" وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ":

aboabd

New member
إنضم
28 ديسمبر 2023
المشاركات
21
مستوى التفاعل
2
النقاط
3


" وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ":

من هؤلاء ؟ وكيف ؟ لعل الله عز و جل يجعلكم منهم.

قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (282) البقرة

قال الشيخ خالد السبت : فهذه آية الدَّين ، وهي أطول آية في أطول سورة في كتاب الله عز و جل ، وقد قال بعض السلف: بأنها أرجى آية في كتاب الله عز وجل ، بمعنى أنها أكثر آيات القرآن ترجية بسعة رحمة الله تعالى، وهذا قد يبدو لأول وهلة غريبًا، ولكن إذا عُرف مأخذه اتضح وجهه ؛ وذلك أنهم قالوا: إن الله - تبارك وتعالى- احتاط لمال عبده المؤمن بهذه الاحتياطات الكثيرة؛ لئلا يضيع، ولو كان قليلاً، وشيئًا يسيرًا، فالمؤمن أعظم حرمة عند الله -تبارك وتعالى- من ماله ، فهذا وجه القول بأنها أرجى آية في كتاب الله عز وجل.اهـ

وقال الرازي في التفسير الكبير:

قال القفال رحمه الله تعالى: والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديد، ألا ترى أنه قال: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } ثم قال ثانياً: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } ثم قال ثالثاً: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فكان هذا كالتكرار لقوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } لأن العدل هو ما علّمه الله، ثم قال رابعاً: { فَلْيَكْتُبْ } وهذا إعادة الأمر الأول، ثم قال خامساً: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } وفي قوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } كفاية عن قوله { وَلْيُمْلِلْ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً: { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } وهذا تأكيد، ثم قال سابعاً: { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } فهذا كالمستفاد من قوله { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } ثم قال ثامناً: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ للشَّهَـٰدَةَ وَأَدْنَى أَلاّ تَرْتَابُواْ } فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة ( أَقْسَطُ ، أَقْوَمُ ، أَدْنَى ).
وكل ذلك يدل على أنه حث على حفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله . فهذا وجه حسن لطيف.

أما قوله { بِٱلْعَدْلِ } ففيه وجوه الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه. الثاني: إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه. الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين. الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة ، لذلك قال: { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } ، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى "وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ" ، فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعلُمِها. اهـ

وقال ابن كثير:
وقوله: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة، إذا سئل أن يكتب للناس، ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة، وليكتب، كما جاء في الحديث: "إن من الصدقة أن تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق" ، وفي الحديث الآخر: "من كتم علماً يعلمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار" .

وقال ابن عاشور:
وقوله: { كما علمه الله } ومعنى ما علّمه الله أنّه يكتب ما يعتقده ولا يجحف أو يوارب، لأنّ الله ما علّم إلاّ الحق وهو المستقرّ في فطرة الإنسان، وإنّما ينصرف الناس عنه بالهوى فيبدّلون ويغيّرون وليس ذلك التبديل بالذي علّمهم الله تعالى، وهذا يشير إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم "واستفتِ نفسَك وإن أفْتَاكَ الناس" .

"وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ"
أي: لا يجب أن يمتنع من يستطيع الكتابة عن الكتابة متى دعى إليها.
لأن القرآن نزل في أمة أمية، فعدد الذين يستطيعون الكتابة قليل.
أما الآن فعدد الذين يستطيعون الكتابة كثير، ولكن العقود أصبحت معقدة، والثغرات القانونية فيها كثيرة، فعدد الذين يجيدون كتابة العقود أيضًا قليل.
ولذلك نهي الله تعالى من عنده هذا العلم أن يمتنع عن الكتابة، حتى لا تتعطل مصالح الناس، وفي هذا نهي أيضا على من عنده اي علم فيه مصلحة الناس، أن يمتنع عن افادة الناس بعلمه.
"كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ" يعنى هذا العلم الذي عندك ليس ذاتيًا، وانما هو من عطاء الله تعالى لك، فأدي شكر هذا العطاء، بأن تنفع به الناس.
كما يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم) فأنت تنفق من عطاء الله لك.

يتبع بإذنه تعالى
 


وقوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ." 282 البقرة

قال الطبري : يعنـي بقوله جل ثناؤه: " وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ " وخافوا الله أيها الـمتداينون فـي الكتاب والشهود أن تضاروهم، وفـي غير ذلك من حدود الله أن تضيعوه. ويعنـي بقوله: " وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ " ويبـين لكم الواجب لكم وعلـيكم، فـاعملوا به. " وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ " يعنـي من أعمالكم وغيرها، يحصيها علـيكم لـيجازيكم بها.
وعن الضحاك قوله:"وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ" : هذا تعلـيـم علـمكموه فخذوا به. اهـ

وقال ابن عاشور:
أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق. وقوله: { ويعلمكم الله } تذكير بنعمة الإسلام، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة، ونظام العالم، وهو أكبر العلوم وأنفعها، ووعدٌ بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم، حتى قيل: إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم وجعله بعضهم من معاني الواو، وليس بصحيح.
وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث: لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالةِ، غيرَ محتاجة إلى غيرها المشتمل على معادِ ضميرها، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها.اهـ

وقال ابن عثيمين :
ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى، لقوله: "واتقوا الله" ، والتقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، كقول من قال في التقوى : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله .
ومن فوائد الآية الكريمة: امتنان الله عزوجل علينا بالتعليم، حيث قال "ويعلمكم الله" . وأن الأصل في الإنسان الجهل، قال الله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" .
أخذ بعض العلماء من هذه الآية: أن التقوى سبب للعلم، لقوله: "ويعلمكم الله" بعد الأمر بالتقوى، ونازع في ذلك آخرون وقالوا: إن التقوى سبب للعلم لو قال(واتقوا الله فيعلمكم الله) ، لو قال: واتقوا الله فيعلمكم صارت الفاء للسببية وصارت التقوى سبب للعلم، أما لما قال: "واتقوا الله ويعلمكم" فالواو هنا للاستئناف ،، فذلك لأن الصوفية قالوا: إننا لتقوانا صار يأتينا إلهام من الله بكذا وكذا،، ونحن نقول: إن التقوى سبب للعلم لكن لا من هذه الآية، فإن الله يقول:"والذين اهتدوا زادهم هدى" ، ويقول"ويزيد الله الذين اهتدوا هدى" ، وإن التقوى أيضا سبب لطاعة الله فكلما أطاع الإنسان ربه زاده الله تعالى محبة للطاعة حتى إن بعض السلف يقول: إن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، فكلما رأيت من نفسك أن الله تعالى أعانك على الطاعة والتقوى فاعلم أنك سوف تزداد، لكن البلاء أن تجد من نفسك فتورا فإن هذا ربما يؤدي إلى العقوبة بأن تتولى توليا أكثر وأكبر .
وقال في موضع أخر: لأن قوله "اتقوا الله" أمر مستقل بالتقوى، ولا يمكن أن يتقي الإنسان ربه إلا إذا علم ما يتقيه. أما قوله: "ويعلمكم الله" فهي جملة مستأنفة تفيد أن العلم الذي نناله إنما هو من عند الله وحده، فلا علم لنا إلا ما علّمنا الله تبارك وتعالى، وتعليم الله إيانا نوعان؛ غريزي وكسبي. فالغريزي هو ما يؤتيه الله تعالى للعبد من العلم الذي لا يحتاج إلى تعلم، أرأيت الصبي تلده أمه ويهتدي كيف يتناول ثديها ليرضع منه بدون أن يعلمه أحد، وكذلك البهائم تعلم ما ينفعها مما يضرها دون أن يسبق لها تعليم من أحد. وأما التعليم الكسبي فهو ما يورثه الله العبد بتعلمه للعلم وتعاطي أسبابه، حيث يتعلم على المشايخ ومن بطون الكتب ومن أصوات أشرطة التسجيل وغير ذلك. اهـ بتصرف.

وتكرير اسم الله عز و جل في ختام الآية حيث قيل: "واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم" ، إنما قصد به تربية المهابة في القلوب الدائنة، والمدينة، والشاهدة، والكاتبة، وكذا تربية المهابة في قلوب المجتمع الإسلامي ليحتاط في كل المعاملات، ويسمع ويطيع لأوامره تبارك وتعالى.

والله عز وجل أعلم
 

قال تعالى : "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ". (239)البقرة

قال القرطبي:
قوله تعالى: " فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم " أي ارجعوا إلى ما أُمرتم به من إتمام الأركان. وقالت فرقة: «أَمِنْتُمْ» زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة.
وقوله تعالى: " فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ " قيل: معناه ٱشكروه على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء؛ ولم تفتكم صلاة من الصلوات وهو الذي لم تكونوا تعلمونه.
قال علماؤنا رحمة الله عليهم: الصلاة أصلها الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحْرَى ألاّ تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز ، وخوف أو أمن ، لا تسقط عن المكلَّف بحال، ولا يتطرّق إلى فرضيتها ٱختلال ، والمقصود من هذا أن تُفعل الصلاةُ كيفما أمكن حتى لو لم يتَّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميَّزت عن سائر العبادات كلها تسقطُ بالأعذار ويترخص فيها بالرُّخَص.اهـ

وقال أبو زهرة في زهرة التفاسير:
"فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ": أي إذا زال الخوف، وأقبل الأمن، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان، أي تأتون بحركاتها كاملة ، فالذكر المراد به هنا الصلاة ، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب، وأن الصلاة بغيره لَا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة ، وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لَا يمكن أن تغني عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين . وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أشار فيه الزمخشري إلى تفسيرين، على أن النص الكريم يحتملهما:
أحدهما: أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علّمكم على لسان رسوله الكريم، وبأفعاله، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين، فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله، وبين ما علّمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبي الأمين صلى الله عليه وسلم إذ قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وثانيهما: أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في اتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم، وفى الآخرة بالزلفى لرب العالمين، ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة بين النعم التي أسبغها عليكم، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وهذا معنى قول بعض العلماء: إن الكاف هنا للتعليل، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة.
ولعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها ، لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما عَلَّم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه؛ فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل، هي كذلك شكر للمنعم على ما علَّم وأنعم وهدى.
وفى الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها: ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف: (فَإِنْ خِفْتُمْ) معبرًا سبحانه ب "إن" الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة، وفي حال الأمن قال: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) معبرًا ب "إذا" الدالة على التحقيق والكثرة ، وفي ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة، وهي الأمر المحقق الثابت، وأن حال الخوف هي القلة وهي ليست أمرًا مؤكدًا ثابتًا. وفي ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان. فقد وهب الله الإنسان العقل، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف، فإذا غلبته شقوته فبدَّل من الأمن حربًا، ومن السلام خصاما، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته، والله من ورائهم محيط. اهـ

ويستفاد من الآية الكريمة : أنه يجب على المرء القيام بالطاعة أو بالعبادة على التمام متى زال العذر ، لقوله: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ ، أي اذكروا الله على أنه علّمكم الأشياء التي لم تكونوا تعلمونها ، فلو لم يُعلمكم فماذا كنتم تصنعون؟ ، ولولا تعليمه إيانا لم نعلم شيئاً ولم نصل إلى معرفة شيء فله الحمد على ذلك.

والله تعالى أعلم .
 
قال تعالى : " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (4)المائدة

قال الطبري:
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: " تُعَلِّـمُونَهُنَّ مِـمَّا عَلَّـمَكُمُ اللّهُ ".
يعنـي جلّ ثناؤه بقوله: " تُعَلِّـمُونَهُنَّ ": تؤدّبون الـجوارح، فتعلـمونهنّ طلب الصيد لكم مـما علّـمكم الله، يعنـي بذلك: من التأديب الذي أدّبكم الله والعلـم الذي علّـمكم.
قـيـل: هو أن يُسْتَشْلَـى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه، ويـمسك علـيه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستـجيب له إذا دعاه، ولا يفرّ منه إذا أراده، فإذا تتابع ذلك منه مراراً كان مُعلَّـما.

وقال ابن عاشور:
و(مُكَلِّبِينَ) حالٌ مِن ضَمِيرِ (عَلَّمْتُمْ) مُبَيِّنَةٌ لِنَوْعِ التَّعْلِيمِ وهو تَعْلِيمُ المُكَلِّبِ، والمُكَلِّبُ بِكَسْرِ اللّامِ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مُعَلِّمُ الكِلابِ ،،، وقَوْلُهُ ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ حالٌ ثانِيَةٌ، قُصِدَ بِها الِامْتِنانُ والعِبْرَةُ والمَواهِبُ الَّتِي أوْدَعَها اللَّهُ في الإنْسانِ، إذْ جَعَلَهُ مُعَلَّمًا بِالجِبِلَّةِ مِن يَوْمِ قالَ "يَآ أدَمُ أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ" ، والمَواهِبُ الَّتِي أوْدَعَها اللَّهُ في بَعْضِ الحَيَوانِ، إذْ جَعَلَهُ قابِلًا لِلتَّعَلُّمِ...
ومَعْنى الآيَةِ إباحَةُ أكْلِ ما صادَهُ الجَوارِحُ: مِن كِلابٍ، وفُهُودٍ، وسِباعِ طَيْرٍ: كالبُزاةِ، والصُّقُورِ، إذا كانَتْ مُعَلَّمَةً وأُمْسِكَتْ بَعْدَ إرْسالِ الصّائِدِ. وهَذا مِقْدارٌ اتَّفَقَ عُلَماءُ الأُمَّةِ عَلَيْهِ وإنَّما اخْتَلَفُوا في تَحَقُّقِ هَذِهِ القُيُودِ.
فَأمّا شَرْطُ التَّعْلِيمِ فاتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا أُشْلِيَ، فانْشَلى، فاشْتَدَّ وراءَ الصَّيْدِ، وإذا دُعِيَ فَأقْبَلَ، وإذا زُجِرَ فانْزَجَرَ، وإذا جاءَ بِالصَّيْدِ إلى رَبِّهِ، أنَّ هَذا مُعَلَّمٌ. وهَذا عَلى مَراتِبِ التَّعَلُّمِ. ويُكْتَفى في سِباعِ الطَّيْرِ بِما دُونَ ذَلِكَ: فَيُكْتَفى فِيها بِأنْ تُؤْمَرَ فَتُطِيعَ. وصِفاتُ التَّعْلِيمِ راجِعَةٌ إلى عُرْفِ أهْلِ الصَّيْدِ، وأنَّهُ صارَ لَهُ مَعْرِفَةً.

وقال الزمخشري في الكشاف:
"أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ" أى ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. "وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ" عطف على الطيبات ، أى أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم ،، والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمُكَلِّبُ : مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه.
وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من عَلَّمْتُمْ. فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرّبا فيه، موصوفا بالتكليب. وتُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف.

وفي تَكْرِيرِ الحالِ فائِدَةٌ جليلة: أنَّ عَلى كُلِّ آخِذٍ عِلْمًا أنْ لا يَأْخُذَهُ إلّا مِن أقْتَلِ أهْلِهِ عِلْمًا وأنْحَرِهِمْ دِرايَةً وأغْوَصِهِمْ عَلى لَطائِفِهِ وحَقائِقِهِ وإنِ احْتاجَ إلى أنْ يَضْرِبَ إلَيْهِ أكْبادَ الإبِلِ.
فَكَمْ مِن آخِذٍ عَنْ غَيْرِ مُتْقِنٍ قَدْ ضَيَّعَ أيّامَهُ وعَضَّ عِنْدَ لِقاءِ النَّحارِيرِ أنامِلَهُ.

وقال صاحب المنار:
وموضع ( مكلبين ) النصب على الحال، وكذلك جملة ( تعلمونهن مما علمكم الله ) أو هي استئناف، أي أنتم تعلمونهن مما علمكم الله، أي مما ألهمكم الله إياه وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها ، وما ألهمكم ذلك الانتفاع إلا وهو يبيحه لكم. ونكتة هذه الجملة على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت فتصطاد لنفسها ولا تمسك على صاحبها، وإمساكها عليه شرط لحل صيدها نص عليه في الجملة التي بعد هذه. وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله تعالى أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم. وإذا كانت الجملة استئنافا فنكتتها تذكير الناس بفضل الله عليهم بهدايتهم إلى مثل هذا التعليم، على سنة القرآن في مزج الأحكام بما يغذي التوحيد وينمي الاعتراف بفضل الله وشكر نعمه. وغاية الجارح أن يتبع الصيد بإغراء معلمه أو الصائد به ويجيب دعوته وينزجر بزجره ويمسك الصيد عليه. اهـ

والله أعلم.
 

قال تعالى : " وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". (٣١) البقرة

قال الطبري:
اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس: علّم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة، وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

وقال ابن كثير:
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا: ذَوَاتَهَا وَأَفْعَالَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ ... بسنده عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم. وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فيستحي. فَيَقُولُ: ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكم؛ فَيَقُولُ: ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلمه اللَّهُ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحي مِنْ رَبِّهِ؛ فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ ورسولَه وكَلِمةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم، ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَر اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فيُؤذن لِي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وقعتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تعطه، وقل يُسْمَع، وَاشْفَعْ تُشَفَّع، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يعلمُنيه، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ، وَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ"
وَوَجْهُ إِيرَادِهِ هَاهُنَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ"، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ .

وقال ابن عاشور:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.
وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى يَفْهَمُهُ ذِهْنُ السَّامِعِ فَيَخْتَصُّ بِالْأَلْفَاظِ سَوَاءً كَانَ مَدْلُولُهَا ذَاتًا وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، أَوْ صِفَةً أَوْ فِعْلًا فِيمَا طَرَأَ عَلَى الْبَشَرِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ فِي اسْتِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الِاسْمِ عُرْفًا إِذْ لَمْ يَقَعْ نَقْلٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عُلِّمَهَا آدَمُ هِيَ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَى ذَوَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا لِحَاجَتِهِ إِلَى نِدَائِهَا، أَوِ اسْتِحْضَارِهَا، أَوْ إِفَادَةِ حُصُولِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَهِيَ أَيِ الْإِفَادَةُ مَا نُسَمِّيهِ الْيَوْمَ بِالْأَخْبَارِ أَوِ التَّوْصِيفِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْمَاءِ ابْتِدَاءً أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ مِثْلَ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَجَرِ وَالْكَوَاكِبِ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ نَظَرُ الْإِنْسَانِ ابْتِدَاءً مِثْلَ اسْمِ جَنَّةٍ، وَمَلَكٍ، وَآدَمَ، وَحَوَّاءَ، وَإِبْلِيسَ، وَشَجَرَةٍ وَثَمَرَةٍ، وَنَجِدُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْأُولَى وَلِذَلِكَ نُرَجِّحُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيمَا عُلِّمَهُ آدَمُ ابْتِدَاءً شَيْءٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي وَالْأَحْدَاثِ ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حُصُولِ حَدَثٍ أَوْ أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ لِذَاتٍ، قَرَنَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَاسْمِ الْحَدَثِ نَحْوُ مَاءِ بَرْدٍ أَيْ مَاءٍ بَارِدٍ ثُمَّ طَرَأَ وَضْعُ الْأَفْعَالِ وَالْأَوْصَافِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَاءُ بَارِدٌ أَوْ بَرَدَ الْمَاءُ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ هُوَ الْمُصَادَرُ لَا الْأَفْعَالُ لِأَنَّ الْمَصَادِرَ صِنْفٌ دَقِيقٌ مِنْ نَوْعِ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَعْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ إِمَّا بِطَرِيقَةِ التَّلْقِينِ بِعَرْضِ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَاهُ لُقِّنَ اسْمَهُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ يَسْمَعُهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، أَوْ يَكُونُ التَّعْلِيمُ بِإِلْقَاءِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ فِي نَفْسِ آدَمَ بِحَيْثُ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ اسْم شَيْء عِنْد مَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ فَيَضَعُ لَهُ اسْمًا بِأَنْ أَلْهَمَهُ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ لِلْأَشْيَاءِ لِيُمْكِنَهُ أَنْ يُفِيدَهَا غَيْرَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ خَلَقَ قُوَّةَ النُّطْقِ فِيهِ وَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى وَضْعِ اللُّغَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: ٢، ٣] وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ إِذِ التَّعْلِيمُ مَصْدَرُ عَلَّمَهُ إِذَا جَعَلَهُ ذَا عِلْمٍ مِثْلُ أَدَّبَهُ فَلَا يَنْحَصِرُ فِي التَّلْقِينِ وَإِنْ تَبَادَرَ فِيهِ عُرْفًا.
وَأَيًّا مَا كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّعْلِيمِ فَقَدْ كَانَ سَبَبًا لِتَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ جِنْسِهِ بِقُوَّةِ النُّطْقِ وَإِحْدَاثِ الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ. وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا سَبَبًا لِتَفَاضُلِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَنْشَأُ عَنِ النُّطْقِ مِنِ اسْتِفَادَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ وَهُوَ مَبْدَأُ الْعُلُومِ، فَالْإِنْسَانُ لَمَّا خُلِقَ نَاطِقًا مُعَبِّرًا عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ فَقَدْ خُلِقَ مُدْرِكًا أَيْ عَالِمًا وَقَدْ خُلِقَ مُعَلِّمًا، وَهَذَا أَصْلُ نَشْأَةِ الْعُلُومِ وَالْقَوَانِينِ وَتَفَارِيعِهَا لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْمَعَارِفِ كُلِّهَا وَجَدْتَهَا وَضْعَ أَسْمَاءٍ لِمُسَمَّيَاتٍ وَتَعْرِيفَ مَعَانِي تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَتَحْدِيدَهَا لِتَسْهِيلِ إِيصَالِ مَا يَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ إِلَى ذِهْنِ الْغَيْرِ. وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ حُرِمَهُ بَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَتَفَاضَلْ أَفْرَادُهُ إِلَّا تَفَاضُلَا ضَعِيفًا بِحُسْنِ الصُّورَةِ أَوْ قُوَّةِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قِلَّةِ الْعُجْمَةِ بَلْهَ بَقِيَّةَ الْأَجْنَاسِ كَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى آدَمَ الْأَسْمَاءَ حَاصِلَةٌ سَوَاءً كَانَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ أَسْمَاءَ الْمَوْجُودَاتِ يَوْمَئِذٍ أَوْ أَسْمَاءَ كُلِّ مَا سَيُوجَدُ، وَسَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا نُطْقُ الْبَشَرِ مُنْذُ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ أَمْ كَانَ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ الَّتِي سَتَنْطِقُ بِهَا ذُرِّيَّاتُهُ مِنَ الْأُمَمِ، وَسَوَاءً كَانَتِ الْأَسْمَاءُ أَسْمَاءَ الذَّوَاتِ فَقَطْ أَوْ أَسْمَاءَ الْمَعَانِي وَالصِّفَاتِ، وَسَوَاءً كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَعَانِي أَوْ كُلَّ دَالٍّ عَلَى شَيْءٍ لَفْظًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَشْيَاءِ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ إِذْ مُحَاوَلَةُ تَحْقِيقِ ذَلِكَ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ. وَلَعَلَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ هَانَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُ آدَمَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِمَعْرِفَةِ عَدَدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فَرَامُوا تَعْظِيمَ هَذَا التَّعْلِيمِ بِتَوْسِيعِهِ وَغَفَلُوا عَنْ مَوْقِعِ الْعِبْرَةِ وَمِلَاكِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ إِيجَادُ هَاتِهِ الْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ أَوَّلُهَا تَعْلِيمَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَ إِظْهَارُ عَجْزِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ لَحَاقِ هَذَا الشَّأْوِ بِعَدَمِ تَعْلِيمِهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَزِيَّةُ وَالتَّفَاضُلُ فِي تَعْلِيمِ آدَمَ جَمِيعَ مَا سَيَكُونُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فِي اللُّغَاتِ لَكَفَى فِي إِظْهَارِ عَجْزِ الْمَلَائِكَةِ عَدَمُ تَعْلِيمِهِمْ لِجَمْهَرَةِ الْأَسْمَاءِ وَإِنَّمَا عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ الْمَوْجُودَاتِ يَوْمَئِذٍ كُلِّهَا لِيَكُونَ إِنْبَاؤُهُ الْمَلَائِكَةَ بِهَا أَبْهَرَ لَهُمْ فِي فَضِيلَتِهِ.

يتبع بإذن الله عز وجل
 
قوله تعالى: " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ".

قال الألوسي في روح المعاني:
" ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ " أي المسميات المفهومة من الكلام ...
فقوله " أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَـؤُلاء" يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات - لا عن نفسها - وإلا لقيل: أنبؤوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسؤول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالاً، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالاً أيضاً، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير،،
فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع ، من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم ، وعندي (الألوسي) أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني - وهذا غير ممتنع على الله تعالى - بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبراً بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها:

وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر. اهـ.

فالموت مثلا – يوم تتجسد المعاني- يظهر بصورة كبش أملح ، ويصير عدماً محضاً إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها .
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنادِي: يا أهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، فيُذْبَحُ، ثُمَّ يقولُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ.
وفي رواية : فلولا أنَّ اللهَ قضى لأهلِ الجنَّة ِالحياةَ والبقاءَ لماتوا فرحًا ، ولولا أنَّ اللهَ قضى لأهلِ النَّارِ الحياةَ فيها والبقاءَ لماتوا تَرَحًا.

كذلك الهم وما يجول في الصدر، وما يفكر به العبد، أو يدعو به في قلبه دون تلفظ به ، لا يخفى أن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك كله، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، أما الملائكة فلا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله تعالى عليه ، وقد اختلف العلماء في كتابتهم لذكر القلب، فقيل: لا يكتبونه؛ لأنهم لم يطلعوا عليه، وقيل: يطلعهم الله عليه، فيكتبونه، جاء في شرح مسلم للإمام النووي: قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَكْتُب الْمَلَائِكَة ذِكْر الْقَلْب ؟ فَقِيلَ: تَكْتُبهُ، وَيَجْعَل اللَّه تَعَالَى لَهُمْ عَلَامَة يَعْرِفُونَهُ بِهَا، وَقِيلَ: لَا يَكْتُبُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ غَيْر اللَّه، قُلْت: الصَّحِيح أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَهُ. اهـ

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن قوله صلى الله عليه وسلم : إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، الحديث، فإذا كان الهم سرا بين العبد وربه فكيف تطلع الملائكة عليه ؟

فأجاب : الحمد الله ، قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة ،قال : إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة ، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة ، والتحقيق : أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء ، كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان ، فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك . وقد قيل في قوله تعالى : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أن المراد به الملائكة ، والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر ، كما قال عبد الله بن مسعود : إن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير ، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر ، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وأنا إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير .
فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان : علم بها الشيطان ، والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضا بطريق الأولى ، وإذا علم بها هذا الملك أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم . انتهى .

والله أعلم .
 

قال تعالى: "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" (65) الكهف.

قَال ابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: قَامَ مُوسَى خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ فقِيلَ له: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ قالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، وأَوْحَى إلَيْهِ: بَلَى عَبْدٌ مِن عِبَادِي بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، هو أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ: أيْ رَبِّ، كيفَ السَّبِيلُ إلَيْهِ؟ قالَ: تَأْخُذُ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَاتَّبِعْهُ، قالَ: فَخَرَجَ مُوسَى ومعهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ، ومعهُما الحُوتُ حتَّى انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، فَنَزَلَا عِنْدَهَا، قالَ: فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ، قالَ: فَتَحَرَّكَ وانْسَلَّ مِنَ المِكْتَلِ، فَدَخَلَ البَحْرَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ مُوسَى قالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، لقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا ، قالَ: ولَمْ يَجِدِ النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَ ما أُمِرَ به، قالَ له فَتَاهُ يُوشَعُ بنُ نُونٍ: أَرَأَيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ ، قالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ في آثَارِهِمَا، فَوَجَدَا في البَحْرِ كَالطَّاقِ (مثل الطوق فوقه بناء وتحته خاليا) مَمَرَّ الحُوتِ، فَكانَ لِفَتَاهُ عَجَبًا، ولِلْحُوتِ سَرَبًا، قالَ: فَلَمَّا انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، إذْ هُما برَجُلٍ مُسَجًّى بثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى، قالَ: وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ ، فَقالَ: أنَا مُوسَى، قالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: هلْ أتَّبِعُكَ علَى أنْ تُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا؟ قالَ له الخَضِرُ: يا مُوسَى، إنَّكَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أعْلَمُهُ، وأَنَا علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، قالَ: بَلْ أتَّبِعُكَ، قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فلا تَسْأَلْنِي عن شيءٍ حتَّى أُحْدِثَ لكَ منه ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ فَمَرَّتْ بهِمْ سَفِينَةٌ فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمْ في سَفِينَتِهِمْ بغيرِ نَوْلٍ - يقولُ بغيرِ أجْرٍ - فَرَكِبَا السَّفِينَةَ، قالَ: ووَقَعَ عُصْفُورٌ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ في البَحْرِ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى: ما عِلْمُكَ وعِلْمِي وعِلْمُ الخَلَائِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِقْدَارُ ما غَمَسَ هذا العُصْفُورُ مِنْقَارَهُ، قالَ: فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إذْ عَمَدَ الخَضِرُ إلى قَدُومٍ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ، فَقالَ له مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ،- فَكَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا وكَانَتِ الوُسْطَى شَرْطًا، والثَّالِثَةُ عَمْدًا - فَانْطَلَقَا إذَا هُما بغُلَامٍ يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ برَأْسِهِ فَقَطَعَهُ، قالَ له مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بغيرِ نَفْسٍ، لقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا قالَ ألَمْ أقُلْ لكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ - فَقالَ بيَدِهِ: هَكَذَا - فأقَامَهُ، فَقالَ له مُوسَى: إنَّا دَخَلْنَا هذِه القَرْيَةَ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا ولَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عليه أجْرًا، قالَ: هذا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عليه صَبْرًا ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، ودِدْنَا أنَّ مُوسَى صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِن أمْرِهِما". رواه البخاري.

فافتَرَقا بعْدَ أنْ بيَّنَ له الخَضِرُ الحِكمةَ مِن كلِّ ذلك، كما جاء في قولِ اللهِ تعالى: " أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا " [الكهف: 79 - 82].

وقد تَبيَّن لمُوسى عليه السَّلامُ بعْدَ ذلك مَدى عِلمِ الخَضِرِ بما أعلَمَه اللهُ مِن الغُيوبِ وحَوادثِ القُدرةِ، ممَّا لا تَعلَمُ الأنبياءُ منه إلَّا ما أُعلِموا به مِن الخالقِ عزَّ وجلَّ.

قال القاسمي في محاسن التأويل:
دل قوله تعالى:" وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً " ، على أن من العلم علماً غيبيّاً وهو المسمى بالعلم اللدنِّي. فالآية أصل فيه.
قال ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تُعطى ظواهرُ الأحكام أفعاله بحسبها؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.

وقال الألوسي في روح المعاني :
وذكر أنه يفهم من فحوى " مّن لَّدُنَّـا " أو من تقديمه على " عِلْمًا " اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علماً يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار " عَلَّمْنَـٰهُ " على (آتيناه) من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه ، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم. أوأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب" ، والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم (المتصوفة) من هذا النوع. اهـ

وقال القشيري في لطائف الإشارات:
" آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ": أي صار مرحوماً من قِبَلِنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوماً، ويكون بها راحماً على عبادنا.
" وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ": قيل العلم من لدن الله ما يتحصل بطريق الإلهام دون التكلف بالتّطَلُّب.
ويقال ما يُعرَّف به الحقُّ - سبحانه - الخواصَ من أولياءَه فيما فيه صلاح عباده.
وقيل هو ما لا يعود منه نَفْعٌ إلى صاحبه، بل يكون نفعُه لعباده مِمَّا فيه حقُّ الله - سبحانه.
ويقال هو ما لا يَجِد صاحبُه سبيلاً إلى جحده، وكان دليلاً على صحة ما يجده قطعاً؛ فلو سألتَه عن برهانه لم يجد عليه دليلاً؛ فأقوى العلوم (الغيبية) أبعدها من الدليل. اهـ

وقال ابن عجيبة في البحر المديد:
وقوله تعالى: { وعلّمناه من لدُنَّا علمًا }، العلم اللدني: هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام: "من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" . وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.اهـ

وقال السلمي في حقائق التفسير:
فأخبر الخضر موسى أن السؤال من الناس هو السؤال من الله، فقال: لا تغضب من المنع حين أبوا أن يضيفوهما.
قال ذو النون: العلم اللَّدُنى هو الذى يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان ، إن الله بسط العلم ولم يقبضه ودعا الخلق إليه من طرق كثيرة، ولكل طريق منها علم مفرد ودليل واضح ، فتلك الأدلة يدلون على المناهل، وبنور ذلك العلم وتلك الأعلام يهتدون ولكل أهل طريق منها علم فهو بعلمهم مستعملون، ومتى ضلوا فى طرق هذه العلوم أو أخطؤوا فإن صاحب العلم اللدنى يردهم إلى المحجة.اهـ

يتبع
 


وقال الرازي في التفسير الكبير
اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر.
فأحدها: أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال: { هَلْ أَتَّبِعُكَ }.
وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
وثالثها: أنه قال على أن: { تعلمني } وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.
ورابعها: أنه قال: { مِمَّا عُلّمْتَ } وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علّمه الله، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله. وخامسها: أن قوله: { مِمَّا عُلّمْتَ } اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم. وسادسها: أن قوله: { رَشَدًا } طلب منه للإرشاد والهداية ، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.
وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال: " فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً " أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به. اهـ


وقال الشنقيطي في أضواء البيان :

أمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل و علا. ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها. لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى. وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: " قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ" الأنبياء: 45 ، و "إنما " صيغة حصر. فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام - فالجواب - أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به. بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى: " فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ " الأنعام: 125 ، وبخبر "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل. وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كالإلهام لغيرهم، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم.
وبالجمله، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك -إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، ما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة - فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً " الإسراء: 15، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً. وقال تعالى: " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ " النساء: 165. قال: " وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ " طه: 134 الآية. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا طرفا من ذلك في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً " الإسراء: 15. وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. اهـ
والله تعالى أعلم.
 
" لقَدْ كانَ فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإنْ يَكُ في أُمَّتي أحَدٌ، فإنَّه عُمَرُ".
الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
يَصْطَفي اللهُ سُبحانَه وتعالَى مِن خَلقِه مَن يَشاءُ؛ ليَقذِفَ في قَلبِه مِن أنْوارِ النُّبوَّةِ والهُدى، ويَفيضَ عليه مِن العَملِ والإلْهامِ ما يَشاءُ سُبحانَه، وكان عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه مِن هؤلاء المُحَدَّثينَ، يَعني: منَ المُلهَمينَ الَّذين يَجْري الصَّوابُ على ألسِنَتِهم، أو يَخطُرُ ببالِهمُ الشَّيءُ فيَكونُ بفَضلٍ مِن اللهِ تعالَى وتَوْفيقٍ، وقدْ وافَقَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه الوَحيَ في حَوادثَ كَثيرةٍ.
وقال ابن القيم شارح منازل السائرين عن التحديث و الإلهام ، أن بينهما عموم وخصوص، فكل تحديث إلهام، وليس كل إلهام تحديثاً .
قال: التحديث أخص من الإلهام، فإن الإلهام عام للمؤمنين بحسب إيمانهم، فكل مؤمن قد ألهمه الله رشده الذي حصل له به الإيمان، وأما التحديث: فإلهام خاص. وهو - أي الإلهام - الوحي إلى غير الأنبياء، إما إلى المكلّفين، كقوله تعالى: "وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي" ، وإما إلى غير المكلّفين، كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) ، فهذا كله وحي إلهام .
وأما مرتبة التحديث فهي دون مرتبة الوحي الخاص، ودون مرتبة الصِّدِّيقين.
قال ابن تيمية: (الصدِّيق أكمل من المحدَّث، لأنه استغنى بكمال صِّدِّيقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه قد سلّم قلبه كله، وسرّه وظاهره وباطنه للرسول، فاستغنى به عمّا هو منه.
قال: وكان هذا المحدَّث يعرض ما يحدَّث به على ما جاء به الرسول، فإن وافقه قَبِله، وإلا ردّه. فعُلم أن مرتبة الصِّدِّيقية فوق مرتبة التحديث).
قال ابن القيم: (وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلّق وجودهم في هذه الأمة بـ (إن) الشرطية مع أنها أفضل الأمم، لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يُحوِج الله الأمة بعده إلى محدَّث ولا ملْهَم، ولا صاحب كشف ولا منام، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها) .
وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: (حدثني قلبي عن ربي) ، فصحيح أن قلبه حدَّثه ولكن عمَّن؟ عن شيطانه؟ أو عن ربه؟ فإذا قال: (حدثني قلبي عن ربي) كان مسنداً الحديث إلى مَن لم يعلم أنه حدَّثه به، وذلك كذب .
قال ابن تيمية: (ومحدَّث الأمة - يعني عمر بن الخطاب - لم يكن يقول ذلك، ولا تفوَّه به يوماً من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك، بل كتب كاتبه يوماً: (هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) فقال: لا، امحه واكتب (هذا ما رأى عمر بن الخطاب، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر، والله ورسوله منه بريء) .
وقال في الكلالة - ميراثُ من مات وليس له أصل ولا فرع وارث: (أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان) .
فهذا قول المحدَّث بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ من مدارك السالكين بتصرف

وقال في موضع أخر : وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
مَنزِلَةُ الفِراسَةِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]
قالَ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: المُتَفَرِّسِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لِلنّاظِرِينَ. وقالَ قَتادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وقالَ مُقاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ.
وَلا تَنافِي بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ، فَإنَّ النّاظِرَ مَتى نَظَرَ في آثارِ دِيارِ المُكَذِّبِينَ ومَنازِلِهِمْ، وما آلَ إلَيْهِ أمْرُهُمْ: أوْرَثَهُ فِراسَةً وعِبْرَةً وفِكْرَةً. وقالَ تَعالى في حَقِّ المُنافِقِينَ: "وَلَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ" ، فالأوَّلُ: فِراسَةُ النَّظَرِ والعَيْنِ. والثّانِي: فِراسَةُ الأُذُنِ والسَّمْعِ.
والفِراسة الإيمانية... سببها نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرِّق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، وهذه الفِرَاسة على حسب قوة الإيمان، وكان أبو بكر الصديق أعظم الأمة فِرَاسة.

وذكر ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله):
قال أبو الدرداء: اتَّقوا فِرَاسة العلماء؛ فإنهم ينظرون بنور الله، إنه شيء يقذفه الله في قلوبهم، وعلى ألسنتهم.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق، فجالسوهم بالصدق؛ فإنهم جواسيس القلوب، يدخلون في قلوبكم ويخرجون منها من حيث لا تُحسُّون.
وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدَّعي الفِرَاسة. ولكن يتقي الفِرَاسة من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقوا فِرَاسَة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله». ولم يقل: تفَرَّسوا. وكيف يصح دعوى الفِرَاسة لمن هو في محل اتقاء الفِراسة؟!.
وفي تفسير ابن القيم:
قالَ اللَّهُ تَعالى: " إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" الحجر ٧٥
قد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه. هذا منها.
والمتوسمون: هم المتفرسون الذين يأخذون بالسيماء، وهي العلامة.
وقال تعالى: "وَلَوْ نَشاءُ لَأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهُمْ" وقال تعالى: "يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ".
وَكانَ أبُو الدَّرْداءِ يَقُولُ: إيّاكم وفِراسَةَ العُلَماءِ، احْذَرُوا أنْ يَشْهَدُوا عَلَيْكم شَهادَةً تَكُبُّكم عَلى وُجُوهِكم في النّارِ، فَواللَّهِ إنّهُ لَلْحَقُّ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ.
قُلْت: وأصْلُ هَذا في التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: "اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ؛ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ، ثُمَّ قَرَأ "إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ".
فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وقرب من اللّه فهو ينظر بنور اللّه الذي جعله في قلبه.
وهذه الفراسة نشأت له من قربه من اللّه فإن القلب إذا قرب من اللّه انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه وكان تلقيه من مشكاة قريبة من اللّه بحسب قربه منه وأضاء له النور بقدر قربه فرأى في ذلك النور ما لم يره البعيد والمحجوب، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما يروي عنه ربه عز وجل أنه: قال ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطئ له فراسة فإن العبد إذا أبصر باللّه أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع باللّه سمع على ما هو عليه، وليس هذا من علم الغيب بل علّام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النور.اهـ
نسأل الله عز وجل أن ينور قلوبنا بالإيمان.
والله تعالى اعلم.
 
عودة
أعلى