الوقف على [كُلّٗا نُّمِدُّ] عند الإمام الهبطي.

إنضم
25 فبراير 2011
المشاركات
12
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
عَلى قَناةٍ عَربيّةٍ.في بَرنامج رَمضانيّ.جلسَ عالمٌ كبيرٌ من عُلماء القِراءات.يتحدّث عنِ (الوَقْفِ الهَبْطيّ).و بَدا من كلامِه أنَّه يُلقي كلامَه عن غَير تمْحيــــــــــــصٍ ولا سابِق بَحثٍ ونَظرٍ.والمثيرُ في الأمْر أنّه،على جَلال قدْرهِ وتَصدُّرهِ للمَشهَد الإقْرَائيّ في العَالم الإسْلاميّ،ذهبَ يتحدَّث عن (الإمَام الهَبطيّ) في كَثير منَ الاسْتهزَاء والسُّخْريّة فيقُول بلهجَتهِ : «ولَه أوْقافٌ ثالثَة مَا بْتُصْلُح أبَداً أبَداً..»قالَها وهوَ يَمسحُ كفَّيْه بَعضَهُما ببَعضٍ، ويَنْفُضُهما تَعبيراً عنْ خُلُوّ الفَائدَة وتَفاهَة العَمَل.ولـمّا ذَكر مِثالاً منْ أحدِ وُقُوف(الإمَام الهَبطيّ)،في قَوله تعَالى [كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَ]،حيثُ يَقف(الهَبطيّ) علَى[كُلّٗا نُّمِدُّ]،عَلّقَ، ضَاحكاً سَاخراً، عَلى هذَا الوَقْف،وقالَ بلَهجَته السّوريّة وهوَ يَضحَكُ: «يَا سَيّدي، الله يْخَلّيكْ، شُو لي جَا بِبَالُو،اَلله يرْحَمُه؟،لا أَدْري».فوجْدُت أنّ هَذا الكَلام لا يَليقُ أنْ يَصدُر منْ عالِمٍ كَبـــــــــيرٍ، في حَقّ عالِــــــــــمٍ جَليلٍ مَشهُودٍ لهُ ،ثمّ يَكونُ هذَا الكَلامُ جِزافاً، ورَأياً فَطيراً ،عنْ غَير اطِّلاعٍ، ولا حُسنِ تَمحيصٍ ونَظر.
وأنتَ إذَا تَتبّعت وُقُوف (الإمام الهَبطيّ) بِدراسةٍ وعُمقِ نَظرٍ، تَبيّن لكَ أنّه كانَ في كلّ وُقُوفهِ مُتَّبِعاً لا مُبتَدِعاً.وأنّها وقُوف مُؤَصّلة، لهَا سَندُها منْ كَلامِ علمَاءَ أفْذاذٍ سَلفُوا .ونحنُ نَقف علَى هذَا الوَقفِ بشيْءٍ منَ التّمحيصِ، وفضلٍ منَ التدبُّر والنَّظر،فنَقُول:
إنّ أغلبَ منْ وقَفوا عندَ هَذه الآيَة منَ المفسّرينَ ،لمْ يُطيلُوا الوُقوفَ، واعْتَبَروا اكْتِمالَ الوَقفِ عندَ قولهِ تعَالَى[مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَ]،فَلا تجدُ في كُتُب التَّفسير إشارَةً إلى الوَقفِ عَلى[كُلّٗا نُّمِدُّ].فاعْتَبرُوا [هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ]،بَدَلا منْ[كُلّٗا] ،و[مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَ]مُتعلّقاً بِــــ[نُّمِدُّ]. فالكَلامُ كلُّه مُترابطٌ حَتى يَنتَهيَ إلَى[مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَ]،حيثُ يَكونُ الوَقفُ.تَجدُ ذلكَ عندَ(الزَّمَخشَريّ) و(الرَّازيّ) و(القُرطُبيّ) و(ابنِ حَيّان) و(ابْنِ عادِل) و(ابْن كَثير)و(الشَّوْكَاني)(وابْن عَاشُور)،وغيْرِهِم.
لكنَّكَ بفَضلِ بَحثٍ وتَقصٍّ، تَكتشفُ أنَّ المسألَةَ لهَا وجهٌ آخَرُ منَ النَّظرِ،وأنّ هناكَ منْ أشَارُوا إلى الوَقفِ عَلى[كُلّٗا نُّمِدُّ]،وذكرُوهُ في مُصنّفاتِهمْ، وكلُّهُم نسَبُوا هَذا الوَقفَ إلى(يَعْقُوب).وهمْ عُلماءُ لهُمْ وَزنُهُم واعْتبَارهُم.قالَ (أبُو جَعفَر النَّحّاس تـ :338ه) في كتابهِ (القَطْعُ والائْتِنَاف) ج/1 ص375): «ثُمّ القَطْعُ علَى رُؤُوس الآيَاتِ كَافٍ، إلَى [كُلّٗا نُّمِدُّ]،فإنَّ (يَعْقُوب) زَعَمَ أنَّهُ يَجُوز أَن يَكونَ هَذَا كَافِياً».وقالَ (أبُو عَمرٍو الدَّانِي- تـ :444ه) في (الـمُكتَفَى) (ص359) : «وقالَ(يَعْقُوب): [كُلّٗا نُّمِدُّ]،كَافٍ». و(يَعْقُوب) الَّذي نَسَبُوا إليه هذا الوقفَ، هوَ أحدُ القُرّاء العَشَرة.إنّه (يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاق الحَضْرميّ البَصْريّ)،تُوفّي سنة(205ه)،ويُنسَب لهُ كتابُ(وَقْف التَّمَام). أخَذَ عن كَثيرٍ ،منهُم(حَمْزَةُ بنُ حَبيبٍ الزّيّات)،وأخذَ عنهُ كَثيرٌ ،منهُمْ(أبُو حَاتم السِّجِستَانّي). قالَ عنهُ(ابنُ الجَزريّ) في (طَيّبَة النَّشْر): «هوَ أبُو مُحمَّد يَعقُوبُ بنُ إسحاقَ بنِ يَزيدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ إسحَاق الحَضرَميّ مَولاهُم البَصريّ، كانَ إماماً كبيراً ثقةً عَالماً، انتَهتْ إليهِ رئَاسةُ الإقْرَاء بعدَ (أَبي عَمْرٍو)، وكانَ إمامَ جَامِع البَصْرَة. قالَ (أبو حَاتم السّجِستَانيّ): كانَ أعلمَ مَن رَأيتُ بالحُرُوف والاخْتِلافِ في القُرآن وعِلَلِه ومذاهبِ النَّحْو، ماتَ سَنَة مائتَينِ وخَمسٍ».فإذا كانَ هذَا العالمُ الثِّقَة الضَّابطُ، يقفُ هذَا الوَقفَ، واشْتَهرَ عَنهُ ذلك،وذُكرَ في المشهُورَات منْ مُصنّفَات عِلمِ الوَقف. فهلْ نُـهينُهُ لأجلهِ، مثلَ تلكَ الإهانَةِ، ونَجعلُهُ ممَّن يُسخَر منْ علمِهمْ وتُستَقلُّ مَنزلتُهُم،فنقولُ عنهُ كمَا قالَ عَالمنَا ،غَفرَ اللهُ لهُ؟.ذلكَ ما لا يَقُول بهِ ذُو اسْتِبصارٍ ورَويّةٍ.إذِ السُّخريّةُ منَ (الإمامِ الهبطيّ) وهوَ تالٍ بَعدهُ، ونَاهلٌ منْ عِلمهِ،و وَاقفٌ عندَ وَقفهِ،تَتجَاوَزهُ إلَى الإمامِ (يَعقُوب)،وهوَ سابقٌ قبلَهُ،ومَرجعُهُ في عِلمِه،ومؤَصّلٌ لوَقفهِ.
وممّنْ ذَكرُوا هذَا الوَقفَ في مُصنّفَاتهم،مَنسوباً إلَى الإمام(يَعقُوب)، (الأشْمُونيّ) في (مَنَار الهُدَى).وزادَ أَنْ ذكرَ لهُ تَعليلاً نحويّاً، حيثُ قالَ في الصَّفحَة(449): «[كُلّٗا نُّمِدُّ] جَائزٌ عنْدَ (يَعْقُوب).علَى أنَّ مَا بَعدَهُ مُبتدَأ.وَ [مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَ]الخَبَر».فجعَل تَوجيهَ الوَقفِ عَلى[كُلّٗا نُّمِدُّ]أنْ يُبتدَأَ بعدَها بجُملةٍ اسميّةٍ منْ مُبتدَأ وخَبَر.فيَكونُ بذَلكَ للآيَة وجْهان إعْرَابيّان:
1 - البَدَليّة في(هَؤلاءِ).وهذَا يَقتَضي الوَصلَ.ويمنَعُ الوَقفَ علَى[كُلّٗا نُّمِدُّ].
2 - الِابْتدَائيّة في (هَؤلاءِ).وهذَا يَقتَضي القَطعَ بالوَقفِ علَى[كُلّٗا نُّمِدُّ].
وقدْ ذكَرَ(مُحمّد بنُ عبدِ الرَّحمَن الإِيجيّ)في تَفسيرهِ(جامِعُ بَيَان التَّفسيرِ)، إعْراباً ثالثاً، حيثُ قالَ في (ج/2 ص383): «و(هَؤلاءِ) مَنصوبٌ بتَقديرِ (أَعْنـي) أوْ بَدَل منْ( كُلّاً)».فجعَل التّوجيهَ النّحويَّ قائماً علَى مَا يُشبهُ (الاخْتصاصَ).فيكُون (هَؤلاءِ) مَفعولاً بهِ لفعلٍ محذوفٍ تقديرهُ (أَعْني). فتكونُ جملةُ:( هَؤلاءِ وهَؤلاءِ)،جملةً فعليَّة مستقلّةً مُعترضةً بيْنَ(نُمدُّ) و(مِنْ عَطاءِ رَبّك).
وممَّن ذكرُوا هذَا الوقفَ أيضاً،(ابْنُ الغَزَّال- تــ : 516ه)،فقالَ في كتابهِ (الوَقفُ والابْتِدَاء)في الصَّفحة(466): «ويَجُوزُ أنْ يكونَ الوقفُ [كُلّٗا نُّمِدُّ]».ومنْ قبلهِ في أوائلِ (القَرنِ الخَامِس) قالَ (الحَسنُ بنُ عليّ العُمّانيّ) في كتابهِ(الـمُرشدُ في الوَقفِ والابتدَاء) (ج2/ص339): «ثمّ اخْتَلفُوا بَعدهُ فقالَ قومٌ [كُلّٗا نُّمِدُّ] هوَ وَقفُ. وهُوَ عندِي صَالِحٌ». فلمْ يَكتَفِ بالإشارَة إلى هَذا الوَقفِ، وإنَّمَا أدخَلهُ في مَرَاتبِ الوَقفِ،الّتي رَتّبها.فقد جعلَ (العُمّانيّ) مراتبَ الوَقفِ ثَمَان،رَتّبها منْ أعلَاها إلى أدْنَاها: (التّامّ ثمّ الحَسَن ثمّ الكَافي ثمّ الصَّالِح ثمّ المفْهُوم ثمّ الجائِزُ ثمّ البَيَان ثمّ القَبيح).وجاءَ من بَعدهِ شَيخُ الإسْلام(زَكريّا الأَنْصَاريّ) فتَبعَه في اعْتبَارهِ لهَذا الوَقفِ. وذلكَ في كتابهِ(المقصِد لِتلْخِيص مَا في المرْشِد) فقالَ في الصّفحة(76): «[كُلّٗا نُّمِدُّ] ، صَالِحٌ». وكانَ رتّبَ الوُقُوف نَفسَ تَرتيبِ (العُمّانيّ).
وهكَذَا يَتبيّن لنَا أنَّ ما اخْتَارَه (الإمامُ الهَبطيّ) بوَقفهِ علَى[كُلّٗا نُّمِدُّ] ،لمْ يَكنْ ضرباً منَ التَّخمينِ المتَهَافتِ، ولَا افْتِتاناً بِزَيغِ الهَوَى،أو عَملَ طالبٍ مُبتَدئٍ يَتلمّسُ طريقَهُ، وإنَّمَا كانَ عَملَ عالمٍ عَارفٍ مُتبصِّر،يَصدُر عنْ عَميقِ نَظرٍ، بعد بَحثٍ مُضنٍ، واسْتِقصَاءٍ ذِي إحَاطةٍ واستِيفَاء، منْ تُراثٍ غَنيٍّ ثَرٍّ، يَضربُ بَعضهُ في بُطُون القُرون البَعيدَة، منْ مُصنَّفاتِ أفْذَاذ العُلَماء الّذينَ أصَّلُوا وأسَّسُوا.فكانَ مَا صدرَ منْ عالـمِنَا هَذا مِن اسْتِهْزَاءٍ وسُخريَّة سقْطةً علميَّة نَرجُو لهُ أنْ يَستَدركَها ، وكبْوَةً معرفيَّةً نسألُهُ حسْنَ نُهُوض منْهَا ،وجَميلَ خَلاصٍ منْ عِلّاتهَا.ومَا أرَاهَا منهُ إلَّا عنْ غَيرِ قصدٍ إلى تجريحٍ أوْ ميلٍ إلَى تَقديحٍ. وإنَّمَا هيَ فَلتةٌ منَ الفَلتَاتِ، وزَلّةٌ زَلّ بهَا اللِّسَان، في غَفلةٍ منْ سُلطَانِ التَّفكُّر، و ذَهلَةٍ عَنْ وَمضَةِ التَّذكُّر.

[FONT=خط مسعد المغربي] (ذ.مصطفى بوعزة)[/FONT]
 
بوركتم أستاذنا الفاضل على هذ التنويه نفع الله بكم وبعلمكم.
بعد هذا الاستعراض يستبين أنَّ الهبطي رحمه الله مسبوقٌ إلى القول بهذا الوقف، كما هو مسبوق في حدود بحثي واطلاعي إلى ما يُظَنُّ أنه أول قائل به. والله أعلم.
ولكن هل يعني هذا أنَّ الوقوف المنتَقدة عليه - وإن كان كثيرًا منها محتملًا - تترقَّى لرتبة غيرها من الوقوف؟ الذي تشبَّع بنظم القرآن وأسلوبه يرى - ومعه كل الحقّ - أنَّ كثيرًا من هذه الوقوف ضعيفٌ في جانب غيره، وأنَّ بعضها محتملٌ على بُعْد، والأَوْلى تجاوزها لا سيما عند سَعَة النَّفَس كما في هذا الوقف (كلًّا نمدُّ)، وأنَّ بعضها يشير بالفعل إلى معانٍ مُعتبَرة حريٌّ أن تُجعل جنبًا إلى جنب مع الوقوف المشهورة في الآية.
وخلاصة القول في وقوف الهبطي:
- أنَّ الرَّجُل - رحمه الله - عالمٌ، ينبغي أن يعامَل معاملة العلماء وأن ينظر لاجتهاده بما ينظر به لاجتهاد غيره من العلماء، لا أن يُرمى بالضَّعْف، وعدم التمكن من ناصية اللغة، وغير ذلك من الأمور التي رُمِي بها.
- أنَّ ما انفرد في اعتماده من الوقوف على ثلاثة أنحاء؛ الأول: صوابٌ على رتبة غيره من وقوف الآية. الثاني: محتمل وإن كان غيره أولى منه. الثالث: هو مسبوق إليه، وقد يُحتمَل على ضَعْفٍ تتفاوت شدَّته بين الهيِّن والبيِّن.
- أنه لا مانع من مراجعة هذه الوقوف في مصاحف السادة المغاربة، وحذف ما غلب عليه الضعف منها؛ فليست قرآنًا نطالَب أو نطالِب الناسَ بالتعبد به، ناهيك عن تصوير البعض - مع جلالة قدرهم - هذه الوقوف بما يشبه التراث الشعبي (الفلكلور) المغربي الذي يجب المحافظة عليه. فكتاب الله تعالى أجلُّ من هذه الاعتبارات العصبية. والحقُّ أحقُّ أن يتَّبع. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. والله المستعان.
 
عودة
أعلى