وَبْلُ الغَمَام من فوائد حديث سعد بن هشام.

إنضم
2 أغسطس 2016
المشاركات
211
مستوى التفاعل
5
النقاط
18
العمر
34
الإقامة
السعودية
وَبْلُ الغَمَام من فوائد حديث سعد بن هشام.

هذا شرح لحديث طويل كثير الفوائد في صحيح مسلم
قمت بشرحه في مادة صوتية وقمت بتلخيص الشرح كتابة

رابط الشرح الصوتي:
https://www.youtube.com/watch?v=huVScYLR29g

تنزيل الشرح مكتوبًا مختصرًا بصيغة (pdf):



وَبْلُ الغَمَام من فوائد حديث سعد بن هشام.

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه أجمعين, أما بعد.
فهذه مدارسةٌ وتقليبٌ واستنباطٌ وتدبرٌ لأحد الأحاديث الطوال, والحديثُ الطويل الذي يتضمن قصةً تكثر فوائده, فَيُستَحسَنُ إظهارُها وإخراجُها.
وهذا حديث يحتوي على مسائل عقدية وفقهية وسلوكية ووعظية وتاريخية, فعند مدارستها معًا تتآزر العلوم, وتتضافر المسائل, وتجتمع المتباعدات, وتتواشج الفنون المستقلة, فيشد بعضُها بعضًا, ويعطفُ بعضُها على بعض, في عملية تطبيقية لا تنظيرية.
والعلوم إذا تواشجت وتواصلت تَنَامَت وغَزُرَت وانبعثت, وإذا تباعدت وتنافرت ذَبُلَت وهَمَدَت.
وهذا الحديث رُوِيَ من طرق كثيرة جدا ولله الحمد كما عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
نص الحديث:
روى مسلم في صحيحه (746) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا فَيَجْعَلَهُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَقِيَ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ نَبِيِّ اللهِ ، فَنَهَاهُمْ نَبِيُّ اللهِ ، وَقَالَ: «أَلَيْسَ لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» فَلَمَّا حَدَّثُوهُ بِذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَأْتِهَا، فَاسْأَلْهَا، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهَا، فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ، فَاسْتَلْحَقْتُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا، لِأَنِّي نَهَيْتُهَا أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا، فَأَبَتْ فِيهِمَا إِلَّا مُضِيًّا، قَالَ: فَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَانْطَلَقْنَا إِلَى عَائِشَةَ، فَاسْتَأْذَنَّا عَلَيْهَا، فَأَذِنَتْ لَنَا، فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: «أَحَكِيمٌ؟» فَعَرَفَتْهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: «مَنْ مَعَكَ؟» قَالَ: سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَتْ: «مَنْ هِشَامٌ؟» قَالَ: ابْنُ عَامِرٍ، فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ خَيْرًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ - فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ، قَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ كَانَ الْقُرْآنَ» قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي، فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ»
قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَتْ: "كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِيُّ اللهِ ، وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ، وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ لَوْ كُنْتُ أَقْرَبُهَا، أَوْ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ، قَالَ: قُلْتُ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا مَا حَدَّثْتُكَ حَدِيثَهَا.
تمهيد
هذا هو نص الحديث وقبل البدء بشرحه يُستَحسَنُ التمهيد له وتوضيح بعض الأمور, فمن ذلك التعريف بسعد بن هشام صاحب القصة.
نسب سعد بن هشام:
هو سعد بن هشام بن عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
يقولون إنه ابن عم لأنس بن مالك, وهو ابن عم بعيد يلتقي مع أنس في جده السابع (عامر بن غنم) فإنه أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
جاء في تاريخ الإسلام للذهبي في ترجمته (6/72):
"سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيُّ، ابْنُ عَمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ: أَبِيهِ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْهُ: زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَكَانَ مُقْرِئًا، صَالِحًا، فَاضِلا، نَبِيلًا."
التعريف بأسرة سعد بن هشام:
سعد من أسرة أنصارية خزرجية من بني النجار, اشتهرت بالقرآن والحديث والعلم والجهاد, أبوه وجده صحابيان, ينطبق على سعد قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فصلاح الآباء يسري إلى الأبناء.
ونالته دعوة النبي : (اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) [متفق عليه] فهو من أبناء الأنصار.
جده عامر بن أمية مِمَّن شهد غزوة بدر واستشهد في أحد, وكان قارئا للقرآن, وقُدِّمَ في القبر على غيره.
أبوه هشام بن عامر صحابي, قيل كان اسمه شهابا فسماه النبي هشاما, له عدة أحاديث مروية منها الحديث المشهور: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ» (مسلم2946).
شهد هشام بن عامر فتوحات المشرق وكابل وكان له بلاء عظيم فيها, فله من اسمه نصيب, جاء في الزهد لابن المبارك (295) والإصابة (6/425) بسند عبدالله بن المبارك، من طريق جعفر بن زيد، قال: خرجنا في غزوة إلى كابل وفي الجيش صِلَةُ بن أشيم، فذكر قصّة فيها: فحمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا، قال: فقال العدوّ: رجلان من العرب صنعا بنا هذا، فكيف لو قاتلونا- يعني فانهزموا- قال: فقيل لأبي هريرة: إن هشام بن عامر ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو هريرة: لا، ولكنه التمس هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ}.
توفي هشام بن عامر والد سعد في سنة 50هـ.
قصة هداية سعد بن هشام وإقباله على العبادة والجهاد:
قَال هدبة بْن خَالِد: حَدَّثَنَا مبارك بْن فضالة، قال: حَدَّثَنَا الْحَسَن عَنْ سَعْد بن هِشَام بن عَامِر، قال: كنت رجلا أتتبع السلطان، فأخذني أَبِي فحبسني، قال مبارك: ولا أعلمه إلا قال: وقيدني - وَقَال لي: والله لا تخرج حَتَّى تستظهر كتاب الله، فاستظهرتُ كتاب الله فنفعني الله بِهِ، فذهبت عني الدنيا، وجعلتُ أكره أن أتزوج وأضيع، فدخلت على عَائِشَة فقلت: سَعْد بْن هِشَام بْن عَامِر. فقالت: رحم الله عامرا، أصيب يوم أحد ...
(مسند أبي يعلى الموصلي (4862) تهذيب الكمال (2228))
وفي هذا الخبر فوائد منها:
  • مَنِ ابتُلِيَ قلبُه بالتعلق بالدنيا فاستظهار القرآن خير علاج ودواء له.
  • مسؤولية الأسر المتدينة التي آباؤها صالحون في قيامها بالدين لما وضع الله لها من قبول وجاه وكونها قدوة ترمقها الناس.
  • أهمية الأب وقيم الأسرة ومسؤوليته في التربية وتوجيه الطاقة وإصلاح الخلل ولو بالقوة والإجبار لما فيه المصلحة, فنقله من الرغبة الدنيا إلى الرغبة في الآخرة.
  • قوله: (فحبسني) يبين أهمية التفرغ والعكوف على القرآن لفهمه وحفظه.
  • قوله: (كنت رجلا أتتبع السلطان): أي يهوى مجالسة الأمراء لما عندهم من الدنيا, أو أنه يهوى السلطة والمناصب. السلطان: بمعنى الحاكم أو السلطة.
فربما رأى سعدٌ نَفْسَه أنصاريًّا له استحقاقٌ في المناصب لجهاد أبيه وجده وقومه, فوجَّهه أبوه للآخرة: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) وخشي أبوه عليه من طلب الإمارة عملا بالأدلة في ذلك, مثل:
قول النبي (يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) متفق عليه.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (مسلم1825).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ، قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ» (البخاري 7148).
وغير ذلك من الأدلة, ثم إن النبي قال للأنصار (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ) متفق عليه.
فما وقع لسعد بن هشام بن عامر هو من الأَثَرَة, فعلاجُها الصبرُ لا التتبع كما جاء في الحديث؛ ولأجل ذلك وجَّهه أبوه.
ومن المعلوم أنه في زمن التابعين وقعت فتن عظيمة في طلب الحكم والملك أزهقت فيها الأرواح وسفكت فيها الدماء, فخشي أبوه أن يشارك ولدُه في مثل هذه الفتن لتعلقه بالسلطان وحبِّه الإمارة.
حال أسرة سعد بن هشام مع القرآن الكريم:
القرآن له ظهور وحضور في أسرة سعد وله أَثَرٌ بَيِّنٌ فيهم, فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ شِدَّةُ الْجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: «احْفُرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا فِي الْقَبْرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» قَالَ: فَقَدَّمُوا أَبِي بَيْنَ يَدَيْ رَجُلَيْنِ.
(النسائي 2011 و2016 وغيره, وجاء الحديث أيضا من طرق أخرى أكثر صحة انظر: مسند أحمد 16251)
وهو حديث مشهور وقع لجد سعد بن هشام, يُستَدَلُّ به على فضلِ صاحب القرآن وتقديمِه حيا وميتا, ويُستَدَلُّ به في مسألة فقهية وهي جواز الدفن الجماعي.
ولا شك أن سَعْدًا عندما سمع هذه الحادثة من أبيه عن جده في شهادته في سبيل الله, وأنه قُدِّمَ في القبر لكونه أَقْرَأَ للقرآن, كان لذلك أعظم الأثر في نفس سعد, حتى أنه سار بهذه السيرة وخُتِمَ له كما خُتِمَ لجده بالشهادة, فهم ذرية بعضها من بعض.
فعندما اهتدى سعدٌ للآخرة وأراد التفرغ لها’ ذهب من البصرة إلى لمدينة ووقع له ما جاء في الحديث, ثم خرج إلى الجهاد, وكان يريد جهاد الروم, لكن الله اختار له جهاد ملوك الهند, ثم استشهد في مُكْران (منطقة في باكستان اليوم ضمن بلوشستان) وهو على أحسن حال من العبادة والطاعة ما بين (81-90هـ).
تأمل حال جده (عامر) المقدَّم في قبره على غيره لكونه أقرأ للقرآن, فقد استشهد في يوم أحد في السنة الثالثة للهجرة, فلم يكمل ثلاث سنوات أو أربع من إسلامه إلا وقد صار معروفا بقراءته للقرآن والإكثار منه وقيامه به وعمله به حتى استشهد في هذه المدة اليسيرة.
أما أبوه (هشام بن عامر) فقد كان قارئا للقرآن قائما به, والدليل على ذلك أنه لما رأى ولدَه سعدًا متجها إلى الدنيا حبسه حتى يستظهر كتاب الله؛ لأنه يعلم ما في القرآن من الخير والهدى.
أما سعد فقد حفظ كتاب الله واستظهره حتى ذهبت عنه الدنيا وأقبل على الآخرة وصار مقرئا.
******​
ولله در هذه الأسرة المعروفة بالقرآن والجهاد, فجدهم (عامر) ممن كان له سهم في تأسيس قوة الإسلام الأولى وبناء دولته بالمشاركة في غزوة بدر ثم الاستشهاد في غزوة أحد, فليت (عامرًا) يعلم ما صار للإسلام من شأنٍ عظيم, وتمكينٍ واسع, وأتباعٍ كثيرين, وبدر وأحد غزوتان تثبتت بهما قدم الإسلام.
وأما أبوهم (هشام) فمِمَّن شارك في فتح المشرق وكابل, فلو كان يعلم هشام أن هذه الديار (إيران وباكستان وأفغانستان) باقية إلى اليوم على إسلامها, وقد ساهم هو في هذا الخير العظيم.
وأما ولدهم (سعد) فممن نصر الإسلام في المشرق, فلو كان يعلم أن هذه الديار (إيران وباكستان وأفغانستان) باقية إلى اليوم على إسلامها, وأن جهاده لم يذهب سدى, وتخرجت من تلك الديار أُمَمٌ ودُوَلٌ وأجيالٌ وعلماءُ ومحدثون وعُبَّادٌ ومجاهدون -يضيق المقام عن تعدادهم- نصروا الإسلام في كل المجالات وكثَّروا سواده.
فرحم الله هذه الأسرة العظيمة الأنصارية الكريمة, التي نصرت الإسلام في أوله وفي آخره, ونصرته في ضعفه وفي قوته, ونصرته في أرض العرب وأرض العجم, ونصرته بالمال وبالدم.
شرح الحديث:
هذا الحديث العظيم الطويل قد قُسِّمَ إلى أحاديثَ كثيرة لطوله وكثرة أحكامه وفوائده, وسوف نتناوله بإيجاز.
(أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا فَيَجْعَلَهُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَقِيَ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ نَبِيِّ اللهِ ، فَنَهَاهُمْ نَبِيُّ اللهِ ، وَقَالَ: «أَلَيْسَ لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» فَلَمَّا حَدَّثُوهُ بِذَلِكَ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا). الكراع: الخيل.
من فوائد هذه الفقرة:
1-فضل العلم وأنه نور.
2-فضل العلماء الذين أرشدوا سعد بن هشام.
3-فضل المدينة مأرز الإيمان ومنارة العلم والهدى, وفضل أهلها الذين نصحوا له.
4-فضل الصحابة عموما في علمهم وتعليمهم ونصحهم.
5-لا رهبانية في الإسلام ولا ما يشابهها كالتخلي عن المال والزوج.
6- وخطورة العاطفة والاندفاع بلا علم, فإن سعد بن هشام بعد أن أعرض عن الدنيا وأقبل على الآخرة اندفع في ذلك, وهذه حالة التائب, فلا بد من توجيهه وتصويبه وتهذيب اندفاعه ويكون ذلك بالعلم والنصح.
أَورَدَها سَعدٌ وَسَعدٌ مُشتَمِلْ * ما هَكَذا تورَدُ يا سَعدُ الإِبِلْ.
وقصة سعد بن هشام هذه تشابه قصة التابعي يزيد الفقير الذي تعلق برأي خاطئ مبتدع في العراق فاعتقده, فلما جاء يزيد إلى المدينة ظهر له خلاف رأيه, وناظره في ذلك جابر بن عبدالله رضي الله عنه فارعوى يزيد الفقير إلى الحق كما في صحيح مسلم [320 - (191)].
فظهر في قصة يزيد الفقير من الفوائد: فضل العلم, وفضل العلماء, وفضل المدينة المنورة وأهلها وكونها محل العلم والهدى, وفضل الصحابة في نصحهم وإرشادهم, وخطورة البدع والمحدثات والإقدام بلا علم, كما ذُكِرَ آنفا.
وقد شرحت حديث يزيد الفقير شرحًا بعنوان (المناظرة العقدية بين الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه وبين التابعي يزيد الفقير رحمه الله) وفيه فوائد.

(فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَأْتِهَا، فَاسْأَلْهَا، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ)
من فوائد هذه الفقرة:
الإحالة بين العلماء, وإرشادُ العالِمِ الطلابَ إلى مَنْ هو أعلم منه, وعدم الخجل من قول: لا أدري.

(فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ خَيْرًا - قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ -)
مِن خير ما ورَّث الآباءُ الأبناءَ الصِّيتَ الحسنَ في الخير والذِّكرَ الجميلَ في الصالحات.

(فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ، قَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ كَانَ الْقُرْآنَ»)
كان خُلُقُه القرآن, معناه: العمل به, والوقوف عند حدوده, والتأدب بآدابه, والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته. وجاء في بعض الروايات من خارج صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها تقصد قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

(قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي، فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَتْ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: «فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ»)
من فوائد هذه الفقرة:
1-الحث على قيام الليل, وتوضيح حال النبي وأصحابه في ذلك, وأن قيام الليل قد خُفِّفَ بعد أن كان واجبا, فلا نتهاون فيه.
2-بيان فقه عائشة رضي الله عنها في كونها تحيل السؤال إلى القرآن؛ لتربط السائل بالقرآن, وتُؤَصِّل فيه ذلك حتى يأخذ الحكم بدليله, ولتعلِّمه كيفية الاستدلال بالقرآن والاستنباط منه.

(قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَتْ: (كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ اللهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِيُّ اللهِ ، وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ)
من فوائد هذه الفقرة:
1-التهيؤ للعبادة بإعداد ما يعين عليها وما هو من أركانها أو سننها, ومن ذلك إعداد السواك والوضوء ونحوه مما يحتاجه المصلي للوتر.
2-التعاون على العبادة بين المسلمين من أسرة أو أصحاب أو جماعة بتذكير بعضهم وخدمة بعضهم لبعض ونحو ذلك.
3-بيان صورة من صور الوتر, ربما لم ترد إلا في هذا الحديث, فمن السنة أن يصليها الإنسان ولو مرة في الشهر أو في العام, وهي أن يصلي ثماني ركعات متواصلات من غير جلسة للتشهد ومن غير تسليم ثم يجلس للتشهد الأول بعد الثامنة ثم يقوم للتاسعة ويركع ويسجد ثم يجلس للتشهد الأخير ويسلم, أو يصلي ست ركعات متواصلات ويجلس للتشهد الأول بعد السادسة ثم يقوم للسابعة ويركع ويسجد ثم يجلس للتشهد الأخير ويسلم, وللوتر عدة صور مشروحة في كتب الفقه.
4-جواز صلاة النافلة قاعدا, وفي ذلك رخصة من الله, حتى يرغب الناس في أداء النوافل ولا يتثاقلوا ولا يتكاسلوا عنها مهما كانت الظروف والأحوال.

(وَكَانَ نَبِيُّ اللهِ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا)
ويشهد لذلك عدة أحاديث صحيحة مثل أن النبي صلى الله عليه وسلم (يحب من العمل أَدْوَمَه وإِنْ قل) و(كان عَمَلُهُ دِيمةً) أي: يسيرًا مستمرًّا, فلا يثقل على نفسه فينقطع بعد ذلك (وكان آل محمد إذا عملوا عملاً أثبتوه) أي: لازَمُوه وداوَمُوا عليه, إلى غير ذلك من الأدلة المستفيضة.

(وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ، أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً)
وهذه الجملة تعد حديثا مستقلا, وهو أهم دليل في قضاء الوتر وكيفيته, مع حديث آخر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه, فَمَنْ فاته الوتر بالليل جاز له أن يصليه في الصباح, لكن يجعله شَفْعًا لا وترًا, فإن كان يصلي الوتر ركعة في الليل فإن فاته صلاه في الصباح ركعتين, وإن كان يصلي في الليل ثلاث ركعات صلاها في الصباح أربع ركعات وهكذا.

(وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ)
وهذا المعنى فيه أدلة كثيرة, وهو أصل من أصول الإسلام في القَصْد في الأعمال واعتدالها, وترك المشقة والتنطع والتكلف فيها.
فالأصل أن الإنسان لا يصلي الليل كله من بعد العشاء إلى أذان الفجر, بل يستريح في بعض الأوقات, إلا في بعض الحالات المستثناة مثل ليلة يُرْجى أنها ليلة القدر فلو قامها الإنسان كلها فلا حرج إن شاء الله.
وكذلك الصوم فليس من السنة أن تصوم شهرا كاملا للتطوع لا تفطر فيه يوما, ففي ذلك مضاهاة لشهر رمضان, بل السنة أن تفطر يوما أو يومين على الأقل, فلا يكون صوم الشهر الكامل إلا في الفريضة (رمضان) أو في بعض الكفارات (قتل الخطأ, الإيلاء ...).

(قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ لَوْ كُنْتُ أَقْرَبُهَا، أَوْ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ، قَالَ: قُلْتُ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا مَا حَدَّثْتُكَ حَدِيثَهَا)
وفي رواية أخرى أن القائل لابن عباس هو حكيم بن أفلح, ولا معارضة, فإن سعد بن هشام وحكيم بن أفلح ذَهَبَا معًا لابن عباس وأخبراه بقول عائشة رضي الله عنهما.
التعريف بالتابعي حكيم بن أفلح:
هو حكيم بن أفلح, حجازي من التابعين. روى عن ابن مسعود وعائشة. وعنه جعفر بن عبد الله. ذكره ابن حبان في الثقات. وهو معروف لا مجهول ظهر في هذا الحديث تدينه وتحاشيه الفتن وحسن ضبطه وحفظه. وله من اسمه نصيب في الحكمة والفلاح.
والظاهر أنه مولى لبعض أهل المدينة؛ لأن المصادر لا تزيد عن ذكر اسمه واسم أبيه, ثم إن اسمه واسم أبيه من الأسماء التي تكثر عند الموالي.
من فوائد هذه الفقرة:
1-العلم يُطْلَبُ ويُؤْتَى إليه ولا يأتي, هذا الأصل؛ ولذا قال ابن عباس: (لَوْ كُنْتُ أَقْرَبُهَا أَوْ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَأَتَيْتُهَا) وقال سعد أو حكيم: (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا مَا حَدَّثْتُكَ حَدِيثَهَا) وأيضا مجيء سعد بن هشام من البصرة إلى المدينة (وهي محل علم) وذهابه إلى ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما (وهما من العلماء), فكل هذه الوقائع تؤكد هذا الأصل أنَّ العلمَ يُطْلَبُ ويُؤْتَى إليهولا يأتي.
2-الحضور والمشافهة أعلى درجاتِ أَخْذِ العلم وفَهْمِهِ وتَحَمُّلِه؛ ولذا قال ابن عباس: (لَأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي بِهِ).
3-فيها دليل على قبول خبر الآحاد الثقات مع إمكان المشافهة والسماع, فإن ابن عباس بَعَثَ سعدًا وحكيمًا إلى عائشة ليسألاها ويخبراه, مع كونه قادرا على الذهاب إلى عائشة بنفسه وسؤالها, فإن حُجْرَتَهَا قريبة منه ملاصقة للمسجد, والأدلة على قبول خبر الآحاد الثقات لا تعد ولا تحصى لكثرتها.
4-أهميةُ الرفيقِ الصالح في طلب العلم, وكَوْنُه عَوْنًا على ذلك؛ ولذا فإن سعد بن هشام عندما أراد الذهاب إلى عائشة رضي الله عنها مَرَّ على حكيم بن أفلح وأصرَّ عليه أن يرافقه إلى عائشة رضي الله عنها لِيُعِينَه على ذلك ولِيُعَرِّفَ عائشة به, ومنافع أخرى للرفيق الصالح, مثل اشتغالهما بالعلم ومذاكرته في طريقهما, وتنبيه بعضهما لما نسيه أحدهما, أو فاته, أو استشكل عليه إلى غير ذلك من المنافع, فالإنسانُ قليلٌ ضعيفٌ بنفسه, كثيرٌ قويٌّ بإخوانه.
مسألة عقدية مهمة ودقيقة:
هذه مسألة عقدية مهمة, تبيِّنُ مذهبَ الصحابة فيما وقع بين بعض الصحابة زمن الفتنة, وهو أيضا مذهب أهل السنة والجماعة، وهي قضية دقيقة عميقة، مع توضيحها تأصيلا وتفصيلا، وتدليلا وتنزيلا، ومن ذلك إثباتُ عدالةِ الصحابةِ جميعا، وبيانُ كيفيةِ تَعَامُلِ المؤمنين مع تلك القضية بتوفيق الله وهديه، وبيانُ كيفيةِ تَعَامُلِ المنحرفين في هذه القضية وجَوْرِهم من مبتدعة ضالين أو كفار طاعنين في الإسلام {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}.
تقدم قوله في أول الحديث:(فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أَفْلَحَ، فَاسْتَلْحَقْتُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا، لِأَنِّي نَهَيْتُهَا أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا، فَأَبَتْ فِيهِمَا إِلَّا مُضِيًّا، قَالَ: فَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ)
ثم امتناع ابن عباس عن الدخول على عائشة في آخر الحديث.
الشيعتان: هما شيعة علي وشيعة الزبير وطلحة ثم معاوية.
وهذا الاختلاف من شُؤْمِ الفتن وتَبِعَاتها, وما ينتج عن تنافر القلوب وجفائها حتى بعد انتهاء الفتنة, قال حكيم (ما أنا بقاربها) لأنه اعتزل.
امتناع ابن عباس لأنه كان من شيعة علي ورجاله وهما ابنا عم, أما عائشة فكانت مع الزبير وطلحة. فانظر إلى فتنة اقتتل فيها الصحابة بالسيف ولما انتهت بَقِيَت التبعات وتناكرت القلوب.
ولأجل هذا حذر أهل العلم من الفتن وجاءت الأدلة في ذلك, واعلم أن هذا التجافي من ابن عباس عن عائشة هو جفاء طبيعي نفسي وليس دينيًّا عَقَدِيًّا, فهو بسبب الخلاف, مع كون ابن عباس يحفظ لعائشة حقها وقد دلَّ سعدًا عليها وشهد لها بالعلم فأثبتَ العدالة لها, لكنَّ النفوسَ من الطرفين بعد الفتنة تثاقلت وتباطأت, وقَلَّت رغبتُها في بعض بعد تلك الدماء, فامتناع ابن عباس مثل قول النبي لوحشي بن حرب: «آنْتَ وَحْشِيٌّ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ» قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» (البخاري).
فهذا التجافي مسألة شخصية خاصة بهم لكونهم أقرانا, ورأوا فاجعة الدماء, وكما قيل المعاصرة معاصرة, والمعاصرة حِجَاب, وما كان بين الأقران يُطْوَى ولا يُرْوَى, هذا ابن عم النبي حبر الأمة وترجمان القرآن, وهذه زوج النبي وأحبُّ نسائه وأم المؤمنين.
فلا يجوز لمن بعدهم أن يقول: سأجفو عائشة وطلحة والزبير كما جفاها ابن عباس وحكيم, هذا ليس من شأننا, بل نقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
فابن عباس امتنع من الاجتماع بعائشة, ولكنه لم يمتنع من علمها, بل طلبه وأرسل في ذلك, ولم يُزَهِّدْ في علمها ولم يأمر الناس بِهَجْرِها, فهي مسألة شخصية بينهما لقرابته من علي ولكونه أكبر مستشاريه, فأين هذا عن فعل الرافضة والعلمانيين والمنافقين؟ بل في هذه الحادثة دليل على فضل عائشة وفضل الصحابة, في كونهم لَمَّا تجافت نفوسهم تغلبوا عليها, ولم يَصِلْ ذلك إلى دينهم بل حصروا الخلاف في موضعه ولم يسترسلوا فيه.
فهذا من أظهر أدلة أهل السنة في أن الخلاف بين الصحابة منهجنا فيه السلامة, وأن هذا المنهج هو الحق وهو الواقع الذي كان بينهم, لا أنه استغفال على الناس أو تغطية على أمور مكذوبة, بل هو واقعهم وحالهم أنهم كانوا يحفظون حق بعضهم مع ما جرى بينهم, أفلا نقتدي بهم؟
ومن المعلوم أنهم ما أرادوا الفتنة بتعمد, إنما أرادوا الإصلاح, لكنَّ نفوسَ الناس صارت مشحونةً, وكثرت الأراجيف والشائعات, ومَرِجَت العهود والمواثيق, فكلُّ مَن أراد الإصلاح صار مُتَّهَمًا, وفسروا فعله على خلافه وظنوا به السوء, فكيف يستقيم الحال؟.
الفتنُ تهلك أممًا وتبيد دولاً وتزيل ألبابًا وعقولاً, وانظر إلى ما وقع في هذا الزمن من فتن أهلية وخارجية وحزبية, كيف تنافرت وتناكرت قلوب الأمة الواحدة أو الدولة الواحدة أو الشعب الواحد, وكيف تنازعوا وتقاتلوا وصاروا في حالةٍ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} فرضي الله عن الصحابة الذين كبحوا جماح نفوسهم, وغلبوا هواهم مع كثرة الدواعي والمحرضين.
الفتنة تطيش فيها العقول وتصير العهودُ مَرِيجةً, كلما أطفأتَها اشتعلت, وكلما أردتَهم للاستقامة ما ازدادوا إلا اعوجاجا؛ لأن النفوس متأججة متشنجة, لا تعقل ولا تعي, والحالُ صمَّاء بكماء عمياء.
الفتنة مثل الطاعون علاجها البعد عنها والعزلة؛ ولذا فإن أكثر الصحابة الذين أدركوا الفتنة اعتزلوها.
في الفتنةِ يكون الكبير مثل الصغير, والعاقل مثل الجاهل, والصادق مثل الكاذب, والقوي مثل الضعيف, والصديق مثل العدو, لأن الفتنةَ حالةٌ من الاختلاط والتداخل والسيولة, مثل الأمواج المتلاطمة العشوائية, والناس بلا رأس.
لا تستطيع أنْ تَبْنِيَ شيئًا ولا أنْ تُبرِمَ أمرًا؛ ولأجل هذا لما رأى الحسن بن علي رضي الله عنهما الحالَ فاسدةً, والأمورَ مختلطةً, والقلوبَ مريضةً, والعهودَ مريجةً, والأعداءَ شامتين, والناسَ لا يوثق بكلامهم, سَلَّمَ الأمر لمعاوية رضي الله عنه حتى تهدأ النفوس وتستقيم الأحوال وتجتمع الكلمة وتصلح الأمور وتأتلف الرعية, لأن الأمر عند معاوية كان مستقرا, وأتباعه يسمعون له ويطيعون, فجاد الحسنُ بالحكم لمعاوية, وقدَّمَ المصلحةَ الكبرى على الصغرى, فكان الحسنُ سيدًا من سادات الدنيا وسيدا من سادات الآخرة.
الخاتمة:
هذا حديث سعد بن هشام بن عامر وهذه قصته وسيرته.
ما أكرم اسمَه وأطيبَ فَأْلَه, اسمه (سعد) من السعادة والسعود.
واسم أبيه (هشام) معناه الجود واليسر, ومن معانيه الكسر وقد كسر الله به الأعداء, وذكر أنه من تسمية النبي الهاشمي له .
واسم جده (عامر) من العمارة وهي ضد الخراب, فَعَمَرَ الإسلامَ بالنصر والجهاد, وعَمَرَ صدرَه بالتلاوة والذكر.
سعدٌ مثالُ الشابِّ الصالحِ المؤمن القارئ الحافظ المنفق العابد الهمام ذي العزيمة طالب العلم المجاهد الشهيد.
جمع الله له صلاح البيت وصلاح النفس والقرآن والإنفاق وطلب العلم والجهاد والشهادة.
وهذا الحديث بركةٌ من بركات سعد, فقد سأل سؤالا تشعَّبت منه هذه المسائل والعلوم, فصار من العلم الباقي الذي ينتفع به إلى اليوم.
اللهم كما نفعتنا بسعدٍ وحديثِه وبَقِيَ عِلْمًا يُنتفع به, فانفع الناس بشرح هذا الحديث واجعله من العلم الذي ينتفع به.
والحمدلله رب العالمين.
 
عودة
أعلى