شرح تفصيلي لمثل عظيم من أمثال القرآن فيه أمل كبير لهذه الأمة {أنزل من السماء ماء فسالت}

إنضم
9 يناير 2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
هذا شرح لهذا المثل العظيم الذي يعطي لهذه الأمة التي توالت عليها النكبات والشدائد أملًا عظيمًا:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}.
  • المناسبة:
لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين متبع الحق ومتبع الباطل بقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ }[الرعد: 16 ]([1]) أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الحق والباطل في حقيقتهما وفي عاقبتهما ثم عاقبة أهلهما .
  • الحكمة من هذا التمثيل:
الحكمة من التمثيل الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ وتمام الاستفادة من القرآن الكريم والهدى والنور ، والأخذ منه والاستعداد أتم الإخذ والاستفادة، والترغيب فيه، وبيان بقائه وبقاء الانتفاع به، وتقرير هذا المعنى في النفس بصورة حسية ، والردْعِ عن الباطل الذي لا يلبث أن يزول وإن علا في أول الامر، وبيان حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء العميمة النفع والفائدة لأجل استكبارهم وتقبيح صورتهم، وتقرير هذا المعنى في النفس بصورة حسية، مع إدماج دلائل قدرة الله تعالى وإنعامه وإفضاله على عباده.
  • معاني المفردات والجمل، والإعراب ، والدقائق البلاغية:
  1. { مِنَ السَّمَاءِ }: من جهة السماء.
  2. {أودية} :جمع وادٍ، وهو كل منفرج منخفض بين جبلين في سفحهما، يجتمع فيه ماء المطر فيسيل فيه بكثرة .
  3. والتعبير بـ{سالت أودية} فيه مجاز عقلي (مجاز في الإسناد)؛ لأن السيل سار بكثرة حتى اختفت الأودية من شدته فصار الناظر لا يرى إلا المياه المتدفقة كأن الأودية بنفسها تسيل، فعبر بسيلان الأودية دون سيلان مياه الأودية لبيان كثرة المياه السائلة، ونظيره في النسبة المجازية قولنا : جرى الميزاب، مبالغة في سيلان الماء فيها.
  4. تنكير { أودية} للتكثير والنوعية: أي كثيرة على اختلاف أنواعها في الكبر والصغر والطول والقصر وتغايرها في السعة والوعي، ولأنه ليس كل الأودية تسيل، بل تسيل بعض أودية الأرض دون بعض ؛ إذ الأمطارُ لا تستوعبُ الأقطارَ.
  5. {بقدَرها}: القدَر: مقدار الشّيء ومَا يُسَاوِيهِ من غير زيادة ولا نقصان.
  6. {فاحتمل}: الاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له، وتاء الافتعال للمبالغة في قوة الحمل، والمراد حملَ معه بقوة .
  7. {السيل} وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم وكثرة، والمراد هنا جريانه على وجه النفع؛ لأنه سبحانه ضرب المطر مثلًا للحق ، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف.
وعرَّف السيل لكونه معهودًا مذكورًا بقوله : { فسالت أودية }.
  1. {زبدًا} : هو ما يطفو على وجه الماء كرغوة الصابون من النُّفَّاخات والحَباب (الحَبَبُ)([2]) يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته واضطرابه وتموجه([3])، والزبد شأنُه الظهورُ في بادي الرأي من غير مداخلةٍ للماء ، وكذلك ما يعلو على القِدْر عند غليانها ،ومدار المادة على تولد شيء من شيء مع الخفة ويلزمها العلو، ومنه زبد البحر، والزُّبدة: التي تخرج إذا مخضت حليب البقر والغنم، قال الإمام الرازي: "ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل ، سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة"[4].
  2. {رابياً} : عالياً منتفخاً فوقه ، من الربو بمعنى العلو والارتفاع .
  3. تنكير {ماء} للتكثير والتعظيم، أي: ماء كثيرًا عظيم النفع صافيًا خالصًا غير أن يختلط بشيء أو يشوبه شيء.
  4. { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ}
  • ابتداء جملة معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر مكمل للمثل الأول.
  • الإيقاد: الإيقاد جعل الحطب وما يشبهه في النار؛ لتتقد تلك النار ليزيد اشتعالها وحرارتها.
  • كلمة {على} تدل على الاستيلاء والاستعلاء .
  • {في النار} حال من الموصول{ما} المراد به المعادن من ذهب وفضة وحديد ونحوها، أي: من الذي تفعلون الإيقاد عليه من المعادن القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة، وأمتعة الحياة التي يتمتع بها إيقاداً مستعلياً للإذابة حال كون هذه المعادن كائنة في النار .
  • الضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره.
  • في زيادة ( في النار ) إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد، قال الإمام الرازي:" الإيقاد على الشيء على قسمين : أحدهما : أن لا يكون ذلك الشيء في النار وهو كقوله تعالى { فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ }[القصص: 38] ، والثاني : أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار، فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار ، فلهذا السبب قال ههنا : { ومما يوقدون عليه في النار } "([5]).
  • (مِنْ) في (وَمِمَّا) ابتدائية ،أي: ومما يوقدون عليه من المعادن ينشأُ زبد مثل زبد الماء.
  • { وَمِمَّا يُوقِدُونَ }([6]) خبر مقدم ، و{زبد} مبتدأ مؤخر.
  • وفي عدمِ ذكرِ المعادنِ بأسمائها كأن يقال: الذهب والفضة ونحوهما ، وذكرُها بلفظ {ما}، والعدولُ إلى وصفها بالإيقادِ عليها المشعرِ بضربها بالمطارق لأنه لأجله ، وبكونها كالحطب الخسيس:
  1. تهاونٌ بما يستعظمون وإعراضٌ عنه مؤذنٌ بقلةِ الاكتراث بها ؛ إظهاراً وجرْيًا على سنن الكِبرياء، و ترفعاً عن وَلع النّاس بها ؛ فإن اسم الذهب والفضة ونحوهما قد اقترن بالتعظيم في عرف النّاس؛ ، كأنه قيل: هذه الجواهر التي تعدونها أَنفس الجواهر وتفتخرون بها وتتخذونها حلياً تتزينون بها ، خسيس عنده تعالى كالحطب الخسيس([7]) كما ذكر ذلك أبو السعود والآلوسي وابن عاشور.
  2. لأنها أجمع لجميع أنواع المعادن، و أكثر إيجازًا ؛ لأن جملة الصلة لو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلاً لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المعادن وذكر الوقود ؛ إذ لا مَحيد عن ذكر الوقود؛ لأنه المخرج للزبد من المعادن ، فكان الإتيان بالموصول قضاءً لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع .
  1. {ابتغاء حلية أو متاع}:
  • انتصب {ابتغاء} على أنه مفعول من أجله.
  • {حلية} : ما يتحلى به الإِنسان من الذهب والفضة وغيرهما.
  • {متاع} : ما يتمتع به وينتفع من الأواني، والآلات المتخذة من الحديد والرصاص.
  • المعنى: طلبًا لاتخاذِ حليةٍ يتحلى ويتزين ويتجمل بها من الأساور والحلق، أو طلبًا لاتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات ([8]) تتمتعون به كأوان الشراب والطعام، وآلات الحرث ، والأسلحة والأواني ،وتقام بها المعامل والمصانع التي تنتج الآلات والأدوات ، وتبني الحضارات وتغزو الفضاء ، وتملأ الدنيا خيرًا وأمنًا ورخاءً.
  1. والضمير في قوله { مثله } يعود إلى الزبد في قوله - تعالى - { زَبَداً رَّابِياً } أي: مثل زبد الماء زبدٌ وخبثٌ يعلو الذهب والفضة والفلزات عند إذابتها طلبًا للزينة أو المتاع، تخرجه النار وتميزه ، وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به ، فيرمى ويطرح ويذهب جفاء و يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب، ويبقى ذلك الجوهر خالصاً، ووجه الشبه خروج الزبد والخبث وعلوه وارتفاعه في أول الأمر ثم طرحه بعيدًا عن الأشياء النافعة .
  2. { يضرب } ضرب المثل: إيراده ووضعه، وتبيين الحال التي تشبه حالًا أخرى،
و تسييره في البلاد يَتَمَثَّل به الناس ، عبر عنه بالضرب لشدة ما يَحْدُث عنه من التأثير في نفس السامع، ولما فيها من الثبات والبقاء كضرب الدراهم.
  • { فَأَمَّا الزَّبَدُ }:من كلَ من ماء السيل والمعادن ، قال أبو حيان: "والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل، وما خرج من حيث المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثنِّ ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك ،فصَّل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد؛ إذ هو المتأخر في قوله تعالى : {زبداً رابياً} ، وفي قوله تعالى : {زبد مثله} ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم ([9]) بما ذكر آخراً كقوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }[آل عمران:106] والبداءة بالسابق فصيحة أيضًا مثل قوله : { يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }[هود::106] وكأنه ـ والله أعلم ـ يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر "([10]).
ويضاف لما علل به أبو حيان ـ رحمه الله ـ من البدء بالزبد مع أنه ذكر متأخرًا أنَّ في تقديم الزبد مراعاةَ الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذِكْرَيهما؛ فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله ، ويضاف إلى ذلك أن الزبد هو الظاهر المنظور أولًا .
  1. { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ}: أي : من الماء الخالص من الزبد، ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث.
  2. {جفاء}: المادة تدور على الطرح، ونبوّ الشيء عن الشيء، يقال: جفأَ الماءُ والقدرُ بالزبد: ألقيا ورمَيا به ، و جفأه صرعه .و{جفاءً}: اسم لما يجفؤه السيل، أي: يرميه إلى جوانبه في الوادي ، و{جفاء}هو حال ، أي: حال كونه مرميًا به بعيدًا متفرقًا متمزقًا في جانبي الوادي متلاشيًا مضمحلًا لا منفعة فيه ولا بقاء وهو كقوله تعالى عن الباطل: { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }[الإسراء:81]،ووزن (فُعَال): يأتي بمعنى اسم المفعول كالدُّقاق، والفُتات، والرُّفات، والحٌطام، والغُثاء.
  3. {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}:عبر عن الماء بـ{ما ينفع الناس} للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضاً للمشركين بأن يعْرِضُوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس .
  4. { فَيَمْكُثُ فِي الأرض } أي: فيبقى فيها لينتفع الناس به، والمرادُ بالمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها، ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها.
والمكث: توقف على حالة سابقة واستمرارها بطول البقاء.
  • بيان المثلين باختصار:
هذان مثلان ضربهما الله - تعالى في هذه الآية الكريمة للحق والباطل:
  • ضرب مثلًا للحق وهو القرآن الكريم النازل على العباد، وما فيه من العلوم والمعارف والنفع والهدى الكثير ، واستمراره وفيضانه على القلوب والأرواح المستعدة لأخذه وانتفاعهم وحياتهم به على تفاوت بينهم في مقدار أخذهم، ثم بقاء ومكث الحق في الأرض هو وأهله الذين أخذوه ، ودوام نفعه وانتفاعهم منه ـ بالماء الصافي النازل من السماء بكثرة عميمَ النفع جاريًا مستمرًا سائلًا في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك فتأخذ الأودية المنخفضة منه على مقدارها اتساعًا وضيقًا، ويبقى هذا الماء الصافي في الأرض ماكثًا نافعًا للناس في سقيهم وزروعهم وحاجاتهم.
وشبهه كذلك بنفع وبقاء ومكث الجواهر و المعادن التي يدوم نفعها للناس بعد تنقيتها من الشوائب ، وفي ضمن التشبيه تشبيهُ تحلية القرآن الكريم للنفوس والأرواح ونفعها الذي تصل به إلى البهجة الأبدية بتحلية ونفع ما يتحلى به الناس من الذهب والفضة ويتمتعون به من المعادن من الأواني ونحوها.
  • وضرب مثلًا للباطل من : الكفر ، والنفاق، والشكوك، والشبهات، والخيالات ـ عند وصول الحق إليها، وورود فيوضات القرآن عليها ـ و قد تُغَطَّي الحقَّ وتخفيه في بادئ الأمر إلا أنها لا تلبث أن تبطل وتضمحل وتزول وتتبدد هي وأهلها ـ بزبد السيل وهو رغوة الماء الذي يعلو الماء السيل في الأدوية لخفته بكثرة وقوة نافشًا عاليًا مرتفعًا فوق الماء طافيًا عليه ولا يداخله ولا يخل بصفائه، ولكنه ما يلبث أن يلقيه ويرميه السيل فيذهب جفاء مضمحًلا مطروحًا لا بقاء له ولا تماسك .
وبزبد المعادن والفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وهو وسخه وخبثه الذي يطفو على المادة المذابة، ويعلو عند إيقاد النار عليها وإذابتها طلبًا للزينة والمتاع ، ولا نفع له ولا قيمة، وقد يحجب المعدن الأصيل ثم لا يلبث أن يضمحل ويزول، وفي ذلك وعيد ونِذارة للكفار والمشركين المتعنتين المكذبين والمنافقين والمشككين بأنهم سيبيدون ويزولون، وبشارة لأهل الحق.
  • المثلان بتفصيل:
  • مثل الحق ضرب الله تعالى مثلين للحق:
  1. المثل الأول:{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} شبه تعالى الحقَّ، وهو القرآن العظيم الصافي من كل شائبة ، وما فيه من العلوم والمعارف والنفع، المنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ، و المفاض من جناب القدس؛ لحياة وهداية القلوب والأرواح الخالية عنه المتفاوتة الاستعداد في أخذه وقبوله، وفي جريانه على هذه القلوب فهمًا و ملاحظةً وحفظاً، وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه مُمِدًّا لحياتها الروحانية، وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية ، في نفعه العام الكثير المستمر الذي لا يقف في وجهه شيء ويحتاجه العباد ـ شبهه بالماء النازل من السماء صافيًا كثيرًا عميمَ النفع جاريًا مستمرًا سائلًا في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلاناً على مقدارها اتساعًا وضيقًا على مقتضى الحكمة في إحياء الأرض به ، و به حياة ما على الأرض ونفعهم.
وهذا المثل (التشبيه) يتضمن عدة تشبيهات إليك بيانها:
  1. أنه شبه القرآن الكريم والحق والإسلام والحق والإسلام الكثيرَ النفعِ، المحيي للقلوب والأرواح، الصافي من كل شائبة، شبهه بالماء النازل من السماء صافيًا كثيرًا عميمَ النفع جاريًا مستمرًا سائلًا محييًا للأرض الميتة والنباتات، ففي القرآن الكريم حياة للقلوب والأرواح كما في الماء الجاري حياة الأرض الميتة.
  2. شبه ورود القرآن الكريم و جريانه على هذه القلوب فهمًا و ملاحظةً وحفظاً، وعلى الألسنة، و مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدًا لحياتها الروحانية، وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية ، في نفعه العام الكثير المستمر الذي لا يقف في وجهه شيء ويحتاجه العباد ـ بالسيل يمر بكثرة وقوة على مختلف الجهات، فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها لعلوهما وارتفاعها، وهذا يشبه حال الكفار المستكبرين ومن يشبههم من المنافقين والمشككين ، ولكنه يمضي إلى الأودية المتواضعة المنخفضة والوهاد المستعدة فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته بحسب تفاوتها بالصغر والكبر من غير زيادة ولا نقصان.
  3. شبه قلوب العباد الخاليةَ عنه، المستعدةَ للهدى وأنوارِ القرآن، المتفاوتةَ الاستعداد في الانتفاع به وأخذه وقبوله وجريان علومه عليها؛ كل قلب يحصل فيه من أنواره ما يليق بذلك القلب من سعة واستعداد وطهارة وصفاء وقوة فهم وتجرد وخلوص ـ شبهها بالأودية التي تسيل فيها السيول و تستقر فيها المياه النازلة من السماء ، فوادٍ كبير يسع ماء كثيرًا ، كقلب كبير يسع علما كثيرًا ، ووادٍ صغير يأخذ ماء قليلًا ، كقلب صغير ، يسع علمًا قليلًا ويضيق عن الباقي، كل بحسبه من الطهارة وقوة الفاهمة ، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته: فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه ، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه وعمل به ، ومنها دون ذلك بطبقة ، ومنها دونه بطبقات، فكما أن كل وادٍ يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه واستعداد، فكذا القلوب .
  4. الأراضي التي تمسك الماء صنفان: منها ما ينتفع وينفع وهي التي تنبت الكلأ والعشب الكثير، ومنها ما ينفع ولا ينتفع وهي التي تمسك الماء ولا تنبت، وكذلك الناس.
  5. الوادي إذا سال كنس كل شيء فيه من النجاسات والمستقذرات ، كذلك إذا سالت علوم القرآن الكريم على قلب العبد كنس كل ظلمة فيه وغفلة وأمراض وأسقام وباطل وأخلاق مذمومة ، وتبقى الحقائق وهي الأخلاق الحميدة.
  6. الماء قد يغطى في حال من أحواله بالزبد فترة حتى لا يرى، ويُظَن أنه قد لا يوجد إلا الزبد لكنه سرعان ما يزول ، كما أنَّ الحق يظل هادئًا ساكنًا ،وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات لكنه يرجع مرة أخرى باقيًا ماكثًا في الأرض.
  7. شبه بقاء وثبات القرآن الكريم وعلومه ونفعه وهداه ودعوته في الأرض وفي القلوب وبقاء أهله القائمين عليه ببقاء ومكث الماء الخالص الصافي الذي يحمل الخير والحياة ، ويبقى في الأرض ينفع الناس فيثبت بعضُه في مناقعه للشراب ،والسقي وإنبات المراعي والزرع والشجر والحبوب والثمار التي تنبت به مما يُدَّخر ويكثر، ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار من الماء الصافي.
  1. المثل الثاني:{ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}وهذا التشبيه يتضمن عدة أمور ، إليك بيانَها:
  1. شبه بقاء وثبات القرآن الكريم وعلومه ونفعه وهداه ودعوته في الأرض وفي القلوب وبقاء أهله القائمين عليهـ ببقاء ومكث الجواهر و المعادن و النافعة للناس التي يدوم نفعها وهي قابلة للإذابة ([11])وتصاغ منها الزينة والحلي مما يتزين به من الذهب للنساء والفضة للرجال والنساء بعد تنقيتها من خبثها ، أو بالمعادن التي ينتفع بها في أمتعة الحياة بعد تخليصها من شوائبها و أخباثها ،كالحديد والرصاص ، وسائر الفلزات التي تبقى منتفعًا بها بأنواع الانتفاعات مدة طويلة ، فتتخذ منها أنواع الآلات والأدوات التي هي قوام العيش: كالأواني ، وآلات الحرب ، وقطَّاعات الأشجار ، والسكك ، والأواني ،وتقام بها المعامل والمصانع التي تنتج الآلات والأدوات ، وتبني الحضارات ، ،ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى([12]).
  2. شبه تحلية القرآن الكريم للنفوس والأرواح والظواهر والبواطن ونفعها الذي تصل به إلى البهجة الأبدية بتحلية ونفع ما يتحلى به الناس من الذهب والفضة ويتمتعون به من المعادن من الأواني ونحوها.
  3. الحديد والنحاس ونحوه من المعادن لا يستطاع أن يجعل منه سكين ولا سيف ولا
    أن يصنع منه شيء مفيد نافع حتى يدخل في النار فيلين ويخرج خبثه ، وكذلك لا يمكن للإنسان أن يصفى من الأمراض والأدران وسيء الاخلاق ويكون نافعًا للناس إلا بالابتلاءات التي تشبه التعريض للنار.
  4. في المثلين المضروبين مظهر لقوة وتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء ،وإظهار لفضله ونعمته على الناس فيما ينزل من ماء يجري في الأودية والأنهار فينتفع به الناس آمادًا ، يأمنون فيها على أنفسهم وزرعهم وضرعهم من العطش الشديد والجدب ، وضياع الحرث والنسل ، وفيها ثانيًا : نعمة الله تعالى عليهم فيما أودعه باطن الأرض من فلزات يوقدون عليها فتكون منها حليهم وأمتعتهم من أوانٍ وأدواتِ ، ودفع لأعدائهم ، وبذلك يكون منها متاع وحماية ودفاع، قال ابن عطية: "صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله ، وإقامة الحجة على الكفرة به ، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والشك في الشرع واليقين به "[SUP]([13])[/SUP]، وهو كذلك من جنس المشاهد التي مضي في بيانها السياق ،فإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد.
  5. في البخاري ما يشرح بعض هذا المثل المذكور في هذه الآية: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ المَاءَ، قَاعٌ يَعْلُوهُ المَاءُ، وَالصَّفْصَفُ المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ.
  • مثل الباطل:
{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}
  1. شبه الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم من : الكفر ، والنفاق، والشكوك، والشبهات، والخيالات والإنكار للحقائق الإيمانية عند وصول الحق إليها، وورود فيوضات القرآن عليها ، مما يظهرونه ويشيعونه وينشرونه يحاولون مغالبة الحق به ، تطفو وتعلو و تقوى وتعظم وتنتفخ وتبدو رابيًة طافية فوق الحق في بعض الأحوال، وقد تغطي الحق مدة وتخفيه كأنه لا وجود له ، تجول جولة يمتحن الله بها عباده؛ ليظهر الثابت من المزلزل ، إلا أنها لا تلبث أن تبطل وتضمحل وتزول وتتبدد هي وأهلها ، ويبقى الحق ظاهرًا لا يشوبه شيء من الشبهات والخيالات منتصرًا هو وأهله ، وتجعل العاقبة للحق والقرآن وأهله ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة ـ شبهه بالزبد في حالين:
  • بزبد السيل وهو رغوة الماء الذي يعلو الماء السيل في الأدوية لخفته بكثرة وقوة نافشًا عاليًا مرتفعًا فوق الماء طافيًا عليه ولا يداخله ولا يخل بصفائه، يرى له حركة واضطراب والماء تحته قد لا يبدو ، ولكنه ما يلبث أن يلقيه ويرميه السيل فيذهب جفاء مضمحًلا مطروحًا لا بقاء له ولا تماسك فيه ، يعلق بالأشجار وجوانب الوادي ينضم بعضه إلى بعض ويزول.
  • بزبد المعادن والفلزات: كالذهب والفضة والحديد والنحاس، وهو وسخه وخبثه الذي يطفو على المادة المذابة ويعلو عند إيقاد النار عليها وإذابتها؛ طلبًا للزينة والمتاع، ولا نفع له ولا قيمة، وقد يحجب المعدن الأصيل ثم لا يلبث أن يضمحل ويزول وينمحق وينسلخ عن المنفعة، وكذلك يذهب الباطل وحزبه وأهله ، ويبقى المعدن في نقاءٍ وصفاءٍ خاليًا عن الزبد ماكثًا في الأرض ينتفع به الناس للزينة والمتاع.
وكذلك يبقى الحق والإيمان والقرآن وأهله.
  1. في هذا المثل وعيد ونِذارة للمشركين الذين ذكروا في السورة يسألون الآيات على سبيل التكذيب والعناد ، وكذلك لمن شابههم من الكفار والمنافقين والمشككين بأنهم سيبيدون ويزولون، وبشارة لأهل الحق بأنهم الباقون الماكثون في الأرض ، كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء :105ـ 107] .
  • معنى قوله تعالى : {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}:
يُمثِّل الله تعالى ويشبه ويُصور ويبين الحق في صورة الماء والمعادن اللذين يُنتفع بهما، والباطل في صورة الزبد الذي لا ينتفع به .
وهذه جملة معترضة هي تلخيص للتمثيل ببيان الغرض منه، وعاقبةِ كل من الممثّلَينِ، للحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد ، كأنه قيل: ذلك مَثَل الحق والباطل في هذه الحياة بينهما بالتمثيل.
وهو على تقدير مضاف، أي: كذلك يضرب الله مثَلَ الحقِّ ومثلَ الباطلِ، والحذفُ للمضاف للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثلِ به وقوة المشابهة بينهما كأن المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ ، أي: وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد .
والمعنى: مثلَ هذا الضرب العجيب العالي الرتبة المشتملِ على النُكت الرائقةٍ و البيان البديع الذي ذكر في هذا المثل ([14]) ، يضرب الله مثَلَ الحق والباطل ، فإنه مثَّل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار ، وبالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلى واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة ، والباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما، وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ.
  • معنى { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}:
كذلك يضرب الله الأمثال في كل باب؛ إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية ،
لإيضاح المشتبهات ، وليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال ،فتتضح الأمور المعنوية بالمحسوسات المرئية.
وهي جملة مستأنفة تذييلية ، فيها تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ الذي اشتملت عليه الآية الكريمة وتنبيه للأفهام إلى حكمته وحكمة التمْثيل به، ولما فيه من المواعظ والعبر ، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه ، وتأكيدٌ لقوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } ؛ لأن الألف واللام في
{ الأمثال } للعموم، فيندرج في عموم الأمثال هذا المثل الذي في الآية الكريمة([15]).
أي: مثل ذلك البيان العجيبِ البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة بضرب الله تعالى مثل الحق والباطل موضحًا للناس ما يشكل عليهم ومظهرًا للفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر، ومبينًا لحالهما وعاقبتهما ـ يضرب الله الأمثال في كل باب وكل معنى للناس ؛ لكي:
  • تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها، وطرق الباطل فينحرفوا عنها ، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد ، ويكونوا المثل الأعلى بين الناس.
  • يظهر كمال لطفه سبحانه وعنايته في الإرشاد والهداية، فهو سبحانه يقرر مصائر الدعوات ، ومصائر الاعتقادات ، ومصائر الأعمال والأقوال ، وهو الله الواحد القهار ، المدبر للكون والحياة ، العليم بالظاهر والباطن والحق، والباطل، والباقي والزائل.
إظهار الأعجاز في هذا المثل:
وبعد هذا البيان لهذا المثل القرآني ظهر لك عظمة هذا المثل وإعجازه وجمعه لهذه المعاني الكثيرة بهذا اللفظ الموجز ، ودقة اختياره للألفاظ المعبرة عن المعنى ، وروعة هذا التصوير والتشبيه و غرابته ، وأنه تصوير وتشبيه عجيب لا يتأتى ولا ينقاد للأدباء فضلًا عمن هم دونهم، ودقة وجه الشبه الذي يلاحظ من جهة كثيرة في غاية الروعة والتفصيل، وأنه تشبيه تمثيلي قابل للتفريق، ومناسبته لمقصود السورة ([16])، وجمعه للمنة والنعمة وعظمة الخلق والتمثيل للحق والباطل وإظهار عظمته وعظمة أمثال القرآن في وقت واحد، ثم صدق ما فيه وكشفه لما يخفى على أبصار الناس من زوال الباطل وإن علا وارتفع وثبات الحق ، وهذا ما يصدقه التاريخ القديم والحديث، وأكثر الناس يغترون بالباطل وتقلبه في البلاد ويظنون أن الحق الثابت يزول ويضمحل ويتلاشى ، ويضاف إلى كل ذلك النغمة الإيقاعية المعبرة الدقيقة لهذا المثل كما هو شأن جميع سور القرآن الكريم ، فعند قراءة هذه المثل بأحكام التجويد يلاحظ دلالة أحكام التجويد على المعنى المراد ودقة موافقتها للمعنى ،ولتتضح التقابلات البديعة في المثل مع ملاحظة المحذوفات التي فيها إيجاز الحذف وضعت لك هذا الشكل مكتفيًا بالألوان عن بيان ما فيه من التماثل والتقابل والحذف:







أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ [×حذف فوائده لكثرتها] بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ
حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ [× مثلي] الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ [× الذي لا ينفع الناس] فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ

وإذا أردت أن تدرك ما قلته لك قارن هذا التمثيل والتشبيه القرآني بما تغنى به علماء الأدب من أبيات الشعراء في التشبيه التمثيلي التي تعتبر في الغاية من البلاغة كقول الصنوبري:
وكأنَّ مُحْمرَّ الشَّقي قِ إِذا تصَوَّبَ أَو تَصَعَّدْ
(أعلامُ ياقوتٍ نشرن عَلى رماح من زَبَرْجَدْ
و كوصف ابْنِ الرُّمي عمَلَ خبّازٍ مرَّ به:
مَا أَنْسَ لاَ أَنْسَ خَبَّازاً مَرَرْتُ بِهِ يَدْحُو الرُّقَاقَةَ وَشْكَ اللَّمْحِ بالْبَصَرِ
مَا بَيْنَ رُؤْيَتِهَا في كَفِّهِ كُرَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهَا قَوْرَاءَ كَالْقَمَرِ
إِلاَّ بِمِقْدَارِ مَا تَنْدَاحُ دَائِرَةٌ فِي صَفْحَةِ الْمَاءِ تَرْمِي فِيهِ بالْحَجَرِ
وكقول بشّار بن بُرْد:
كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤوسِنَا وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه
كتبه : علي هاني العقرباوي
9ـ شعبان ـ 1442هـ


[1] في قوله تعالى قبل هذه الآية : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}.

[2] الحَبابُ" : الحَبَبُ، الفَقاقيعُ الَّتِي تَطْفُو على سَطْحِ الماءِ أَوْ في كَأْسِ عَصيرٍ. "طَفا الحَبابُ على الشَّرابِ".

[3] هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور ، و قيل: ويجوز أن يراد ما يحمله الماء من حشيش وأعواد ونحوهما ، أو مجموع ذلك المذكور من النفاخات ونحو الحشيش.

[4]

[5] "التفسير الكبير" الرازي (19/ 30).

[6] في {يوقدون} قراءتان متواترتان: {يوقدون} بالياء، و{توقدون} بالتاء.

[7] هذا لا ينافي كون ذلك ضرب مَثَلٌ للحق؛ لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوباً فيه منتفعاً به ، فَوُفِّيَ كلٌّ من المقامين حقَه .

[8] الفلزات من المعادن هي القابلة للطرق والسحب أو التي تنصهر بالنار :كالذهب، والفضة ، والنحاس، والحديد، وغيرها.

[9] في الآية نوع من البديع يسمى الجمع والتقسيم:
  • الجمع: هو أن يجمع بين شيئين فأكثر في حكم واحد كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الكهف:46] جمع بين "المال والبنين" في حكم واحد هو أنهما زينة الحياة وبهجتها. وكقول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
جمع بين هذه الأشياء الثلاثة في حكم واحد هو تألقها كالنجوم، يهتدى بها في دياجير الأحداث والمحن.
  • التقسيم: هو أن يذكر متعدد، ثم يضاف إلى كل من آحاده ما يخصه على التعيين، وبهذا القيد يفترق عن اللف والنشر إذ لا تعيين فيه, بل هو موكول إلى الأفهام كما ذكرنا. مثال التقسيم قول الشاعر:
ولا يـقيـمُ عـلى ضَيْمٍ يـرادُ بـهِ إلا الأذَلاَّنِ عَيْرُ الحي والْوَتِدُ
هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ وذَا يُشجُّ فلا يَرْثِي لهُ أحـدُ
ذكر متعددًا وهو "العير والوتد" ثم أضاف إلى الأول "الربط على الخسف" وهو الذل، وأضاف إلى الثاني "الشج بلا هوادة".

[10] "البحر المحيط " أبو حيان (6/ 374).

[11] فيه إشارة إلى أن النفس تترقى وتنقى من أمراضها بالشدائد والمحن والابتلاءات كما حصل مع الصحابة رضوان الله عليهم ؛ فقد صنعت منهم الشدائد والابتلاءات رجالًا أقوياء في إيمانهم قوة راسخة كقوة الجبال ونقتهم ورقتهم ، وفيه إشارة إلى حديث : " النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا " ، وأنَّ الذين يستجيبون لهذه التنقية من معدنهم قابل لذلك أما الذين ليس عندهم قابلية فلا يقبلون مثل هذه التنقية والتشكيل للنفع فهم كالحجارة التي لا نفع فيها ولا تأثر{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}، وأن الناس صنفان منهم من معدنه نفيس ثمين فيه النفع والزينة ، ومنهم من معدنه قابل للتشكيل ونافع لكن لا زينة فيه ، أصلح الله معادننا وجعلها على الوجه الأكمل في النفع والزينة.

[12] فال بعض العلماء التمثيل بنزول المطر وسيلان الأودية يدركه من هم في القرى والبادية إدراكًا دقيقًا ، والتمثيل بالإيقاد على المعادن يدركه تمام الإدراك أهل المدن والصناعات فضرب لكل ما يدركه حق الإدراك مع ذكر أوجه شبه مختلفة كما تقدم.

[13] المحرر الوجيز/ ابن عطية (3/ 307).

[14] اسم الإشارة للبعيد دل على التعظيم وتقديم الجار والمجرور يدل على معنى لا أقل منه.

[15] أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة ، قال : وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناري ومائيّ - وهو قوله: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله . . . } الآية ، ثم قال: { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق . . . } الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين أحدهما قوله: { والذين كفروا أعمالهم كسراب . . . } الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر.
  1. [16] مقصود سورة الرعد باختصار:
  • إثباتُ حقِّيةِ القرآنِ ،وحقِّيةِ ما جاء به: من وحدانيةِ الله تعالى وقدرتِه وعلمِه واستحقاقِه للتسبيحِ والحمدِ والخضوعِ، وأن القرآنَ الآيةُ الكافيةُ التي لا يطلبُ غيرُها حوى هدايةً ونفعًا وترغيبًا وبشارةً لمن استجاب واطمأن ، وردًا وترهيبًا وإرعابًا وصوتًا صيتًا لمن أشرك ولم يؤمن به وطلب آيات غيره ومكر به .
وعبارات المحققين تدور حول هذا المقصد: قال البقاعي : مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه ، وتارة يتأثر عنه مع أنَّ له صوتًا صيتًا وإرعابًا وإرهابًا يهدي بالفعل ، وتارة لا يتأثر، بل يكون سببًا للضلال والعمى .وأنسب ما فيها لهذا المقصد الرعد ، فإنه مع كونه حقًا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير والبارز والمستتر ، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا ، وإذا نزل المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة ، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة ، وتارة يضر بالإغراق أو الصواعق أو البرد وغيرها.
 
عودة
أعلى