك بحسن نية ولكن كان من اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فإن ذلك كان سببا للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم الذي انهزم فيه الدين , ذلك الدين المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل هزيمة منكرة , وسقط رجال الدين سقوطا لم ينهضوا بعده حتى الان , وشر من ذلك كله وأشام أن أوروبا أصبحت لا دينية .
وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا , وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة , واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب , وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم , فقامت قيامة الكنيسة وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوروبا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي , وأنشئوا محاكم التفتيش التي تعاقب أولئك الملحدين والزنادقة .. وكان منهم العالم الطبيعي المعروف "جيردانو بورنو" نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم , وحكمت عليه بالموت حرقا , وهكذا عوقب العالم الطبيعي الشهير ( جاليليو جاليليه ) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس , هنالك ثار المجددون المتنورون وعيل صبرهم وأصبحوا حربا لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم , ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزي إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب , وعادوا الدين المسيحي أولا , والدين المطلق ثانيا , وكانوا إذا ذكروا الدين , ذكروا تلك الدماء الذكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق , وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم " . انتهي .
الكنيسة المفترى عليها :
وعندما تحريت الأمر , واطلعت على سيرة رجال الكنيسة آنذاك وسيرة العلماء أصحاب "الدماء الذكية" و "النفوس البريئة" علمت إلى أي حد يفتري التاريخ الذي كان يكتبه على مدار حياة البشرية , علمانيون , وأسفت إلى حال رجال الكنيسة الآن وقد صاروا لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا , وللأمانة التي يفرضها علينا الدين أسجل هنا موقفين لأولى الأمر من المسلمين في عصرهم الذهبي ( القرن الثاني الهجري ) وأولي الأمر من رجال الكنيسة في أسوأ عصورهم التي يقال إنهم وقفوا فيها ضد العلم والعقل وكيف تصرف رجال الكنيسة في عهد الظلمات , أو العصور الوسطى , أو محاكم التفتيش مع احد الكافرين بكل الأديان , وبكل الآلهة .
يقول محرر مدخل "كتاب الحوار" إميل شتراوس عن معاملة جاليليو أثناء المحاكمة بالجزء الأول من الحوار صفحة 138 فإن جاليليو لم يتلق تعذيبا جسديا ولكنه فقط واجه ما يسمى بالفزعة الخفيفة ...... انظر تفاصيل المحاكمة في الكتاب .
كانت هذه المحاكمة في عصر النهضة الذي اعتبر الملحدون فيه هم رسل المحبة والسلام , ورجال الدين هم البرابرة ومصاصو الدماء في القرن السابع عشر .
وحادث مشابه ـ ولا نقول محاكمة مشابهة لأنه لم يتم ذلك ـ حدث في عصر النهضة الاسلامي وهو القرن الثاني الهجري , ولكن مع الفرق فقد كان اولي الأمر الذين أنيط بهم الحفاظ على الدين وحماية الكتاب المقدس من المساس هم الذين يروجون لتعاليم مخالفة للكتاب , في حين ان العلماء المسلمين صناع عصر النهضة ذلك هم الذين كانوا يتمسكون بالكتاب وبنشر تعاليمه كما يريد الله , متتبعين سبيل رسول الله دون ان يحيدوا .
احمد ابن حنبل .. وجاليليو جاليليه :
في تاريخ البشرية حادثان متشابهان ومتناقضان في آن واحد , ووجه الشبه بينهما : ان كليهما حدث في عصرين للنهضة : عصر النهضة الاسلامي وعصر النهضة المسيحي , وتعلق الحادثان بمخالفة الكتاب المقدس لكل منهما , وتعرض بطلا الحادثين لمحنة واحدة والتصقت في كلا الحادثين صفة التشدد لمن تمسك بنص الكتاب , ووجه التناقض هو أن ما حدث في محنة جاليليو كان بعكس ما حدث لفتنة "أحمد ابن حنبل" بطل المحنة الأخرى .
فقد كان احمد ابن حنبل هو الوحيد في عصره الذي تمسك بتعاليم الكتاب المقدس "القرءان" وكان جاليليو هو الوحيد في عصره الذي تمسك بمخالفة الكتاب المقدس , رغم انصياع جميع زملاء جاليليو وجميع زملاء ابن حنبل لضغوط أولى الأمر.
كما كان عصر النهضة الاسلامي هو عصر أحمد ابن حنبل حيث بدات حركة تدوين الأحاديث وتفسير القرءان وظهور المذاهب الفقهية الاسلامية الكبرى , فقد كان عصر النهضة العلماني هو عصر جاليليو جاليليه حيث بدات فيه المذاهب التجريبية التي حلت محل المذاهب الفلسفية .
ومن اوجه التناقض للمحنتين , أن أولي الأمر في محنة أحمد كانوا هم المخالفين لنصوص الكتاب , والذين ينشرون تعاليم لم يقل بها الله ولا رسوله , بينما كان اولو الأمر في عصر جاليليو هم المتمسكون بنصوص الكتاب المقدس وتعاليمه .
ومن أوجه التناقض أيضا ان احمد بطل المحنة الأولى تعرض لأشد تعذيب , نتيجة تمسكه بالكتاب المقدس وعدم مخالفته في كلمة واحدة , مجرد كلمة أن يقول "القرءان مخلوق" بينما عومل جاليليو معاملة كريمة لم يتعرض فيها لأي أذى رغم مخالفته الشديدة للكتاب المقدس وعدم تمسكه بأي مبدأ من مبادئه .
ومن اوجه التناقض أيضا ان جاليليو بعد هذه المحنة أصبح رائد عصر النهضة وأصبح أحمد رائد أهل المتشددين ( افتراء على الامام) حتى أصبح مثلا يسب به كل متعنت ( انت حنبلي ؟) كذلك الحال مع رجال الكنيسة الذين تمسكوا بالكتاب المقدس أصبحوا عنوانا للتشدد والظلم والقهر , افتراء عليهم .
ثم كان التناقض في موقف الشخصيتين : فبينما نجد تمسك أحمد بالكتاب رغم كل المحاولات من وعد ووعيد وإغراء وتعذيب وطول حبس وقيام الخليفة بنفسه بامتحانه وتعذيبه بالصورة التي سنراها الآن , نجد جاليليو قد خر راكعا متذللا نادما , وعلى الصورة المزرية التي سنراها بعد قليل , هذا رغم انه لم يتعرض لأي أذى , وأغرب ما في الأمر أن يخرج جاليليو بعد ذلك بطلا ورائدا ورمزا , ولا حول ولا قوة إلا بالله ... انظر تفاصيل المحنتين في الكتاب .
الجزاء من جنس العمل :
وقبل مغادرة روما نقف على نهاية جاليليو الذي قال عنه أتباعه "أنه كان يتمتع بحواس ثائرة وكان يجد سرورا لا يعادله سرور في صحبة الغواني وعلى الأخص في صحبة واحدة منهن تدعى .... ولم يتزوج جاليليو أبدا , وقد كان لجاليليو ثلاثة أبناء دون أن يتزوج .
يقول جاليليو عن نهايته بعد أن سلبه الله النعمة التي لم يستفد منها , ولم يؤمن رغم كل ما رآه من آيات , فكف بصره , واستبد به الأسى : "إن هذا الكون الذي كبرته مئات المرات بكشوفي الغريبة وآلاتي العجيبة , قد انكمش بالنسبة لي من الآن فصاعدا إلى مجرد الحيز الصغير الذي يشغله جسماني " .
هكذا انتهى الحال بالرجل الذي حرك الأرض وأوقف الشمس , ضيق الله عليه الأرض بما رحبت حتى ضاقت عليه نفسه وهو الذي قال باللانهائية للفضاء .
يقول "إميل اشتراوس" في الثامن من يناير سنة 1642 , السنة التي ولد فيها إسحاق نيوتن مات جاليليو في حضور ابنه وزوجة ابنه وتلميذيه وممثلين اثنين عن المجلس المقدس .
وحول مراسم دفنه قام صراع ( كريه ) تقرر في نهايته دفنه في سكوت تام في رواق جانبي صغير بكنيسة سانتا كروس بفلورنسا .
لعل من الواجب علينا أن ننتقل الآن إلى بغداد لنلقى نظرة الوداع على الامام العظيم بطل المحنة الأولى "أحمد ابن حنبل" .
يقول ابن كثير : في ليلة الجمعة , الثاني عشر من ربيع الأول ـ الشهر الذي ولد فيه وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ اشتد بالامام الوجع . وروي ابنه عبد الله ، وابنه صالح أيضا أنه قال: حين احتضر أبي جعل يكثر أن يقول: لا بعد لا بعد. فقلت: يا أبت! ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة؟ فقال: يا بني! إن إبليس واقف في زواية البيت وهو عاض على إصبعه وهو يقول: فتَّني يا أحمد؟ فأقول: لا بعد، لا بعد - يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد - لأن أحمد يعلم أنه جاء في الحديث أن إبليس قال : يا رب وعزتك وجلالك ما أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني. وأحسن ما كان من أمره أنه أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله صبيحة الجمعة وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله. وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله ، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق.
وهذا وقد قام بإحصاء المشيعين غير واحد , بل تم إحصاء رسمي من الأمير محمد بن طاهر وذلك لعدم سابقة تجمع هذا العدد يقول البيهقي فبلغوا ألف ألف وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن ( أي مليون وسبعمائة ألف رجل وامرأة ) قال البيهقي رواية عن عبد الوهاب الوراق إنه قال : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الاسلام اجتمعوا في جنازة اكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد ابن حنبل , وقال الوركاني : ( جار احمد ابن حنبل ) أسلم يوم مات أحمد ابن حنبل عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس , وروى البيهقي عن الحجاج ابن محمد الشاعر انه قال : ما كنت احب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الامام احمد , وروى عن بعضهم قال : دفن اليوم سادس خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر ابن عبد العزيز وابن حنبل .
 
( 23 )​
انتقال الصراع إلى المسلمين :
في الربع الأول من القرن العشرين استطاع إبليس بضربة مزدوجة من إسقاط رمزين , أحدهما في الأرض والآخر في السماء.
أما رمز الأرض فهو الخلافة الاسلامية التي أسقطها عام 1924 وكانت تحملها الدولة العثمانية , آخر دول الخلافة حتى الآن , وقد كانت رمزا لوحدة المسلمين وتجمعهم والتفافهم حول راية واحدة على اختلاف أعراقهم , وتفتت الدولة الاسلامية إلى دويلات , ولم تقم للمسلمين قائمة بعد ذلك وحتى الآن .
واما الرمز الثاني الذي نجح إبليس في اسقاطه هو الرمز السماوي , عندما جعل الشمس هي مركز الكون بعد ان كانت تدور حول الأرض .
رفع الحظر عن كتاب "الحوار" بعد 200 سنة وذلك في 25 من سبتمبر 1822 وحتى هذا التاريخ ولعدة سنوات بعده ظل الناس على رأيهم بأن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها , ولكن مع بداية القرن العشرين بدأت في الظهور من جديد , ولكن هذه المرة على يد المسلمين .
لم تدخل أفكار كوبرنيقوس وجاليليو إلى البلاد الاسلامية إلا بين يدي الاحتلال الأوروبي وبواسطة المسلمين "المستغربين" أنفسهم الذين فتنوا بحضارة الغرب ولا يزالون , ولم تجد هذه التعاليم صدى في بلاد الاسلام في باديء أمرها , لرفض علمائنا لها واعتبارها مخالفة صريحة وواضحة لا تحتاج إلى تأويل , لقوله تعالى "والشمس تجري" فكيف تكون مركز الكون , وكيف تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس والله تعالى يقول "جعل الأرض قرارا" ومثلما حدث في القرن الثالث الهجري مع فتنة خلق القرءان , فقد حدث في القرن العشرين فتنة "جريان الأرض" ومثلما روج "المعتزلة" لفرية خلق القرءان قديما , روج "المستغربون" لفرية دوران الأرض حديثا .
وبدأ صراع مشابه لما حدث في القرن السابع عشر الميلادي بين رجال الكنيسة والتجريبيين , فقد قام في بلاد الاسلام صراع جديد بين علماء الدين والمستغربين غير أن الصراع انتهى في الغرب بانتصار رجال الكنيسة وتمسكهم بتطبيق الكتاب المقدس أما في الشرق فقد انتهى بانتصار التجريبيين "المستغربين" ونسخت آيات القرءان الكريم وتوقف العمل بكل ما هو متعلق بالأمور الكونية , وخلق السموات والأرض , ولم يكن انتصار المستغربين ـ رغم قلتهم ـ يرجع لقوة حججهم , بل كان يرجع لضعف علماء المسلمين , الذين انتهت دولتهم بسقوط الخلافة .
استمر صراع المستغربين ( وهم المسلمون الذين بعثوا إلى الدول الأوروبية للتعليم والتنوير ) مع رجال الشرع عدة سنوات استنفدت تقريبا الربع الأول من القرن العشرين .
كيف بدأ الصراع :
عندما بدأ الاستعمار الغربي يقسم تركة الرجل المريض "الدولة العثمانية" أراد أن يستفيد من "المستشرقين" الذين كانوا يدرسون بتكليف من حكوماتهم ـ لغة الشرق ودين الشرق وحضارة الشرق , وذلك لخدمة أغراضهم الاستعمارية , كذلك استجلبوا نفرا من المسلمين ممن عرف عنهم التمرد على أوضاعهم , وقاموا على تربيتهم كما يريدون .
كان المستشرقون يعلمون أن القرءان مثله مثل الكتاب المقدس ينص على ثبات الأرض وجريان الشمس , وتنفيذا لمخطط استعماري أرادوا شغل المسلمين بأي قضية يختلفون فيها ويفترقون وقد كان شعارهم "فرق تسد" , فلم يجدوا لذلك أنجح وأفضل من تعاليم كوبرنيقوس وجاليليو التي جربت في القرن السابع عشر الميلادي , فبدءوا يحيون هذه النظرية بعد مواتها , ولكن هذه المرة ليس بينهم في الغرب بل بين المستغربين من المسلمين , الذين فتنوا بحضارة الغرب افتتانا جعلهم يتنصلون من كل ما هو شرقي حتى الدين .
وأوحى المستشرقون للمستغربين بالفكرة , ونقلها الآخرون لبلادهم , ولم يتقبل علماء الشرع هذه النظرية لمخالفتها الصريحة لكتابهم ولسنة نبيهم ولإجماع سلفهم .
وبدأ الصراع ..
المستغربون يتهمون علماء الشرع بنفس ما اتهم به رجال الكنيسة , الجمود والتحجر والرجعية والتخلف , وعلماء الشرع يتهمون المستغربين بالانحلال والفسوق والابتداع والولاء للغرب , وظلت سنوات ولم يكتب لهذه النظرية أي قدر من النجاح .
وكان لابد من طريقة للاختراق إزاء تمسك علماء الشرع بموقفهم , فكانت الفكرة الجديدة والرائعة , ففجأة أعلن عن كشف جديد .
ما هو ؟؟
إن الشمس تجري .
كانت المفاجاة كبيرة جدا لعلماء المسلمين , واعتبر انتصار كبير للقرءان , ولكن ما هي تفصيلات هذا الكشف العلمي الجديد ؟
قالوا : ثبت علميا أن الشمس ليست ثابتة كما كان يقول كوبرنيقوس وجاليليو بل إنها تجري .
ولكن ..
إنها لا تجري حول الأرض !!
لا تجري حول الأرض . فحول ماذا تجري إذن ؟
إنها تجري حول المجرة .
المجرة !! أي مجرة ؟
مجرتنا .. درب التبانة .
درب التبانة ؟ ما هذا ؟ ولماذا درب التبانة بالذات ؟
هكذا أثبت العلم .
الشمس تدور حول درب التبانة ؟ وما شأن درب التبانة بالشمس ؟
هكذا أثبت العلم ؟
العلم أثبت أن الشمس تدور حول المجرة ؟ وكيف تدور حول المجرة في يوم ؟
إنها لا تدور في يوم .
لا تدور في يوم ؟ ففي كم إذن تدور ؟ في يومين ؟ إن هذا امر غريب وعجيب !!
لا لا .. إنها تدور في 250 .
الشمس تدور حول ما تسمونه هذا في 250 يوما ؟؟ كيف يكون ذلك ؟؟
بل تدور حول المجرة في 250 مليون سنة !!!!!!!!!!
وترك المستغربون علماء الشرع يضربون اخماسا في أسداس .
ويوما بعد يوم , تغير الموقف , وتحول الصراع إلى صف علماء الشرع ولم يعد صفا بل صفوفا , ونجحت الخطة الابليسية .
فقد رأى البعض أن ما حدث نصرا للقرءان وانهم عارضوا عندما كان كلام المنجمين يتعارض مع القرءان أما وقد أثبتوا ما أثبته الله فلا مبرر للمعارضة الآن .
وقال آخرون إن القضية كما هي فالله تعالى لم يقل إن الشمس تجري حول المجرة , كما ان الشق الثاني يظل قائما وهو : ان الأرض لا تدور وقد أثبت الله انها قرارا , ورد الأولون بأن الله بالفعل لم يقل بأنها تجري حول المجرة ولكنه أيضا لم يقل أنها تجري حول الأرض , كما ان قول الله بأن الأرض قرارا فهي كذلك بالنسبة لمن عليها وليس بلازم ان تكون قرارا لباقي الأجرام السماوية , ثم ذكروهم بما وصل إليه الحال في اوروبا التي تشددت امام العلم , كيف فقدت الكنيسة سلطانها , وضاعت هيبتها وكيف أن جيردانو الذي كان زنديقا أصبح اليوم شهيدا , وجاليليو رائدا , وكوبرنيقوس فتح له التاريخ أبوابه , وانتهى الأمر بأن أصبحت أوروبا بلا دين بعد أن اختارت العلم وتدينت بالعلمانية ولم يعد الله يعبد عندهم إلا أيام الآحاد من بعض العجائز ولا يدخلون الكنسة إلا عند عقد الزواج , ولا يسمعون آيات الكتاب المقدس إلا على المقابر .
وكانت الفتنة , والمحنة , والداهية الدهياء , خاصة وقد بدأ زحف المحتلين على بلاد الاسلام , وقد رأى المسلمون مظاهر القوة والحضارة والتقدم واضحة عليهم , وأشار إليهم المستغربون بان هؤلاء ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بانفتاحهم وتحررهم وانهم أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله , ويجب على المسلمين أن يحذوا حذوهم ويتتبعوا أثرهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم , وفي نفس الوقت لا يتركون دينهم , ولكن لا يخرجون به من المساجد.
ويوما بعد يوم كان الحال قد تغير , ولكي يثبت علماء الشرع للمستغربين والمستشرقين انهم ليسوا ضد العلم , والاسلام يحث على العلم , وإنما هم فقط ضد الالحاد , فقد عكفوا على إثبات صحة كل ما قاله التجريبيون بآيات القرءان الكريم , وتبارى علماء المسلمين وتسابقوا في ذلك , فقد كان علماء الغرب يخترعون , وهم يؤيدون .. يكتشفون , وهم يثبتون .. وبالقرءان .
ووقف إبليس يرنو إلى أطراف العالم في زهو و وكيف نجح في ان يؤلف بين قلوب المؤمنين والكافرين , وكيف نجح في أن يثبت علماء المسلمين ـ وليس رجال الكنيسة ـ كل آراء الملحدين ... وبالقرءان .
واستبدلت من كتب المسلمين الآيات القرءانية ليوضع مكانها ( النظريات العلمية ) وأصبح علماء الشرع قبل غيرهم يعلمون الناس أن الأرض لم تخلق في أربعة أيام فقد أثبت العلم انها بلايين السنين , وانها لم تخلق بالعناية الالهية , بل باصطدام نجم مع الشمس في عملية تدميرية , وان كل الأجرام السماوية يحكمها قانون نيوتن للجاذبية وليس قانون القدرة الربانية وان السماء التي بناها الله تتمدد , وان الأرض التي أقرها وأرساها تتحرك وان الشمس التي كانت تجري لمستقرها , أصبحت تجري حول المجرة ...
 
( 24 )​
تطويع الآيات :
استفاد التجريبيون الغربيون من هذه التبعية الكاملة من زملائهم الشرقيين لهم وكأنهم عرفوا أن نبوءة نبي الاسلام قد تحققت , وأن جيلا من المسلمين سيأتي وسيتبعونهم شبرا بشبر , وذراعا بذراع , واستفاد إبليس أيضا من هذا الوضع أيما إفادة وأوحى إلى اوليائه بلعبة شيقة وهي "تطويع الآيات" ولكن تحت اسم "سبق القرءان" وهذا الأسلوب إبليسي معروف بقلب الحقائق وتغيير الأسماء منذ تسميته للشجرة المحرمة التي نهى آدم عن الأكل منها "شجرة الخلد" .
يعلم المستشرقون وعلماء الغرب أن القرءان يخبر عن الأرض بأنها مبسوطة وممدودة "والأرض مددناها" ق:7 ـ "والله جعل لكم الأرض بساطا" نوح:19 ـ "وإلى الأرض كيف سطحت" الغاشية :20 ـ فطلع علماء الغرب واهل الفلك والمنجمون على العالم بأنهم اكتشفوا أن الأرض ليست مسطحة ولا مبسوطة ولا ممدودة ولكنها كروية .
وأخرج علماء المسلمين قرآنهم وبحثوا , وبعد حين صاحوا فرحين "لقد سبق القرءان العلم الحديث في إثبات كروية الأرض في أكثر من آية" منها : "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" الزمر:5 , وعلى رغم إجماع سلف الأمة على كروية الأرض والسموات , إلا أن علمائنا المعاصرين لم يفطنوا إلى ما وصل إليه سلفهم إلا بعد ان أعلن أهل الفلك أن الأرض كروية .
بعد عدة سنوات أعلن رجال الفلك الغربيون أنهم اكتشفوا أن الأرض ليست كروية وإنما هي بيضاوية الشكل , وتملك الحزن علمائنا , وأمسكوا عن القول بكروية الأرض , وسكتوا عن الكلام في أمر الأرض من قريب أو بعيد , حتى جاء اليوم الذي انتفضوا فيه مهللين وأعلنوا قوله تعالى "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" ها هو القرءان الذي نزل قبل ألف وأربعمائة عام يقرر حقيقة علمية أثبتها العلم الحديث وهي أن الأرض بيضاوية الشكل يقول تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها" النازعات:30 فقد اكتشفوا أن بعض أهل ريف مصر يطلقون على البيضة لفظ : دحية , فمن الذي أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة التي اكتشفت في هذا العصر الحديث .
والغريب في الأمر ان أحدا من علماء التفسير أو حتى علماء الانتاج الحيواني لم يقل إن هذا هو معنى الآية , ومراد الله عز وجل المتفق عليه على هذه الآية والتي لم يخالف فيها أحد أن معنى دحاها هو ما فسره عز وجل ذاته "أخرج منها ماءها ومرعاها" أي أن الدحو هو تهيئة الأرض بالصورة التي تحدثنا عنها والتي تمت في اليومين الأخيرين للأرض , هذا هو المعنى القرءاني للكلمة , أما معناها اللغوي فهو : البسط .
ولم تدم فرحة المسلمين للمرة الثانية , فلم يمض وقت حتى أعلن علماء الفلك انه ثبت لديهم : أن الأرض ليست بيضاوية , إنما ثبت علميا أن الأرض مستديرة ولكنها مشطوفة القطبين , أي قطرها الاستوائي يزيد عن قطرها القطبي بعدة كيلومترات , فقد اكتشفوا ان نصف قطرها القطبي هو 6357 كم بينما نصف قطرها الاستوائي 6378 كم .
ترى ماذا يصنع علماء القرءان في هذا المأزق ؟
يقيني أنهم لن يعجزوا , ولم يعدموا حيلة , وقد تمرس علماء القرءان الآن في الكشوف القرءانية ليوافقوها مع كل ما أنتجته العبقرية الغربية من اكتشافات وما وصلوا إليه من اختراعات , لم تمض سنوات قليلة حتى أفحم علماء المسلمين رجال الفلك الغربيين , بأنهم مهما فعلوا فلن يسبقوا القرءان , الذي ذكر الله فيه كل شيء , وأنهم لن يستخرجوا كل ما فيه جملة واحدة بل إنهم سيفاجئون العالم حينا بعد حين , إذا ما قيلت نظرية فإنهم سيردون عليها ـ تأييدا ـ بالقرءان .......
وعلى ما يبدو أن التجريبيين قد ضاقوا ذرعا بمطاردة المسلمين لهم بالقرءان الذي هربوا من آياته وكفروا به قبل أن يقرءوه , ولأنه ليس ما يفعله أعداء الدين من اكتشاف النظريات إلا هدما للدين وليس للتوصل إلى حقيقة الكون , فإن مسألة العقيدة لا تبرح ذهنهم , فإنهم يضعون النظريات ليحاربوا بها فكرة الإله , يقول تعالى : "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" البقرة : 217 , لذلك تنازلوا بسهولة شديدة عن كل ما قاله كوبرنيقوس وجاليليو من مبدأ ثبات الشمس ومركزيتها للكون , لأن المهم لديهم أن يثبتوا ولو بالادعاء تناقض الكتب المقدسة مع العلم الحديث , وهذا هو الدور الرئيسي لكل النظريات التي أخرجوها .
هذه المرة فتشوا عن وصف للأرض لا يوجد في القرءان , فهداهم تفكيرهم إلى ما أعلنوه أخيرا عن شكل الأرض وهو وصف "كوميدي" أكثر منه علمي ـ ما دمنا في تسلية "اللعب بالآيات" , فقالوا : "لقد أثبتت الصور الملتقطة للفضاء أن الأرض تبدوا "كمثرية الشكل" , وفسروا ذلك بأنها مستديرة في محيطها إلا جزءا منها مقببا ومرتفعا عن بقية الأرض , وعلى الفور انكب علماء المسلمين على مصاحفهم لينظروا ماذا يقول القرءان في هذا الكشف العلمي الجديد , ورغم أن الصور المنشورة للأرض لا تقول أبدا بان الأرض "كمثرية الشكل" إلا أن علماءنا لا يكذبون أبدا علماء الغرب ويقولون "أتكذبون وكالة ناسا التي أوصلتنا للقمر؟" .
ومنذ إعلان هذا الكشف وهم يبحثون , ولا يزالون , ووجدوا أثناء بحثهم أن القرءان قد ذكر كثيرا من الفواكه والخضروات , ولكنه لم يذكر "الكمثرى" وإن كان ذكرها يندرج ضمن ذكر الفواكه التي ذكرت في القرءان 14 مرة , ولكنهم يريدون للإفحام ذكرا خاصا لها وأن تكون أيضا في آية تتحدث عن الأرض او آية قريبة منها , ووجدوا بالقرءان : "نخيل وأعناب" , و "رطبا جنيا" و "طلح منضود" و "التين والزيتون" وفاكهة أخرى كثيرة , إلا "الكمثرى" ولا يزال البحث جاريا عنها .
غير ان البعض تسرع ـ إنقاذا للموقف ـ وأورد آية على انها دليل "الكمثرى" والحقيقة أنه لا علاقة لها بالكمثرى , وادعوا أن هذا سبق علمي للقرءان , وأقول : بأن هذه الآية ليست كمثرية , كما أنه قد سبق للمستدلين بها أن استدلوا بهذه الآية نفسها على أن الأرض مشطوفة القطبين , وهذان أمران لا يمكن الجمع بينهما , لأن مشطوفة القطبين أمر والكمثرى أمر آخر .
قال "عبد الرازق نوفل" رحمه الله في كتاب "دنيا الزراعة والنبات" وواضح من اسم الكتاب أن له أيضا علاقة بالكمثرى : "بعد ان تمكن العلم الحديث من تصوير الأرض من خارجها في عصر الفضاء , ومن الأقمار الصناعية أعلن ان الأرض أشبه بحبة الكمثرى وأن أقرب شكل لها هو البيضة" .
ولا ندري ما وجه الشبه بين البيضة والكمثرى ؟
وقال الدكتور "جمال الدين الفندي" في كتابه "لماذا انا مؤمن" :
"ثبت أن الأرض غير كاملة الاستدارة , إذ يزيد قطرها عند خط الاستواء على قطرها الواصل بين القطبين بنحو 21 كيلو متر مما يجعلها غير كاملة التكور ولكن "كمثري الشكل" إلى حد ما وتدل القياسات الحديثة على استمرار هذا التباعد على الشكل الكروي ببطء شديد جدا" , ثم استدل الكاتبان على الكمثرى بالآية "والأرض بعد ذلك دحاها" ولأن معظم علمائنا غير مطمئنين إلى وجود هذا الشبه بين أي من الآيات التي ذكرت وبين الكمثرى فلا يزال البحث جاريا .
ولأننا نعتبر أن ما يذكره التجريبيون هو حقائق لا تقبل النقض فإن احدا لم يكلف نفسه عناء البحث ـ ولو بالنظر للصور المنشورة ـ عن صحة هذه المعلومة الكمثرية , رغم أنهم قد غرروا بنا قبل ذلك في أمور ادعوا إثباتها علميا ثم تراجعوا , كما حدث مثلا في قولهم بمركزية الشمس للكون , وغيرها .
هذا هو حالنا أيها السادة مع علماء الغرب "التجريبيين" ومع آيات الله التي نحمده تعالى أنه تكفل بحفظها من التحريف , ولم يترك الأمر لنا .
لقد كان علماء السلف قبل ذلك يوجهون بالقرءان جميع علماء الأرض من غير المسلمين إلى تغيير ما لديهم من علوم إذا وجدوها مغايرة لما ينص عليه القرءان وكانوا يستجيبون , ووصلنا إلى زمن علماء الأرض جميعا يناقضون آيات القرءان , وعلماء القرءان يوافقون ويوفقون .
 
عودة
أعلى