الفاتحة الحادية عشر... وتأملات أخرى في الفواتح

إنضم
20 أبريل 2003
المشاركات
507
مستوى التفاعل
9
النقاط
18
الفاتحة الحادية عشر... وتأملات أخرى في الفواتح

اعتنى أهل القرآن بفواتح السوروعملوا على بيان خصائصها وأنواعها ، وقد جعلها صاحب (البرهان) علما مستقلا ضمن علوم القرآن ورتبه سابعا تحت عنوانُ:
النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ
وذكره قبل علم المكي والمدني وقبل علم نزوله وجمعه....
أما صاحب (الإتقان) فقد جعله في المرتبة الستين تحت عنوانُ:
النوع الستون في فواتح السور

قال الزركشي (المتوفى: 794هـ)
وقد افتح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا....

ثم ترجم لها على النحو التالي:
1- الاستفتاح بالثناء
2- الاستفتاح بحروف التهجي
3- الاستفتاح بالنداء
4- الاستفتاح بالجمل الخبرية
5- الاستفتاح بالقسم
6- الاستفتاح بالشرط
7- الاستفتاح بالأمر
8- الاستفتاح بالاستفهام
9- الاستفتاح بالدعاء
10- الاستفتاح بالتعليل
قال الزركشي:
هَكَذَا جَمَعَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ ....
وَنُظِمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ... تِ الْمَدْحِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا
وَالْأَمْرُ شَرْطُ الندا التعليل والقسم الدعا حُرُوفُ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا

قال السيوطي(المتوفى: 911هـ)
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ" وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِهِ.
ثم ذكر ما أورده الزركشي.

غني عن البيان أن أية سورة لا بد أن يندرج مفتتحها في نوع من الأنواع العشرة المعدودة لكن يمكن للسورة الواحدة أن تندرج في أكثر من نوع بحسب الاعتبار فمفتتح سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى-مثلا- يَدْخُلُ في الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي قِسْمِ الْأَمْرِأَيْضًا .


.....ثم ظهر لي أن هناك فاتحة قد تكون متداركة هي:
11- الاستفتاح بالحوار
وهي فاتحة سورة النبأ...
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ :1- 3]

اعلم أن الحوار نوعان:
1-حوار مسرود غير مباشر ينقله طرف ثالث هو واسطة بين المتحاورين والمتلقي، ومن علاماته تصدير الحوار بقال ومشتقاتها ونظائرها( قالا، قيل، قالت ،أجاب، صاح ،تساءل، ردوا قائلين.. الخ... )
2- حوار مباشر حي بلا واسطة ومن علاماته الترقيمية شرطة(-) تستخدم في أول السطر في حال المحاورة بين متحاورين؛ للاستغناء عن تكرار اسميهما...كما تجد في نصوص المسرحية المكتوبة- لا المشخصة- فأسماء المتحاورين لا تنتمي إلى الحوار ،ولا محل لها من الإعراب، إنما هي تنبيهات خارجية ليعلم المتلقي من المتكلم ،فلا عين لها ولا أثر عندما تكون المسرحية مشخصة ...لعدم الحاجة إليها.
وهذا مثال توضيحي من التنزيل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]
فهذا حوار مسرود من النوع الأول ولكي نجعله من الحوار المباشر يتعين طي الجمل المنبهة على المتحاورين وهي ثلاث جمل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ،
قَالُوا،
قَالَ.
فيعود الحوار - في غير القرآن - هكذا:
- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
- أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
فهذا حوار محض....وهو ما وجدناه في مفتتج سورة النبأ...فهناك سائل يسأل ومجيب يجيب دون أي تنبيه عن السائل أو المجيب...ولو شئنا نقل النص وفق اصطلاحات الترقيم المتعارف عليها اليوم لكان هكذا:

-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!

ولا نرى داعيا لتعيين السائل أو المجيب وهل هما اثنان أم شخص منفرد يقوم بدور السائل والمجيب معا...فهذا بحث هامشي قد يصرف الذهن عن تذوق بلاغة الآيات التى تقدم ( مشهدا) لا ( تقريرا) :
فالقوم قد علا عنهم اللغط،وكثرمنهم التساؤل بصورة غير معتادة ،لدرجة أن أي مار بهم يستوقفه إفراطهم في التساؤل فيثير في نفسه الفضول البشري المشروع:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
فالبلاغة هنا في عدم التعيين لأن كل تعيين تخصيص ومقصود الآيات التعميم فالسؤال -عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟ سيصدر عن أي كان بالنظر إلى ما يمليه حال القوم....
ثم يأتي الجواب:
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
وهو جواب بديع يتضمن سخرية مبطنة وتبكيتا خفيا .التقدير:
إن كنتم مختلفين فما جدوى التساؤل!
وانظر إلى سمو بلاغة التنزيل عندما خالف فعبر بالفعل والاسم:
يَتَسَاءَلُونَ.... فعل متجدد
مُخْتَلِفُونَ ....اسم دال على الثبات...
الاختلاف أصيل فيهم لا يقبل التغيير، والتساؤلات المتجددة والمتكررة لن تأتي إلا بإجابات معروفة عندهم ،وقد اختلفوا فيها أصلاومنطلقا، فما وجه التساؤل إن لم يكونوا سفهاء...
فتلحظ هذا التدرج البياني الثلاثي البليغ:
1-أمر يخرج عن العادة يثير الفضول.
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
2-تسفيه مبطن
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
3- ثم الزجر الصريح والوعيد الأكيد
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ .ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 5]
 
مفتاح التدبر السؤال...فإذا كان السؤال ذكيا حصيفا انبثقت الفائدة من الآية عاجلا أو آجلا ...وقد دل القرآن نفسه على أهمية السؤال في استكناه المعاني:

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف : 7]

وهذا القرآن -الذي حث على التدبر- جعل التدبرميسورا من خلال دفع الذهن للسؤال دفعا، وله في ذلك مسالك منها :
تأسيس عادة تعبيرية تراها مطردة ثم تتخلف في موضع أو موضعين...
فلا شك أن هذا يوجب السؤال لماذا .ولا شك أن استحضار الذهن لكل المواضع ومراعاة التماثل والتباين سيفجر العيون المخفية في الآيات.

ونقدم هنا مثالا توضيحيا من "المسبحات "الست في المفصل، ونعرض هذه المجموعة الشريفة حسب ترتيبها في المصحف الكريم:

الحديد:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) [الحديد : 1 - 6]
الحشر:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) [الحشر : 1 - 2]
الصف:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) [الصف : 1 - 2] :
الجمعة:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) [الجمعة : 1 - 2]
التغابن:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) [التغابن : 1 - 4]
الأعلى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) [الأعلى : 1 - 5]

جرت العادة في هذه الفواتح بالاسترسال في ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله: فبعد آية الافتتاح المتضمنة للتسبيح إخبارا أو أمرا...تجد في الآية الموالية الأحالة على الذات العلية بواسطة الضمير (هُوَ) أو الموصول (الَّذِي) أوهما معا :
في سورة الحديد
يرد الضمير هُوَ ست مرات بعد الافتتاح ...
في سورة الحشر
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ...
في سورة الجمعة
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ....
في سورة التغابن
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ...
في سورة الأعلى
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى....
ثم يأتي السؤال الذي لا محيص عنه:
لماذا انفردت سورة الصف بعدم الاسترسال في الثناء على رب العالمين...؟بل نجد - على غير المتوقع- نداء المؤمنين لتبكيتهم :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف : 2]
هنا سر بلاغي كبير:
المعهود أن قطع العادة المطردة لا تحدث إلا لمستجد خطير أو لمستعجل من الأمر جلل (كما تجد في نشرات الأخبارمثلا حين تقطع عادة البث بالاشارة إلى ما يسمونه خبرعاجل فكأن هذا الخبر لا يحتمل التأجيل فلا بد من بثه ولو لم يكن الموضع موضعه...فيكتسب الخبربذلك أهمية كبرى ..)
هذا "التبئير"البلاغي....بمعنى جعل موضوع الكلام محل تنبيه وتشديد( كما يكتب المقال مثلا بنمط موحد من الحروف حتى إذا وصلت إلى موضع تريد التنبيه عليه أكثر عمدت إلى كتابته بنمط مختلف أو بلون مغاير.... )
التبكيت شديد :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف : 2]
وأشد :
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف : 3]
والثالثة أكبر:
ليس هناك أشرف من الثناء على الذات العلية وذكر الاسماء والصفات...وهنا موضعها المعتاد لكن قطع الاسترسال لتبئير الحدث الخطير!!
هذا ما ظهر لي ....ولا شك أن هناك أحسن وأفضل....ويبقى مفتاح التدبر دائما السؤال:
لماذا قال هنا ولم يقل هناك؟
 
3-
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم : 1]

الافتتاحية تضمنت شيئا من الشدة ،
فهي أشد من افتتاحية سورة "الصف" على اعتبار أن العتاب في تلك مسبوقة بمقدمة وفي هذه مباشرمباغت ،
وهي أشد من عتاب سورة "عبس "على اعتبار أن تلك تحاشت المواجهة بآلية الالتفات –على مذهب السكاكي- أما هذه فقد نادت ونبهت وواجهت بدون مواربة..فضلا على أن موضوع العتاب في عبس يمس فقط أخلاق منهج الدعوة أما تحريم ما أحل الله فهو أخطر من ذلك بمراحل!

ونحن نرى أن طرح الموضوع نفسه - ثم بهذه الشدة - يقطع أن هذا وحي من عند الله ستخضع له رقبة كل من تدبر الأمر مع شيء من العقل وبعض التجرد من الهوى...وإلا كيف سيرد المتعنت على ما يلي:
هل يعقل أن يفضح العاقل نفسه ويكشف عما جرى في بيته مع أزواجه هكذا من تلقاء نفسه ومن غير ضغط خارجي معتبر!
هل ينشر العاقل غسيله الداخلي على الجماهير،وفيهم المنافق المتربص والكتابي الحاقد والمشرك الموتور...!
أما كان للعاقل أن يحل أزمته الداخلية – وهي هينة على كل حال - بطريقة غير الوحي الذي سيتلى إلى يوم القيامة... !
وكيف سيكون حاله وحال أزواجه وهم يسمعون المنافقين يرددون السورة في دروب المدينة وغيرها نكاية وإيذاء... !
لو كان هذا العاقل يفتري على الله من أجل مجد شخصي أو زعامة قومية فكيف يعرض حياته الحميمية على الناس طواعية ، وقد علمنا أن الشأن الحميمي هو عقدة الزعماء والمشاهير ونقطة ضعفهم، فكم من عظيم عملاق سقط بسبب" تسريب" عن حياته الشخصية ،والمنافسون يتكالبون على مثل هذه التسريبات - افتراء أو تلفيقا أو شراء أوتجسسا -لإسقاط عدوهم بعدما أعيتهم الوسائل الأخرى... فهل يتوقعون يوما أن يهب لهم عدوهم على طبق من ذهب وبالمجان ما لا سبيل لهم إليه !
ثم إن فضيحة أزواجه ستمس أيضا آباءهن وهم أصفياؤه وأحب أصحابه الذين لن يترددوا في التضحية بدمائهم من أجله...فهل سيجعلهم العاقل تلوكهم ألسنة السفهاء والذليلين والأعداء...أما كان له أن يستدعيهم في مجلس عائلي ثم تحل المشكلة – إن كانت مشكلة - بهدوء فلا أحد سمع ولا أحد درى...لكنه فضل الضجيج وجعل قصته الشخصية منشورة على الناس ليس في بلدته فقط بل في كل الأرض وليس في زمنه فقط بل إلى الأبد.!
لاجواب عن كل هذا إلا القول إن هذا وحي يوحى منفصل عن شخصية المبلغ وجبلته وطبيعته البشرية....


(ننشر هذه الفقرة ضمن موضوع الافتتاحيات كما ننشرها مستقلة في المنتدى بعنوان : سورة التحريم وحي إلهي قطعا)
 
4-
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة : 1 - 2]

عندما يتلو المرء هذا الافتتاح يعد ثماني كلمات بحسب الرسم ،ولكن لو شاء أن يعد الجمل المكونة له لأخذه العجب ذلك لأن مرونة التركيب تسمح بتعدد الاحتمالات، فالافتتاح :
جملة واحدة -إن شئت-

أو جملتان
أوثلاث جمل
أو أربع...
(ونقصد بالجملة التركيب التام المستقل الذي لا محل له من الإعراب)

1- احتمال أن يكون التركيب رباعيا :

الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ - لَا رَيْبَ فِيهِ - هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

الم - لا يعربها كثير من النحاة والمفسرين ويفوضون معناها.

ذَلِكَ الْكِتَابُ –جملة اسمية تامة، الكتاب ليس نعتا ولا بدلا بل خبر الإشارة ، واللام إما لاستحقاق الكمال وإما عهدية ، فالتقدير على الأول: ذلك الكتاب الذي يستحق أن يسمى كتابا لا غيره مما حرف واختلط فيه الباطل بالحق ، وعلى الثاني: ذلك الكتاب الموعود بنزوله.

لَا رَيْبَ فِيهِ – جملة أخرى تامة ، لا محل لها من الاعراب

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ : جملة اسمية تامة، لا محل لها من الاعراب ، محذوفة المبتدإ - كما في الكلام الفصيح وفي مواضع كثيرة من التنزيل- يمكن تقديره (هو هدى للمتقين).

2- الاحتمال الثاني أن يكون التركيب رباعيا مع فصل عبارة (فيه ) عن الجملة الثالثة وإلحاقها بالجملة الرابعة.
الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ - لَا رَيْبَ – فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
خبر لا محذوف ، وهذا شائع فصيح كما يقال لابأس ، لا مناص، لا ضير... وغيرها .

فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ : جملة مستقلة تامة ، الفرق بين هذا الاحتمال وسابقه أن الهدى إما متضمن في الكتاب، أو أن الكتاب هو نفسه الهدى...والمعنيان صحيحان فلك أن تقول ألتمس الهدى في القرآن ، ولك أن تقول اتخذ القرآن هاديا.

3-الاحتمال الثاث أن يكون التركيب ثلاثيا:

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ - لَا رَيْبَ فِيهِ – هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ جملة مستقلة ( الم) مركب ابتدائي و(ذلك الكتاب) مركب خبري بمعنى أن الكتاب لا يتكون إلا من هذه الحروف فأتوا بمثله إن استطعتم!

لَا رَيْبَ فِيهِ : جملة مستأنفة مستقلة

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ : جملة مستأنفة مستقلة كذلك.

4-الاحتمال الرابع أن يكون التركيب ثلاثيا مع فصل عبارة (فيه ) عن الجملة الثانية وإلحاقها بالجملة الثالثة كما قدرنا في الوجه الرباعي من قبل

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ - لَا رَيْبَ– فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

5- الاحتمال الخامس أن يكون التركيب ثنائيا وهنا احتمال وجهين فرعيين

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ - لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
نفي الريب إما عن الكتاب فتكون (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) حالا...وإما عن تضمنه للهدى. فيكون التقدير هذه الحروف وأمثالها هي الكتاب ولا شك فيه في حال كونه هدى للمتقين، أو يكون التقدير هذه الحروف وأمثالها هي الكتاب ولا شك أن فيه هدى للمتقين ولا يزيد غير المتقين إلا ضلالا.

(لنلحظ كيف اختار القرآن كلمة هدى المقصورة كي لا تظهر علامة الإعراب على آخرها فيتسع المعنى فلك تقدير الرفع وغيره!َ)

6-الاحتمال السادس أن يكون التركيب أحاديا أي جملة واحدة

الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

(الم) مبتدأ (ذلك الكتاب ) مركب خبري أول (لا ريب فيه) مركب خبري ثان (هدى للمتقين ) مركب خبري ثالث أو حال .

هذا هو القرآن تبدو الجملة فيه عادية مألوفة حتى إذا تدبرتها تعجبت: أنى يجتمع كل هذا في هذا الحيز الضيق!!
 
5-
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ . بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق]

هذه الافتتاحية العجيبة جاءت موسومة ببلاغة الحذف...
1- حذف المقسم عليه
2- حذف المضروب عنه
3-حذف المستفهَم – أو المتعجَب – منه

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ
القرآن مقسم به، ولا تصلح جملة الإضراب أن تكون مقسما عليه ، لذا تحرى المفسرون جواب القسم في الآيات الموالية... وقد ضعف ابن حيان كل المقترحات المتعلقة بجواب مذكور ورجح أنه محذوف وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّكَ جِئْتَهُمْ مُنْذِرًا بِالْبَعْثِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا. بَلْ عَجِبُوا.
وحق لابن حيان أن يضعفها ،لأن للقسم وجهين بلاغي و حجاجي:
فعلى الأول يكون القسم توكيدا ، فلا يصح أن يؤكد المبهم ، أو الشيء الذي لم يتمثل بعد في ذهنك ، أوالمنفصل البعيد بحيث ينشغل ذهن المتلقي بمعاني أجنبية، كما لا يصح أن يكون المؤكد مختلفا فيه- وهذا ما ورد عن المفسرين ونقله عنهم ابن حيان- فكيف يتحقق توكيد المضبب والمحاط بالغبش!
وعلى الثاني يكون الأمر أدهى...فالقسم هنا أكثر من توكيد، بل هو بينة وبرهان. ومن المعلوم في الشرع – وفي العرف أيضا- أن اليمين في قوة الدليل المادي..فلا يعقل أن يحلف المرء للحاكم عن قضية وهو لم يتصورها بعد...فاليمين يجب أن تقترن بالدعوى ، ومن سخافة العقول أن يقسم المتهم على أمر فلا يبينه مباشرة بل يسترسل في كلام كثير ثم يقول للحكام اختاروا من كلامي هذا ما ترونه مناسبا لما أقسم عليه!!
غير أننا قد نخالف ابن حيان، فلا نرى المقسم عليه محذوفا بل نرى عدولا عن القسم نفسه، وهذا أبلغ وأليق بأسلوب القرآن لما يحمل من تبكيت شديد للمخاطبين...وهذا مثل لبيان ذلك :
هب أنك تريد إقناع شاك بقضية ، فتشرع في القسم لكنك تقدر في نفسك أن هذا المخاطب قلبه متحجر لن ينفع معه قسم أو غيره فتضن بوقتك وتعدل عن قسمك وتلغيه كأنه لم يكن...
والفرق بين الحذف والعدول أن القسم واقع ،جوابه مقدر، أما القسم المعدول عنه فهو ملغى أصلا ولم يقع.... فمثال الحذف - في عرف الكتابة والخط -أن تكتب المقسم به وتترك بعده نقطا ليضع المتلقي مكانها ما يراه مناسبا ،أما العدول فتكتب المقسم به ثم تشطبه بخط وفي هذه الحالة لا يقدر المتلقي أي مقسم عليه فلا يعقل تقدير فرع لأصل غير موجود!

العدول عن القسم تبكيت وشهادة أن هؤلاء قد طبع على قلوبهم ولن يؤثر فيهم أي دليل ولو كان هذا الدليل قسما من رب العالمين نفسه!
وبناء على هذا التأويل نزعم أن الإضراب في مطلع السورة ليس إضرابا عن جزء مقدر في حيز القسم ولكنه إضراب عن القسم ذاته...ويبقى تقديرالجمهورمع ذلك احتمالا واردا كما صاغه ابن حيان: أَنَّكَ جِئْتَهُمْ مُنْذِرًا بِالْبَعْثِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، بَلْ عَجِبُوا.
وبحسب هذا التقدير سيتضمن مطلع السورة وجها بديعا جدا يتمثل في حذف شيء واحد أوطيه ثلاث مرات...
فالبعث هو المحذوف في جواب القسم: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ[ لتبعثن].
وهو نفسه المحذوف في أسلوب الإضراب: جِئْتَهُمْ مُنْذِرًا بِالْبَعْثِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، بَلْ عَجِبُوا.
وهو نفسه المحذوف في استفهام التعجب: أَ [نبعث] إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.

والله أعلم.
 
6-
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح :1- 3]

1- قد يستشكل وجه التعليل باللام ، إذ لا يظهر كيف يكون الغفران معلولا للفتح...لكن الاستشكال يزال لو غيرنا منهج التدبر فجعلنا التدبر الأفقي مشفوعا بتدبر عمودي، نعني بالأفقي مقاربة الكلمة والعبارة بملاحظة السياق الخطي(ما قبل وما بعد) ، أما العمودي فيلاحظ علاقة الكلمة والعبارة بما يماثلها أو يقابلها - كليا أو جزئيا- في سورة أخرى ..
وهذا نهج مطروق غير مبتدع سار فيه علمان من أعلام الباحثين في بلاغة التنزيل هما صاحب( درة التنزيل وغرة التأويل ) محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (ت 420 هـ) وصاحب (ملاك التأويل القاطع بذوي الالحاد والتعطيل ) ابن الزبير الغرناطي (708 هـ ) ومنهجهما العمودي تكشف عنه العبارة المتكررة عندهما ( قال هنا... وقال هناك) أو (قال هنا... ولم يقل هناك ) أو (لم قال هنا... ولم يقل هناك ؟)

هذا النهج العمودي من شأنه زيادة بيان أوإزالة إبهام...فلو استحضرنا سورة (النصر) عندما نتدبر افتتاحية سورة (الفتح) لزال اشكال التعليل في عبارة( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ.. ). ولقائل أن يقول ولماذا سورة النصر بعينها..نقول لأن الموضوع متحد ،واسما السورتين الفتح والنصرمرتبطان في كليهما : اسما في سورة النصر(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) واسما وفعلا في سورة الفتح (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا... يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا)
في النصر وعد إلهي بالفتح وأمر لنبيه بالاستغفار...ولا بد من وقوع الأمرين ، فلا يمكن لله أن يخلف وعده ، ولا يمكن للنبي ألا يمتثل لأمر ربه ،والاخبار عن وقوع الأول يغني عن الإخبار عن وقوع الثاني...فههنا تلازم ثلاثي :
وقوع الفتح – الاستغفار- الغفران.
في سورة الفتح طوي الوسيط وعلل الثالث بالأول اختزالا...فليس الغفران معلولا للفتح حقيقة بل هو معلول للاستغفار المطوي الذي هو بدوره معلول للفتح فالتقدير : جاء الفتح لتستغفر ، و تستغفر ليغفر الله لك....فهو حذف شبيه بالاحتباك يستدعي فيه المذكور المحذوفَ!

2-
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ...
يحتمل بلاغيا وجهان:
أ- الالتفات، وهو ظاهرفي الانتقال من الحضور إلى الغياب ،والقياس أن يتحد وجه الخطاب فيقال مثلا : إنا فتحنا لك فتحا لنغفرلك...
ب- الإظهار في مقام الإضمار، فالفاعل أضمر أولا ثم أظهرثانيا والقياس يقتضي التجانس...فلماذا؟
السر في ذلك – والله اعلم- مرتبط ببلاغة ( الاحتراس)...فالضمير ( نحن) مشترك بين الدلالة على المفرد المعظم نفسه والدلالة على الجمع ،ومعلوم أن الذنوب لا يغفرها إلا الله فلو قال ( لنغفر لك..) لتوهم متوهم أن لبعض المخلوقات دخل في ذلك ...وليس الأمر كذلك في الفتح فقد يكلف الله الملائكة بتحقيق الفتح- كما حدث يوم بدر- فإذا قال إنا فتحنا لك فتحا جاز حمل الضمير على معنييه...فيقال لقد فوض الله لملائكته أن يفتحوا لنبيه...ولكن لا يعقل في التوحيد أن يقال لقد فوض الله لملائكته أن يغفروا لأحد!

3-
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
تقديم المغفرة على اتمام النعمة يوافق العقل والطبع والبلاغة...أولوية اختزلتها قاعدتان متفق عليها عند العقلاء :
ا- التخلية مقدمة على التحلية.
ب- درء المفسدة مقدمة على جلب المصلحة.
وهكذا فالمغفرة تخل – تطهير من الذنب - وتمام النعمة تحل .
كما أن الذنب يستوجب العقوبة فقدمت المغفرة الدارئة للمفسدة.....
4-
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا
هنا إظهار في مقام الإضمار...فالمتوقع أن يقال : وينصرك نصرا عزيزا... باضمار الفاعل اتساقا مع ما سبقَ :
يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ - وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
العدول عن الضمير إشعار باختلاف الأخير عما سبق...فقد يكون ما سبق خاصا بالرسول
- لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
- وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
- وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
أما النصر العزيزفعام له ولأمته.والله أعلم.
 
7-
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر : 1]

الافتتاحية موسومة ببيان الشمولية والاستغراق....ولتحقيق ذلك وظفت التقابلات ليكون الجمع بين المتقابلين أسلوبا لتصويرمعنى الإحاطة...وقد أحصينا خمس تقابلات:

الحمد لله \ فاطرالسماوات والارض.
فاطر\ جاعل.
السموات \ الارض.
السموات و الارض \ الملائكة.
فاطر السموات والارض \ جاعل الملائكة رسلا.

1- التقابل الأول:
الحمد لله \ فاطرالسماوات والارض
إحاطة بالتوحيد ف (الحمد لله) إشارة إلى الألوهية و(فاطر السماوات والأرض) إشارة إلى الربوبية...

2- التقابل الثاني:
فاطر\ جاعل
إحاطة بوجهي الخلق ، فالخلق إما ابتداء - أي إخراج من عدم - وإما تغييرا وتحويلا وتصييرا...فالأول (فطر) والثاني (جعل) ، الأول متقدم بالضرورة عن الثاني..فتقول "خلق الله النار ثم جعلها حارة"، ولا تقول "جعل الله النار حارة ثم خلقها" إلا أن تكون جعل هنا بمعنى قدر...
ولك أن ترى في ( فاطر) خلقا للذوات، وفي (جاعل) خلقا للصفات ، وكيف كان فالإحاطة متحققة، فالله خلق الملائكة بعد أن لم تكن ثم جعلها رسلا إلى خلقه.

3- التقابل الثالث:
السموات \ الارض
إحاطة بحيز المخلوقات وفضاء سكونها وحركتها ، السماوات فضاء علوي والأرض فضاء سفلي ..

4- التقابل الرابع:
السموات و الارض \ الملائكة
إحاطة بنوعي المخلوقات :المخلوقات المنظورة وغير المنظورة...أو المخلوقات المادية والمخلوقات الروحية.

5- التقابل الخامس:
فاطر السموات والارض \ جاعل الملائكة رسلا
إحاطة بتجليات الربوبية التي تختزل في عنوانين الخلق والأمر:
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف : 54]
(الخلق) مدلول عليه بعبارة فاطر السموات والارض،
و(الأمر) مدلول عليه بعبارة جاعل الملائكة رسلا...
فالرسالات التي تحملها الملائكة تتضمن أوامر الله سواء أكانت هذه الأوامر(تشريعية) موجهة إلى المكلفين تحليلا وتحريما أو أوامر (تكوينية ) من قبيل تشكيل الأجنة، وإنزال القطر، وهلاك الظالمين وغيرها...
 
8-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد : 1]

1- بعض مسائل البلاغة ترد إلى "الوجدان البلاغي" أعني لا سبيل إلى إخضاعها للأحكام العقلية ومن ثم لا يتيسر التعبير عنها وهي مع ذلك ثابتة في النفس لا يمكن دفعها كشأن الحدسيات...من ذلك هذه الافتتاحية العجيبة باسم الموصول :
الابتداء باسم الموصول لا إشكال فيه من جهة قوانين العربية ، لكن استعماله في رأس الخطاب ،غير مسبوق بشيء، هو من الغرابة بمكان...ولو صدرت الجملة ب (إن) لزالت كل الغرابة عنها ولأصبح استعمالها من الشياع بمكان...فلك أن تتوقع خطيبا من الخطباء يستهل كلامه – متوعداغاضبا أوراضيا مسرورا- (إن الذين يفعلون كذا وكذا لهم كيت وكيت... ) ولكن من المستبعد أن يبدأ بالموصول نفسه غير مصدر ب (إن)...والجدير بالإشارة أن عبارة "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" جاءت مؤكدة مرتين في ثنايا السورة...
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد : 32]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد : 34]
لكنها في المطلع وردت بغير (إن) فتأمل...!
ونقول – استطرادا- لقد شاع عند أهل اللغة دلالة (إن) على التوكيد ونحن نرى – وقد نكون مخطئين- أنها قد ترد لمجرد تحلية الجملة وتزيينها ،مثلها كمثل لام التعريف عندما تدخل على الأعلام كالعباس والحارث ، فقد قال النحاة إن التعريف هنا مستفاد من العلمية لا من اللام التي هي للتحلية لا غير...فلتكن (إن) كذلك ،خاصة إذا وردت في مقامات لا تقتضي توكيدا أو نحوه فتقتصر وظيفتها على الجانب الصوتى دون الدلالي...والله أعلم.
2-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ

قد يقول قائل : أليس استعمال المضارع هنا - بدلامن الماضي- أبلغ؟ فلو قال" يصدون عن سبيل الله" لكان فيه زيادة تشنيع لما فيه من استحضارللحدث، وتسجيل عليهم بالتلبس بالجرم، وتجدد حدوثه... وهذه المعاني لا تتأتى إلا مع صيغة المضارع!
نقول لهذا القائل علمت شيئا وغابت عنك أشياء...فلو كان المقام مقام تقبيح وتشنيع لكان الأمر كما قلت، ولكن المقام هنا مقام قضاء وإصدار للحكم...والحكم يقتضي أن تكون الجريمة تامة ، بل إن الرحمن الرحيم ليترك للمجرم فرصة الاستغفار والتوبة حتى بعد الفراغ من الجرم فلا يعاقب إلا بعد ذلك...انظر إلى قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج : 10]
فالعطف ب "ثم" الدالة على التراخي تفيد أن الله صبر عليهم ومنحهم فرصة التوبة مع أن جريمتهم فظيعة جدا...
فلا يصح مع هذا بلاغيا إلا صيغة الماضي المفيدة للتحقق والانقضاء فيكون الحكم مستوعبا ومحيطا.
3-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

عطف الصد على الكفر إشعار باقترافهم كل الجرائم النوعية:
أ- الكفر جرم في حق أنفسهم فهو جرم لازم ، الصد عن سبيل الله جرم في حق غيرهم فهوجرم متعد فجمعوا بين النوعين.
ب- الكفر محله الداخل والصد محله الخارج فجمعوا بين النوعين.
ج- الكفرأمر علمي قلبي والصد أمر عملي سلوكي
د- الصد لازم عن الكفر فجمعوا بين اللازم والملزوم.
4-
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

تركيب ( سبيل الله) أبلغ من دين الله أو الإسلام...لأن الإضافة في ( سبيل الله) تحتمل أن تكون من باب إضافة المسبب إلى سببه، كما تحتمل أن تكون من باب إضافة السبب إلى غايته...فعلى الأول يكون المعنى: السبيل الذي أنشأه الله وارتضاه وأوحاه إلى رسله ،وعلى الثاني يكون المعنى: السبيل الذي يوصل إلى الله...والجمع بين البابين إشعار بأن الله هو الأول والآخر منه كل شئء وإليه مصير كل شئء ،الشريعة منه وتفضي إليه!!
سبيل الله مرادف ل( دين الله) إلا أن السبيل مشربة بمعان إيحائية اضافية...فالسبيل ملزومها السير أي الحركة ، فينبثق معنى جديد: الدين ليس سكونا لكنه دينامية ، والمتدين ليس مقيما لكنه مسافر، والمكلف ليس قاعدا إنما هو ساع...
صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
- طوي المفعول به...تنبيها على أن نظر هؤلاء موجه إلى السبيل فقط ، فلا يهمهم عرق ولا جنس ولا ثقافة، كل ذلك غير داخل في الاعتبارو الحسبان ...والشأن كل الشأن ألا يقترب أحد من سبيل الله كائنا من كان...ولذا حذف المفعول الأول إمعانا في التعميم وذكرت السبيل للتبئيرومركزية الانتباه.
- الصد عن السبيل حدث يؤخذ منه بيانيا صورة لفضاء مكاني : فمن السهل تخيل طريق على مدخله شرطة أوعسس أو حراس... يدفعون الناس ويمنعونهم من الاقتراب ...وكلمة "صد" تستلزم جدال قوتين قوة مندفعة وقوة رادعة.
- الصد عن سبيل الله يستهدف طائفة من ثلاث...فالمؤمنون لا يتناولهم الصد ولكن يتناولهم الاخراج مثلا....والكفار المعرضون الغافلون لا يصح في شأنهم الصد لغياب القوة الاندفاعية... فتبقى الطائفة الراغبة في دين الله والمقبلة عليه هي المستهدفة بامتياز...
5-
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ

ذهب جمهور من المفسرين إلى أن الأعمال مراد بها ما كان للمشركين من وجوه الكرم والنجدة والمروءة وهذا – في تقديري - ضعيف لسببين:
- قلة فائدة هذا المعنى فالأعمال التي لم يرد بها وجه الله ضالة ولو كان صاحبها مسلما مؤمنا ولا تخص الصادين عن سبيل الله .
- أولوية حمل المعنى على الخصوص قبل العموم ...وبناء على هذا المبدأ يكون المراد بالأعمال خصوص أعمال الصادين عن سبيل الله ...وهي أنواع كثيرة يتوسلون بها إلى منع الناس من الاسلام من قبيل الرشوة، والابتزاز، والتهديد ، والوعيد، والمساومة ، والقتال.....هذه الأعمال هي المحكوم عليها بالضلال لا مطلق الأعمال، إنها مقيدة بنسبتها إلى الذين يصدون عن سبيل الله، فلا بد أن تكون أفراد تلك الأعمال موجهة لتلك الغاية...فإكرامهم للضيف في جاهليتهم- مثلا -خارج عن الاعتبارلأنه لم يكن وسيلة من وسائل الصد...
الأعمال الضالة تصوير بياني حسي...قد تثير في المخيال العربي صورة مألوفة للإبل الضالة مثلا...وللبلاغي التقليدي أن يقول هنا استعارة تمثيلية مكنية ويجريها على النحو التالي:
شبهت الأعمال بالإبل الضالة بجامع عدم الاستفادة في الحال والمآل في كل...وحذفت متعلقات الإبل كلها وبقي فعل أضل في الكلام مكنيا عن المحذوف.
والناتج عن كل ذلك حسرة مريرة مزدوجة:
فالمال الذي أنفقه المخذول للصد عن سبيل الله لم يستبقه فيستفيد منه في مآرب أخرى، ولم يفلح في الصد....تماما ،كالناقة الضالة فلا هو مستمتع بلبنها ولحمها لو أبقاها عنده ولا هي وصلت إلى الجهة المتوخاة ....فشأنها الضلال في البيداء!!
 
9-
وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر :1- 2]
1-
قالت الاستاذة (بنت الشاطئ): (....والمعنى الأصلي للعصر لغة: الضغط لاستخلاص العصارة... ومن هذه الدلالة اللغوية الأصلية على الضغط والإعتصار، سمي الدهر عصراً، بملحظ من استخلاصه عصارة الإنسان بالضغط والتجربة والمعاناة).
وعلى هذا الأساس فسرت العدول عن ذكر الدهرإلى ذكر مرادفه العصر ليتسنى الإيحاء إلى تلك المعاني المناسبة لمضمون السورة...فالسورة فعلا عصر للإنسان كما تعصر فاكهة ،فيستخلص منها أحسن ما فيها ويلقى بالغثاء والقشور في القمامة، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر هم رحيق البشرية وعصارتها ولا يبفى بعدهم غير ما يركم ويلقى في مكان سحيق...
ثم أخذت على المفسرين استكثارهم من تتبع وجوه معاني الدهر فكانت محقة في نبذ تأويلاتهم الفلسفية والإشارية ،لكن رؤيتهم لآلية القسم تبقى سليمة...ولبيان ذلك نقول إن للقسم وظيفتين وظيفة بيانية ووظيفة حجاجية:
الوظيفة البيانية هي بؤرة اهتمام بنت الشاطئ والوظيفة الحجاجية هي مركز اهتمام المفسرين قبلها....ونعني بالوظيفة البيانية المقصد الإمتاعي الفني للقسم ،من قبيل الاتساق والتناسب بين المقسم به والمقسم عليه، وقد بينت الاستاذة ذلك ....
أما الوظيفة الحجاجية فنعني بها المقصد الإقناعي للقسم فمن المعلوم أن القسم –أي اليمين- حجة معتبرة شرعا وعرفا ،وهو يقوم مقام الحجة المادية الدامغة عند غيابها، ولذا يشترط في المقسم به أن يكون مما يعظم عند صاحب القسم، ولا يقسم بالسفاسف إلا في مقامات الهزل والتظارف....وهذا ما اعتبره المفسرون -عن حق- لذا تجدهم يتقصون ويتوهمون -احيانا - وجوه عظمة كل مقسم به. ولعل الإكثار من سرد هذه الوجوه أثار شيئا من الضجر في نفس الأستاذة بحكم احتفائها الشديد بالجهة البيانية.!

2-
(العصر) مشترك بين المدلول الزمني المرادف للدهر وبين المدلول المصدري لفعل (عصر يعصر).فهو مشترك في الدلالة على الذات والحدث...وهنا سؤال: لماذا حملت الكلمة على الدلالة على الذات ولم تحمل مباشرة على المصدر؟ فإن كان فعل العصرمدلولا عليه بالإيحاء في اسم العصر –الدهر- فهو مدلول عليه بالمطابقة في المصدر ومعلوم أن دلالة المطابقة أقوى من دلالة الإيحاء والالتزام.
هنا نشير إلى قاعدة منهجية في تفسير القرآن من الأهمية بمكان وهي قاعدة (التدبر العمودي) التي بمقتضاها تتبين (عادات التعبير في القرآن) ،فإذا تقررت عادة تعبيرية معينة أمكن بواسطتها ترجيح وجه في التفسير أو تضعيفه، فما وافق العادة كان أولى بالقبول من غيره. وبناء على هذه القاعدة نقول إن القسم بالعصر - بمعنى الحدث - مرجوح ومطروح وتفصيله على النحو التالي:
صحيح إن التناسب الأفقي بين المقسم به والمقسم عليه قائم كما لاحظنا في التفسير البياني، لكن عموديا – أعني ملاحظة علاقات أقسام مطالع السوربعضها ببعض- تستبعد القسم بالعصر مصدرا ،لأن عادة القرآن القسم بالذوات مطلقا لا بالمصادر،سواء أكانت تلك الذوات شديدة الوضوح ك (النجم والطور والتين) أم يشوبها بعض إبهام ك(النازعات والمرسلات) وسواء أكانت من المشهود المتفق عليه أم من المغيب المختلف فيه...لكن القسم بالألفاظ الدالة على المعاني المجردة كالمصادر غير وارد، ومن ثم إذا جاء في القرآن القسم ب (العصر)وكان العصر يحتمل أن يكون ذاتا وأن يكون مصدرا حمل العصر على الزمنية واستبعدت الحدثية، والدليل : عادة القرآن!
وعلى أساس هذه القاعدة المنهجية نرجح القسم بالعصرلا باعتباره زمنا مبهما (كقولنا عصر السرعة والعصر الحجري) بل باعتباره زمنا مختصا فهو جزء النهار الذي يمتد من بعد الزوال حين يبدأ اصفرار الشمس إلى مغيبها، والتدبر العمودي يرجح ما اخترناه ،ففي الحزب الستين قسم ب(الفجر والليل والضحى والعصر) -وهذه الأقسام هي ذاتها أسماء السور- والجامع بينها الدلالة على أجزاء اليوم فالفجر هو البداية ،والليل هو النهاية، والضحى هوانتهاء البداية ،والعصر هو ابتداء النهاية...فتأمل التناسب العموديّ!
3-
وهذه طريفة من الموروث الشعبي المغربي نستأنس بها لفهم دلالة القسم ب (العصر)في السورة الكريمة :
شاع عند المغاربة أن السلاويين يعتريهم الحمق بعد العصر!
( والسلاويون هم سكان مدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط ولا يفصل بين المدينتين إلا مصب نهر أبي رقراق) ولعل السر في زعم الحمق أن مدينة (سلا) كانت قلعة محصنة بأسوار ذات أبواب ،ولما كانت الرباط - بحكم كونها عاصمة - تزدهر فيها التجارة ويكثر فيها الرواج كانت مقصدا للجيران السلاويين. غير أن السلاويين كان عندهم مصدر قلق يتمثل في كون أبواب مدينتهم تغلق عند غروب الشمس، فمن تأخر منهم لا يمكن له أن يدخل المدينة ،وطبعا بعد العصريتزايد في نفوسهم هاجس الأبواب التي ستوصد فيظهر ذلك في عملياتهم التجارية...فمثلا قد تعرض على السلاوي خمسة دراهم لتبتاع منه شيئا فلا يرضى بأقل من ستة مهما ألححت وكررت عليه ...حتى إذا أتيته بعد العصر وعرضت عليه أربع دراهم قبل على الفور...لأنه الآن يفكر في الرواح لا في الربح فحتى لو باع بثمن الشراء يكون على الأقل قد تخلص من ثقل سينوء به كاهله وهو يسارع الزمن كيلا يبيت بالعراء! ...أما المشتري فيقول السلاوي يعتريه الحمق بعد العصر،فهو يغضب إذا عرضت عليه الخمسة قبل العصرلكنه يفرح بالأربعة بعد العصر!!
والحقيقة إن سلوك السلاويين هو عين العقل ونظرهم هو نظر العقلاء الذين ينظرون إلى المآل لا إلى الحال...وجدير بالناس أن يكونوا كلهم سلاويين فبعد العصر لا ينبغي أن يهتم المرء إلا بالاستعداد للرواح سواء أكان العصر فرديا عندما يدخل المرء في الكهولة ،أم كان جماعيا فالبشرية هي بالتأكيد على مشارف الساعة فماذا أعدت لها!
ولعل من مقاصد القسم بالعصر في هذه السورة الجليلة أن يستشعر الإنسان قرب أوان الرحيل فيبادر إلى الاستعداد بكل ما أوتي من صبر وعمل صالح حتى وإن صنفه الغافلون في زمرة المجانين والحمقى!
 
بلاغة التهو يل في مطلع سورة الانفطار

{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) [الانفطار : 1 - 5

المقصد البلاغي من المطلع ذو صبغة نفسية مداره على التهويل، ومن أجله جاءت سائر العناصر اللغوية روافد تجري نحو هذا المصب المخيف ،روافد من الصوت والكلمة و التركيب:



1-مشهد الانقلاب الكوني ملحوظ من خلال العناصر الأربعة:

السماء،الكواكب،البحار،القبور...

المد الصوتي قاسم مشترك في جرس الكلمات،وله إيحاء بالامتداد والاتساع ومعبر عن شعور حاد،(المد مناسب لحالات النداء والاستغاثة والندبة والتوجع، ومن عبقرية اللغة أن وضعت لهذه المعاني حروفا وأدوات يتخللها المد: يارب ، وامعتصماه، واولداه ،آه ،واها ...)ويستحسن للمرتل أن يمد الألفات والواو مدا ملحوظا ليرمز إلى هذه المعاني الوجدانية.



2-صيغة الجمع مساهمة في إنشاء التهويل (الكواكب،البحار،القبور) و(السماء) وإن جاءت في صيغة المفرد فإنها في حكم الجمع باعتبارها اسم جنس، بل هي أدل على الاتساع والتعدد من صيغة "السماوات" نفسها..



3-للعناصر الأربع دلالات إيحائية تشعر الإنسان بالضعف والضياع:

يكفي أن يسمع المتلقي كلمة "سماء" لتخطر على باله معاني القوة والاتساع والعلو يستشعر معها الصغر والضعف:

أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا النازعات27

وحسبه أن يسمع كلمة "الكواكب" لتخطر بباله الومضات البعيدة الآتية من عالم سحيق مجهول يستشعر معها الخوف ..

وحسبه أن يسمع كلمة "بحر" ليخطر في باله معنى الخضم المتسع وما يتضمنه من معاني الغرق والموت..

ثم القبور.... !!

ومن قوة البيان القرآني أنه حشد هذه المظاهر الكبرى :السماء والكواكب والبحار والقبور ، في اتساعها وتعددها وقوتها، وجعل كل ذلك في كفة، وقابلها في الكفة الثانية ب"نفس"خاضعة، منفردة ،نكرة:

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ5

مفارقة كبرى ،لا يملك معها المتلقي إلا الشعور بالوجوم، وأنا به زعيم!!



4-جاءت الأفعال مطاوعة (انفطرت،انتثرت) و مبنية لما لم يسم فاعله(فجرت،بعثرت) لتحقيق التهويل..على اعتبار أن الإنسان مجبول على الخوف من اللامرئي ...فحدوث فعل مع خفاء فاعله يشعر المرء بالتوتر..فتراه يفترض حضور قوى غيبية (جن أو شياطين) لتعليل ما حدث..

ولك أن تتمثل تحرك كأس على الطاولة ،فجأة، من تلقاء نفسه، أو اشتعال مصباح بدون سبب ،أو انفتاح كتاب كان مغلقا لتدرك مقدار الرعب الذي سيملأ الإنسان..

ولهذا الملحظ جاء وصف مظاهر القيامة في القرآن قائما على أفعال المطاوعة والمبنية لما لم يسم فاعله ليضع الإنسان في وسط تتحرك فيه الأشياء وتسير فيه الجوامد، عالم مرعب حقا!

ومن نماذجه المعبرة مطلع سورة التكوير:

كُوِّرَتْ-انْكَدَرَتْ - سُيِّرَتْ -عُطِّلَتْ - حُشِرَتْ -سُجِّرَتْ -زُوِّجَتْ -سُئِلَتْ -قُتِلَتْ - نُشِرَتْ -كُشِطَتْ - سُعِّرَتْ -أُزْلِفَتْ .



5-من روافد التهويل الشمول والعموم،فتجليات الساعة ظاهرة في السماء وفي الأرض، والعناصر الأربعة موزعة على الفضائين العلوي والسفلي:السماء والكواكب من فوق والبحار والقبور من تحت..



6-السماء موصوفة من داخلها ومن خارجها:فهي منفطرة في بنيتها الداخلية،وعاطلة من الزينة في مظهرها الخارجي..

وكم سيكون وقع المشهد شديدا لو قارنا بين السماء قبل وبعد:

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)

فكأن قوله "هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور"ٍ إرصاد لما سيحدث:" إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ"

كما أن قوله وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً إرصاد لما ستكون عليه عندما يشاء الله:

وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)



أما تعبير" الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ" فقد دل على جمال السماء الزائل :

لنتذكر أولا أن القرآن العظيم أكد في مواضع كثيرة زينة السماء بالنجوم والكواكب:

-وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر : 16]

-فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت : 12]

-أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق : 6]

-وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك : 5]

-إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ الصافات6



وفعل انتثرت يدل على تساقط ما كان منتظما. قال الألوسي:

وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطت متفرقة وهو استعارة لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية ...



لعله يقصد بالمكنية الكواكب مرادا بها الجواهر،ويقصد بالمصرحة تشبيه التساقط بالانتثار...

قال ابن عاشور "النثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز(!!!)

ولو جاريناهم على مذهبهم لقلنا هنا مجاز على المجاز:

استعارة مكنية بتشبيه السماء بعروس...وهي استعارة مفهومة من الاستعارة الأخرى (مصرحة أو مكنية) حين شبهت الكواكب بجواهر منظومة..أو لنقل تشبيه الكواكب بالجواهر يلزم عنه جيد، والجيد يلزم عنه حسناء، والحسناء هي السماء:مجاز عن مجاز، أو كناية عن مجاز..اختر ما شئت والأفضل أن تعرض عن كل هذا، وحسبك أن تدرك أن مدار الصورة على الجمال والتجميل!!





7-في العناصر الأربعة تناغم بديع:

فالسماء من فوق مناسبة للبحار من تحت..

والكواكب من فوق مناسبة للقبور من تحت..

وجه التناسب بين السماء والبحار هو الاشتراك في صفة الكم المتصل المتسع (فضلا عن الاشتراك في الزرقة)

والكواكب متناسبة مع القبور في صفة الكم المنفصل المتكثر..



8-التهويل ينشأ أيضا من التأجيل:

فالاستهلال ب" إذا "يجعل المتلقي يرتقب الجواب،لكن هذا الجواب المرتقب لا يأتي ..بل تأتي " إذا "أخرى فتشتد الرغبة في معرفة الجواب من جراء التهويل المضاعف.. لكن تأتي " إذا "ثالثة ثم " إذا "رابعة..



9-وأخيرا يصل التهويل إلى منتهاه عندما يعي المتلقي أنه الهدف المقصود...وأن هنا حركة آتية من بعيد متجهة صوب الإنسان ولا تقصد غيره:

بدأ الأمر العظيم من السماء ،ومع انتثار الكواكب وحركة السقوط يتجه الذهن عموديا إلى أسفل، إلى الأرض(و الأرض موطن الإنسان) ، وفي الأرض يكون الاتجاه أفقيا من البحر إلى البر( والبر موطن الإنسان) والبر فيه قبور( والقبورموطن الإنسان)

ثم هاهو الهدف أخيرا :

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ..

ولله هذه النكرة ما أبلغها...فدلالتها على الانفراد و الشياع تجعل كل متلق يدرك أن تلك النفس ما هي إلا هو!!



10-نختم حديثنا بنقل كلام العاصمي الغرناطي من كتابه ملاك التأويل..فقد أبدع- -في بيان اختلاف مطالع سورة التكوير عن مطالع سورة الانفطار، رغم الموضوع المتحد..فقد لاحظ أن مطالع التكوير مبنية على "الجمع "وأن مطالع الانفطار مبنية على "التفريق".قال:

قوله : (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) (التكوير : 6) ، وفي سورة : (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) (الإنفطار : 3) ، يسأل عن اختصاص الأولى بقوله : "سجرت" والثانية بقوله "فجرت"؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن قوله : "سجرت" معناه ملئت، من قولك سجرت التنور إذا ملائته بالحطب، وقرئ مخففاً ومثقلاً والمعنى واحد، والمراد اجتماع مياهها وأما قوله : "فجرت" فتح بعضها واختلط العذب بالمالح فصار بحراً واحداً بزوال البرزخ الحاجز بينهما، وكل من الإخبارين (يؤدي معنى غير المعنى الآخر ، فإن الامتلاء غير الانفجار ، ثم كل من الإخبارين) مناط بالآخر لما بينهما من الشبه ، ولهذا جرى كلام أكثر المفسرين على تفسير كل واحد من اللفظين بما يحرز المجموع من معنييهما ، وتفاصيل ذلك على ما ذكرته مما يقتضى التباين لا الترادف ، والإخبار بكل واحد منهما مقصود معتمد لكمال المراد.

وإنما خصت سورة الإنفطار بلفظ الإنفجار ليناسب مطلع السورة وافتتاحها، ألا ترى في انفجار العذب إلى المالح والمالح إلى العذب وبعضها إلى بعض انفطار ناسب انشقاق السماء وانفطارها . فانفطار السماء ، وانفجار البحار ، وبعثرة القبور ، وانتشار النجوم ، كل ذلك متناسب أوضح تناسب وأبينه . وحشر الوحوش وتزويج النفوس، وتسجير البحار ، هذا كله اجتماع وائتلاف يناسب بعضه بعضاً ، كما أن انفطار السماء ، وانتثار الكوكب ، وتفجر البحار ، وبعثرة القبور ، يناسب بعض ذلك بعضاً ، فالتحام هذه الجمل في السورتين أبين التحام وأوضحه ملاءمة وتناسباً . فورد كل من ذلك على ما يجب ويناسب ، والله أعلم بما أراد.
 
الفاتحة الحادية عشر... وتأملات أخرى في الفواتح

اعتنى أهل القرآن بفواتح السوروعملوا على بيان خصائصها وأنواعها ، وقد جعلها صاحب (البرهان) علما مستقلا ضمن علوم القرآن ورتبه سابعا تحت عنوانُ:
النَّوْعُ السَّابِعُ: فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَالسُّوَرِ
وذكره قبل علم المكي والمدني وقبل علم نزوله وجمعه....
أما صاحب (الإتقان) فقد جعله في المرتبة الستين تحت عنوانُ:
النوع الستون في فواتح السور

قال الزركشي (المتوفى: 794هـ)
وقد افتح سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا....

ثم ترجم لها على النحو التالي:
1- الاستفتاح بالثناء
2- الاستفتاح بحروف التهجي
3- الاستفتاح بالنداء
4- الاستفتاح بالجمل الخبرية
5- الاستفتاح بالقسم
6- الاستفتاح بالشرط
7- الاستفتاح بالأمر
8- الاستفتاح بالاستفهام
9- الاستفتاح بالدعاء
10- الاستفتاح بالتعليل
قال الزركشي:
هَكَذَا جَمَعَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ ....
وَنُظِمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ... تِ الْمَدْحِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا
وَالْأَمْرُ شَرْطُ الندا التعليل والقسم الدعا حُرُوفُ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا

قال السيوطي(المتوفى: 911هـ)
أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ "الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ" وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِهِ.
ثم ذكر ما أورده الزركشي.

غني عن البيان أن أية سورة لا بد أن يندرج مفتتحها في نوع من الأنواع العشرة المعدودة لكن يمكن للسورة الواحدة أن تندرج في أكثر من نوع بحسب الاعتبار فمفتتح سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى-مثلا- يَدْخُلُ في الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي قِسْمِ الْأَمْرِأَيْضًا .


.....ثم ظهر لي أن هناك فاتحة قد تكون متداركة هي:
11- الاستفتاح بالحوار
وهي فاتحة سورة النبأ...
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ :1- 3]

اعلم أن الحوار نوعان:
1-حوار مسرود غير مباشر ينقله طرف ثالث هو واسطة بين المتحاورين والمتلقي، ومن علاماته تصدير الحوار بقال ومشتقاتها ونظائرها( قالا، قيل، قالت ،أجاب، صاح ،تساءل، ردوا قائلين.. الخ... )
2- حوار مباشر حي بلا واسطة ومن علاماته الترقيمية شرطة(-) تستخدم في أول السطر في حال المحاورة بين متحاورين؛ للاستغناء عن تكرار اسميهما...كما تجد في نصوص المسرحية المكتوبة- لا المشخصة- فأسماء المتحاورين لا تنتمي إلى الحوار ،ولا محل لها من الإعراب، إنما هي تنبيهات خارجية ليعلم المتلقي من المتكلم ،فلا عين لها ولا أثر عندما تكون المسرحية مشخصة ...لعدم الحاجة إليها.
وهذا مثال توضيحي من التنزيل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة : 247]
فهذا حوار مسرود من النوع الأول ولكي نجعله من الحوار المباشر يتعين طي الجمل المنبهة على المتحاورين وهي ثلاث جمل:
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ،
قَالُوا،
قَالَ.
فيعود الحوار - في غير القرآن - هكذا:
- إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا
- أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ
- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
فهذا حوار محض....وهو ما وجدناه في مفتتج سورة النبأ...فهناك سائل يسأل ومجيب يجيب دون أي تنبيه عن السائل أو المجيب...ولو شئنا نقل النص وفق اصطلاحات الترقيم المتعارف عليها اليوم لكان هكذا:

-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!

ولا نرى داعيا لتعيين السائل أو المجيب وهل هما اثنان أم شخص منفرد يقوم بدور السائل والمجيب معا...فهذا بحث هامشي قد يصرف الذهن عن تذوق بلاغة الآيات التى تقدم ( مشهدا) لا ( تقريرا) :
فالقوم قد علا عنهم اللغط،وكثرمنهم التساؤل بصورة غير معتادة ،لدرجة أن أي مار بهم يستوقفه إفراطهم في التساؤل فيثير في نفسه الفضول البشري المشروع:
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
فالبلاغة هنا في عدم التعيين لأن كل تعيين تخصيص ومقصود الآيات التعميم فالسؤال -عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟ سيصدر عن أي كان بالنظر إلى ما يمليه حال القوم....
ثم يأتي الجواب:
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
وهو جواب بديع يتضمن سخرية مبطنة وتبكيتا خفيا .التقدير:
إن كنتم مختلفين فما جدوى التساؤل!
وانظر إلى سمو بلاغة التنزيل عندما خالف فعبر بالفعل والاسم:
يَتَسَاءَلُونَ.... فعل متجدد
مُخْتَلِفُونَ ....اسم دال على الثبات...
الاختلاف أصيل فيهم لا يقبل التغيير، والتساؤلات المتجددة والمتكررة لن تأتي إلا بإجابات معروفة عندهم ،وقد اختلفوا فيها أصلاومنطلقا، فما وجه التساؤل إن لم يكونوا سفهاء...
فتلحظ هذا التدرج البياني الثلاثي البليغ:
1-أمر يخرج عن العادة يثير الفضول.
-عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ؟
2-تسفيه مبطن
-عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ!
3- ثم الزجر الصريح والوعيد الأكيد
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ .ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ : 5]
ولا نرى داعيا لتعيين السائل أو المجيب وهل هما اثنان أم شخص منفرد يقوم بدور السائل والمجيب معا...فهذا بحث هامشي قد يصرف الذهن عن تذوق بلاغة الآيات التى تقدم ( مشهدا) لا ( تقريرا)
بوركت اخي ،لو وصفته ب( فهدا بحث آخر ) لكان أفضل من هامشي فربما كان بابا لفهم افضل لتركيبة نص القران
 
ظاهرة في" الفاتحة" لا مثيل لها في كل كتب الدنيا!

(هذا المقال نشر مستقلا في المنتدى وفضلت أن أعيد نشره هنا جمعا للمؤتلف)

سميت الفاتحة كذلك لأنها بها يفتتح الكتاب ، فهي مقدمة له ...ومن شأن المقدمات – عموما – أن تشير إلى الغرض من الكتاب، وتلفت النظر إلى محتواه بصورة اجمالية لتشوق القارئ ليقبل على الكتاب بعد أن ذاق من المقدمة ما يجعله يطلب المزيد...وقد انتبه العلماء إلى هذا الأمر فرأوا في الفاتحة الخطوط العريضة لكل مقاصد القرآن ومواضيعه...

لكن الأمر الغريب الذي انتبهنا إليه في الفاتحة، ليس مضمونها ، ولكن أسلوب الخطاب فيها...فلو تأملت كل المقدمات التي يضعها الناس لما يقولون ولما يكتبون تجد أن الخطاب يتجه - دائما وبالضرورة- من "أنا" (الكاتب - المتكلم) إلى "أنت" (القارئ - المستمع)، سواء سميت المقدمة "بطاقة غلاف" أو "افتتاحية" أو "إهداء" أو "تصديرا"..وتجد فيها العبارات النمطية من جنس "عزيزي القارئ" "أيها الحضور الكريم" " أعزائي المشاهدين والمتتبعين".... الخطاب دائما من( أنا) صاحب القول إلى (أنت) المتلقي.

والآن أدعوك إلى فاتحة القرآن العظيم لتجد ما لن تتوقع أبدا: الخطاب فيها صاعد وليس نازلا،خطاب معكوس من المتلقي إلى المتكلم!!!

القياس أن تجد في الافتتاح صيغة خطاب من رب العالمين إلى العالمين مثل: "ياأيها الناس" أو "ياأيها النبي" .... لكن المفاجأة :

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ،ملك يوم الدين....

المتلقي هو المخاطِب (الحامد) والمتكلم -عز شأنه - هو المخاطُب (المحمود)!

بل لقد تمحضت سورة الفاتحة كلها لمخاطبة الرحمن الرحيم ، وظهر المخاطَب فيها بكل الوجوه التي تستطيعها العربية:

أ - اسما صريحا : لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين.

ب- ضميرا منفصلا منصوبا: إياك نعبد ...وإياك نستعين.

ج- ضميرا مستترا مرفوعا :اهدنا......

د- ضميرا متصلا مرفوعا: أنعمت...

وما ذكره بعضهم من أن الله حمد نفسه بنفسه في بداية الفاتحة ثم وقع (التفات) في "إياك نعبد" فهذا الزعم حري ألا( يلتفت! )إليه بعد هذا الحديث الشريف:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة .

الفاتحة لها طابع حواري : المبادرة من العبد (وقد وضع الخالق الفاتحة كلها – أي كلامه- على لسان العبد) أما جواب الخالق فهو هناك في الملإ الأعلى!!

والله أعلم.
 
عودة
أعلى