تعريف ببحث: أصل الاستدلال بعادة العرب لمعرفة معاني القرآن الكريم وأهمية الالتزام به

إنضم
14 مايو 2012
المشاركات
1,111
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
الأردن
لمحة تعريفية ببحث محكّم:
أصل الاستدلال بعادة العرب لمعرفة معاني القرآن الكريم
وأهمية الالتزام به للوقاية من الخطأ في التفسير
إعداد: د. عبدالرحيم الشريف
مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية / جامعة الكويت
مجلد 28 ، عدد 94 ، 2013م

قال الطبري: " غير جائز أن يخاطِبَ ـ جلَّ ذِكرُه ـ أحداً من خلقه إلا بما يفهمه المخاطَبُ، ولا يرسِلَ إلى أحدٍ منهم رسولاً برسالةٍ إلا بلسانٍ وبيانٍ يفهمه المرسَلُ إليه؛ لأن المخاطَب والمرسَلَ إليه إنْ لم يفهم ما خوطِبَ به وأرسل به إليه فحالُهُ قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواءٌ؛ إذ لم يُفده الخطابُ والرسالةُ شيئاً كان به قبل ذلك جاهلاً، والله ـ جلَّ ذِكرُهُ ـ يتعالى عن أن يخاطب خطاباً أو يرسل رسالةً لا توجب فائدة لِمن خُوطب أو أرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فِعلِ أهلِ النقص والعبث، والله ـ تعالى ـ عن ذلك مُتَعالٍ ".
فانطلاقاً من كلام شيخ المفسرين الطبري رحمه الله جاءت هذه الدراسة التي اشتملت على مبحثين: نظري وتطبيقي، غطى المجالُ الأول الجانبَ النظريَّ، واشتمل مطلبين: الأول: بيّن المقصود بعادات العرب، والثاني: وضَّح أهمية الاستدلال بعادات العرب في التفسير.
أما المبحث الثاني ـ الذي غطى المجال التطبيقي ـ فقد اشتمل مطلباً ذكرت فيه أمثلة [ 12 مثالاً ] على التزام المفسرين بأصل وجوب الاستدلال بعادات العرب زمن التنزيل عند بيان المراد من كلام الله تعالى، ومطلباً آخر مثَّلتُ به [12 مثالاً] على أخطاء في التفسير وقع فيها بعض مَن لم يلتزموا هذا الأصل مِن المعاصرين.

مما ورد في المبحث الأول:
المقصود بعادة العرب: ما سار عليه العرب واعتادوه من قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد، استناداً إلى عاداتهم وعُرفهم وتقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وأساليبهم في الخطاب والبيان.
نقل السيوطي في كتاب (صون المنطق) عن الشافعي قوله: " ما جهِلَ الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب.. ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح العرب، ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب، والاحتجاج والاستدلال.. فمَن عدلَ عن لسان الشرع إلى لسان غيره، وخرج عن الوارد من نصوص الشرع: جهلَ وضلَّ ولم يصب القصد ".
ثم عقَّبَ السيوطي: " وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع: الجهل بلسان العرب ".
ليس المقصود مِن اشتراط معرفة المفسر بالعربية الاقتصار على معرفة أبرز قضايا النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق فقط، بل ويدخل فيها أيضاً معرفة " عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل.. وإلا وقَعَ [المفسر] في الشُّبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة " [الموافقات للشاطبي]

وقد عني كبار المفسرين من الصحابة الكرام بالاستئناس ـ عند تفسير القرآن الكريم ـ بمعرفتهم للعادات العربية، وحث الناس على اعتمادها دليلاً على صحة مذهبهم في التفسير، هذا ابن مسعود  يدعو الناس إلى مراعاة عاداتهم في الخطاب عند تفسير قوله تعالى: " خِتَامُهُ مِسْكٌ " [المطففين: 26]، فقال: " ليس بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طِيبُ كذا وكذا خِلطه مِسكٌ ؟ ".
كما سلك تلاميذهم من كبار مفسري التابعين المنهج ذاته، فهذا قتادة يفسر قوله تعالى: " فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ " [القارعة: 9] قال: " هي كلمة عربية، إذا وقع رجل في أمرٍ شديد قالوا: هَوِيَت أمه ".
ولضرورة الاستئناس عند التفسير بعادات العرب: عدَّ ابن العربي التفسير بما لم يعهده العرب تلاعباً بالدين، فردَّ على الذين يبيحون قصْرَ الصلاة وأكْلَ الصائم لمجرد مطلق الخروج من محل الإقامة ـ بدون تحديد مسافة ـ مخالفين مقصود العرب بكلمة (سفر)، قال: " تلاعبَ قومٌ بالدين؛ فقالوا: إنَّ مَن خرج مِن البلد إلى ظاهره قصرَ الصلاة وأكلَ. وقائل هذا أعجميٌّ لا يعرفُ السفر عند العرب، أو مستخفٌّ بالدين؛ ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أن أفكر فيهِ بفضول قلبي ".
بذا يتبين أن من أبرز أصول التفسير وقواعد الترجيح التي التزمها المفسرون لمعرفة الأصح من بين الأقوال في التفسير: حَملُ كلام الله تعالى على المعهود من كلام العرب، سواء أكان استعماله ـ أي المعهود ـ مضطرداً لا يتخلف البتة ولا تعرف العرب غيره، أو غالباً لكنه يتخلف أحياناً قليلة. [قواعد الترجيح للحربي]

ومما ورد في المبحث الثاني:
* الأمثلة التطبيقية على استدلال المفسرين بعادة العرب:

- المثال الأول: قال تعالى: " كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا.. " [الأنعام: 71]، كيف تدعو الشياطين إلى الهدى؟
المقصود: " استجاب لنداء الشياطين وتَبِعَهُم، وكان مِن صُوَرِ عقائدِ العرب في الجن: أنهم ينادون من يَرونه منفرداً في القفر، فَيَتبعهم وتختلط عليه الأمور، فيضلّ ويضيع ويقع في المهلكة ". [تفسير دروزة]
وتزعم العرب أنه إذا انفرد الرجل في الصحراء، ظهرت له شيطانة تسمى (الغولة) في خِلقة إنسان، فلا يزال يتبعها حتى يضل عن الطريق، وتدنو منه فتهلكه.
وقيل: إذا أرادت الغولة أن تضِل إنساناً أوقدَتْ له ناراً، فيقصدها، فتفتك به. [بلوغ الأرب للآلوسي]
وبناء على هذا، فالمراد من الآية الكريمة: تشبيه علاقة الإنسان وصديق السوء ـ الذي يزين له عمل الباطل ـ بحال المسافر ليلاً، يخدعُهُ مَن يريد الفتك به: فيريه ناراً يغريه بها، ليظن المسافر أنه سيجد على النار هدىً، لكن ـ على الحقيقة ـ فيها هلاكه.

- المثال الثاني: : قال تعالى: " فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ " [الإسراء: 33]، كيف الإسراف في القتل؟
الجواب بحسب ما جاء في تفسير الطبري: " إن العرب كانت إذا قُتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم، حتى يقتلوا أشرف مِن الذي قتله، فقال الله جلّ ثناؤه " فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا " ينصره وينتصف من حقه " فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ " يقتل بريئاً ".
ومن عادة العرب أنهم: " كانوا يقتنعون ـ عند العجز عن القاتل ـ بقتل رجل من قبيلة القاتل. وكانوا يتكايلون الدماء، أي: يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل ". [تفسير ابن عاشور]
وعلى هذا فليس من هدي الإسلامِ الإفسادُ والظلمُ بدعوى الأخذ بالثأر للمقتول مِن قبيلة القاتل، فالقصاص من القاتل فقط، قال تعالى: " وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.. " [الإسراء: 15].

- المثال الثالث: قال تعالى: " فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ " [الذاريات: 59]، ما معنى كلمة (ذَنوب) في هذه الآية؟
فسر الزمخشري الذَّنوب بـ: " الدلو العظيمة، وهذا تمثيل، أصله في السُّقاة يقتسمون الماء، فيكون لهذا ذَنوب ولهذا ذَنوب ".
و" عادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقُلب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملءَ دلوٍ، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذَّنوب ـ التي هي الدلو ـ على النصيب ". [تفسير الشنقيطي]
وعلى هذا فالآية الكريمة تفيد أن كل عاصٍ ينال يوم القيامة نصيبه العدل من الجزاء على معصيته، فلا تزر وازرة وزر أخرى، إلا الداعي إلى ضلالة فعليه وزره ووِزر كل مَن اقتدى به وعمِل بضلالته.

- المثال الرابع: قال تعالى: " وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ " [التكوير: 24]، ما علاقة نفي البُخل بنفي الكهانة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: الضنين: البخيل، ومن أدلة نقض دعوى المشركين بأنه كاهن: الاستدلال بـ" أنه يُخبِر بالغيب فيُبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً ". [تفسير الرازي]
لقد خاطب القرآن الكريم المشركين بما يعرفون من علامات الكِهانة، فمحمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بالغيب دون أن يبخل عليهم بالإخبار طلباً للحلوان كما يفعل الكهنة، " وما يُعطاه الكاهن ويُجعل له على كهانته يقال له: (الحلوان، وحلوان الكاهن): وهو شيء غير مُعَين ولا ثابت، إنما يُتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة ـ حتى الآن ـ أنَّ الكِهانة لا تصدُقُ إذا لم يعطَ الكاهن ـ أو الساحر ـ حلوانه؛ لأن ما يقدَّم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له، إنما هو للرئي [الجن] والرئي لا يقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوانٍ يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة التابع [الجن] ومراجعته فيه حتى يقنَع، ويوافق على الأجر ". [المفصل في تاريخ العرب لجواد علي]

* ومن الأمثلة على أخطاء أشخاص لم يلتزموا هذا الأصل فوقعوا في أخطاء عند تفسيرهم:

- المثال الأول: زلت قدم بعض مَن لم يحتج بأصل الاستئناس بعادة العرب عند التفسير، فوقعوا في خطأ عقدي عند تفسير قوله تعالى " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً " [النساء: 93]، ومنشأ الخطأ أن ظاهر الآية الكريمة يفيد وعيد الله جل جلاله بخلود مَن يقتل أخاه المسلم في النار إن مات بغير توبة، وهذا يخالف أصول أهل السنة بأنه مرتكبٌ لكبيرةٍ، ومرتكب الكبيرة لا يُخلَّد في النار إن مات على الإيمان؛ لأن عادة العرب مدح منجز الوعد، وذم مُخلفه، ولكنها تمدح مخلِف الوعيد ولا تذمه.
قال البغوي: " حُكيَ أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا، فقال: أليس قد قال الله تعالى: " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيْهَا.. "؟ فقال أبو عمرو: مِن العُجمَةِ أُتِيتَ يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خُلفاً وذماً، وإنما تعد إخلاف الوعد خُلفاً وذماً ".
وقال الشنقيطي: " إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً، وعن الإيعاد كرماً ".

- المثال الثاني: قال تعالى: " وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً " [البقرة: 51]، لماذا الليالي لا الأيام؟
زعم المستشرق سافاري (Savary) أن العرب يستعملون الليالي لبيان قياس الزمن؛ لأنهم ـ لشدة حرارة بلادهم ـ يظلون طول النهار في خيامهم، ولا يخرجون منها إلا بعد غروب الشمس.
وتعليله يخالف العقل: فكيف كانوا يتاجرون ويزرعون ويحاربون ويرعون أنعامهم؟! كما يخالف عادة العرب في التأريخ، قال ابن الجوزي: " وإنما ذُكِرت الليالي دون الأيام؛ لأن عادة العرب التأريخ بالليالي؛ لأن أول الشهر ليلُهُ، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعاً للَّيالي ".
وبه قال النووي: " ويعتبر التاريخ بالليالي؛ لأن الليل عند العرب سابق على النهار، لأنهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة، ولم يعرفوا حساب غيرهم من الأمم فتمسكوا بظهور الهلال ـ وإنما يظهر بالليل ـ فجعلوه ابتداء التاريخ ".

- المثال الثالث: قال تعالى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ.. " [الأعراف: 157]، ما معنى كلمة " أمِّي " ؟
زعم محمد عابد الجابري أنَّ كلمة (أمي) معناها: من غير اليهود واسمه أحمد، ثم شرع يستعرض الآيات التي ورد فيها لفظ (أميين) ويُسقطها على العرب.
لكن الحق الذي بيَّنه الطبري هو أن معهود كلام العرب يأباه، فبعد أن نقل تأويل بعضهم للأمية بعدم طاعة الرسول، قال: " وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يُعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن (الأمي) عند العرب: هو الذي لا يكتب.. وأرى أنه قيل للأمي: (أمي) ـ نسبةً له بأنه لا يكتب ـ إلى أمِّهِ؛ لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنُسِبَ مَن لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمِّهِ في جهله بالكتابة، دون أبيه ".

- المثال الرابع: قال تعالى: " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً " [هود: 70]، لماذا أوجس سيدنا إبراهيم  خيفةً مِن ضيفه، مِن قبلِ أن يقولوا أو يفعلوا ما يُسبب الخوف؟
الجواب: واضحٌ عودة الضمير المتصل (الهاء) في جملة " لا تَصِلُ إِلَيْهِ " إلى العجل، لكن المستشرق سافاري (Savary) اقترح تصحيحاً للتفسير بأن يعود الضمير إلى سيدنا إبراهيم ، فتخيلَ أن سيدنا إبراهيم  مد يده ليصافح الضيوف، ولكنهم حين لم يمدوا أيديهم ليصافحوه، نكِرَهم وعلِمَ أنهم غرباء فأوجس منهم خيفة.
ومنشأ الخطأ الذي وقع به المستشرق: أنه لم يفهم كيف يُسبب عدم أكل الضيوفِ حزنَ المضيف وخوفه؛ لجهله بعادات العرب. فبحسب منهج التفكير الغربي: الأصل أن لا يكترث المضيف للأمر، فيعد عدم أكل الضيوف حرية شخصية، هذا إذا لم يفرح المضيف لعدم أكلهم؛ لأنهم كفوه مؤونة الإطعام!
لكن الحق يعرفه كل مَن له دراية بعادات العرب، فمِن عادة العرب تقديم الطعام إلى الضيف، وإذا لم يأكل الضيف منه: حسِبَ المضيف أنه يريد شراً.
نقل الطبري عن قتادة: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه [أي: الطعام] نكَرَهم وأوجس منهم خيفة، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرٍّ ".

* ومما ورد في خاتمة الدراسة:
الأصل في المسلم الورع عند التفسير برأيه، وعدم اقتحامه بدون امتلاك أدواته والتزام قواعده وأصوله، ومَن فعلَ ذلك فإنه آثم شرعاً ــ ولو صدَفَ أنْ وافقَ الحق ــ؛ " لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلَكَ غير ما أمِرَ به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمَن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإنْ وافَقَ حُكمُه الصواب في نفس الأمر.. وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين، فقال: " فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " [النور: 13] فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف مَن زنى..؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به ـ ولو كان أخبرَ بما يعلم ـ؛ لأنه تكلف ما لا علم له به ". [مقدمة تفسير ابن كثير]
من أجلِ ذلك قال مجاهد: " لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله تعالى إذا لم يكن عالماً بلغات العرب ". [البرهان للزركشي]

ومن توصيات البحث:
- أوصي كل المفسرين بتقوى الله تعالى، وعدم الإلحاد في كلامه، وإن كان في قلب المفسر خشية للخالق ، فينبغي ألا يحمِّل كلامه ما لا يحتمل.
- كما أوصي المعنيين بضرورة العناية بتعليم الناس أصول التفسير وترغيبهم بالالتزام بها، وترهيبهم من الإلحاد في كلام الله .
- وأوصي عموم المسلمين بالالتفات إلى تحذير الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ". [رواه مسلم]

إخوتي الأحبة: هذه شذرات من البحث، واعذروني لعدم استطاعتي تلبية رغبات الفضلاء الذين يريدون الحصول على البحث كاملاً؛ احتراماً لحقوق المجلة.
 
السلام عليكم
أستاذي القدير..
تحية طيبة،،
أعتذر عن التعقيب على هذا لنقطة لم أفهمها وأستسمح منك الإفادة..
فما فهمتُ من ما ذكرت بأن أي إنسان إذا أراد أن يعرف معاني القرآن الكريم عليه بالإستدلال بتعاليم العرب وعاداتهم قبل الخوض في تفسيره؟
والله من وراء القصد..
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم صحيح
فأنا أفهم معنى كلمة " سيارة " في سورة يوسف بمعناه الذي عرفته العرب زمن التنزيل لكلمة سيارة
أما المعنى المستحدث للكلمة فلا يلزم المفسر
بل إن التزم به فسيفهم الآية الكريمة خطأ
والله الموفق
 
بارك الله فيك وهدانا وأياكم لما يحب ويرضئ..
أستاذي القدير..
ما نعلمهُ أن الله سبحانه وتعالى حافظ القرآن الكريم لقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فهل من الممكن أن تحُفظ عادات العرب بالتزامن مع حفظ الله جل جلاله للقرآن الكريم حتى يُستعان بها لتفسير أو فهم معاني الكتاب الذي قال الله تعالى عنه: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وأيظاً قوله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقوله جل جلاله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ؟
فإني أفهمُ من ما صححت لي بأن أبحث عن جميع ما يحفظ تعاليم وعادات العرب من كتب وغيره حتى يتسنى لي فهم وتفسير ما يقصدُ الله تبارك وتعالى بكلماته في القرآن الكريم الكتاب المحفوظ فقط منه تعالى..
بل السؤال الذي يطرح نفسهُ:
لماذا حفظ الله جل جلالهُ القرآن الكريم؟
والله من وراء القصد..
 
عادات العرب التي تعين على استنباط المعاني من التنزيل محفوظة حقاً في التفسير الأثري من خلال أقوال علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم.
خذ مثلاً تفسير ابن المسيب للبحيرة والوصيلة والسائبة والحام
كيف يمكن معرفة معنى كل منها إن لم تفهم عادات العرب ومعارفهم وشؤونهم زمن التنزيل؟
وكيف أفهم تحريم (الإسراف في القتل) إن لم أعرف عادة العرب في القتل؟
أما الكتب من غير التفاسير الأثرية التي تعين على ذلك فوجدت أفضلها كتابَي:
- د. جواد علي : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، بيروت، ط4، 2001م.
- وكتاب محمود الآلوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، عناية: محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1314هـ.

ولنتبين المقصود بالبحث، تأمل رد كل من الذهبي وعرجون على تأويل محمد عبده للحجارة من سجيل في سورة الفيل بأنها: جراثيم مسببة لمرض الجدري ـ أو الحصبة ـ يحملها نوع من جنس البعوض أو الذباب، ثم قال: " هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ـ إن صحَّت روايته ـ ". [تفسير جزء عم، محمد عبده]
رد الذهبي على ذاك التأويل المذموم: " وهذا ما لا نُقره عليه؛ لأن هذه الجراثيم التى اكتشفها الطب الحديث لم يكن للعرب علم بها وقت نزول القرآن، والعربي إذا سمع لفظ الحجارة ـ في هذه السورة ـ لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب، وخاطبهم بما يعهدون ويألفون ". [التفسير والمفسرون، الذهبي]
ومثله تساءل محمد الصادق عرجون: " هل في عرف اللغة العربية واستعمالاتها إطلاق لفظ (الطير) على الحيوان المسمى بالـ (مكروب)؟ فهل كان القوم المخاطبون في وقت المواجهة بالخطاب التعجيزي الذي افتتحت به السورة يعلمون شيئاً عن الحيوان المسمى بالـ(المكروب)؟.. أليس هذا تحميلاً لآيات القرآن فوق طاقة أساليب العربية؟ وفوق طاقة أفهام من نزل القرآن لتعجيبهم في شأن هذه الحادثة؟ ". [نحو منهج لتفسير القرآن، عرجون]

والقضية ليست مجرد فهم معاني النصوص، بل القضية أخطر من ذلك؛ لأن أحكاماً مغلوطة قد يستنبطها غير العارف بعادات العرب زمن التنزيل
مثلاً: بعض الناس لجهلهم بعادات العرب ومَرامي كلامهم وقعوا في خطأ فقهي عند تفسيرهم لقوله تعالى: " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ " [البقرة: 173]، فظنوا أن الآية الكريمة تحرم لحم الخنزير فقط ولا تحرم الشحم.
قال ابن العربي: " وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه، بأي شيء حُرِّم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحماً فقد قال شحماً، ومن قال شحماً فلم يقل لحماً؛ إذ كل شحم لحم، وليس كل لحم شحماً من جهة اختصاص اللفظ ".
ولعل ابن العربي يقصد بالمبتدعة مَن ذكر ابن حزم في الفِصَل: إن أحد شيوخ المعتزلة ـ وكنيته أبو غفار ـ أفتى بإباحة شحم الخنزير ودماغه.

أما سؤالكم لماذا حفظ الله تبارك وتعالى القرآنَ الكريم؟
فالجواب متفرع عن فهم السؤال والمغزى منه، لذا أنصحك بفتح موضوع جديد لكي أفهم (أنا وإخوانك) المقصود بالسؤال والمغزى منه، حيث إن موضوع الحوار هنا يتحدث عن أهمية معرفة عادات العرب زمن التنزيل لفهم معاني القرآن الكريم، وأخشى أن تطالنا يد الرقابة الإشرافية الطيبة.
ووفقكم الله
 
عودة
أعلى