نظرة في مواضع من سورة الأنعام أشكلت على بعض المفسرين

إنضم
11 سبتمبر 2008
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
شامي في نجد
نظرة في مواضع من سورة الأنعام أشكلت على بعض المفسرين

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله،

فقد حبب إليَّ النظر في سورة الأنعام منذ ما يقرب من عامين، وقد أشكل عليّ بعض المواضع التي ظهر ارتباط بعضها ببعض، فقرأت تفسيرها في تفاسير عدّة وظهر لي فيها شيء أحببت أن أطلع إخواني و أساتذتي عليه، لعلنا نستفيد نقداً أو نقاشاً، واعتمادي في النقل على موسوعة التفسير المأثور ما لم أذكر غيرها،

الموضع الأول: قوله تعالى ﴿ قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ۝ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلۡحَوَايَآ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٖۚ ذَٰلِكَ جَزَيۡنَٰهُم بِبَغۡيِهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ۝ ﴾ [الأنعام: ١٤٥-١٤٦]

مع قوله سبحانه: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: ١٥١] والآيتين بعدها.

* وموضع الإشكال فيها: أن في الشريعة محرمات أخرى، ونقل عن بعض السلف أنهم كانوا لا يرون ما عدا الأية الأولى محرما لأنهم يرونها محكمة لم تنسخ، نقل ذلك عن عائشة وابن عمر وابن عباس،

وقيل كذلك أن الآيات الثلاث الأخرى ﴿قل تعالوا أتل﴾ إلى تمامِ الآيات الثلاث لم تنزل إلا بالمدينة، نقل ذلك عن ابن عباس وشهر بن حوشب وهو قول مقاتل بن سليمان.

وأقتضب هنا ما قاله القرطبي في الآية ليظهر تشعب الأقوال و الاستدلالات، قال: (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَتَأْوِيلِهَا عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكُلُّ مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوِ جَاءَ فِي الْكِتَابِ مَضْمُومٌ إِلَيْهَا، فَهُوَ زِيَادَةُ حُكْمٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ (أَهْلِ النَّظَرِ، وَالْفِقْهِ وَالْأَثَرِ. وَنَظِيرُهُ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا مَعَ قَوْلِهِ:" وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ "وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قول:" فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ " وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ) أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقِيلَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ ولا حرام إِلَّا مَا فِيهَا وَهُوَ قَوْلٌ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ. قَالَ مَالِكٌ: لَا حَرَامَ بَيِّنٌ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْلِيلَ كُلِّ شي مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ لُحُومَ السِّبَاعِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ مُبَاحٌ. وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَعَلَيْهَا بَنَى الشَّافِعِيُّ تَحْلِيلَ كُلِّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ، أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ جَوَابٌ لمن سأل عن شي بِعَيْنِهِ فَوَقَعَ الْجَوَابُ مَخْصُوصًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشْيَاءٌ سَأَلُوا عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَجَابَهُمْ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ: أَيْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَيْ فِي، هَذِهِ الْحَالِ حَالِ الْوَحْيِ وَوَقْتِ نُزُولِهِ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُ وَحْيٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءٍ أُخَرَ. وَزَعَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ نَزَلَ عَلَيْهِ "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»" وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا نَاسِخٌ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ، فَلَا مُحَرَّمَ إِلَّا مَا فِيهَا، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ. قلت: وهذا ما رأيته قال غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ سُورَةَ "الْأَنْعَامِ" مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: "قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" الثلاث الآيات، وقد نَزَلَ بَعْدَهَا قُرْآنٌ كَثِيرٌ وَسُنَنٌ جَمَّةٌ. فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ بِالْمَدِينَةِ فِي "الْمَائِدَةِ". وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَهْيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: "قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً" لِأَنَّ ذَلِكَ مَكِّيٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ مَثَارُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَعَدَلَ جَمَاعَةٌ عَنْ ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا وَالْحَصْرَ فِيهَا ظَاهِرٌ فَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى، لِأَنَّهَا إِمَّا نَاسِخَةٌ لِمَا تَقَدَّمَهَا أَوْ رَاجِحَةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّحْرِيمِ فَظَهَرَ لَهُمْ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّ سُورَةَ "الْأَنْعَامِ" مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُصِدَ بِهَا الرَّدُّ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَ أُمُورًا كَثِيرَةً كَالْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ وَلُحُومِ الْبِغَالِ وَغَيْرِهَا، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْر...) وأطال في نقل المذاهب ونقاشها وأكتفي بهذا لأن البحث لا يخفى على المطلعين على التفاسير،

* ومما يعين على حل الإشكال الموازنة بين قولي ابن جرير وابن عاشور في تفسير قوله تعالى:( في ما أوحي إلي)

قال ابن جرير : ( فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله، شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون... ).

وقال الطاهر بن عاشور: (والمُرادُ بِـ (﴿ما أُوحِيَ﴾) ما أعْلَمَهُ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِوَحْيٍ غَيْرِ القُرْآنِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ النّازِلَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ وإنَّما نَزَلَ القُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ في سُورَةِ المائِدَة ).

فالطاهر لا يرى أن التحريم وقع بهذه الآية بل بوحي قبلها، لكن هذا لا يحل الإشكال، فالآية حاصرة ومقررة، لكننا نسجلها كنقطة نعود إليها لاحقاً.

* وهنا سؤال : السورة كلها في مجادلة مشركي العرب وتقرير التوحيد، كما هو مقرر عند جل المفسرين إن لم يكن جميعهم. فلم ذكرت المحرمات على الذين هادوا بعد الآية الأولى؟ ، فمن المعلوم أن المحرمات على الذين هادوا لم يقل أحد من المسلمين بتحريمها بالآية، ولا هي مما اشترك مشركو العرب مع اليهود في تحريمها أو في استباحتها قبل نزولها، فيكون لها مدخل في المجادلة.

قال القرطبي: (لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ... )

ومما يعين أيضا التأمل في الآيات اللاحقة ما نقل عن السلف في أنها المحكمات:

عن عبد الله بن عباس -من طريق عبد الله بن قيس- قال: ( هُنَّ الآيات المحكمات؛ قوله: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا﴾ ثلاث آيات.)

وعنه: (هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسَخْهُنَّ شيء، وهُنَّ مُحَرَّمات على بني آدم كلهم، وهُنَّ أُمُّ الكتاب، مَن عمل بِهِنَّ دخل الجنة، ومَن تركهنَّ دخل النار.)

* وقد تكرر في كل منها قوله تعالى: (وصاكم به) بصيغة الفعل الماضي، وليس يوصيكم كما في سورة النساء في آية المواريث، والمخاطبون هم مشركو العرب، فالمعنى أن الله تعالى له وصية سابقة كان يجب عليهم اتباعها، تحصر المحرمات في ما ذكر وليس فيها ما ردته السورة من مبتدعاتهم.

* ويلحظ ابتداء الآيات بفعل (أتل) وما يشتمل عليه من معنى المتابعة واللحوق.



ثم قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ ۝ وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ۝ ﴾ [الأنعام: ١٥٤ - ١٥٥]

* وهذا الموضع الآخر الذي أشكل فيه على كثير من المفسرين شيئان أولهما وجه التعبير بثم وهي تفيد التراخي في الزمان و الآخر تعيين المراد بقوله تعالى (الذي أحسن)، والأول كثرت محاولات تأويله ويمكن مراجعة كلام ابن عاشور فيها ليظهر حجم الإشكال.

وفي الثاني قال الماوردي: (وفي قَوْلِهِ: ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ خَمْسَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: تَمامًا عَلى إحْسانِ مُوسى بِطاعَتِهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ، والفَرّاءُ.
والثّانِي: تَمامًا عَلى المُحْسِنِينَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: (تَمامًا عَلى الَّذِينَ أحْسَنُواْ)
والثّالِثُ: تَمامًا عَلى إحْسانِ اللَّهِ إلى أنْبِيائِهِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
والرّابِعُ: تَمامًا لِكَرامَتِهِ في الجَنَّةِ عَلى إحْسانِهِ في الدُّنْيا، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ.
والخامِسُ: تَمامًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى إبْراهِيمَ لِأنَّهُ مِن ولَدِهِ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.)
انتهى.

وقال الآلوسي بعد ذكر الأقوال: (وعَنْ أبِي مُسْلِمٍ واسْتَحْسَنَهُ المَغْرِبِيُّ أنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعالى في قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ وذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ عَدَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِما جَعَلَ في ذُرِّيَّتِهِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ ما أنْعَمَ عَلَيْهِ بِما آتى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الكِتابِ والنُّبُوَّةِ وهو أيْضًا مِن ذُرِّيَّتِهِ ). انتهى.

وابن بحر هو نفسه أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي، لم أقف على من قال بأن المراد هو إبراهيم عليه السلام = سواه.

وقوله يفتح لنا باب النظر في حل الإشكالات، فهو يشير إلى الاتصال بقوله تعالى: ﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَیۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَیۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّیَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ وَأَیُّوبَ وَیُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ ۝٨٤ وَزَكَرِیَّا وَیَحۡیَىٰ وَعِیسَىٰ وَإِلۡیَاسَۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ ۝٨٥ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَٱلۡیَسَعَ وَیُونُسَ وَلُوطࣰاۚ وَكُلࣰّا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ ۝٨٦ وَمِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡ وَإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَیۡنَـٰهُمۡ وَهَدَیۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ۝٨٧﴾ [الأنعام ٨٤-٨٧]

وعند هذه الآيات قال ابن عاشور : (واعْلَمْ أنِّي تَطَلَّبْتُ كَشْفَ القِناعِ عَنْ وجْهِ الِاقْتِصارِ عَلى تَسْمِيَةِ هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ مِن بَيْنِ سائِرِ الأنْبِياءِ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ أوْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، عَلى الوَجْهَيْنِ في مُعادِ ضَمِيرِ ذُرِّيَّتِهِ. فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي.. ). انتهى.

وهذا الموضع الأخير الذي أردت الكلام عليه.

فأقول سائلا الله السداد على سبيل النظر والتأمل لا القطع:

أرى أن الذي أشار إليه الرب تعالى بقوله (الذي أحسن) هو (إبراهيم الذي وفى) وهو الذي ابتلاه ربه (بكلمات فأتمهن)،

والتعبير بثم هو لإفادتها التراخي الزمني على بابه، لأن الوصية المذكور بقوله وصاكم هي الوصية النازلة في الوحي الإبراهيمي لا المحمدي، وكتاب موسى جاء تماما لوصايا إبراهيم وتفصيلا لأشياء لم توجد تفاصيلها في ملة إبراهيم، ومحمد ﷺ إنما أمر بتلاوتها على مشركي قومه لتذكيرهم بملة أبيهم إبراهيم وزجرهم عما أحدثوه فيها، ولذلك أمر بأن يقول لا أجد، أي لم يكن في ملة إبراهيم تحريم غير هذا، ثم أتبعها بما حرم على اليهود خاصة عقوبة لهم، أي تحريمها لم يكن في ملة إبراهيم التي مدارها الوصايا التي قال عنها ابن عباس: محكمات في جميع الكتب، لم ينسَخْهُنَّ شيء، وهُنَّ مُحَرَّمات على بني آدم كلهم، وهُنَّ أُمُّ الكتاب، مَن عمل بِهِنَّ دخل الجنة، ومَن تركهنَّ دخل النار .


وبذلك يظهر اتساق ما لحظه ابن عاشور حيث قال (والمُرادُ بِـ (﴿ما أُوحِيَ﴾) ما أعْلَمَهُ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِوَحْيٍ غَيْرِ القُرْآنِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ النّازِلَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ وإنَّما نَزَلَ القُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ما ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ في سُورَةِ المائِدَة ).

فإن قلت ما الذي حملك على اختيار قول ابن بحر وترجيحه على من سواه وهو منفرد به؟

قلت - والله أعلم - إن سورة الأنعام هي سورة الميثاق الإبراهيمي والمخاطب لها مشركو العرب، فلم يذكر فيها من قصص الأنبياء سوى قصة إبراهيم عليه السلام، ولم يذكر فيها من الأنبياء إلا ذريته ولوط وهو قد آمن له ويذكر أهل السير أنه ابن أخيه وكلهم ذكروا من باب الامتنان عليه وبيان أنهم تابعون له، ونوح جده ذكر عرضا، أما كتاب موسى فذكر لتثبيت إنزال الكتاب على محمد عليهم جميعا السلام،
وبذلك ينحل ما استشكله ابن عاشور من الاقتصار على تسمية الأنبياء الكرام وترك ذكر آدم وهود وصالح وشعيب وغيرهم فكل هؤلاء داخلون في الميثاق الآدمي العام - السابق على الميثاق الإبراهيمي- و الآتي في سورة الأعراف التي لم يذكر فيها إبراهيم، وفي الأعراف ورد أول ذكر القرآن لثمود وعاد ومدين وهود وصالح وشعيب، وأول ذكر لقصة نوح وقومه وقصة لوط مع قومه، وقد ورد نداء الله جل وعز : (يا بني آدم) خمس مرات في القرآن، أربع منها في سورة الأعراف.

وسورة الأنعام هي أول سورة مكية في المصحف، جاءت بعد سور الميثاق المحمدي النازلة بالمدينة ابتداءا بالسورة التي نزل فيها ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: ٢۸٥] وانتهاء بالسورة التي نزل فيها ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [المائدة: ٧] والتي جاء فيها: ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ [المائدة: ٣] ، كما كان كتاب موسى تماما من قبل.

فسورة الأنعام تذكير بأول الأمر وتجديد لعهد إبراهيم وفي ختامها دلالة على ذلك: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: ١٦١] ، وليس فيها جدال لأهل الكتاب بل المخاطب بها أصالة مشركو العرب مدعو متابعة إبراهيم : ﴿ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [الأنعام: ١٥٦]

فمقصود ذكر المحرمات فيها هو ما كان محرما في ملة إبراهيم القديمة، وليس المراد حصر المحرمات في شريعة محمد ﷺ، وبذلك يظهر أنها كلها مكية بلا استثناء، وليس فيها منسوخ.


وقد استفدت من محمد عناية الله سبحاني أن السور الأربع البقرة وآل عمران والنساء المائدة موضوعها أو نظامها هو الميثاق، هكذا بإطلاق، لكن لما نظرت في سورتي الأنعام والأعراف ظهر لي أن الأول هي الميثاق المحمدي خاصة، والأنعام هي الميثاق الإبراهيمي السابق لموسى وكتابه، والأعراف هي الميثاق الآدمي السابق لإبراهيم، وفي النصف الثاني يبتدأ ذكر موسى وقومه تمهيدا للأنفال والتوبة ولي فيهن نظر لا يسعف المقام بشرحه ولم أحرره، لكن خلاصته أنه لما انتظمت سور الميثاق والعهد من البقرة إلى الأعراف، مهد النصف الثاني من الأعراف لسورتي الامتحان العظيم والابتلاء المبين ليظهر من أخذ ميثاق الكتاب بقوة ومن أخذه بضعف ومن نافق ومن أراد الدنيا: أول غزوة وقع فيها قتال أرادها الله ولم يردها المسلمون ولم يقصدوها (ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) ،

وآخر غزوة ضد الروم في ساعة العسرة بعد ظهور الإسلام على جزيرة العرب واستتباب الأمر فيها،

فانتظمتا كل العهد المدني بطوله، ليعلم أن محك الوفاء بالميثاق

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: ١١١].

وأسأل الله أن يرحم عبده عبد الحميد الفراهي ومن دلني عليه.

وأستغفر الله مما كان من الزلل، فما أعلاه كتب على عجل ويحتمل التحرير.
 
عودة
أعلى