تحقيق القول في القاعدة التفسيرية:" فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه":

إنضم
12 يناير 2013
المشاركات
688
مستوى التفاعل
20
النقاط
18
العمر
52
الإقامة
مراكش-المغرب
بسم1

تحقيق القول في القاعدة التفسيرية:" فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه":

من قواعد التفسير التي قررها أهل العلم:" فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه"، و ممن ذكر هذه القاعدة الدكتور خالد السبت في كتابه القيم:" قواعد التفسير: جمعا و دراسة"..
و الذي يظهر و الله أعلم: أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، بل لا بد من قيدين: صحة نسبة القول لقائله من السلف، و ألا يكون هذا القول من الإسرائيليات، و أخص بالذكر تلك التي هي من قسم المردود الذي لا يقبله عقل و لا نقل.
و للتوضيح أذكر مثالا: و هو ما ذكره الإمام ابن جرير في تفسيره لقوله تعالى:" وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"يوسف.
قال رحمه الله تعالى:
فأما ما كان من هم يوسف بالمرأة وهمها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره...:
- عن ابن عباس ، سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟ قال: حَلّ الهِمْيان ، وجلس منها مجلس الخاتن.
- عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال: سمعت ابن عباس سئل: ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن.
- عن ابن أبي مليكة ، قال: سألت ابن عباس: ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقت له ، وجلس بين رجليها.
- عن ابن أبي مليكة:(ولقد همت به وهم بها) قال: استلقت له ، وحلّ ثيابه.
- عن ابن أبي مليكة ، قال: سألت ابن عباس ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقت على قفاها ، وقعد بين رجليها لينزعَ ثيابه.
- عن ابن أبي مليكة ، قال: سئل ابن عباس ، عن قوله:(ولقد همت به وهم بها) ما بلغ من هم يوسف؟ قال: حل الهميان = يعني السَّراويل .
- عن مجاهد ، في قوله:(ولقد همت به وهم بها) قال: حلَّ السراويل حتى أَلْيَتيه (1) واستلقت له.
- عن مجاهد:(ولقد همت به وهم بها) قال: جلس منها مجلس الرجل من امرأته.
- عن سعيد بن جبير وعكرمة ، قالا حلّ السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن.
- عن سعيد بن جبير:(ولقد همت به وهم بها) قال: أطلق تِكَّة سراويله...اهـ -بشيء من الاختصار-.
و لا ريب أن هذه الأخبار تتعلق بأمور غيبية قد مضت، فإما أن تكون متلقاة عن النبي صلى الله عليه و سلم أو عن بني إسرائيل، فأما الأول فمحال أن يصح شيء من ذلك عن الرسول صلى الله عليه و سلم، فيبقى الثاني و هو أن تكون هذه الروايات مأخوذة عن بعض أهل الكتاب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:" وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو دون المراسيل عن نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة طويلة، وقد عُلِم الكذبُ فيهم-أي في أهل الكتاب- والله أعلم." اهـ
و يقول الشيخ أبو شهبة رحمه الله تعالى في كتابه:" الإسرائيليات و الموضوعات في كتب التفسير":" ومن الإسرائيليات المكذوبة التي لا توافق عقلا ولا نقلا : ما ذكر ابن جرير في تفسيره ، وصاحب : "الدر المنثور" وغيرهما من المفسرين في قوله تعالى : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّه} فقد ذكروا في هم يوسف عليه الصلاة والسلام ما ينافي عصمة الأنبياء وما يخجل القلم من تسطيره ، لولا أن المقام مقام بيان وتحذير من الكذب على الله وعلى رسله ، وهو من أوجب الواجبات على أهل العلم." اهـ
و قد ذكر رحمه الله تعالى عدة وجوه في بيان بطلان تلك المرويات.
و يقول الإمام محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضوائه بعد أن ذكر مجموعة من أقوال السلف في تفسير الهم المذكور:"هَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي رَأَيْتَ نِسْبَتُهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى قِسْمَيْنِ :
قِسْمٌ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ عَمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِي سُقُوطِهِ، وَقِسْمٌ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ ، وَمَنْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ الْمُزَاحِمُ لِلْيَقِينِ : أَنَّهُ إِنَّمَا تَلَقَّاهُ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ; لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجَرُّؤُ عَلَى الْقَوْلِ فِي نَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ كَافِرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا ..."اهـ.
و قد تعدت أقول الخلف في تفسير الهم : فمنهم من قال أنه هم بها هما تركه لله عز و جل، و هو ما يكون في خاطر الإنسان فيصرفه، كما نقل البغوي عن بعض المحققين أن الهم همان: هم ثابت و هو ما يكون معه عزم و رضى و عقد، و هم عارض و هو ما يكون من قبيل حديث النفس فلا يستقر في القلب.
و منهم من قال أنه هم بضربها.
و لعل الراجح ما اختاره صاحب البحر المحيط و غيره و هو أن الكلام وقف عند قوله تعالى:"و همت به"، ثم استأنف بقوله جل و علا:" و هم بها لولا أن رأى برهان ربه"، أي أنه عليه السلام لم يحصل منه هم البتة لأنه رأى برهان ربه، و حرف لولا كما هو معلوم حرف امتناع لوجود أي امتناع الجواب لوجود الشرط، فهنا وجد الشرط و هو رؤيته عليه السلام لبرهان ربه، فامتنع الجواب فلم يهم بها.
و من منع ذلك فحجته عدم جواز تقدم جواب لولا عليها، و هذا كما ذكر الأئمة منهم أبو حيان أمر مختلف فيه بين النحويين، فيجيزه الكوفيون و بعض البصريين.
و سلمنا جدلا عدم جواز ذلك فكما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى " هدم ألف قاعدة أهون من عدم آية" أو كما قال.
و كما وردت إسرائيليات كثيرة في هم يوسف عليه السلام فقد وردت إسرائيليات في البرهان الذي رآه، فقيل رآى يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله، و قيل رآه فلم ينزجر حتى ضربه فخرجت شهوته، و قيل رآى كفا تخرج بينه و بين امرأة العزيز مكتوب عليها بعض الآيات ، و قيل غير ذلك مما لا يقبله نقل و لا عقل.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:" وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حَلَّ سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كَذِب اليهود. فإن الله تعالى قال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (1) . فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءًا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم يذكر عن يوسف توبة، فعُلِمَ أنه لم يُذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما أخبر عنه بالهمِّ وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه."اهـ- جامع المسائل:5/255-.
يقول الشيخ أبو شهبة رحمه الله تعالى :" وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون : إما إسرائيليات وخرافات وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء ، الذين أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين ، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا وتلقاها عنهم بعض الصحابة ، والتابعين ، بحسن نية ، أو اعتمادا على ظهور كذبها وزيفها. وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة ، دسها عليهم أعداء الأديان ، كي تروج تحت هذا الستار ، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد ، وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة ، وهذا ما أميل إليه!." اهـ.
فمن خلال هذا المثال يتضح أن تلك القاعدة ليست على إطلاقها، بل يجب أن نقيدها بقيدين هامين:
فبدلا من يقال: " فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه"، فالأولى أن يقال:" فهم –أو قول- السلف
- " إن صح عنهم" و -:" إذا لم يكن من الإسرائيليات الباطلة أو المسكوت عنها" حجة يحكتم إليه لا عليه".
.
و لما ذكر الشيخ خالد السبت حفظه الله تعالى القاعدة على عمومها فإنه رجح ما نقله الإمام ابن جرير و غيره عن السلف في تفسير هم يوسف عليه السلام.-قواعد التفسير جمعا و دراسة:206/1-.
و الله أعلم و أحكم.
 
الفاضل ناصر عبد الغفور
من خلال استنتاجكم : (فمن خلال هذا المثال يتضح أن تلك القاعدة ليست على إطلاقها، بل يجب أن نقيدها بقيدين هامين:
فبدلا من أن يقال: " فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه"، فالأولى أن يقال:" فهم –أو قول- السلف
- " إن صح عنهم" و -:" إذا لم يكن من الإسرائيليات الباطلة أو المسكوت عنها" حجة يحكتم إليه لا عليه".)
غاب عنكم أن القاعدة تختلف عن التعريف الجامع المانع .
جاء في كتاب (قواعد الترجيح عند المفسرين) لحسين بن علي الحربي معلقا على تعريف القاعدة : " عرفت القاعدة _ أيضا_ بأنها : حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته .
قيل حكم أغلبي ، لأنها لا تنطبق على جميع الجزئيات في كل قاعدة ، وإنما حكم أغلبي . إذ إن كثيرا من القواعد تشذ عنها بعض المسائل ، فتعد مستثناة منها ، ولا يقدح ذلك في كونها قاعدة أصلا . فجعل حكمها كليا باعتبار ما بقي تحت حكمها من جزئيات "

فإن كان الأمر كذلك فلا حاجة لنا في تعديل القواعد التفسيرية ، كما فعلتم بالقاعدة السابقة الذكر .

وتقبلوا فائق التقدير والاحترام



 
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
جزيت خيرا، أعلم أن القواعد هي في العموم أغلبية لا كلية، و أن لها استثناءات، لا تخرجها عن كونها كلية - لأن هذه الاستثناءات هي في العموم نادرة و النادر لا حكم له كما يقول العلماء-، لذا عرفوا القاعدة بأنها" حكم كلي يتعرف من خلاله عن أحكام جزئياته"، فلا يلزم أن يقال أغلي بدلا من كلي..كما نقلت عن الدكتور الحربي.
لكن الملاحظ أن القاعدة موضوع النقاش قد يستدل بها لإثبات تفاسير واردة عن السلف لكنها لا تصح: إما لأنها نسبت إليهم كذبا و زورا لتروج كما هو الحال بالنسبة لكثير من الإسرائيليات الباطلة، أو أنهم نقلوها بحسن نية و اكتفاءا بظواهرها الدالة على عدم قبولها كما هو الحال كذلك بالنسبة لبعض الإسرائيليات.
لذا، يظهر و الله أعلم ضرورة التذكير بهذين القيدين: صحة نسبة القول للسلف- و ألا يكون من ينسب إليهم من الإسرائيليات المردودة.
و مما يبين أهمية التذكير كما قلت بهذين القيدين، رواج كثير من التفاسير التي لا يقبلها عقل و لا يوافقها صحيح نقل بحجة أنها رويت عن السلف، و هذا مثال آخر أورده، و هو ما يتعلق بما ورد عن بعض السلف في تفسير لفظة "ق" في سورة ق، و أنه جبل عظيم محيط بالأرض، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في بداية تفسيره لهذه السورة:" وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا { ق } : جبل محيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف. وكأن هذا -والله أعلم-من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم فيما (2) لا يصدق ولا يكذب. وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى في هذه الأمة -مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها-أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور (3) ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: "وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج" فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تُحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل -والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة"اهـ.
فالذي يظهر و الله أعلم ضرورة التأكيد على هذين القيدين.
أما مسألة الاستثناءات فالملاحظ أن الشيخ خالد السبت حفظه الله تعالى اكتفى بمثال واحد على تلك القاعدة و هو ما ورد عن السلف في تفسير هم يوسف عليه السلام، مما يعني أنه لا يعتبر هذا استثناءا و الله أعلم و أحكم.
 
عودة
أعلى